تفسير الطبري تفسير الصفحة 112 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 112
113
111
 الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ يَامُوسَىَ إِنّا لَنْ نّدْخُلَهَآ أَبَداً مّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }..
وهذا خبر من الله جلّ ذكره عن قول الـملإ من قوم موسى لـموسى, إذ رغبوا فـي جهاد عدوّهم, ووعدوا نصر الله إياهم, إن هم ناهضوهم, ودخـلوا علـيهم بـاب مدينتهم أنهم قالوا له: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها أبَدا يعنون: إنا لن ندخـل مدينتهم أبدا. والهاء والألف فـي قوله: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها من ذكر الـمدينة. ويعنون بقولهم: أبدا: أيام حياتنا ما داموا فـيها, يعنـي: ما كان الـجبـارون مقـيـمين فـي تلك الـمدينة التـي كتبها الله لهم وأُمروا بدخولها. فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ لا نـجيء معك يا موسى إن ذهبت إلـيهم لقتالهم, ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربك فتقاتلانهم.
وكان بعضهم يقول فـي ذلك: لـيس معنى الكلام: اذهب أنت ولـيذهب معك ربك فقاتلا, ولكن معناه: اذهب أنت يا موسى, ولـيُعِنْك ربك, وذلك أن الله لا يجوز علـيه الذهاب. وهذا إنـما كان يحتاج إلـى طلب الـمخرج له لو كان الـخبر عن قوم مؤمنـين, فأما قوم أهل خلاف علـى الله عزّ ذكره وسوله, فلا وجه لطلب الـمخرج لكلامهم فـيـما قالوا فـي الله عزّ وجلّ وافترَوا علـيه إلا بـما يشبه كفرهم وضلالتهم. وقد ذكر عن الـمقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قال قوم موسى لـموسى.
9202ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, وحدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن مخارق, عن طارق: أن الـمقداد بن الأسود قال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيـل: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا, إنا معكم مقاتلون.
9203ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الـحديبـية, حين صدّ الـمشركون الهدي وحيـل بـينهم وبـين مناسكهم: «إنّى ذَاهِبٌ بـالهَدْي فَناحِرُهُ عِنْدَ البَـيْتِ». فقال له الـمقداد بن الأسود: أما والله لا نكون كالـملإ من بنـي إسرائيـل, إذ قالوا لنبـيهم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون, ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون فلـما سمعها أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم تتابعوا علـى ذلك.
وكان ابن عبـاس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون: إنـما قالوا هذا القول لـموسى علـيه السلام حين تبـين لهم أمر الـجبـارين وشدة بطشهم.
9204ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: حدثنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك يقول: أمر الله جلّ وعزّ بنـي إسرائيـل أن يسيروا إلـى الأرض الـمقدسة مع نبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم, فلـما كانوا قريبـا من الـمدينة قال لهم موسى: ادخـلوها فأبوا وجبنوا, وبعثوا اثنـي عشر نقـيبـا لـينظروا إلـيهم. فـانطلقوا فنظروا, فجاءوا بحبة فـاكهة من فـاكهتهم بوقر الرجل, فقالوا: قدروا قوّة قوم وبأسهم هذه فـاكهتهم فعند ذلك قالوا لـموسى: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ.
9205ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس نـحوه.
الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّ إِنّي لآ أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }..
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن قـيـل قوم موسى حين قال له قومه ما قالوا من قولهم: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها أبَدا ما دَامُوا فِـيها فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ أنه قال عند ذلك, وغضب من قـيـلهم لهم داعيا: يا ربّ إنّى لا أمْلِكُ إلاّ نَفْسِي وأخِي يعنـي بذلك: لا أقدر علـى أحد أن أحمله علـى ما أحبّ وأريد من طاعتك واتبـاع أمرك ونهيك, إلا علـى نفسي وعلـى أخي. من قول القائل: ما أملك من الأمر شيئا إلا كذا وكذا, بـمعنى: لا أقدر علـى شيء غيره.
ويعنـي بقوله: فـافْرُقْ بَـيْنَنا وبـينَ القَوْمِ الفـاسِقِـينَ افصل بـيننا وبـينهم بقضاء منك تقضيه فـينا وفـيهم فتبعدهم منا, من قول القائل: فَرَقت بـين هذين الشيئين, بـمعنى: فصلت بـينهما من قول الراجز:
يا رَبّ فـافْرُقْ بَـيْنَهُ وَبَـيْنـيأشَدّ ما فَرَقْتَ بـينَ اثنَـيْنِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9206ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: حدثنا عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: فـافْرُقْ بَـيْنَنا وبـينَ القَوْمِ الفـاسِقِـينَ يقول: اقض بـينـي وبـينهم.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: فـافْرُقْ بَـيْنَنا وبـينَ القَوْمِ الفـاسِقِـينَ يقول: اقض بـيننا وبـينهم.
9207ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ, فدعا علـيهم فقال: رَبّ إنّى لا أمْلِكُ إلاّ نَفْسِي وأخِي فـافْرُقْ بَـيْنَنا وبـينَ القَوْمِ الفـاسِقِـينَ وكانت عجْلة من موسى عجلها.
9208ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فـافْرُقْ بَـيْنَنا وبـينَ القَوْمِ الفـاسِقِـينَ يقول: اقض بـيننا وبـينهم, وافتـح بـيننا وبـينهم, كل هذا من قول الرجل: اقض بـيننا, فقضى الله جلّ ثناؤه بـينه وبـينهم أن سماهم فـاسقـين.
وعنى بقوله: الفـاسِقِـينَ: الـخارجين عن الإيـمان بـالله وبه, إلـى الكفر بـالله وبه. وقد دللنا علـى أن معنى الفسق: الـخروج من شيء إلـى شيء, فـيـما مضى, بـما أغنى عن إعادته.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ فَإِنّهَا مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }..
اختلف أهل التأويـل فـي الناصب للأربعين, فقال بعضهم: الناصب له قوله: مُـحَرّمَةٌ وإنـما حرّم الله جلّ وعزّ علـى القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حرب الـجبـارين, دخولَ مدينتهم أربعين سنة, ثم فتـحها علـيهم, وأسكنوها, وأهلك الـجبـارين بعد حرب منهم لهم, بعد أن قضيت الأربعون سنة, وخرجوا من التـيه.
