تفسير الطبري تفسير الصفحة 113 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 113
114
112
 الآية : 32
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمّ إِنّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ }..
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: مِنْ أجْلِ ذَلِكَ من جَرّ ذلك وجريرته وجنايته, يقول: من جرّ القاتل أخاه من ابنـي آدم اللذَين اقتصصنا قصتهما الـجريرة التـي جرّها وجنايته التـي جناها, كتبنا علـى بنـي إسرائيـل. يقال منه: أجَلْتُ هذا الأمر: أي جرررته إلـيه وكسبته آجُلُه له أجْلاً, كقولك: أخذته أخذا, ومن ذلك قول الشاعر:
وأهْلِ خِبـاءٍ صَالـحٍ ذاتُ بَـيْنِهِمْقَد احْتَرَبوا فِـي عاجِلٍ أنا آجِلُهْ
يعنـي بقوله: أنا آجله: آنا الـجارّ ذلك علـيه والـجانـي.
فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلـما, حكمنا علـي بنـي إسرائيـل أنه من قتل منهم نفسا ظلـما بغير نفس قَتَلت فُقِتل بها قصاصا أو فَسَادٍ فـي الأرْضِ يقول: أو قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها فـي الأرض, فـاستـحقت بذلك قتلها. وفسادها فـي الأرض إنـما يكون بـالـحرب لله ولرسوله وإخافة السبـيـل.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9273ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: ثنـي عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا علـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلـما.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله جلّ ثناؤه: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنّـما أحيْا النّاس جَمِيعا فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبـيا أو إمام عدل, فكأنـما قتل الناس جميعا, ومن شدّ علـى عضد نبـيّ أو إمام عدل, فكأنـما أحيا الناس جميعا. ذكر من قال ذلك:
9274ـ حدثنا أبو عمار حسين بن حُرَيْثٍ الـمَرْوَزِيّ, قال: حدثنا الفضل بن موسى, عن الـحسين بن واقد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنـمَا قَتَلَ النّاسع جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: من شدّ علـى عضد نبـيّ أو إمام عدل فكأنـما أحيا الناس جميعا. ومن قتل نبـيا أو إمام عدل فكأنـما قتل الناس جميعا.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي قوله: مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا علـى بَنِـي إْسرَائِيـلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنّـما قَتَلَ النّاس جَمِيعا يقول: من قتل نفسا واحدة حرّمتها, فهو مثل من قتل الناس جميعا. وَمَنْ أحْياها يقول: من ترك قتل نفس واحدة حرّمتها مخافتـي واستـحيا أن يقتلها, فهو مثل استـحياء الناس جميعا يعنـي بذلك الأنبـياء.
وقال آخرون: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنَـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا عند الـمقتول فـي الإثم وَمَنْ أحيْاها فـاستنقذها من هلكة فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا عند الـمستنقذ. (ذكر من قال ذلك):
9275ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـيـما ذكر عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرّة الهمدانـي, عن عبد الله, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قوله: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنَـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا عند الـمقتول, يقول فـي الإثم: ومن أحياها فـاستنقذها من هلكة, فكأنـما أحيا الناس جميعا عند الـمستنقَذ.
وقال آخرون: معنى ذلك: أن قاتل النفس الـمـحرّم قتلها يصلـي النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعا, من أحياها: من سلـم من قتلها فقد سلـم من قتل الناس جميعا. ذكر من قال ذلك:
9276ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن خَصِيف, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: مَنْ أحْياها فَكأنَـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: من كفّ عن قتلها فقد أحياها, ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنـما قتل الناس جميعا. قال: ومن أوبقها.
9277ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن خصيف, عن مـجاهد, قال: من أوبق نفسا فكما لو قتل الناس جميعا, ومن أحياها وسلـم من طلبها فلـم يقتلها فقد سلـم من قتل الناس جميعا, ومن أحياها وسلـم من طلبها فلـم يقتلها فقد سلـم من قتل الناس جميعا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن شريك, عن خصيف, عن مـجاهد: فَكأنَـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنَـما أحيْا النّاسَ جَمِيعا لـم يقتلها, وقد سلـم منه الناس جميعا لـم يقتل أحدا.
9278ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن الأوزاعي, قال: أخبرنا عبدة ابن أبـي لُبـابة, قال: سألت مـجاهدا, أو سمعته يُسْأل عن قوله: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنَـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال: لو قتل الناس جميعا كان جزاؤه جهنـم خالدا فـيها, وغضب الله علـيه ولعنه, وأعدّ له عذابـا عظيـما.
حدثنـي الـمثنى, قال:ثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن ابن جريج قراءة, عن الأعرج, عن مـجاهد فـي قوله: فَكأنَـما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال: الذي يقتل النفس الـمؤمنة متعمدا, جعل الله جزاءه جهنـم, وغضب الله علـيه ولعنه, وأعدّ له عذابـا عظيـما يقول: لو قتل الناس جميعا لـم يزد علـى مثل ذلك من العذاب قال ابن جريج, قال مـجاهد: وَمَنْ أحْياها فَكأنَـما أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: من لـم يقتل أحدا فقد استراح الناس منه.
9279ـ حدثنا سفـيان, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن سفـيان, عن خصيف, عن مـجاهد, قال: أوبق نفسا.
9280ـ حدثنا سفـيان, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, قال: فـي الإثم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا, وقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّـمُ قال: يصير إلـى جهنـم بقتل الـمؤمن, كما أنه لو قتل الناس جميعا لصار إلـى جهنـم.
9281ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا علـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنَـما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال: هو كما قال. وقال: وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا فإحياؤها لا يقتل نفسا حرّمها الله, فذلك الذي أحيا الناس جميعا, يعنـي أنه من حرّم قتلها إلا بحقّ حيـي الناس منه جميعا.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن العلاء بن عبد الكريـم, عن مـجاهد: وَمَنْ أحيْاها قال: ومن حرّمها فلـم يقلتها.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن العلاء, قال: سمعت مـجاهدا يقول: مَنْ أحْياها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: من كفّ عن قتلها فقد أحياها.
9282ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: فَكأنـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال: هي كالتـي فـي النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزاؤُهُ جَهَنّـمُ فـي جزائه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَكأنـمَا قَتَل النّاسَ جَمِيعا كالتـي فـي سورة النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا فـي جزائه وَمَنْ أحْياها ولـم يقتل أحدا فقد حيـي الناس منه.
9283ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو معاوية, عن العلاء بن عبد الكريـم, عن مـجاهد فـي قوله: وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: التفت إلـى جلسائه فقال: هو هذا وهذا.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد فـي الأرض فكأنـما قتل الناس جميعا, لأنه يجب علـيه من القصاص به والقود بقتله, مثل الذي يجب علـيه من القود والقصاص لو قتل الناس جميعا. ذكر من قال ذلك:
9284ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا علـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ فَكأنـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال: يجب علـيه من القتل مثل لو أنه قتل الناس جميعا. قال: كان أبـي يقول ذلك.
وقال آخرون: معنى قوله: وَمَنْ أحيْاها من عفـا عمن وجب له القصاص منه فلـم يقتله. ذكر من قال ذلك:
9285ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا يقول: من أحياها أعطاه الله جلّ وعزّ من الأجر مثلَ لو أنه أحيا الناس جميعا. أحياها فلـم يقتلها وعفـا عنها. قال: وذلك ولـيّ القتـيـل, والقتـيـل نفسه يعفو عنه قبل أن يـموت. قال: كان أبـي يقول ذلك.
9286ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن يوسن, عن الـحسن فـي قوله: وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيَعا قال: من عفـا.
حدثنا سفـيان, قال: حدثنا عبد الأعلـى, عن يونس, عن الـحسن: وَمَنْ أحيْاها فَكأنّـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: من قُتل حميـم له فعفـا عن دمه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن سفـيان, عن يونس, عن الـحسن: وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: العفو بعد القدرة.
وقال آخرون: معنى قوله: وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا ومن أنـجاها من غرق أو حرق. ذكر من قال ذلك:
9287ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد: وَمَنْ أحيْاها فَكأنَـما أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: من أنـجاها من غَرَق أو حَرَق أو هلكة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, وحدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاه: وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسع جَمِيعا قال: من غَرَق أو حَرَق أو هَدَم.
9288ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيـل, عن خصيف, عن مـجاهد: وَمَنْ أحيْاها قال: أنـجاها. وقال الضحاك بـما:
9289ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن أبـي عامر, عن الضحاك, قال: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ قال: من تروّع أو لـم يتورّع.
9290ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: ثنـي عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا يقول: لو لـم يقتله لكان قد أحيا الناس, فلـم يستـحلّ مـحرّما. وقال قتادة والـحسن فـي ذلك بـما:
9291ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الأعلـى, عن يونس, عن الـحسن: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ قال: عَظُم ذلك.
9292ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا علـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ... الاَية: من قتلها علـى غير نفس ولا فساد أفسدته فَكأنـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا عظُم والله أجْرُها, وعظُم وِزْرُها فأحيها يا ابن آدم بـمالك, وأحيها بعفوك إن استطعت, ولا قوّة إلا بـالله. وإنا لا نعلـمه يحلّ دم رجل مسلـم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فعلـيه القتل, أو زنى بعد إحصانه فعلـيه الرجم, أو قتل متعمدا فعلـيه القَوَد.
9293ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: تلا قتادة: مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكأنـمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْيها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال: عَظُم والله أجرُها, وَعظُم والله وِزْرُها.
9294ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرا ابن الـمبـارك, عن سلام بن مسكين, قال: ثنـي سلـيـمان بن علـيّ الرّبْعي, قال: قلت للـحسن: مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا علـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسً... الاَية, أهي لنا يا أبـا سعيد كما كانت لبنـي إسرائيـل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره, كما كانت لبنـي إسرائيـل وما جعل دماء بنـي إسرائيـل أكرم علـى الله من دمائنا.
9295ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن سعيد بن زيد, قال: سمعت خالدا أبـا الفضل, قال: سمعت الـحسن تلا هذه الاَية: فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ... إلـى قوله: وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا ثم قال: عَظّم والله فـي الوزر كما تسمعون, ورغّب والله فـي الأجر كما تسمعون إذا ظننت يا ابن آدم أنك لو قتلت الناس جميعا فإن لك من عملك ما تفوز به من النار, كَذَبَتْك والله نفسك, وكَذَبَكَ الشيطان.
9296ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن عاصم, عن الـحسن فـي قوله: فَكأنَـما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال: وزرا وَمَنْ أحيْاها فَكأنّـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا. قال: أجرا.
وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب قول من قال: تأويـل ذلك أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلتها فـاستـحقت القود بها والقتل قصاصا, أو بغير فساد فـي الأرض, بحرب الله ورسوله وحرب الـمؤمنـين فـيها, فكأنـما قتل الناس جميعا فـيـما استوجب من عظيـم العقوبة من الله جلّ ثناؤه, كما أوعده ذلك من فعله ربّه بقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّـمُ خالِدا فِـيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَـيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابـا عَظِيـما.
وأما قوله: وَمَنْ أحيْاها فَكأنـمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا فأولـى التأويلات به قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عزّ ذكره قتَله علـى نفسه, فلـم يتقدم علـى قتله, فقد حِيـيَ الناس منه بسلامتهم منه, وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عزّ ذكره عمن حاجّ إبراهيـم فـي ربه, إذ قال له إبراهيـم: ربّـيَ الّذِين يُحْيِى ويُـمِيتُ قال أنا أُحْيِى وأُمِيتُ. فكان معنى الكافر فـي قـيـله: أنا أحيى وأميت: أنا أترك من قدرت علـى قتله وفـي قوله: وأميت: قَتْلُه من قتله. فكذلك معن الإحياء فـي قوله: وَمَنْ أحْياها: من سلـم الناس من قتله إياهم, إلا فـيـما أذن الله فـي قتله منهم فَكأنـمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا.
وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويلات بتأويـل الاَية, لأنه لا نفس يقوم قتلها فـي عاجل الضرّ مقام قتل جميع النفوس, ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس فـي عاجل النفع, فكان معلوما بذلك أن معنى الإحياء: سلامة جميع النفوس منه, لأنه من لـم يتقدم علـى نفس واحدة, فقد سلـم منه جميع النفوس, وأن الواحدة منها التـي يقوم قتلها مقام جميعها إنـما هو فـي الوزر, لأنه لا نفس من نفوس بنـي آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررا من فقد بعض.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ولَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بـالبَـيّناتِ ثُمّ إنّ كَثِـيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فـي الأرْضِ لَـمُسْرِفُونَ.
وهذا قسم من الله جلّ ثناؤه أقسم به, إن رسله صلوات الله علـيهم قد أتت بنـي إسرائيـل الذين قصّ الله قصصهم وذكر نبأهم فـي الاَيات التـي تقدمت من قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَـيْكُمْ أيْدِيَهُمْ إلـى هذا الـموضع. بـالبَـيّناتِ يعنـي: بـالاَيات الواضحة, والـحجج البـينة علـى حقـية ما أرسلوا به إلـيهم وصحة ما دعوهم إلـيه من الإيـمان بهم وأداء فرائض الله علـيهم, يقول الله عزّ ذكره: ثُمّ إنّ كَثِـيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِـي الأرْضِ لَـمُسْرِفُونَ يعنـي أن كثـيرا من بنـي إسرائيـل, والهاء والـميـم فـي قوله: ثُمّ إنّ كَثِـيرا مِنْهُمْ من ذكر بنـي إسرائيـل, وكذلك ذلك فـي قوله: وَلَقَدْ جارَتْهُمْ بعد ذلك, يعنـي بعد مـجيـيء رسل الله بـالبـينات فـي الأرض. لـمُسْرِفُونَ يعنـي: أنهم فـي الأرض لعاملون بـمعاصي الله, ومخالفون أمر الله ونهيه, ومـحادوا الله ورسله, بـاتبـاعهم أهواءهم وخلافهم علـى أنبـيائهم وذلك كان إسرافهم فـي الأرض.
الآية : 33
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوَاْ أَوْ يُصَلّبُوَاْ أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }..
وهذا بـيان من الله عزّ ذكره عن حكم الفساد فـي الأرض الذي ذكره فـي قوله: مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا علـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِـي الأرْضِ أعلـم عبـاده ما الذي يستـحقّ الـمفسد فـي الأرض من العقوبة والنكال, فقال تبـارك وتعالـى: لا جزاء له فـي الدنـيا إلا القتل والصلب وقطع الـيد والرجل من خلاف أو النفـي من الأرض, خزيا لهم وأما فـي الاَخرة إن لـم يتب فـي الدنـيا فعذاب عظيـم.
ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن نزلت هذه الاَية. فقال بعضهم: نزلت فـي قوم من أهل الكتاب, كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فنقضوا العهد وأفسدوا فـي الأرض, فعرّف الله نبـيه صلى الله عليه وسلم الـحكم فـيها. ذكر من قال ذلك:
9297ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا قال: كان قوم من أهل الكتاب بـينهم وبـين النبـيّ صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق, فنقضوا العهد وأفسدوا فـي الأرض فخير الله رسوله, إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
9298ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك, قال: كان قوم بـينهم وبـين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق, فنقضوا العهد وقطعوا السبـيـل وأفسدوا فـي الأرض فخير الله جلّ وعزّ نبـيه صلى الله عليه وسلم فـيهم, فإن شاء قتل, وإن شاء صلب, وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: ثنـي عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول, فذكر نـحوه.
وقال آخرون: نزلت فـي قوم من الـمشركين. ذكر من قال ذلك:
9299ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة والـحسن البصريّ, قالا: قال: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... إلـى: إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيـمٌ نزلت هذه الاَية فـي الـمشركين, فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا علـيه لـم يكن علـيه سبـيـل ولـيست تَـحْرز هذه الاَية الرجل الـمسلـم من الـحدّ إن قتل أو أفسد فـي الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لـحق بـالكفـار قبل أن يُقَدَر علـيه, لـم يـمنعه ذلك أن يقام فـيه الـحدّ الذي أصاب.
9300ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن أشعث, عن الـحسن: إنّـما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال: نزلت فـي أهل الشرك.
وقال آخرون: (ذكر من قال ذلك): بل نزلت فـي قوم من عُرَينة وعُكْل ارتدّوا عن الإسلام, وحاربوا الله ورسوله.
9301ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا روح بن عبـادة, قال: حدثنا سعيد بن أبـي عَرُوبة, عن قتادة, عن أنس: أن رهطا من عُكل وعرينة أتوا النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله أنا أهل ضَرْع ولـم نكن أهل ريف, وإنا استوخمنا الـمدينة. فأمر لهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم بَذوْد وراع, وأمرهم أن يخرجوا فـيها فـيشربوا من ألبـانها وأبوالها. فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستاقوا الذود, وكفروا بعد إسلامهم. فأتِـيَ بهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقطع أيديهم وأرجلهم, وسمل أعينهم, وتركهم فـي الـحرّة حتـى ماتوا. فذكر لنا أن هذه الاَية نزلت فـيهم: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا روح, قال: حدثنا هشام بن أبـي عبد الله, عن قتادة, عن أنس بن مالك, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـمثل هذه القصة.
9302ـ حدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن شقـيق, قال: سمعت أبـي يقول: أخبرنا أبو حمزة, عن عبد الكريـم وسئل عن أبوال الإبل, فقال: حدثنـي سعيد بن جبـير عن الـمـحاربـين, فقال: كان ناس أتوا النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبـايعك عن الإسلام فبـايعوه وهم كذبة, ولـيس الإسلامَ يريدون. ثم قالوا: نا نـجتَوي الـمدينة. فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «هَذِهِ اللّقاحُ تَغْدُو عَلَـيْكُمْ وَتَرُوحُ, فـاشْرَبُوا مِنْ أبْوَالِهَا وألْبـانِها». قال: فبـينا هم كذلك إذ جاء الصريخ, فصرخ إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: قتلوا الراعي, وساقوا النعم فأمر نبـيّ الله فنُودي فـي الناس, أن: يا خيـل الله اركبـي. قال: فركبوا لا ينتظر فـارس فـارسا. قال: فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى أثرهم, فلـم يزالوا يطلبونهم حتـى أدخـلوهم مأمنهم, فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم, فأتوا بهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... الاَية, قال: فكان نفـيهم أن نفوهم, حتـى أدخـلوهم مأمنهم وأرضهم, ونفوهم من أرض الـمسلـمين, وقتل نبـيّ الله منهم وصلب وقطع وسمل الأعين. قال: فما مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد. قال: ونهى عن الـمُثْلة, وقال: «لا تُـمَثّلوا بشَيْءٍ» قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك, غير أنه قال: أحرقهم بـالنار بعد ما قتلهم.
قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بنـي سلـيـم, ومنهم من عرينة وناس من بجيـلة.
9303ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف, قال: حدثنا الـحسن بن هناد, عن عمرو بن هاشم, عن موسى بن عبـيد, عن مـحمد بن إبراهيـم, عن جرير, قال: قدم علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم قوم من عينة حفـاة مضرورين, فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلـما صحّوا واشتدوا قتلوا رعاء اللقاح, ثم خرجوا بـاللقاح عامدين بها إلـى أرض قومهم. قال جرير: فبعثنـي رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي نفر من الـمسلـمين حتـى أدركناهم بعد ما أشرفوا علـى بلاد قومهم, فقدمنا بهم علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, وسمل أعينهم, وجعلوا يقولون: الـماء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «النّار» حتـى هلكوا. قال: وكره الله سمل الأعين, فأنزل هذه الاَية: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... إلـى آخر الاَية.
9304ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي ابن لهيعة, عن أبـي الأسود مـحمد بن عبد الرحمن, عن عروة بن الزبـير (ح). وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يحيى بن عبد الله بن سالـم, وسعيد بن عبد الرحمن, وابن سمعان, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, قال: أغار ناس من عرينة علـى لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم, فـاستاقوها وقتلوا غلاما له فـيها, فبعث فـي آثارهم فأُخِذوا, فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
9305ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث, عن سعيد بن أبـي هلال عن أبـي الزناد, عن عبد الله بن عبد الله, عن عبد الله بن عمر أو عمرو, شكّ يونس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, ونزلت فـيهم آية الـمـحاربة.
9306ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: حدثنا الأوزاعي, عن يحيى بن أبـي كثـير, عن أبـي قلابة, عن أنس, قال: قدم ثمانـية نفر من عكل علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأسلـموا, ثم اجتووا الـمدينة, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فـيشربوا من أبوالها وألبـانها, ففعلوا, فقتلوا رعاتها, واستاقوا الإبل. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي أثرهم قافة, فأُتـي بهم, فقطع أيديهم وأرجلهم, وتركهم فلـم يحسمهم حتـى ماتوا.