9209ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: لـما قال لهم القوم ما قالوا ودعا موسى علـيهم, أوحى الله إلـى موسى: إنّها مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ علـى القَوْمِ الفـاسِقِـينَ وهو يومئذ فـيـما ذكر ستـمائة ألف مقاتل فجعلهم فـاسقـين بـما عصوا, فلبثوا أربعين سنة فـي فراسخ ستة, أو دون ذلك, يسيرون كلّ يوم جادّين لكي يخرجوا منها, حتـى يـمسوا وينزلوا, فإذا هم فـي الدار التـي منها ارتـحلوا. وإنهم اشتكوا إلـى موسى ما فعل بهم, فأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى, وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم, ينشأ الناشيء فتكون معه علـى هيئته. وسأل موسى ربه أن يسقـيهم, فأتـى بحجر الطور, وهو حجر أبـيض, إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه فـيخرج منه اثنتا عشرة عينا لكلّ سبط منهم عين, قد علـم كلّ أناس مَشْربهم. حتـى إذا خـلت أربعون سنة, وكانت عذابـا بـما اعتدوا وعصوا, أوحى إلـى موسى أن مرهم أن يسيروا إلـى الأرض الـمقدسة, فإن الله قد كفـاهم عدوّهم, وقل لهم إذا أتوا الـمسجد أن يأتوا البـاب ويسجدوا إذا دخـلوا, ويقولوا حطة. وإنـما قولهم حطة, أن يَحُطّ عنهم خطاياهم. فأبى عامة القوم, وعصوا, وسجدوا علـى خدّهم, وقاوا حنطة, فقال الله جلّ ثناؤه: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ... إلـى: بِـمَا كانُوا يَفْسُقُونَ.
وقال آخرون: بل الناصب للأربعين: يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ. قالوا: ومعنى الكلام: قال: فإنها مـحرّمة علـيهم أبدا يتـيهون فـي الأرض أربعين سنة. قالوا: ولـم يدخـل مدينة الـجبـارين أحد مـمن قال: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها أبَدا ما دَامُوا فِـيها فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ, وذلك أن الله عزّ ذكره حرّمها علـيهم. قالوا: وإنـما دخـلها من أولئك القوم: يوشع وكلاب اللذان قالا لهم: ادْخُـلُوا عَلَـيْهِمُ البـابَ فإذَا دَخَـلْتُـمُوهُ فإنّكُمْ غالِبُونَ وأولاد الذين حرّم الله علـيهم دخولها, فتـيّهم الله فلـم يدخـلها منهم أحد. ذكر من قال ذلك:
9210ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا سلـيـمان بن حرب, قال: حدثنا أبو هلال, عن قتادة فـي قول الله: إنهَها مُـحَرّمَةٌ عَلـيهِمْ قال: أبدا.
9211ـ حدثنا ابن بشار قال: سلـيـمان بن حرب قال: حدثنا أبو هلال, عن قتادة فـي قول الله: يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ قال: أربعين سنة.
9212ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم, قال: حدثنا هارون النـحوي, قال: ثنـي الزبـير بن الـخرّيت, عن عكرمة فـي قوله: فإنّها مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ قال: التـحريـم لا منتهى له.
9213ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: غضب موسى علـى قومه, فدعا علـيهم, فقال: ربّ إنّى لا أمْلِكُ إلاّ نَفْسِي وأخِي... الاَية, فقال الله جلّ وعزّ: فإنّها مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ فلـما ضرب علـيهم التـيه, ندم موسى, وأتاه قومه الذين كانوا يطيعونه, فقال له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فمكثوا فـي التـيه فلـما خرجوا من التـيه, رفع الـمنّ والسلوى, وأكلوا من البقول. والتقـى موسى وعوج, فوثب موسى فـي السماء عشرة أذرع, وكانت عصاه عشرة أذرع, وكان طوله عشرة أذرع, فأصاب كعب عوج فقتله. ولـم يبق (أحد) مـمن أبى أن يدخـل قرية الـجبـارين مع موسى إلا مات, ولـم يشهد الفتـح. ثم إن الله لـما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبـيا, فأخبرهم أنه نبـيّ, وأن الله قد أمره أن يقاتل الـجبـارين, فبـايعوه وصدّقوه, فهزم الـجبـارين, واقتـحموا علـيهم يقاتلونهم, فكانت العصابة من بنـي إسرائيـل يجتـمعون علـى عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها.
9214ـ حدثنـي عبد الكريـم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا سفـيان, قال: قال أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما دعا موسى, قال الله: فإنّها مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ قال: فدخـلوا التـيه, فكلّ من دخـل التـيه مـمن جاوز العشرين سنة مات فـي التـيه. قال: فمات موسى فـي التـيه, ومات هارون قبله. قال: فلبثوا فـي تـيههم أربعين سنة, فناهض يوشع بـمن بقـي معه مدينة الـجبـارين, فـافتتـح يوشع الـمدينة.
9215ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال الله: فإنّها مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً حرمت علـيهم (القرى), وكانوا لا يهبطون قرية, ولا يقدرون علـى ذلك, إنـما يتبعون الأطواء أربعين سنة. وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات فـي الأربعين سنة, وأنه لـم يدخـل بـيت الـمقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا.
9216ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي بعض أهل العلـم بـالكتاب الأوّل, قال: لـما فعلت بنو إسرائيـل ما فعلت, من معصيتهم نبـيهم, وهمّهم بكالب ويوشع, إذ أمراهم بدخول مدينة الـجبـارين, وقالا لهم ما قالا, ظهرت عظمة الله بـالغمام علـى نار فـيه الرمز علـى كلّ بنـي إسرائيـل, فقال جلّ ثناؤه لـموسى: إلـى متـى يعصينـي هذا الشعب وإلـى متـى لا يصدّقون بـالاَيات كلها التـي وضعت بـينهم؟ أضربهم بـالـموت فأهلكهم, وأجعل لك شعبـا أشدّ منهم. فقال موسى يسمع أهل الـمِصر الذين أخرجت هذا الشعب بقوّتك من بـينهم, ويقول ساكنو هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله فـي هذا الشعب, فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد, لقالت الأمـم الذين سمعوا بـاسمك: إنـما قتل هذا الشعب من أجل لا يستطيع أن يدخـلهم الأرض التـي خـلق لهم, فقتلهم فـي البرية, ولكن لترتفع أياديك, ويعظم جزاؤك يا ربّ كما كنت تكلـمت وقلت لهم, فإنه طويـل صبرك, كثـيرة نعمك, وأنت تغفر الذنوب فلا توبق, وإنك تـحفظ الاَبـاء علـى الأبناء وأبناء الأبناء إلـى ثلاثة أجيال وأربعة, فـاغفر أي ربّ آثام هذا الشعب, بكثرة نعمك, وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلـى الاَن فقال الله جلّ ثناؤه لـموسى صلى الله عليه وسلم: قد غفرت لهم بكلـمتك, ولكن قد أنى لـي أنا الله, وقد ملأَتِ الأرضَ مـحمدتـي كلّها, ألاّ يرى القوم الذين قد رأوا مـحمدتـي وآياتـي التـي فعلت فـي أرض مصر وفـي القـفـاز, سَأَلونـي عشر مرات ولـم يطيعونـي, لا يرون الأرض التـي خَـلَقْتُ لاَبـائهم, ولا يراها من أغضبنـي فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي, فإنـي مدخـله الأرض التـي دخـلها, ويراها خَـلَفُه. وكان العمالـيق والكنعانـيون جلوسا فـي الـجبـال, ثم غدوا فـارتـحلوا فـي القـفـاز فـي طريق يحرسون, وكلـم الله عزّ وجلّ موسى وهارون, وقال لهما: إلـى متـى توسوس علـيّ هذه الـجماعة جماعة السوء؟ قد سمعت وسوسة بنـي إسرائيـل. وقال: لأفعلنّ بكم كما قلت لكم, ولَتُلْقَـيَنّ جيفكم فـي هذه القـفـار, وحسابكم من بنـي عشرين سنة فما فوق ذلك من أجل أنكم وسوستـم علـيّ, فلا تدخـلوا الأرض التـي دفعت إلـيها, ولا ينزل فـيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون, وتكون أثقالكم كما كنتـم الغنـيـمة. وأما بنوكم الـيوم الذين لـم يعلـموا ما بـين الـخير والشرّ, فإنهم يدخـلون الأرض, وإنـي بهم عارف لهم الأرض التـي أردت لهم وتسقط جيفكم فـي هذه القـفـار, وتتـيهون فـي هذه القـفـار علـى حساب الأيام التـي جسستـم الأرض أربعين يوما مكان كلّ يوم سنة وتُقتلون بخطاياكم أربعين سنة, وتعلـمون أنكم وسوستـم: قد أنى لـي أنا الله فـاعل بهذه الـجماعة, جماعة بنـي إسرائيـل, الذين وُعِدوا بأن يُتـيّهوا فـي القـفـار, فـيها يـموتون فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم يتـجسسون الأرض, ثم حرّشوا الـجماعة, فأفشوا فـيهم خبر الشرّ, فماتوا كلهم بغتة, وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتـحسسون الأرض. فلـما قال موسى علـيه السلام هذا الكلام كله لبنـي إسرائيـل, حزن الشعب حزنا شديدا, وغدوا فـارتفعوا علـى رأس الـجبل, وقالوا: نرتقـي الأرض التـي قال جل ثناؤه من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى: لـم تَعْتَدُون فـي كلام الله من أجل ذلك, لا يصلـح لكم عمل, ولا تصعدوا من أجل أن الله لـيس معكم, فـالاَن تنكسرون من قدام أعدائكم من أجل العمالقة والكنعانـيـين أمامكم, فلا تقعوا فـي الـحرب من أجل أنكم انقلبتـم علـى الله فلـم يكن الله معكم فأخذوا يرقون فـي الـجبل, ولـم يبرح التابوت الذي فـيه مواثـيق الله جلّ ذكره وموسى من الـمـحلة يعنـي من الـحكمة, حتـى هبط العمالـيق والكنعانـيون فـي ذلك الـحائط, فحرّقوهم وطردوهم وقتلوهم. فتـيّهم الله عزّ ذكره فـي التـيه أربعين سنة بـالـمعصية, حتـى هلك من كان استوجب الـمعصية من الله فـي ذلك. قال: فلـما شبّ النواشيء من ذراريهم, وهلك آبـاؤهم, وانقضت الأربعون سنة التـي تتـيهوا فـيها وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا, وكان فـيـما يزعمون علـى مريـم ابنة عمران أخت موسى وهارون, وكان لهما صهرا قدم يوشع بن نون إلـى أريحاء فـي بنـي إسرائيـل, فدخـلها بهم, وقتل الـجبـابرة الذين كانوا فـيها, ثم دخـلها موسى ببنـي إسرائيـل, فأقام فـيها ما شاء الله أن يقـيـم, ثم قبضه الله إلـيه لا يعلـم قبره أحد من الـخلائق.
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب, قول من قال: إن الأربعين منصوبة بـالتـحريـم, وإن قوله: مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً معنـيّ به جميع قوم موسى لا بعض دون بعض منهم لأن الله عزّ ذكره عمّ بذلك القوم, ولـم يخصصص منهم بعضا دون بعض. وقد وفـى الله بـما وعدهم به من العقوبة, فتـيههم أربعين سنة, وحرّم علـى جميعهم فـي الأربعين سنة التـي مكثوا فـيها تائهين دخول الأرض الـمقدسة, فلـم يدخـلها منهم أحد, لا صغير ولا كبـير ولا صالـح ولا طالـح, حتـى انقضت السنون التـي حرّم الله عزّ وجلّ علـيهم فـيها دخولها. ثم أذن لـمن بقـي منهم وذراريهم بدخولها مع نبـيّ الله موسى, والرجلـين اللذين أنعم الله علـيهما. وافتتـح قرية الـجبـارين إن شاء الله نبـيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم وعلـى مقدمته يوشع, وذلك لإجماع أهل العلـم بأخبـار الأوّلـين أن عوج بن عنق قتله موسى صلى الله عليه وسلم, فلو كان قتله إياه قبل مصيره فـي التـيه وهو من أعظم الـجبـارين خـلقا لـم تكن بنو إسرائيـل تـجزع من الـجبـارين الـجزع الذي ظهر منها, ولكن ذلك كان إن شاء الله بعد فناء الأمة التـي جزعت وعصت ربها وأبت الدخول علـى الـجبـارين مدينتهم. وبعد: فإن أهل العلـم بأخبـار الأوّلـين مـجمعون علـى أن بعلـم بن بـاعوراء كان مـمن أعان الـجبـارين بـالدعاء علـى موسى ومـحال أن يكون ذلك كان وقوم موسى مـمتنعون من حربهم وجهادهم, لأن الـمعونة إنـما يحتاج إلـيها من كان مطلوبـا, فأما ولا طالب فلا وجه للـحاجة إلـيها.
9217ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن نوف, قال: كان سرير عوج ثمانـمائة ذراع, وكان طول موسى عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع ووثب فـي السماء عشرة أذرع, فضرب عوجا فأصاب كعبه, فسقط ميتا, فكان جسرا للناس يـمرّون علـيه.
9218ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا قـيس, عن أبـي إسحاق, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع ووثبته عشرة أذرع وطوله عشرة أذرع, فوثب فأصاب كعب عوج فقتله, فكان جسرا لأهل النـيـل سنة.
ومعنى: يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ: يحارون فـيها ويضلون, ومن ذلك قـيـل للرجل الضالّ عن سبـيـل الـحقّ تائه. وكان تـيههم ذلك أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كلّ سنة يوم جادّين فـي قدر سته فراسخ للـخروج منه, فـيـمسون فـي الـموضع الذي ابتدءوا السير منه.
9219ـ حدثنـي بذلك الـمثنى, قال: ثنا, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع.