9307ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, قال: ثنـي سعيد, عن قتادة, عن أنس, قال: كانوا أربعة نفر من عرينة وثلاثة من عكل, فلـما أُوتـي بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينِهم ولـم يحسمهم, وتركهم يتلقمون الـحجارة بـالـحرّة, فأنزل الله جلّ وعزّ فـي ذلك: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... الاَية,
9308ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, عن ابن لهيعة, عن يزيد بن أبـي حبـيب أن عبد الـملك بن مروان كتب إلـى أنس يسأله عن هذه الاَية, فكتب إلـيه أنس يخبره أن هذه الاَية نزلت فـي أولئك النفر العرنـيـين, وهم من بجيـلة, قال أنس: فـارتدّوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, واستقاوا الإبل, وأخافوا السبـيـل, وأصابوا الفَرْج الـحرام.
9309ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعُوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا قال: أنزلت فـي سُودان عرينة, قال: أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الـماء الأصفر, فشكوا ذلك إلـيه, فأمرهم فخرجوا إلـى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة, فقال: «اشْرَبُوا منْ ألْبـانِها وأبْوَالِهَا». فشربوا من ألبـانها وأبوالها, حتـى إذا صحّوا وبرءوا, قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الاَية علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم معرّفة حكمه علـى من حارب الله ورسوله وسعى فـي الأرض فسادا, بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالعرنـيـين ما فعل.
وإنـما قلنا ذلك أولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك, لأن القصص التـي قصها الله جلّ وعزّ قبل هذه الاَية وبعدها من قصص بنـي إسرائيـل وأنبأئهم, فأن يكون ذلك متوسطا منه يعرف الـحكم فـيهم وفـي نظرائهم, أولـى وأحقّ. وقلنا: كان نزلو ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالعرنـيـين ما فعل لتظاهر الأخبـار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وإذ كان ذلك أولـى بـالاَية لـما وصفنا, فتأويـلها: من أجل كتبنا علـى بنـي إسرائيـل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو سَعَى بفساد فـي الأرض فكأنـما قتل الناس جميعا, ومن أحياها فكأنـما أحيا الناس جميعا, ولقد جاءتهم رسلنا بـالبـينات, ثم إن كثـيرا منهم بعد ذلك فـي الأرض لـمسرفون, يقول: لساعون فـي الأرض بـالفساد, وقاتلو النفوس بغير نفس وغير سعي فـي الأرض بـالفساد حربـا لله ولرسوله, فمن فعل ذلك منهم يا مـحمد, فإنـما جزاؤه أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض.
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الاَية نزلت فـي الـحال التـي ذكرت من حال نقض كافر من بنـي إسرائيـل عهده, ومن قولك إن حكم هذه الاَية حكم من الله فـي أهل الإسلام دون أهل الـحرب من الـمشركين؟ قـيـل: جاز أن يكون ذلك كذلك, لأن حكم من حارب الله ورسوله وسَعَى فـي الأرض فسادا من أهل ذمتنا وملتنا واحد, والذين عُنُوا بـالاَية كانوا أهل عهد وذمة, وإن كان داخلاً فـي حكمها كل ذمي وملـيَ, ولـيس يبطل بدخول من دخـل فـي حكم الاَية من الناس أن يكون صحيحا نزولها فـيـمن نزلت فـيه.
وقد اختلف أهل العلـم فـي نسخ حكم النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي العُرَنـيـين, فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ, نسخه نهيه عن الـمثلة بهذه الاَية, أعنـي بقوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعُوْنَ فـي الأرْضِ فَسادا... الاَية, وقالوا: أنزلت هذه الاَية عتابـا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما فعل بـالعرنـيـين.
وقال بعضهم: بل فِعْلُ النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـالعرنـيـين حكم ثابت فـي نظرائهم أبدا, لـم يُنْسخ ولـم يبدّل. وقوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... الاَية, حكم من الله فـيـمن حارب وسعى فـي الأرض فسادا بـالـحِرَابة. قالوا: والعرنـيون ارتدوا وقتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله, فحكمهم غير حكم الـمـحارِب الساعي فـي الأرض بـالفساد من أهل الإسلام والذمة.
وقال آخرون: لـم يَسْمُلِ النبـيّ صلى الله عليه وسلم أعين العرنـيـين, ولكنه كان أراد أن يسمُل, فأنزل الله جلّ وعزّ هذه الاَية علـى نبـيه يعرّفه الـحكم فـيهم ونهاه عن سمل أعينهم. ذكر القائلـين ما وصفنا:
9310ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: ذاكرت اللـيث بن سعد ما كان من سمل رسول اللهصلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حَسْمهم حتـى ماتوا, فقال: سمعت مـحمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الاَية علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة فـي ذلك, وعَلـمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفـي, ولـم يسمُل بعده مغيرهم. قال: وكان هذا القول ذُكِر لأبـي عمرو, فأنكر أن تكون نزلت معاتبة, وقال: بلـى كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم, ثم نزلت هذه الاَية فـي عقوبة غيرهم مـمن حارب بعدهم فرفع عنهم السّمْل.
9311ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: ثنـي أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأُتـي بهم يعنـي العُرنـيـين فأراد أن يسمُل أعينهم, فنهاه الله عن ذلك, وأمره أن يقـيـم فـيهم الـحدود كما أنزلها الله علـيه.
واختلف أهل العلـم فـي الـمستـحقّ اسم الـمـحارب لله ورسوله الذي يـلزمه حكم هذه, فقال بعضهم: هو اللصّ الذي يقطع الطريق. ذكر من قال ذلك:
9312ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, عن عطاء الـخراسانـي فـي قوله: إنّـما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا... الاَية, قالا: هذا هو اللصّ الذي يقطع الطريق, فهو مـحارب.
وقال آخرون: هو اللصّ الـمـجاهر بلصوصيته, الـمكابر فـي الـمصر وغيره. ومـمن قال ذلك الأوزاعي.
9313ـ حدثنا بذلك العبـاس عن أبـيه عنه.
وعن مالك واللـيث بن سعد وابن لهَيعة.
9314ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: قلت لـمالك بن أنس: تكون مـحاربة فـي الـمصر؟ قال: نعم, والـمـحارب عندنا من حمل السلاح علـى الـمسلـمين فـي مصر أو خلاء, فكان ذلك منه علـى غير نائرة كانت بـينهم ولا ذَحْل ولا عداوة, قاطعا للسبـيـل والطريق والديار, مخيفـا لهم بسلاحه, فقتْل أحدا منهم قتله الإمام كقتله الـمـحارب لـيس لولـيّ الـمقتول فـيه عفو ولا قَوَد.
9315ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, قال: سألت عن ذلك اللـيث بن سعد وابن لهيعة, قلت: تكون الـمـحاربة فـي دور الـمصر والـمدائن والقرى؟ فقالا: نعم, إذا هم دخـلوا علـيهم بـالسيوف علانـية, أو لـيلاً بـالنـيران. قلت: فقتلوا أو أخذوا الـمال ولـم يقتلوا؟ فقال: نعم هم الـمـحاربون, فإن قَتَلوا قتُلوا, وإن لـم يقتلوا وأخذوا الـمال قُطعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدار, لـيس من حارب الـمسلـمين فـي الـخلاء والسبـيـل بأعظم من مـحاربة من حاربهم فـي حريـمهم ودُورهم.
9316ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, قال: قال أبو عمرو: وتكون الـمـحاربة فـي الـمصر شُهِر علـى أهله بسلاحه لـيلاً أو نهارا. قال علـيّ: قال الولـيد: وأخبرنـي مالك أن قتل الغيـلة عنده بـمنزلة الـمـحاربة. قلت: وما قتل الغِيـلة؟ قال: هو الرجل يخدع الرجل والصبـيّ, فـيدخـله بـيتا أو يخـلوا به فـيقتله ويأخذ ماله, فـالإمام ولـي قتل هذا, ولـيس لولـيّ الدم والـجرح قَوَد ولا قصاص.
وهو قول الشافعي. حدثنا بذلك عنه الربـيع.
وقال آخرون: الـمـحارب: هو قاطع الطريق فأما الـمكابر فـي الأمصار فلـيس بـالـمـحارب الذي له حكم الـمـحاربـين. ومن قال ذلك أبو حنـيفة وأصحابه.
9317ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا بشر بن الـمفضل, عن داود بن أبـي هند, قال: تذاكرنا الـمـحارب ونـحن عند ابن هبـيرة فـي ناس من أهل البصرة, فـاجتـمع رأيهم أن الـمـحارب ما كان خارجا من الـمصر. وقال مـجاهد بـما:
9318ـ حدثنـي القاسم, قال:ثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد فـي قوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا قال: الزنا والسرقة, وقتل الناس, وإهلاك الـحرث والنسل.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد: وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا قال: الفساد: القتل, والزنا, والسرقة. وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب, قول من قال: الـمـحارب لله ورسوله من حارب فـي سابلة الـمسلـمين وذمتهم, والـمغير علـيهم فـي أمصارهم وقراهم حَرَابة.
وإنـما قلنا ذلك أولـى الأقوال بـالصواب, لأنه لا خلاف بـين الـحجة أن من نصب حربـا للـمسلـمين علـى الظلـم منه لهم أنه لهم مـحارب, ولا خلاف فـيه. فـالذي وصفنا صفته, لا شك فـيه أنه لهم مناصب حربـا ظلـما. وإذ كان ذلك كذلك, فسواء كان نصبه الـحرب لهم فـي مصرهم وقراهم أو فـي سبلهم وطرقهم فـي أنه لله ولرسوله مـحارب بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه.
وأما قوله: وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا فإنه يعنـي: يعملون فـي أرض الله بـالـمعاصي من إخافة سبل عبـاده الـمؤمنـين به, أو سبل ذمتهم وقطع طرقهم, وأخذ أموالـم ظلـما وعدوانا, والتوثّب علـى علـى حُرَمهم فجورا وفسوقا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خلافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ.
يقول تعالـى ذكره: ما للذي حارب الله ورسوله وسعى فـي الأرض فسادا من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم إلا بعض هذه الـخلال التـي ذكرها جلّ ثناؤه.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي هذه الـحلال أتلزم الـمـحارب بـاستـحقاقه اسم الـمـحاربة, أم يـلزمه ما لزمه من ذلك علـى قدر جُرْمه مختلفـا بـاختلاف أجرامه؟ (فقال بعضهم: يـلزمه ما لزمه من ذلك علـى قدر جرمه, مختلفـا بـاختلاف أجرامه) ذكر من قال ذلك:
9319ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: إنـما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَه... إلـى قوله: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: إذا حار ب فقَتَل, فعلـيه القتل إذا ظُهِر علـيه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ الـمال وقَتَل, فعلـيه الصلب إن ظُهِر علـيه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولـم يقتُل, فعلـيه قطع الـيد والرجل من خلاف إن ظُهِر علـيه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبـيـل, فإنـما علـيه النفـي.