9220ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: تاهت بنو إسرائيـل أربعين سنة, يُصْبحون حيث أمسوا, ويـمسون حيث أصبحوا فـي تـيههم.
القول فـي تأويـل قوله: فَلا تَأْسَ علـى القَوْمِ الفـاسِقِـينَ.
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: فَلاَ تَأْسَ: فلا تـحزن, يقال منه: أَسِيَ فلان علـى كذا يَأْسَى أَسًى, وقد أسيت من كذا: أي حزنت, ومنه قول امرىء القـيس:
وُقُوفـا بِها صَحْبِـي علـيّ مَطِيّهُمْيقُولُونَ لا تَهْلِكْ أسًى وتَـجَمّلِ
يعنـي: لا تهلك حزنا.
وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9221ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: فَلا تَأْسَ يقول: فلا تـحزن.
9222ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: فَلا تَأْسَ علـى القَوْمِ الفـاسِقـينَ قال: لـما ضرب علـيهم التـيه, ندم موسى صلى الله عليه وسلم. فلـما ندم أوحى الله إلـيه: فَلا تَأْسَ عَلَـى القَوْمِ الفـاسِقِـينَ: لا تـحزن علـى القوم الذين سميتهُم فـاسقـين.
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ }..
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: واتل علـى هؤلاء الـيهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إلـيكم, علـيك وعلـى أصحابك معك, وعرّفهم مكروه عاقبة الظلـم والـمكر, وسوء مغبة الـجور ونقض العهد, وما جزاء الناكث وثواب الوافـي, خَبَرَ ابنـي آدم هابـيـل وقابـيـل, وما آل إلـيه أمر الـمطيع منهما ربه الوافـي بعهده, وما إلـيه صار أمر العاصي منهما ربه الـجائر الناقض عهده فلتعرف بذلك الـيهود وخامة غبّ غدرهم, ونقضهم ميثاقهم بـينك وبـينهم, وهمهم بـما هموا به من بسط أيديهم إلـيك وإلـى أصحابك. فإن لك ولهم فـي حسن ثوابـي وعظم جزائي علـى الوفـاء بـالعهد الذي جازيت الـمقتول الوافـيَ بعهده من ابنـي آدم, وعاقبت به القاتل الناكث عهده عزاء جميلاً.
واختلف أهل العلـم فـي سبب تقريب ابنـي آدم القربـان, وسبب قبول الله عزّ وجلّ ما تقبل منه, ومن اللذان قرّبـا؟ فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جلّ وعزّ إياهما بتقريبه. وكان سبب القبول أن الـمتقبل منه قرب خير ماله وقرّب الاَخر شرّ ماله, وكان الـمقرّبـان ابنـي آدم لصلبه أحدهما: هابـيـل, والاَخر قابـيـل. ذكر من قال ذلك:
9223ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن هشام بن سعيد, عن إسماعيـل بن رافع, قال: بلغنـي أن ابنـي آدم لـما أمرا بـالقربـان, كان أحدهما صاحب غنـم, وكان أُنِتـج له حَمَل فـي غنـمه, فأحبه حتـى كان يؤثره بـاللـيـل, وكان يحمله علـى ظهره من حبه, حتـى لـم يكن له مال أحبّ إلـيه منه فلـما أمر بـالقربـان, قرّبه لله فقبله الله منه, فما زال يرتع فـي الـجنة حتـى فدَى به ابن إبراهيـم صلى الله عليه وسلم.
9224ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا عوف, عن أبـي الـمغيرة, عن عبد الله بن عمرو, قال: إن ابنـي آدم اللذين قرّبـا قربـانا فتقبل من أحدهما ولـم يتقبل من الاَخر, كان أحدهما صاحب حرث, والاَخر صاحب غنـم, وأنهما أمرا أن يقرّبـا قربـانا وإن صاحب الغنـم قرّب أكرم غنـمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه, وإن صاحب الـحرث قرّب شرّ حرثه الكَوْزَن والزّوَان غير طيبة بها نفسه وإن الله تقبل قربـان صاحب الغنـم ولـم يتقبل قربـان صاحب الـحرث. وكان من قصتهما ما قصّ الله فـي كتابه, وقال: ايْـمُ الله إن كان الـمقتول لأشدّ الرجلـين, ولكن منعه التـحرّج أن يبسط يده إلـى أخيه
وقال آخرون: لـم يكن ذلك من أمرهما عن أمر الله إياهما به. ذكر من قال ذلك:
9225ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: كان من شأنهما أنه لـم يكن مسكين فـيتصدّق علـيه, وإنـما كان القربـان يقربه الرجل. فبَـيْنا ابنا آدم قاعدان, إذ قالا: لو قربنا قربـانا وكان الرجل إذا قرّب قربـانا فرضيه الله أرسل إلـيه نارا فأكلته, وإن لـم يكن رضيه الله خبت النار. فقرّبـا قربـانا, وكان أحدهما راعيا, وكان الاَخر حراثا, وإن صاحب الغنـم قرّب خير غنـمه وأسمنها وقرّب الاَخر أبغض زرعه, فجاءت النار, فنزلت بـينهما, فأكلت الشاة وتركت الزرع. وإن ابن آدم قال لأخيه: أتـمشي فـي الناس وقد علـموا أنك قرّبت قربـانا فتقبل منك وردّ علـيّ؟ فلا والله, لا تنظر الناس إلـيّ وإلـيك وأنت خير منـي فقال: لأقتلنك فقال له أخوه: ما ذنبـي, إنـما يتقبل الله من الـمتقـين.
9226ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: إذْ قَرَبـا قُرْبـانا قال: ابنا آدم هابـيـل وقابـيـل لصلب آدم, فقرّب أحدهما شاة وقرّب الاَخر بقلاً, فقبل من صاحب الشاة, فقتله صاحبه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
9227ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد فـي قوله: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأ ابْنَـيْ آدَم بِـالَـحّق إذْ قَرّبـا قُرْبـانا قال: هابـيـل وقابـيـل, فقرب هابـيـل عَنَاقا من أحسن غنـمه, وقرّب قابـيـل زرعا من زرعه. قال: فأكلت النار العناق, ولـم تأكل الزرع, ف قال لأَقْتُلَنّكَ قَالَ إنّـما يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ.
9228ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا رجل سمع مـجاهدا فـي قوله: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأ ابْنَـيْ آدَم بِـالَـحّق إذْ قَرّبـا قُرْبـانا قال: هو هابـيـل وقابـيـل لصلب آدم, قرّبـا قربـانا, قرب أحدهما شاة من غنـمه وقرّب الاَخر بقلاً, فتقبل من صاحب الشاة, فقال لصاحبه: لأقتلنك فقتله, فعقل الله إحدى رجلـيه بساقها إلـى فخذها إلـى يوم القـيامة, وجعل وجهه إلـى الشمس حيثما دارت علـيه حظيرة من ثلـج فـي الشتاء وعلـيه فـي الصيف حظيرة من نار, ومعه سبعة أملاك كلـما ذهب ملك جاء الاَخر.
9229ـ حدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان (ح). وحدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن عبد الله بن عثمان بن خثـيـم, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأ ابْنَـيْ آدَم بِـالَـحّق إذْ قَرّبـا قُرْبـانا فَتُقُبّلَ مِنْ أحَدِهِما ولَـمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قال: قرّب هذا كبشا وقرّب هذا صُبْرة من طعام فتقبل من أحدهما. قال: تقبّل من صاحب الشاة ولـم يتقبل من الاَخر.
9230ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأ ابْنَـيْ آدَم بِـالَـحّق إذْ قَرّبـا قُرْبـانا فَتُقُبّلَ مِنْ أحَدهِما وَلـمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ كان رجلان من بنـي آدم, فتقبل من أحدهما ولـم يتقبل من الاَخر.
9231ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله, عن فضيـل بن مرزوق, عن عطية: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأ ابْنَـيْ آدَم بِـالَـحّققال: كان أحدهما اسمه قابـيـل والاَخر هابـيـل أحدهما صاحب غنـم, والاَخر صاحب زرع, فقرّب هذا من أمثل غنـمه حَمَلاً, وقرّب هذا من أردإ زرعه. قال: فنزلت النار, فأكلت الـحَمَل, فقال لأخيه: لأقتلنك
9232ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم بـالكتاب الأوّل: أن آدم أمر ابنه قابـيـل أن ينكح أخته توأمة هابـيـل, وأمر هابـيـل أن ينكح أخته توأمة قابـيـل. فسلـم لذلك هابـيـل ورضى, وأبـي قابـيـل ذلك وكرهه, تكرما عن أخت هابـيـل, ورغب بأخته عن هابـيـل, وقال: نـحن ولادة الـجنة وهما من ولادة الأرض, وأنا أحقّ بأختـي ويقول بعض أهل العلـم بـالكتاب الأوّل: كانت أخت قابـيـل من أحسن الناس, فضنّ بها علـى أخيه وأرادها لنفسه, فـالله أعلـم أيّ ذلك كان. فقال له أبوه: يا بنـيّ إنها لا تـحلّ لك فأبى قابـيـل أن يقبل ذلك من قول أبـيه, فقال له أبوه: يا بنـيّ فقرّب قربـانا, ويقرّب أخوك هابـيـل قربـانا, فأيكما قبل الله قربـانه فهو أحقّ بها. وكان قابـيـل علـى بَذْر الأرض, وكان هابـيـل علـى رعاية الـماشية, فقرّب قابـيـل قمـحا وقرّب هابـيـل أبكارا من أبكار غنـمه وبعضهم يقول: قرّب بقرة فأرسل الله نارا بـيضاء, فأكلت قربـان هابـيـل وتركت قربـان قابـيـل, وبذلك كان يقبل القربـان إذا قبله.
9233ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـيـما ذكر عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس. وعن مرّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: كان لا يولد لاَدم مولود إلا ولد معه جارية, فكان يزوّج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الاَخر, ويزوّج جارية هذا البطن غلام البطن هذا الاَخر. حتـى ولد له ابنان يقال لهما: قابـيـل, وهابـيـل, وكان قابـيـل صاحب زرع, وكان هابـيـل صاحب ضرع. وكان قابـيـل أكبرهما, وكان له أخت أحسن من أخت هابـيـل. وإن هابـيـل طلب أن ينكح أخت قابـيـل, فأبى علـيه وقال: هي أخت ولدت معي, وهي أحسن من أختك, وأنا أحقّ أن أتزوّجها. فأمره أبوه أن يزوّجها هابـيـل فأبى. وإنهما قرّبـا قربـانا إلـى الله أيهما أحقّ بـالـجارية, وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلـى مكة ينظر إلـيها, قال الله لاَدم: يا آدم, هل تعلـم أن لـي بـيتا فـي الأرض؟ قال: اللهمّ لا قال: فإن لـي بـيتا بـمكة فأته فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بـالأمانة, فأبت. وقال للأرض فأبت, وقال للـجبـال فأبت, وقال لقابـيـل, فقال: نعم تذهب وترجع وتـجد أهلك كما يسرّك. فلـما انطلق آدم قرّبـا قربـانا, وكان قابـيـل يفخر علـيه, فقال: أنا أحقّ بها منك, هي أختـي, وأنا أكبر منك, وأنا وصيّ والديّ. فلـما قرّبـا, قرّب هابـيـل جذعة سمينة, وقرّب قابـيـل حُزمة سنبل, فوجد فـيها سنبلة عظيـمة ففركها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربـان هابـيـل, وتركت قربـان قابـيـل, فغضب وقال: لأقتلنك حتـى لا تنكح أختـي فقال هابـيـل إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ.
9234ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأ ابْنَـيْ آدَم بِـالَـحّق ذكر لنا أنهما هابـيـل وقابـيـل. فأما هابـيـل فكان صاحب ماشية, فعمد إلـى خير ماشيته, فتقرّب بها, فنزلت علـيه نار فأكلته. وكان القربـان إذا تقبل منهم نزلت علـيه نار فأكلته, وإذا ردّ علـيهم أكلته الطير والسبـاع. وأما قابـيـل فكان صاحب زرع, فعمد إلـى أردإ زرعه, فتقرّب به, فلـم تنزل علـيه النار, فحسد أخاه عند ذلك فقال: لاَءَقْتُلَنّكَ قالَ إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأ ابْنَـيْ آدَم بِـالَـحّقّ قال: هما قابـيـل وهابـيـل. قال: كان أحدهما صاحب زرع والاَخر صاحب ماشية, فجاء أحدهما بخير ماله وجاء الاَخر بشرّ ماله, فجاءت النار, فأكلت قربـان أحدهما وهو هابـيـل, وتركت قربـان الاَخر, فحسده فقال: لأقتلنك
حدثنا سفـيان, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد: إذْ قَرّبـا قُرْبـانا قال: قرّب هذا زرعا وذا عناقا, فتركت النار الزرع وأكلت العناق.
وقال آخرون: اللذان قرّبـا قربـانا وقصّ الله عزّ ذكره قصصهما فـي هذه الاَية, رجلان من بنـي إسرائيـل لا من ولد آدم لصلبه. ذكر من قال ذلك:
9235ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا سهل بن يوسف, عن عمرو, عن الـحسن, قال: كان الرجلان اللذان فـي القرآن, اللذان قال الله: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبَأ ابْنَـيْ آدَم بِـالَـحّق من بـين إسرائيـل, ولـم يكونا ابنـي آدم لصلبه, وإنـما كان القربـان فـي بنـي إسرائيـل, وكان آدم أوّل من مات.