9320ـ حدثنا ابن وكيع وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن أبـيه, عن حماد, عن إبراهيـم: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال: إذا خرج فأخاف االسبـيـل وأخذ الـمال, قطعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخاف السبـيـل ولـم يأخذ الـمال وقتل, صُلب.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد, عن إبراهيـم فـيـما أُرى فـي الرجل يخرج مـحاربـا, قال: إن قطع الطريق وأخذ الـمال قطعت يده ورجله, وإن أخذ الـمال وقَتَل قُتِل, وإن أخذ الـمال وقتَل ومثّل: صُلب.
9321ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن عمران بن حدير, عن أبـي مـجلز: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... الاَية. قال: إذا قتل وأخذ الـمال وأخاف السبـيـل صُلب, وإذا قتَل لـم يعدُ ذلك قُتل, وإذا أخذ الـمال لـم يعد ذلك قُطع, وإذا كان يفسد نُفـي.
9322ـ حدثنـي الـمثنى, قال حدثنا الـحمانـي, قال حدثنا شريك, عن سماك, عن الـحسن: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... إلـى قوله: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: إذا أخاف الطريق ولـم يقتل ولـم يأخذ الـمالَ نُفـي.
9323ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن حصين, قال: كان يقال: من حارب فأخاف السبـيـل وأخذ الـمال ولـم يقتل: قُطعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخذ الـمال وقتَل: صُلب.
9324ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أنه كان يقول فـي قوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... إلـى قوله: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ حدود أربعة أنزلها الله. فأما من أصاب الدم والـمال جميعا: صُلب وأما من أصاب الدم وكفّ عن الـمال: قُتل ومن أصاب الـمال وكفّ عن الدم: قُطِع ومن لـم يصب شيئا من هذا: نُفـي.
9325ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ. قال: نهى الله نبـيه علـيه الصلاة والسلام عن أن يَسْمُل أعين العرنـيـين الذين أغاروا علـى لِقاحه, وأمره أن يقـيـم فـيهم الـحدود كما أنزلها الله علـيه. فنطر إلـى من أخذ الـمال ولـم يقتل فقطع يده ورجله من خلاف, يده الـيـمنى ورجله الـيسرى. ونظر إلـى من قتل ولـم يأخذ مالاً فقتله. ونظر إلـى من أخذ الـمال وقَتل فصلبه. وكذلك ينبغي لكلّ من أخاف طريق الـمسلـمين وقطع أن يصنع به إن أُخِذ وقد أخذ مالاً قطعت يده بأخذه الـمال ورجله بإخافة الطريق, وإن قتل ولـم يأخذ مالاً قتل, وإن قتل وأخذ الـمال: صُلب.
9326ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا فضيـل بن مرزوق, قال سمعت السديّ يسأل عطية العوفـي, عن رجل مـحارب خرج, فأخذ ولـم يصب مالاً ولـم يُهْرِق دما. قال: النفـي بـالسيف وإن أخذ مالاً فـيده بـالـمال ورجله بـما أخاف الـمسلـمين وإن هو قَتَل ولـم يأخذ مالاً: قُتِل وإن هو قتل وأخذ الـمال: صُلِب. وأكبر ظنـي أنه قال: تُقطع يده ورجله.
9327ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن عطاء الـخراسانـي وقتادة فـي قوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... الاَية, قال: هذا اللصّ الذي يقطع الطريق, فهو مـحارب. فإن قَتل وأخذ مالاً: صُلِب وإن قتل, ولـم يأخذ مالاً: قُتل وإن أخذ مالاً ولـم يَقتل: قُطِعت يده ورجله وإن أُخِذ قبل أن يفعل شيئا من ذلك: نُفـي.
9328ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن قـيس بن سعد, عن سعيد بن جبـير, قال: من خرج فـي الإسلام مـحاربـا لله ورسوله فقَتل وأصاب مالاً, فإنه يُقْتل ويُصلب ومن قَتل ولـم يُصب مالاً, فإنه يقْتل كما قَتَل ومن أصاب مالاً ولـم يقْتُل, فإنه يقطع من خلاف وإن أخاف سبـيـل الـمسلـمين نُفـي من بلده إلـى غيره, لقول الله جلّ وعزّ: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ.
9329ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُلولَهُ قال: كان ناس يسعون فـي الأرض فسادا وقتلوا وقطعوا السبـيـل, فصَلَب أولئك. وكان آخرون حاربوا واستـحلّوا الـمال ولـم يَعْدُوا ذلك, فقُطِعت أيديهم وأرجلهم. وآخرون حاربوا واعتزلوا ولـم يَعْدُوا ذلك, فأولئك أُخرِجوا من الأرض.
9330ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو أسامة, عن أبـي هلال, قال: حدثنا قتادة, عن مورّق العجلـي فـي الـمـحارب, قال: إن كان خرج فقتَل وأخذ الـمَال: صُلب وإن قتَل ولـم يأخذ الـمال: قُتِل وإن كان أخذ الـمال ولـم يقتُل: قُطِع وإن كان خرج مشاقّا للـمسلـمين: نُفـي.
9331ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو معاوي, عن حجاج, عن عطية العوفـي, عن ابن عبـاس, قال: إذا خرج الـمـحارب وأخاف الطريق وأخذ الـمال: قُطِعت يده ورجله من خلاف فإن هو خرج فقتل وأخذ الـمال: قُطِعت يده ورجله من خلاف ثم صُلب وإن خرج فقَتل ولـم يأخذ الـمال: قُتل وإن أخاف السبـيـل ولـم يقتُل ولـم يأخذ الـمال: نُفـي.
9332ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا نافع بن يزيد, قال: ثنـي أبو صخر, عن مـحمد بن كعب القرظي وعن أبـي معاوية, عن سعيد بن جبـير فـي هذه الاَية: إنّـمَا جَزَءُ الّذِينَ يُحارِبونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعُوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا قالا: إن أخاف الـمسلـمين, فـاقتطع الـمال, ولـم يسفك: قُطِع وإذا سفك دما: قُتِل وصُلِب وإن جمعهما فـاقتطع مالاً وسفك دما: قُطِع ثم قُتِل ثم صلُب. كأنّ الصلب مُثْله, وكأنّ القطع السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فـاقْطَعُوا أيْدَيهُما, وكأن القتل. النفس بـالنفس. وإن امتنع فإن من الـحقّ علـى الإمام وعلـى الـمسلـمين أن يطلبوه حتـى يأخذوه فـيقـيـموا علـيه حكم كتاب الله, أو يُنْفَوْا من الأرض من أرض الإسلام إلـى أرض الكفر.
واعتلّ قائلوا هذه الـمقالة لقولهم هذا, بأن قالوا: إن الله أوجب علـى القاتل القود, وعلـى السارق القطع وقالوا: قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحلّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِـمِ إلاّ بإحْدَى ثَلاثِ خِلالٍ: رَجُلٍ قَتَلَ فَقُتلَ, وَرَجُلٍ زَنى بَعْدَ إحْصَانٍ فَرُجمَ, وَرَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلامهِ» قالوا: فحظر النبـيّ صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلـم إلا بإحدى هذه الـخلال الثلاث, فإما أن يقتل من أجل إخافته السبـيـل من غير أن يقتل أو يأخذ مالاً, فذلك تقدّمٌ علـى الله ورسوله بـالـخلاف علـيهما فـي الـحكم. قالوا: ومعنى قول من قال: الإمام فـيه بـالـخيار إذا قَتَل وأخاف السبـيـل وأخذ الـمال فهنالك خيار الإمام فـي قولهم بـين القتل أو القتل والصلب, أو قطع الـيد والرجل من خلاف. وأما صلبه بـاسم الـمـحاربة من غير أن يفعل شيئا من قتل أو أخذ مال, فذلك ما لـم يقله عالـم.
وقال آخرون: الإمام فـيه بـالـخيار أن يفعل أيّ هذه الأشياء التـي ذكرها الله فـي كتابه. ذكر من قال ذلك:
9333ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا جويبر, عن عطاء, وعن القاسم بن أبـي بزّة, عن مـجاهد فـي الـمـحارب: أن الإمام مخير فـيه أيّ ذلك شاء فعل.
9334ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, عن عبـيدة, عن إبراهيـم, عن عبـيدة, عن إبراهيـم: الإمام مخير فـي الـمـحارب, أيّ ذلك شاء فعل: إن شاء قتل, وإن شاء قطع, وإن شاء نفـي, وإن شاء صلب.
9335ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عاصم, عن الـحسن فـي قوله: إنّـما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبون اللّهَ وَرَسُولَهُ... إلـى قوله: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: يأخذ الإمام بأيهما أحبّ.
حدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن عاصم, عن الـحسن: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال: الإمام مخير فـيها.
9336ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن ابن جريج, عن عطاء, مثله.
9337ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن قـيس بن سعد, قال: قال عطاء: يصنع الإمام فـي ذلك ما شاء: إن شاء قتل, أو قطع, أو نفـي, لقول الله: أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبُوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ, أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ فذلك إلـى الإمام الـحاكم يصنع فـيه ما شاء.
9338ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... الاَية, قال: من شهر السلاح فـي فئة الإسلام, وأخاف السبـيـل, ثم ظُفِر به وقُدِر علـيه, فإمام الـمسلـمين فـيه بـالـخيار, إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله.
9339ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو أسامة, قال: أخبرنا أبو هلال, قال: أخبرنا قتادة, عن سعيد بن الـمسيب, أنه قال فـي الـمـحارب: ذلك إلـى الإمام, إذا أخذه يصنع به ما شاء.
حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو أسامة, عن أبـي هلال, قال: حدثنا هارون, عن الـحسن فـي الـمـحارب, قال: ذاك إلـى الإمام يصنع به ما شاء.
حدثنا هناد, قال: حدثنا حفص بن غياث, عن عاصم, عن الـحسن: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال: ذلك إلـى الإمام.
واعتلّ قائلو هذه الـمقالة بأن قالوا: وجدنا العطوف التـي بأو فـي القرآن بـمعنى التـخيـير فـي كلّ ما أوجب الله به فرضا منها, وذلك كقوله فـي كفـارة الـيـمين: فَكَفّـارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِـيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ أوْ تَـحْرِيرُ رَقَبَةٍ, وكقوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ, وكقوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ منْكُمْ هَدْيا بـالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفّـارَةُ طَعامِ مَساكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما. قالوا: فإذا كانت العطوف التـي بأو فـي القرآن فـي كلّ ما أوجب الله به فرضا منها فـي سائر القرآن بـمعنى التـخيـير, فكذلك ذلك فـي آية الـمـحاربـين الإمام مخير فـيـما رأى الـحكم به علـى الـمـحارب إذا قدر علـيه قبل التوبة.
وأولـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك عندنا تأويـل من أوجب علـى الـمـحارب من العقوبة علـى قدر استـحقاقه وجعل الـحكم علـى الـمـحاربـين مختلفـا بـاختلاف أفعالهم, فأوجب علـى مخيف السبـيـل منهم إذا قُدِر علـيه قبل التوبة وقبل أخذ مال أو قتل: النفـي من الأرض وإذا قُدِر علـيه بعد أخذ الـمال وقتل النفس الـمـحرّم قتلها: الصلب لـما ذكرت من العلة قبل لقائي هذه الـمقالة. فأما ما اعتلّ به القائلون: إن الإمام فـيه بـالـخيار من أن «أو» فـي العطف تأتـي بـمعنى التـخيـير فـي الفرض, فنقول: لا معنى له, لأن «أو» فـي كلام العرب قد تأتـي بضروب من الـمعانـي لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها, وقد بـينت كثـيرا من معانـيها فـيـما مضى وسنأتـي علـى بـاقـيها فـيـما يستقبل فـي أماكنها إن شاء الله. فأما فـي هذا الـموضع فإن معناها: التعقـيب, وذلك نظير قول القائل: إن جزاء الـمؤمنـين عند الله يوم القـيامة أن يدخـلهم الـجنة, أو يرفع منازلهم فـي علـيـين, أو يسكنهم مع الأنبـياء والصدّيقـين. فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقـيـله إلـى أن جزاء كلّ مؤمن آمن بـالله ورسوله, فهو فـي مرتبة واحدة من هذه الـمراتب ومنزلة واحدة من هذه الـمنازل بإيـمانه, بل الـمعقول عنه أن معناه: أن جزاء الـمؤمن لـم يخـلو عند الله من بعض هذه الـمنازل, فـالـمقتصد منزلته دون منزلة السابق بـالـخيرات, والسابق بـالـخيرات أعلـى منه منزلة, والظالـم لنفسه دونهما, وكلّ فـي الـجنة كما قال جلّ ثناؤه: جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُـلُونَها. فكذلك معنى الـمعطوف بأو فـي قوله: إنّـما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... الاَية, إنـما هو التعقـيب. فتأويـله: إن الذي يحارب الله ورسوله, ويسعى فـي الأرض فسادا, لن يخـلو من أن يستـحقّ الـجزاء بإحدى هذه الـخلال الأربع التـي ذكرها الله عزّ ذكره, لا أن الإمام مـحكّم فـيه, ومخير فـي أمره كائنة ما كانت حالته, عظمت جريرته أو خَفّت لأن ذلك لو كان كذلك لكان للإمام قتل من شَهَر السلاح مخيفـا السبـيـل وصلبه, وإن لـم يأخذ مالاً ولا قتل أحدا, وكان له نفـي من قَتل وأخذ الـمال وأخاف السبـيـل. وذلك قول إن قاله قائل خلاف ما صحت به الاَثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا يَحلّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلـمٍ إلاّ بإحْدَى ثَلاثٍ: رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلاً فَقُتِلَ, أوْ زَنى بَعْدَ إحْصَانٍ فرُجِمَ, أوِ ارْتَدّ عَنْ دِينِهِ» وخلاف قوله: «القَطْعُ فِـي رُبْعِ دِينار فَصَاعِدا» وغير الـمعروف من أحكامه.
فإن قال قائل: فإن هذه الأحكام التـي ذكرت كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي غير الـمـحارب, وللـمـحارب حكم غير ذلك منفرد به؟ قـيـل له: فما الـحكم الذي انفرد به الـمـحارب فـي سننه, فإن ادّعى عنه صلى الله عليه وسلم حكما خلاف الذي ذكرنا, أكذبه جميع أهل العلـم, لأن ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة, وإن زعم أن ذلك الـحكم هو ما فـي ظاهر الكتاب. قـيـل له: فإن أحسن حالاتك أن يُسلّـم لك أن ظاهر الاَية قد يحتـمل ما قلت, وما قاله من خالفك فما برهانك علـى أن تأويـلك أولـى بتأويـل الاَية من تأويـله. وبعد: فإذا كان الإمام مخيرا فـي الـحكم علـى الـمـحارب من أجل أنّ «أو» بـمعنى التـخيـير فـي هذا الـموضع عندك, أفله أن يصلبه حيا ويتركه علـى الـخشبة مصلوبـا حتـى يـموت من غير قتله؟ فإن قال: ذلك له, خالف فـي ذلك الأمة. وإن زعم أن ذلك لـيس له, وإنـما له قتله ثم صلبه أو صلبه ثم قتله, ترك علته من أن الإمام إنـما كان له الـخيار فـي الـحكم علـى الـمـحارب من أجل أن «أو» تأتـي بـمعنى التـخيـير, وقـيـل له: فكيف كان له الـخيار فـي القتل أو النفـي أو القطع ولـم يكن له الـخيار فـي الصلب وحده, حتـى تـجمع إلـيه عقوبة أخرى؟ وقـيـل له: هل بـينك وبـين من جعل الـخيار حيث أبـيت وأبى ذلك حيث جعلته حيث جعلته له, فرقٌ كم أصل أو قـياس؟ فلن يقول فـي أحدهما قولاً إلاّ ألزم فـي الاَخر مثله. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا فـي ذلك بـما فـي إسناده نظر. وذلك ما:
9340ـ حدثنا به علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, عن ابن لهيعة, عن يزيد بن أبـي حبـيب: أن عبد الـملك بن مروان كتب إلـى أنس بن مالك يسأله عن هذه الاَية, فكتب إلـيه أنس يخبره أن هذه الاَية نزلت فـي أولئك النفر العرنـيـين, وهم من بجيـلة. قال أنس: فـارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, وساقوا الإبل, وأخافوا السبـيـل, وأصابوا الفرْج الـحرام. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريـل علـيه السلام عن القضاء فـيـمن حارب, فقال: «من سرق وأخاف السبـيـل فـاقطع يده بسرقته ورِجْلَه بإخافته. ومن قتل فـاقتله. ومن قتل وأخاف السبـيـل واستـحلّ الفرج الـحرام فـاصلبه».
وأما قوله: أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنَ خِلافٍ فإنه يعنـي جلّ ثناؤه: أنه تقطع أيديهم مخالفـا فـي قطعها قطع أرجلهم, وذلك أن تقطع أيـمن أيديهم وأشمل أرجلهم, فذلك الـخلاف بـينهما فـي القطع. ولو كان مكان «من» فـي هذا الـموضع «علـى» أو البـاء, فقـيـل: أو تقطع أيديهم وأرجلهم خلاف أو بخلاف, لأدّيا عما أدت عنه «مِن» من الـمعنى.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى النفـي الذي ذكر الله فـي هذا الـموضع. فقال بعضهم: هو أن يُطلب حتـى يُقدر علـيه, أو يهرب من دار الإسلام. ذكر من قال ذلك:
9341ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: أوْ يُنْفَوْا منَ الأرْضِ قال: يطلبهم الإمام بـالـخيـل والرجال حتـى يأخذهم, قـيقـيـم فـيهم الـحكم, أو يُنفوا من أرض الـمسلـمين.
9342ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: نفـيه: أن يطلب.
9343ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ يقول: أو يهربوا حتـى يخرجوا من دار الإسلام إلـى دار الـحرب.
9344ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: أخبرنـي عبد الله بن لَهِيعة, عن يزيد بن أبـي حبـيب, عن كتاب أنس بن مالك, إلـى عبد الـملك بن مروان: أنه كتب إلـيه: «ونَفْـيُه: أن يطلبه الإمام حتـى يأخذه, فإذا أخذه أقام علـيه إحدى هذه الـمنازل التـي ذكر الله جلّ وعزّ بـما استـحلّ».
9345ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد, قال: فذكرت ذلك للـيث بن سعد, فقال: نفـيه: طلبه من بلد إلـى بلد حتـى يؤخذ, أو يخرجه طلبه من دار الإسلام إلـى دار الشرك والـحرب, إذا كان مـحاربـا مرتدّا عن الإسلام. قال الولـيد: وسألت مالك بن أنس, فقال مثله.
9346ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, قال: قلت لـمالك بن أنس واللـيث بن سعد: وكذلك يطلب الـمـحارب الـمقـيـم علـى إسلامه, يضطره بطلبه من بلد إلـى بلد حقّ يصير إلـى ثغر من ثغور الـمسلـمين, أو أقصى جوار الـمسلـمين, فإن هم طلبوه دخـل دار الشرك؟ قالا: لا يُضْطَرّ مسلـم إلـى ذلك.
9347ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: أن يطلبوه حتـى يعجزوا.
حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنـي عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول, فذكر نـحوه.
9348ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص بن غياث, عن عاصم, عن الـحسن: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: ينفـى حتـى لا يقدر علـيه.
9349ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس فـي قوله: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: أخرجوا من الأرض أينـما أدركوا, أُخرجوا حتـى يـلـحقوا بأرض العدوّ.
9350ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: حدثنا معمر, عن الزهري فـي قوله: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: نفـيه: أن يطلب فلا يقدر علـيه, كلـما سمع به فـي أرض طلب.
9351ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: أخبرنـي سعيد, عن قتادة: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: إذا لـم يقتل ولـم يأخذ مالاً, طُلب حتـى يعجِز.
9352ـ حدثنـي ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنـي نافع بن يزيد, قال: ثنـي أبو صخر, عن مـحمد بن كعب القُرَظيّ, وعن أبـي معاوية, عن سعيد بن جبـير: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ من أرض الإسلام إلـى أرض الكفر.
وقال آخرون: معنى النفـي فـي هذا الـموضع: أن الإمام إذا قدر علـيه نفـاه من بلدته إلـى بلدة أخرى غيرها. ذكر من قال ذلك:
9353ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن قـيس بن سعد, عن سعيد بن جبـير: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال: من أخاف سبـيـل الـمسلـمين نُفـي من بلده إلـى غيره, لقول الله عزّ وجلّ: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ.
9354ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي اللـيث, قال: ثنـي يزيد بن أبـي حبـيب وغيره, عن حبـان بن شريح, أنه كتب إلـى عمر بن عبد العزيز فـي اللصوص, ووصف له لصوصيتهم وحبسهم فـي السجون, قال: قال الله فـي كتابه: إنّـما جَزَاءُ الّذِينَ يُجارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبُوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ, وترك: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ. فكتب إلـيه عمر بن عبد العزيز: أما بعد, فإنك كتبت إلـيّ تذكر قول الله جلّ وعزّ: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبُوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ, وتركت قول الله: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ, فنبـيّ أنت يا حبـان ابن أمّ حبـان لا تـحرّك الأشياء عن مواضعها, أتـجرّدت للقتل والصلب كأنك عبد بنـي عقـيـل من غير ما أشبّهك به؟ إذا أتاك كتابـي هذا فـانفهم إلـى شغب.
حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي اللـيث, عن يزيد وغيره بنـحو هذا الـحديث, غير أن يونس قال فـي حديثه: كأنك عبد بنـي أبـي عقال من غير أن أشبّهك به.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي ابن لهيعة, عن يزيد بن أبـي حبـيب, أن الصلت كاتب حبـان بن شريح, أخبرهم أن حبـان كتب إلـى عمر بن عبد العزيز: أن ناسا من القبط قامت علـيهم البـينة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا فـي الأرض فسادا, وأن الله يقول: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبُوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ وسكت عن النفـي, وكتب إلـيه: فإن رأى أمير الـمؤمنـين أن يـمضي قضاء الله فـيهم, فلـيكتب بذلك. فلـما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه, قال: لقد اجتزأ حبـان. ثم كتب إلـيه: إنه قد بلغنـي كتابك وفهمته, ولقد اجتزأت كأنـما كتبت بكتاب يَزِيدَ بن أبـي مسلـم أو عِلْـج صاحب العراق من غير أن أشبهك بهما, فكتبت بأوّل الاَية ثم سكتّ عن آخرها, وإن الله يقول: أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ فإن كانت قامت علـيهم البـينة بـما كتبت به, فـاعقد فـي أعناقهم حديدا, ثم غيبهم إلـى شَغْبٍ وبَدَا.
قال أبو جعفر: شغب وبدا: موضعان.
وقال آخرون: معنى النفـي من الأرض فـي هذا الـموضع: الـحبس, وهو قول أبـي حنـيفة وأصحابه.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب فـي قول من قال: معنى النفـي من الأرض فـي هذا الـموضع: هو نفـيه من بلد إلـى بلد غيره وحبسه فـي السجن فـي البلد الذي نفـي إلـيه, حتـى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه.
وإنـما قلت ذلك أولـى الأقوال بـالصحة, لأن أهل التأويـل اختلفوا فـي معنى ذلك علـى أحد الأوجه الثلاثة التـي ذكرت. وإذ كان ذلك كذلك, وكان معلوما أن الله جلّ ثناؤه إنـما جعل جزاء الـمـحارب: القتل أو الصلب, أو قطع الـيد والرجل من خلاف, بعد القدرة علـيه لا فـي حال امتناعه كان معلوما أن النفـي أيضا إنـما هو جزاؤه بعد القدرة علـيه لا قبلها, ولو كان هروبه من الطلب نفـيا له من الأرض, كان قطع يده ورجله من خلاف فـي حال امتناعه وحربه علـى وجه القتال بـمعنى إقامة الـحدّ علـيه بعد القدرة علـيه. وفـي إجماع الـجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفـيه الذي جعله الله عزّ وجلّ حدّا له بعد القدرة علـيه. وإذ كان كذلك, فمعلوم أنه لـم يبق إلاّ الوجهان الاَخران, وهو النفـي من بلدة إلـى أخرى غيرها أو السجن. فإذ كان كذلك, فلا شكّ أنه إذا نفـي من بلدة إلـى أخرى غيرها فلـم ينف من الأرض, بل إنـما نفـي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك, وكان الله جلّ ثناؤه إنـما أمر بنفـيه من الأرض, كان معلوما أنه لا سبـيـل إلـى نفـيه من الأرض إلاّ بحبسه فـي بقعة منها عن سائرها, فـيكون منفـيا حينئذٍ عن جميعها, إلاّ مـما لا سبـيـل إلـى نفـيه منه. وأما معنى النفـي فـي كلام العرب: فهو الطرد, ومن ذلك قول أوس بن حجر:
يُنْفَوْنَ عَنْ طُرُقِ الكِرَامِ كمَايَنْفِـي الـمُطارِقُ ما يَـلـي القَرَدُ
ومنه قـيـل للدراهم الرديئة وغيرها من كلّ شيء: النّفـاية. وأما الـمصدر من نفـيت, فإنه النفـي والنّفـاية, ويقال: الدلو ينفـي الـماء. ويقال لـما تطاير من الـماء من الدلو النفـيّ, ومنه قول الراجز:
كأنّ مَتْنَـيْهِ مِنَ النّفـيّمَوَاقِعُ الطّيْرِ علـى الصّفِـيّ
ومنه قـيـل: نَفَـى شَعَرُه: إذا سقط, يقال: حال لونك ونَفَـى شعرك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِـي الدّنْـيا ولهمْ فِـي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيـمٌ.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: ذَلِكَ: هذا الـجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا فـي الأرض فسادا فـي الدنـيا, من قتل, أو صلب, أو قطع يد ورجل من خلاف لَهُمْ يعنـي: لهؤلاء الـمـحاربـين خِزْيٌ فـي الدّنْـيَا يقول: هو لهم شرّ وعار وذلة, ونكال وعقوبة فـي عاجل الدنـيا قبل الاَخرة, يقال منه: أخزيت فلانا فخَزِيَ هو خِزْيا, وقوله: وَلَهُمْ فـي الاَخرةِ عَذَابٌ عَظِيـمٌ يقول عزّ ذكره لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله وسعول فـي الأرض فسادا فلـم يتوبوا من فعلهم ذلك, حتـى هلكوا فـي الاَخرة مع الـخزي الذي جازيتهم به فـي الدنـيا, والعقوبة التـي عاقبتهم بها فـيها عذاب عظيـم, يعنـي: عذاب جهنـم.
الآية : 34
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }..
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: إلاّ الذين تابوا من شركهم ومناصبتهم الـحرب لله ولرسوله, والسعي فـي الأرض بـالفساد بـالإسلام, والدخول فـي الإيـمان من قبل قدرة الـمؤمنـين علـيهم, فإنه لا سبـيـل للـمؤمنـين علـيهم بشيء من العقوبـات التـي جعلها الله جزاء لـمن حاربه ورسوله وسعى فـي الأرض فسادا, من قَتْل, أو صَلْب, أو قطع يد ورجل من خلاف, أو نفـي من الأرض, فلا تِبـاعة قِبَله لأحد فـيـما كان أصاب فـي حال كفره وحربه الـمؤمنـين فـي مال ولا دم ولا حرمة قالوا: فأما الـمسلـم إذا حارب الـمسلـمين أو الـمعاهدين وأتـى بعض ما يجب علـيه العقوبة, فلن تضع توبته عنه عقوبة ذنبه, بل توبته فـيـما بـينه وبـين الله, وعلـى الإمام إقامة الـحدّ الذي أوجبه الله علـيه وأخذه بحقوق الناس. ذكر من قال ذلك:
9355ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الـحسين بن واقد, عن يزيد النـحويّ, عن عكرمة والـحسن البصريّ, قالا: قوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ... إلـى قوله: فـاعْلَـمُوا أنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيـمٌ نزلت هذه الاَية فـي الـمشركين, فمن تاب منهم من قبل أن يُقْدَر علـيه لـم يكن علـيه سبـيـل, ولـيس تـحرز هذه الاَية الرجل الـمسلـم من الـحدّ إن قتل أو أفسد فـي الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لـحق بـالكفـار قبل أن يُقْدَر علـيه, ذلك يقام علـيه الـحدّ الذي أصاب.
9356ـ حدثنا بشار, قال: حدثنا روح بن عبـادة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ فـاعْلَـمُوا أنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيـمٌ قال: هذا لأهل الشرك إذا فعلوا شيئا فـي شركهم, فإن الله غفور رحيـم إذا تابوا وأسلـموا.
9357ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِـي الأرْضِ فَسادا بـالزنا, والسرقة وقتل النفس, وإهلاك الـحرث والنسل إلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ علـى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
9358ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك, قال: كان قوم بـينهم وبـين الرسول صلى الله عليه وسلم ميثاق, فنقضوا العهد وقطعوا السبـيـل وأفسدوا فـي الأرض, فخير الله نبـيه صلى الله عليه وسلم فـيهم, فإن شاء قتل, وإن شاء صلب, وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, فمن تاب من قبل أن تقدروا علـيه قُبِل ذلك منه.
9359ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: إنّـمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ... الاَية, فذكر نـحو قول الضحاك, إلاّ أنه قال: فإن جاء تائبـا فدخـل فـي الإسلام قُبِل منه ولـم يؤاخذ بـما سلف.
9360ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إلاّ الّذِينَ مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ قال: هذا لأهل الشرك إذا فعلوا شيئا من هذا فـي شركهم ثم تابوا وأسلـموا, فإن الله غفور رحيـم.
9361ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن عطاء الـخراسانـي وقتادة, أما قوله: إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ فهذه لأهل الشرك, فمن أصاب من الـمشركين شيئا من الـمسلـمين وهو لهم حرب, فأخذ مالاً أو أصاب دما ثم تاب قبل أن تقدروا علـيه, أُهدر عنه ما مضى.
وقال آخرون: بل هذه الاَية معنـيّ بـالـحكم بها الـمـحاربون الله ورسوله الـحُرّابُ من أهل الإسلام, من قطع منهم الطريق وهو مقـيـم علـى إسلامه, ثم استأمن فأومن علـى جناياته التـي جناها وهو للـمسلـمين حرب. ومن فعل ذلك منهم مرتدّا عن الإسلام ثم لـحق بدار الـحرب, ثم استأمن فأومن قالوا: فإذا أمنه الإمام علـى جناياته التـي سلفت لـم يكن قبله لأحد تبعة فـي دم ولا مال أصابه قبل توبته وقبل أمان الإمام إياه. ذكر من قال ذلك:
9362ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد, قال: أخبرنـي أبو أسامة عن أشعث بن سوار, عن عامر الشعبـي: أن حارثة بن بدر خرج مـحاربـا, فأخاف السبـيـل, وسفك الدم, وأخذ الأموال, ثم جاء تائبـا من قبل أن يُقدر علـيه, فقبل علـيّ بن أبـي طالب علـيه السلام توبته, وجعل له أمانا منشورا علـى ما كان أصاب من دم أو مال.