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب, أن اللذين قرّبـا القربـان كان ابنـي آدم لصلبه, لا من ذريته من بنـي إسرائيـل. وذلك أن الله عزّ وجلّ يتعالـى عن أن يخاطب عبـاده بـما لا يفـيدهم به فـائدة, والـمخاطبون بهذه الاَية كانوا عالـمين أن تقريب القربـان لله لـم يكن إلا فـي ولد آدم دون الـملائكة والشياطين وسائر الـخـلق غيرهم. فإذا كان معلوما ذلك عندهم, فمعقول أنه لو لـم يكن معنـيا بـابنـي آدم اللذين ذكرهما الله فـي كتابه ابناه لصلبه, لـم يفدْهم بذكره جلّ جلاله إياهما فـائدة لـم تكن عندهم. وإذا كان غير جائز أن يخاطبهم خطابـا لا يفـيدهم به معنى, فمعلوم أنه عنى ابنـي آدم لصلبه, لا ابنـي بنـيه الذين بَعُد منه نسبهم مع إجماع أهل الأخبـار والسير والعلـم بـالتأويـل علـى أنهما كانا ابنـي آدم لصلبه وفـي عهد آدم وزمانه, وكفـى بذلك شاهدا. وقد ذكرنا كثـيرا مـمن نصّ عنه القول بذلك, وسنذكر كثـيرا مـمن لـم يذكر إن شاء الله.
9236ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: حدثنا حسام بن مصكّ, عن عمار الدهنـيّ, عن سالـم بن أبـي الـجعف, قال: لـما قتل ابن آدم أخاه, مكث آدم مائة سنة حزينا لا يضحك, ثم أتـى فقـيـل له: حيّاك الله وبـيّاك فقال: بـيّاك: أضحكك.
9237ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن غياث بن إبراهيـم, عن أبـي إسحاق الهمدانـي, قال: قال علـيّ بن أبـي طالب رضوان الله علـيه: لـما قتل ابن آدم أخاه, بكى آدم فقال:
تَغَيّرَتِ البلادُ وَمَنْ عَلَـيْهافَلَوْنُ الأرْضِ مُغْبَرّ قَبـيحُ
تَغَيّرَ كلّ ذي لوْنٍ وطَعْمٍوَقَلّ بَشاشَةُ الوَجْهِ الـمَلِـيحَ
فأجيب آدم علـيه السلام:
أبـا هابِـيـلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعاوصَارَ الـحَيّ كالـمَيْتِ الذّبِـيحِ
وجاءَ بِشَرّةٍ قدْ كانَ مِنْهاعلـى خَوْفٍ فجاءَ بها يصيحُ
وأما القول فـي تقريبهما ما قرّبـا, فإن الصواب فـيه من القول أن يقال: إن الله عزّ ذكره أخبر عبـاده عنهما أنهما قد قرّبـا, ولـم يخبر أن تقريبهما ما قرّبـا كان عن أمر الله إياهما به ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك, وجائز أن يكون عن غير أمره. غير أنه أيّ ذلك كان فلـم يقرّبـا ذلك إلا طلب قربة إلـى الله إن شاء الله.
وأما تأويـل قوله: قالَ لاَءَقْتُلَنّكَ فإن معناه: قال الذي لـم يتقبل منه قربـانه للذي تقبل منه قربـانه: لأقتلنك فترك ذكر الـمتقبل قربـانه والـمردود علـيه قربـانه, استغناء بـما قد جرى من ذكرهما عن إعادته, وكذلك ترك ذكر الـمقبل قربـانه مع قوله: قالَ إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك رُوِى الـخبر عن ابن عبـاس:
9238ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: قالَ لاَءَقْتُلَنّكَ فقال له أخوه: ما ذنبـي إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ.
9239ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ قال: يقول: إنك لو اتقـيت الله فـي قربـانك تقبل منك, جئت بقربـان مغشوش بأشرّ ما عندك, وجئت أنا بقربـان طيب بخير ما عندي قال: وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل منـي.
ويعنـي بقوله: مِنَ الـمُتّقِـينَ: من الذين اتقوا الله وخافوه بأداء ما كلفهم من فرائضه واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته.
وقد قال جماعة من أهل التأويـل: الـمتقون فـي هذا الـموضع الذين اتقوا الشرك. ذكر من قال ذلك:
9240ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, عن الضحاك, قوله: إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ الذين يتقون الشرك.
وقد بـينا معنى القربـان فـيـما مضى, وأنه الفعلان من قول القائل: قرّب, كما الفرقان: الفعلان من فرّق, والعدوان من عدا. وكانت قرابـين الأمـم الـماضية قبل أمتنا كالصدقات والزكوات فـينا, غير أن قرابـينهم كان يعلـم الـمتقبّل منها وغير الـمتقبل فـيـما ذكر بأكل النار ما تقبل منها وترك النار ما لـم يتقبل منها. والقربـان فـي أمّتنا: الأعمال الصالـحة: من الصلاة, والصيام, والصدقة علـى أهل الـمسكنة, وأداء الزكاة الـمفروضة, ولا سبـيـل لها إلـى العلـم فـي عاجل بـالـمتقبل منها والـمردود.
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري, أنه حين حضرته الوفـاة بكى, فقـيـل له: ما يبكيك, فقد كنت وكنت؟ فقال: يبكينـي أنـي أسمع الله يقول: إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ.
9241ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن عمر الـمقدمي, قال: ثنـي سعيد بن عامر, عن همام, عمن ذكره, عن عامر.
وقد قال بعضهم: قربـان الـمتقـين: الصلاة.
9242ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حفص بن غياث, عن عمران بن سلـيـم, عن عديّ بن ثابت, قال: كان قربـان الـمتقـين: الصلاة.
الآية : 28
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ }..
وهذا خبر من الله تعالـى ذكره عن الـمقتول من ابنـي آدم أنه قال لأخيه لـما قال له أخوه القاتل لأقتلنك: والله لَئِنْ بَسَطْتَ إلـيّ يَدَكَ يقول: مددت إلـيّ يدك لِتَقْتُلَنِـي ما أنا بِبـاسِطٍ يَديَ إلَـيك. يقول: ما أنا بـمادّ يدي إلـيك لاِءَقْتُلَكَ.
وقد اختلف فـي السبب الذي من أجله قال الـمقتول ذلك لأخيه ولـم يـمانعه ما فعل به, فقال بعضهم: قال ذلك إعلاما منه لأخيه القاتل أنه لا يستـحلّ قتله ولا بسط يده إلـيه بـما لـم يأذن الله به. ذكر من قال ذلك:
9243ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا عوف عن أبـي الـمغيرة, عن عبد الله بن عمرو, أنه قال: وايـم الله إن كان الـمقتول لأشدّ الرجلـين, ولكن منعه التـحرّج أن يبسط إلـى أخيه.
9244ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: لَئِنْ بَسَطْتَ إلـيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِـي ما أنا بِبـاسِطٍ يَدِيَ إلَـيْكَ لا أنا بـمنتصر, ولأمسكنّ يدي عنك.
وقال آخرون: لـم يـمنعه مـما أراد من قتله, وقال ما قال له مـما قصّ الله فـي كتابه. إلاّ أن الله عزّ ذكره فرض علـيهم أن لا يـمتنع من أريد قتله مـمن أراد ذلك منه. ذكر من قال ذلك:
9245ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا رجل, سمع مـجاهدا يقول فـي قوله: لَئِنْ بَسَطْتَ إلـيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِـي ما أنا بِبـاسِطٍ يَدِيَ إلَـيْكَ لاِءَقُتُلَكَ قال مـجاهد: كان كتب الله علـيهم: إذا أراد الرجل أن يقتل رجلاً تركه ولا يـمتنع منه.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله عزّ ذكره قد كان حرّم علـيهم قتل نفس بغير نفس ظلـما, وأن الـمقتول قال لأخيه: ما أنا ببـاسط يدي إلـيك إن بسطت إلـيّ يدك لأنه كان حراما علـيه من قتل أخيه مثل الذي كان حراما علـى أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله, فلا دلالة علـى أن القاتل حين أراد قتله وعزم علـيه كان الـمقتول عالـما بـما هو علـيه عازم منه ومـحاولٌ من قتله, فتَرَك دَفْعَه عن نفسه بل قد ذكر جماعة من أهل العلـم أنه قتله غيـلة, اغتاله وهو نائم, فشدخ رأسه بصخرة. فإذا كان ذلك مـمكنا, ولـم يكن فـي الاَية دلالة علـى أنه كان مأمورا بترك منع أخيه من قتله, لـم يكن جائزا ادّعاء ما لـيس فـي الاَية إلا ببرهان يجب تسلـيـمه.
وأما تأويـل قوله: إنّى أخافُ اللّهَ رَبّ العالَـمِينَ: فإنى أخاف الله فـي بسط يدي إلـيك إن بسطتها لقتلك. رَبّ العَالَـمِينَ يعنـي: مالك الـخلائق كلها أن يعاقبنـي علـى بسط يدي إلـيك.
الآية : 29
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّيَ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ }..
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: إنـي أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي وإثمك فـي معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك. ذكر من قال ذلك:
9246ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـي حديثه عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس. وعن مرّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول: إثم قتلـي إلـى إثمك الذي فـي عنقك فَتَكُونَ مِنْ أصَحابِ النّارِ.
9247ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول بقتلك إياي, وإثمك قبل ذلك.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ قال: بإثم قتلـي وإثمك.
9248ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: إنّى أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول: إنـي أريد أن يكون علـيك خطيئتك ودمي, تبوء بهما جميعا.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد: إنّـي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول: إنـي أريد أن تبوء بقتلك إياي. وإثْمِكَ قال: بـما كان منك قبل ذلك.
9249ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد, قال: ثنـي عبـيد بن سلـيـم, عن الضحاك, قوله: إنّـي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ قال: أما إثمك, فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس, يعنـي أخاه. وأما إثمه: فقتله أخاه.
وكأن قائلـي هذه الـمقالة وجهوا تأويـل قوله: إنّـي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ: أي إنـي أريد أن تبوء بإثم قتلـي, فحذف القتل واكتفـى بذكر الإثم, إذ كان مفهوما معناه عند الـمخاطبـين به.
وقال آخرون: معنى ذلك: إنـي أريد أن تبوء بخطيئتـي فتتـحمل وزرها وإثمك فـي قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مـجاهد, وأخشى أن يكون غلطا, لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل. ذكر من قال ذلك:
9250ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إنّـي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يقول: إنـي أريد أن تكون علـيك خطيئتـي ودمي, فتبوء بهما جميعا.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن تأويـله: إنـي أريد أن تنصرف بخطيئتك فـي قتلك إياي, وذلك هو معنى قوله: إنّـي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي. وأما معنى وإثْمِكَ: فهو إثمه بغير قتله, وذلك معصية الله جلّ ثناؤه فـي أعمال سواه.
وإنـما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويـل علـيه, لأن الله عزّ ذكره قد أخبرنا أن كلّ عامل فجزاء عمله له أو علـيه, وإذا كان ذلك حكمه فـي خـلقه فغير جائز أن يكون آثام الـمقتول مأخوذا بها القاتل وإنـما يؤخذ القاتل بإثمه بـالقتل الـمـحرّم وسائر آثام معاصيه التـي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتـيـله.
فإن قال قائل: أو لـيس قتل الـمقتول من بـين آدم كان معصية لله من القاتل؟ قـيـل: بلـى, وأعْظِمْ بها معصية.
فإن قال: فإذا كان لله جلّ وعزّ معصية, فكيف جاز أن يريد ذلك منه الـمقتول ويقول: إنّـي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وقد ذكرت أن تأويـل ذلك: إنـي أريد أن تبوء بإثم قتلـي؟ فمعناه: إنـي أريد أن تبوء بإثم قتلـي إن قتلتنـي لأنـي لا أقتلك, فإن أنت قتلتنـي فإنـي مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله فـي قتلك إياي. وهو إذا قتله, فهو لا مـحالة بـاء به فـي حكم الله, فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول فـي الـخطأ.
ويعنـي بقوله: فَتَكُونَ مِنْ أصَحابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِـمينَ يقول: فتكون بقتلك إياي من سكان الـجحيـم, ووقود النار الـمخـلدين فـيها. وذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِـمِينَ يقول: والنار ثواب التاركين طريق الـحقّ الزائلـين عن قصد السبـيـل, الـمتعدين ما جعل لهم إلـى ما لـم يجعل لهم. وهذا يدلّ علـى أن الله عزّ ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلـى الأرض, ووعد وأوعد, ولولا ذلك ما قال الـمقتول للقائل: فتكون من أصحاب النار بقتلك إياي, ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالـمين. فكان مـجاهد يقول: علقت إحدى رجلـي القاتل بساقها إلـى فخذها من يومئذ إلـى يوم القـيامة, ووجهه فـي الشمس حيثما دارت دار, علـيه فـي الصيف حظيرة من نار وعلـيه فـي الشتاء حظيرة من ثلـج.
9251ـ حدثنا بذلك القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد ذلك. قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنـجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابَ, علـيه شطرُ عذابهم.
وقد رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـحو ما رُوي عن عبد الله بن عمرو خبر.