9363ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن مـجالد, عن الشعبـيّ: أن حارثة بن بدر حارب فـي عهد علـيّ بن أبـي طالب, فأتـى الـحسن بن علـيّ رضوان الله علـيهما, فطلب إلـيه أن يستأمن له من علـيّ, فأبى. ثم أتـى ابن جعفر, فأبى علـيه. فأتـى سعيد بن قـيس الهمدانـي فأمنه, وضمه إلـيه, وقال له: استأمن إلـى أمير الـمؤمنـين علـيّ بن أبـي طالب قال: فلـما صلّـى علـيّ الغداة, أتاه سعيد بن قـيس, فقال: يا أمير الـمؤمنـين, ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله؟ قال: أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. قال: ثم قال: إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا علـيهم. قال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبـا فهو آمن؟ قال: نعم. قال: فجاء به فبـايعه, وقَبِل ذلك منه, وكتب له أمانا.
9364ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مَغْراء, عن مـجالد, عن الشعبـيّ, قال: كان حارثة بن بدر قد أفسد فـي الأرض وحارب ثم تاب, وكُلّـم له علـيّ فلـم يؤمنه. فأتـى سعيد بن قـيس فكلـمه, فـانطلق سعيد بن قـيس إلـى علـيّ, فقال: يا أمير الـمؤمنـين, ما تقول فـيـمن حارب الله ورسوله؟ فقرأ الاَية كلها, فقال: أرأيت من تاب من قبل أن تقدر علـيه؟ قال: أقول كما قال الله. قال: فإنه حارثة بن بدر. قال: فأمنه علـيّ, فقال حارثة:
ألا أبْلِغَنْ همَدانَ إمّا لَقـيتَهاعلـى النّأْيِ لا يسْلَـمْ عدُوّ يَعيبُها
لعَمْرُ أبـيها إنّ هَمْدَانَ تَتّقِـي الإِلَه ويَقْضِي بـالكِتابِ خَطِيبُها
9365ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ وتوبته من قبل أن يقدر علـيه أن يكتب إلـى الإمام يستأمنه علـى ما قتل وأفسد فـي الأرض: فإن لـم يومنـي علـى ذلك ازددت فسادا وقتلاً وأخذا للأموال أكثر مـما فعلت ذلك قبل. فعلـى الإمام من الـحقّ أن يؤمنه علـى ذلك, فإذا أمنه الإمام جاء حتـى يضع يده فـي يد الإمام. فلـيس لأحد من الناس أن يتبعه ولا يأخذه بدم سفكه ولا مال أخذه, وكلّ مال كان له فهو له, لكيلا يقتل الـمؤمنـين أيضا ويفسده. فإذا رجع إلـى الله جلّ وعزّ فهو ولـيه يأخذه بـما صنع. وتوبته فـيـما بـينه وبـين الإمام والناس, فإذا أخذه الإمام وقد تاب فـيـما يزعم إلـى الله جلّ ثناؤه قبل أن يؤمنه الإمام فلـيقم علـيه الـحدّ.
9366ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, عن سعيد بن عبد العزيز, أخبرنـي مكحول, أنه قال: إذا أعطاه الإمام أمانا, فهو آمن ولا يقام علـيه الـحدّ ما كان أّصاب.
وقال آخرون: معنى ذلك: كلّ من جاء تائبـا من الـحُرّاب قبل القدرة علـيه, استأمن الإمام فأمنه أو لـم يستأمنه بعد أن يجيء مستسلـما تاركا للـحرب. ذكر من قال ذلك:
9367ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل, عن أشعث, عن عامر, قال: جاء رجل من مراد إلـى أبـي موسى وهو علـى الكوفة فـي إمرة عثمان بعد ما صلـى الـمكتوبة, فقال: يا أبـا موسى هذا مقام العائذ بك, أنا فلان ابن فلان الـمرادي, كنت حاربت الله ورسوله وسعيت فـي الأرض, وإنـي تبت من قبل أن يُقْدَر علـيّ. فقام أبو موسى فقال: هذا فلان ابن فلان, وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى فـي الأرض فسادا, وإنه تاب قبل أن يقدر علـيه, فمن لقـيه فلا يعرض له إلاّ بخير. فأقام الرجل ما شاء الله, ثم إنه خرج, فأدركه الله بذنوبه فقتله.
حدثنـي الـحارث بن مـحمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن إسماعيـل السديّ, عن الشعبـيّ قال: جاء رجل إلـى أبـي موسى, فذكر نـحوه.
9368ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: قلت لـمالك: أرأيت هذا الـمـحارب الذي قد أخاف السبـيـل وأصاب الدم والـمال, فلـحق بدار الـحرب أو تـمنّع فـي بلاد الإسلام, ثم جاء تائبـا من قبل أن يُقْدَر علـيه؟ قال: تقبل توبته. قال: قلت: فلا يتّبع بشيء من أحداثه؟ قال: لا, إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فـيردّ إلـى صاحبه, أو يطلبه ولـيّ من قتل بدم فـي حربه يثبت ببـينة أو اعتراف فـيقاد به وأما الدماء التـي أصابها ولـم يطلبها أولـياؤها فلا يتبعه الإمام بشيء. قال علـيّ: قال الولـيد: فذكرت ذلك لأبـي عمرو, فقال: تقبل توبته إذا كان مـحاربـا للعامة والأئمة قد آذاهم بحربه فشهر سلاحه وأصاب الدماء والأموال, فكانت له منعة أو فئة يـلـجأ إلـيهم, أو لـحق بدار الـحرب فـارتدّ عن الإسلام, أو كان مقـيـما علـيه ثم جاء تائبـا من قبل أن يُقْدَر علـيه, قُبِلت توبته ولـم يُتّبع بشيء منه.
9369ـ حدثنـي علـي, قال: حدثنا الولـيد, قال: قال أبو عمرو: سمعت ابن شهاب الزهري يقول ذلك.
9370ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد, قال: فذكرت قول أبـي عمرو ومالك للـيث بن سعد فـي هذه الـمسألة, فقال: إذا أعلن بـالـمـحاربة للعامة والأئمة وأصاب الدماء والأموال, فـامتنع بـمـحاربته من الـحكومة علـيه, أو لـحق بدار الـحرب ثم جاء تائبـا من قبل أن يُقْدَر علـيه, قُبلت توبته ولـم يتبع بشيء من أحداثه فـي حربه من دم خاصة ولا عامة وإن طلبه ولـيه.
9371ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, قال: قال اللـيث: وكذلك ثنـي موسى بن إسحاق الـمدنـيّ, وهو الأمير عندنا: أن علـيا الأسدي حارب وأخاف السبـيـل وأصاب الدم والـمال, فطلبته الأئمة والعامة, فـامتنع ولـم يُقْدَر علـيه, حتـى جاء تائبـا وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الاَية: يا عِبَـادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا علـى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمةِ اللّهِ... الاَية, فوقـف علـيه فقال: يا عبد الله, أعد قراءتها فأعادها علـيه. فغمد سيفه, ثم جاء تائبـا, حتـى قدم الـمدينة من السّحَر, فـاغتسل, ثم أتـى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصلّـى الصبح, ثم قعد إلـى أبـي هريرة فـي غمار أصحابه فلـما أسفر عرفه الناس وقاموا إلـيه, فقال: لا سبـيـل لكم علـيّ, جئت تائبـا من قبل أن تقدروا علـيّ فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بـيده أبو هريرة حتـى أنى مروان بن الـحكم فـي إمرته علـى الـمدينة فـي زمن معاوية, فقال: هذا علـيّ جاء تائبـا ولا سبـيـل لكم علـيه ولا قتل. قال: فتُرك من ذلك كله. قال: وخرج علـيّ تائبـا مـجاهدا فـي سبـيـل الله فـي البحر, فلقُوا الروم, فقرّبوا سفـينته إلـى سفـينة من سفنهم, فـاقتـحم علـى لروم فـي سفـينتهم, فهُزموا منه إلـى سفـينتهم الأخرى, فمالت بهم وبه فغرقوا جميعا.
9372ـ حدثنـي أحمد بن حازم, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا مُطَرّف بن مَعْقل, قال: سمعت عطاء قال فـي رجل سرق سرقة فجاء بها تائبـا من غير أن يؤخذ: فهل علـيه حدّ؟ قال: لا, ثم قال: إلاّ الّذِينَ تابُوا منْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ... الاَية.
9373ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا نافع بن يزيد, قال: ثنـي أبو صخر, عن مـحمد بن كعب القرظي, وعن أبـي معاوية, عن سعيد بن جبـير, قالا: إن جاء تائبـا لـم يقتطع مالاً ولـم يسفك دما تُرك, فذلك الذي قال الله: إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ يعنـي بذلك: أنه لـم يسفك دما ولـم يقتطع مالاً.
وقال آخرون: بل عنى بـالاستثناء فـي ذلك التائبَ من حربه الله ورسوله والسعي فـي الأرض فسادا, بعد لـحاقه فـي حربه بدار الكفر فأما إذا كانت حرابته وحربه وهو مقـيـم فـي دار الإسلام وداخـل فـي غمار الأمة, فلـيست توبته واضعة عنه شيئا من حدود الله ولا من حقوق الـمسملـين والـمعاهدين, بل يؤخذ بذلك. ذكر من قال ذلك:
9374ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, قال: أخبرنـي إسماعيـل, عن هشام بن عروة: أنه أخبره أنهم سألوا عروة عمن تلصص فـي الإسلام فأصاب حدودا ثم جاء تائبـا, فقال: لا تقبل توبته, لو قُبِل ذلك منهم اجترءوا علـيه وكان فسادا كبـيرا, ولكن لو فرّ إلـى العدو ثم جاء تائبـا, لـم أر علـيه عقوبة.
وقد رُوي عن عروة خلاف هذا القول, وهو ما:
9375ـ حدثنـي به علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, قال: أخبرنـي من سمع هشام بن عروة, عن عروة قال: يقام علـيه حدّ ما فرّ منه, ولا يجوز لأحد فـيه أمان يعنـي: الذي يصيب حدّا ثم يفرّ فـيـلـحق الكفـار, ثم يجيء تائبـا.
وقال آخرون: إن كانت حرابته وحربه فـي دار الإسلام, وهو فـي غير منعة من فئة يـلـجأ إلـيها, ثم جاء تائبـا قبل القدرة علـيه, فإن توبته لا تضع عنه شيئا من العقوبة ولا من حقوق الناس. وإن كانت حرابته وحربه فـي دار الإسلام أو هو لاحق بدار الكفر, غير أنه فـي كل ذلك كان يـلـجأ إلـى فئة تـمنعه مـمن أراده من سلطان الـمسلـمين, ثم جاء تائبـا قبل القدرة علـيه, فإن توبته تضع عنه كلّ ما كان من أحداثه فـي أيام حرابته تلك, إلاّ أن يكون أصاب حدّا أو أمر الرّفقة بـما فـيه عقوبة أو غُرْم لـمسلـم أو معاهد, وهو غير ملتـجىء إلـى فئة تـمنعه, فإنه يؤخذ بـما أصاب من ذلك وهو كذلك, ولا يضع ذلك عنه توبته. ذكر من قال ذلك:
9376ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا الولـيد, قال: قال أبو عمرو: إذا قطع الطريق لصّ أو جماعة من اللصوص, فأصابوا ما أصابوا من الدماء والأموال ولـم يكن لهم فئة يـلـجئون إلـيها ولا منعة ولا يأمنون إلاّ بـالدخول فـي غمار أمتهم وسواد عامتهم, ثم جاء تائبـا من قبل أن يُقْدر علـيه, لـم تُقبل توبته وأقـيـم علـيه حدّه ما كان.
9377ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, قال: ذكرت لأبـي عمرو قول عروة: يقام علـيه حدّ ما فرّ منه, ولا يجوز لأحد فـيه أمان. فقال أبو عمرو: إن فرّ من حدثه فـي دار الإسلام فأعطاه إمام أمانا, لـم يجز أمانه. وإن هو لـحق بدار الـحرب, ثم سأل إماما علـى أحداثه, لـم ينبغ للإمام أن يعطيه أمانا, وإن أعطاه الإمام أمانا وهو غير عالـم بأحداثه, فهو آمن, وإن جاء أحد يطلبه بدم أو مال, رُدّ إلـى مأمنه, فإن أبى أن يرجع فهو آمن, ولا يتعرّض له. قال: وإن أعطاه أمانا علـى أحداثه وهو يعرفها, فـالإمام ضامن واجب علـيه عَقْل ما كان أصاب من دم أو مال, وكان فـيـما عطّل من تلك الـحدود والدماء آثما, وأمره إلـى الله جلّ وعزّ. قال: وقال أبو عمرو: فإذا أصاب ذلك وكانت له منعة أو فئة يـلـجأ إلـيها, أو لـحق بدار الـحربِ فـارتدّ عن الإسلام, أو كان مقـيـما علـيه ثم جاء تائبـا من قبل أن يُقْدَر علـيه, قُبِلت توبته, ولـم يُتّبع بشيء من أحداثه التـي أصابها فـي حربه, إلاّ أن يوجد معه شيء قائم بعينه فـيردّ إلـى صاحبه.
9378ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا الولـيد, قال: أخبرنـي ابن لهيعة, عن ربـيعة, قال: تقبل توبته, ولا يتبع بشيء من أحداثه فـي حربه إلاّ أن يطلبه أحد بدم كان أصابه فـي سلـمه قبل حربه فإنه يُقاد به.
9379ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا معمر الرّقّـي, قال: حدثنا الـحجاج, عن الـحكم بن عتـيبة, قال: قاتل الله الـحجاج إن كان لـيفقه أمّن رجلاً من مـحاربته, فقال: انظروا هل أصاب شيئا قبل خروجه؟
وقال آخرون تضع توبته عنه حدّ الله الذي وجب علـيه بـمـحاربته, ولا يسقط عنه حقوق بنـي آدم. ومـمن قال ذلك الشافعي, حدثنا بذلك عنه الربـيع.
وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي قول من قال: توبة الـمـحارب الـمـمتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القدرة علـيه, تضع عنه تبعات الدنـيا التـي كانت لزمته فـي أيام حربه وحِرابته من حدود الله, وغرم لازم وقَوَد وقِصاص, إلاّ ما كان قائما فـي يده من أموال الـمسلـمين والـمعاهدين بعينه, فـيردّ علـى أهله لإجماع الـجميع علـى أن ذلك حكم الـجماعة الـمـمتنعة الـمـحاربة لله ولرسوله الساعية فـي الأرض فسادا علـى وجه الردّة عن الإسلام, فكذلك حكم كلّ مـمتنع سعى فـي الأرض فسادا, جماعة كانوا أو واحدا, فأما الـمستـخفـي بسرقته والـمتلصص علـى وجه إغفـال من سرقه, والشاهر السلاح فـي خلاء علـى بعض السابلة, وهو عند الطلب غير قادر علـى الامتناع, فإن حكم الله علـيه تاب أو لـم يتب ماضٍ, وبحقوق من أخذ ماله أو أصاب ولـيه بدم أو خَتْل مأخوذ, وتوبته فـيـما بـينه وبـين الله قـياسا علـى إجماع الـجميع علـى أنه لو أصاب شيئا من ذلك وهو للـمسلـمين سِلْـم ثم صار لهم حربـا, أن حربه إياهم لن يضع عنه حقا لله عزّ ذكره ولا لاَدميّ, فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك فـي خلاء أو بـاستـخفـاء وهو غير مـمتنع من السلطان بنفسه إن أراده وذلك أن ذلك لو كان حكما فـي أهل الـحرب من الـمشركين دون الـمسلـمين ودون ذمتهم لوجب أو لا يسقط إسلامهم عنهم إذا أسلـموا أو تابوا بعد قدرتنا علـيهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل وما للـمسلـمين فـي أهل الـحرب من الـمشركين. وفـي إجماع الـمسلـمين أن إسلام الشرك الـحربـي يضع عنه بعد قدرة الـمسلـمين علـيه ما كان واضعه عنه إسلامه قبل القدرة علـيه, ما يدلّ علـى أن الصحيح من القول فـي ذلك قول من قال: عنـي بآية الـمـحاربـين فـي هذا الـموضع: حُرّاب أهل الإسلام أو الذمة دون من سواهم من مشركي أهل الـحرب.
وأما قوله: فـاعْلَـمُوا أنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيـمٌ فإن معناه: فـاعلـموا أيها الـمؤمنون أن الله غير مؤاخذ من تاب من أهل الـحرب لله ولرسوله الساعين فـي الأرض فسادا وغيرهم بذنوبه, ولكنه يعفو عنه فـيسترها علـيه ولا يفضحه بها بـالعقوبة فـي الدنـيا والاَخرة, رحيـم به فـي عفوه عنه وتركه عقوبته علـيها.
الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُوَاْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }..
يعنـي جلّ ثناؤه بذلك: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله فـيـما أخبرهم ووعدهم من الثواب, وأوعد من العقاب اتّقُوا اللّهَ يقول: أجيبوا الله فـيـما أمركم ونهاكم بـالطاعة له فـي ذلك, وحققوا إيـمانكم وتصديقكم ربكم ونبـيكم بـالصالـح من أعمالكم. وَابْتَغُوا إلَـيْهِ الوَسِيـلَةَ يقول: واطلبوا القربة إلـيه بـالعمل بـما يرضيه. والوسيـلة: هي الفعلـية من قول القائل: توسلت إلـى فلان بكذا, بـمعنى: تقرّبت إلـيه, ومنه قول عنترة:
إنّ الرّجالَ لهُمْ إلَـيْكِ وَسِيـلَةٌأنْ يأْخُذُوكِ تَكَحّلِـي وتَـخَضّبِـي
يعنـي بـالوسيـلة: القُرْبة. ومنه قول الاَخر:
إذا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنا لِوَصْلِناوَعادَ التّصَافِـي بَـيْنَنا وَالوَسائِلُ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9380ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان (ح), وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب, عن سفـيان, عن منصور, عن أبـي وائل: وَابْتَغُوا إلَـيْهِ الوَسِيـلةَ قال: القربة فـي الأعمال.
9381ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع (ح), وحدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن طلـحة, عن عطاء: وَابْتَغُوا إلَـيْهِ الوَسِيـلَةَ قال: القُربة.
9382ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَـيْهِ الوَسِيـلَةَ قال: هي الـمسألة والقربة.
9383ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَابْتَغُواإلَـيْهِ الوَسِيـلَةَ: أي تقرّبوا إلـيه بطاعته والعمل بـما يرضيه.
9384ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَابْتَغُوا إلَـيْهِ الوَسِيـلَةَ: القربة إلـى الله.
9385ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن فـي قوله: وَابْتَغُوا إلَـيْهِ الوَسِيـلَةَ قال: القربة.
9386ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير, قوله: وَابْتَغُوا إلَـيْهِ الوَسِيـلَةَ قال: القربة.
9387ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَابْتَغُوا إلَـيْهِ الوَسِيـلَةَ قال: الـمـحبة, تـحببوا إلـى الله. وقرأ: أولَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلـى رَبّهِمُ الوَسِيـلَةَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَجاهِدُوا فِـي سَبِـيـلِهِ لَعَلكُمْ تُفْلِـحُونَ.
يقول جلّ ثناؤه للـمؤمنـين به وبرسوله: وجاهدوا أيها الـمؤمنون أعدائي وأعداءكم فـي سبـيـلـي, يعنـي: فـي دينه وشريعته التـي شرعها لعبـاده, وهي الإسلام, يقول: أتعبوا أنفسكم فـي قتالهم وحملهم علـى الدخول فـي الـحنـيفـية الـمسلـمة لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ يقول: كيـما تنـجحوا فتدركوا البقاء الدائم, والـخـلود فـي جناته. وقد دللنا علـى معنى الفلاح فـيـما مضى بشواهده بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنّ لَهُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }..
يقول عزّ ذكره: إن الذين جحدوا ربوبـية ربهم وعبدوا غيره من بنـي إسرائيـل الذين عبدوا العجل ومن غيرهم الذين عبدوا الأوثان والأصنام, وهلكوا علـى ذلك قبل التوبة, لو أنّ لهم ملك ما فـي الأرض كلها وضِعفه معه لـيفتدوا به من عقاب الله إياهم علـى تركهم أمره وعبـادتهم غيره يوم القـيامة, فـافتدوا بذلك كله ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضا من عذابهم وعقابهم, بل هو معذّبهم فـي حميـم يوم القـيامة عذابـا موجعا لهم. وإنـما هذا إعلام من الله جلّ ثناؤه للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانَـيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم وغيرهم من سائر الـمشركين به سواء عنده فـيـما لهم من العذاب الألـيـم والعقاب العظيـم, وذلك أنهم كانوا يقولون: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً واغترارا بـالله وكذبـا علـيه. فكذبهم تعالـى ذكره بهذه الاَية وبـالتـي بعدها, وحسم طمعهم, فقال لهم ولـجميع الكفرة به وبرسوله:إنّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أنّ لَهُمْ ما فِـي الأرْضِ جَميعا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِـيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِـيامَةِ ما تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ يُرِيدُونَ أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلهُمْ عَذَابٌ مُقِـيـمٌ يقول لهم جل ثناؤه: فلا تطمعوا أيها الكفرة فـي قبول الفدية منكم ولا فـي خروجكم من النار بوسائل آبـائكم عندي بعد دخولكموها إن أنتـم متـم علـى كفركم الذي أنتـم علـيه, ولكن توبوا إلـى الله توبة نَصُوحا