9252ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, وحدثنا سفـيان, قال: حدثنا جرير وأبو معاوية (ح), وحدثنا هناد, قال: حدثنا أبو معاوية, ووكيع جميعا, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرّة, عن مسروق, عن عبد الله, قال: قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْـما إلاّ كانَ علـى ابْنِ آدَمَ الأوّلِ كِفْلٌ مِنْها, ذَلِكَ بأنه أَوّل مَنْ سَنّ القَتْلَ».
حدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبـي (ح). وحدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن جميعا, عن سفـيان, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرّة, عن مسروق, عن عبد الله, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم نـحوه.
9253ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن حسن بن صالـح, عن إبراهيـم بن مهاجر, عن إبراهيـم النـخعي, قال: ما من مقتول يقتل ظلـما, إلا كان علـى ابن آدم الأوّل والشيطان كِفْلٌ منه.
9254ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن حكيـم بن حكيـم, أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو, أنه كان يقول: إن أشقـي الناس رجلاً لابنُ آدم الذي قتل أخاه, ما سفك دم فـي الأرض منذ قتل أخاه إلـى يوم القـيامة إلا لـحق به منه شيء, وذلك أنه أوّل من سنّ القتل.
وبهذا الـخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبـين أن القول الذي قاله الـحسن فـي ابنـي آدم اللذَين ذكرهما الله فـي هذا الـموضع أنهما لـيسا بـابنـي آدم لصلبه, ولكنهما رجلان من بنـي إسرائيـل, وأن القول الذي حكي عنه, أن أوّل من مات آدم, وأن القربـان الذي كانت النار تأكله لـم يكن إلا فـي بنـي إسرائيـل خطأ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه أنه أوّل من سنّ القتل, وقد كان لا شكّ القتل قبل إسرائيـل, فكيف قبل ذرّيته وخطأ من القول أن يقال: أوّل من سنّ القتل رجل من بنـي إسرائيـل. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال: هو ابن آدم لصلبه, لأنه أوّل من سنّ القتل, فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الآية : 30
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }..
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله فَطَوّعَتْ: فأقامته وساعدته علـيه. وهو «فَعّلْت» من الطوع, من قول القائل: طاعنـي هذا الأمر: إذا انقاد له.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: فشجعت له نفسه قتل أخيه. ذكر من قال ذلك:
9255ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي ومـحمد بن حميد, قالا: حدثنا حكام بن سلـم, عن عنبسة, عن أبـي لـيـلـى, عن القاسم بن أبـي بزة, عن مـجاهد: فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قال: شجعت.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قال: فشجعته.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ قال: شجعته علـى قتل أخيه.
وقال آخرون: معنى ذلك: زينت له. ذكر من قال ذلك:
9256ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قال: زينت له نفسه قتل أخيه, فقتله.
ثم اختلفوا فـي صيغة قتله إياه كيف كانت, والسبب الذي من أجله قتله. فقال بعضهم: وجده نائما فشَدَخ رأسه بصخرة. ذكر من قال ذلك:
9257ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـيـما ذكر عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس. وعن مرّة, عن عبد الله. وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلُ أخيهِ فطلبه لـيقتله, فراغ الغلام منه فـي رءوس الـجبـال. وأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنـما له فـي جبل وهو نائم, فرفع صخرة فشدخ بها رأسه, فمات, فتركه بـالعراء.
وقال بعضهم, ما:
9258ـ حدثنـي مـحمد بن عمر بن علـيّ, قال: سمعت أشعث السجِستانـي يقول: سمعت ابن جريج قال: ابن آدم الذي قتل صاحبه لـم يدر كيف يقتله, فتـمثل إبلـيس له فـي هيئة طير, فأخذ طيرا فقصع رأسه, ثم وضعه بـين حجرين فشدَخَ رأسه, فعلّـمه القتل.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قتله حيث يرعى الغنـم, فأتـى فجعل لا يدري كيف يقتله, فَلَوى برقبته وأخذ برأسه. فنزل إبلـيس, وأخذ دابة أو طيرا, فوضع رأسه علـى حجر, ثم أخذ حجرا آخر فرضخ به رأسه, وابن آدم القاتل ينظر, فأخذ أخاه, فوضع رأسه علـى حجر وأخذ حجرا آخر فرضخ به رأسه.
9259ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا رجل سمع مـجاهدا يقول, فذكر نـحوه.
9260ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قال: لـما أكلت النار قربـان ابن آدم الذي تقبّل قربـانه, قال الاَخر لأخيه: أتـمشي فـي الناس وقد علـموا أنك قرّبت قربـانا فتقبل منك وردّ علـيّ؟ والله لا تنظر الناس إلـيّ وإلـيك وأنت خير منـي فقال: لأقتلنك فقال له أخوه: ما ذنبـي إنّـمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الـمُتّقِـينَ؟ فخوّفه بـالنار, فلـم ينته ولـم ينزجر, فطوّعت له نفسه قتل أخيه, فقتله فأصبح من الـخاسرين.
9261ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عبد الله بن عثمان بن خثـيـم, قال: أقبلت مع سعيد بن جبـير أرمي الـجمرة وهو متقنع متوكىء علـى يديّ, حتـى إذا وازينا بـمنزل سمرة الصرّاف, وقـف يحدثنـي عن ابن عبـاس, قال: نهى أن ينكح الـمرأة أخوها توأمها وينكحها غيره من إخوتها, وكان يولد فـي كلّ بطن رجل وامرأة, فولدت امرأة وسيـمة, وولدت امرأة دميـمة قبـيحة, فقال أخو الدميـمة: أنكحنـي أختك وأنكحك أختـي قال: لا, أنا أحقّ بأختـي. فقرّبـا قربـانا فتقبل من صاحب الكبش, ولـم يتقبل من صاحب الزرع, فقتله. فلـم يزل ذلك الكبش مـحبوسا عند الله حتـى أخرجه فـي فداء إسحاق, فذبحه علـى هذا الصفـا فـي ثَبِـيِر عند منزل سَمُرة الصراف, وهو علـى يـمينك حين ترمي الـجمار. قال ابن جريج: وقال آخرون بـمثل هذه القصة. قال: فلـم يزل بنو آدم علـى ذلك حتـى مضى أربعة آبـاء, فنكح ابنة عمه, وذهب نكاح الأخوات.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله عزّ ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه, ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفته قتله إياه. وجائز أن يكون علـى نـحو ما قد ذكر السديّ فـي خبره, وجائز أن أن يكون كان علـى ما ذكره مـجاهد, والله أعلـم أيّ ذلك كان, غير أن القتل قد كان لا شكّ فـيه.
وأما قوله: فأصْبَحَ مِنَ الـخاسِرِينَ فإن تأويـله: فأصبح القاتل أخاه من ابنـي آدم من حزب الـخاسرين, وهم الذين بـاعو آخرتهم بدنـياهم بإيثارهم إياها علـيها فوُكسوا فـي بـيعهم وغُبنوا فـيه, وخابوا فـي صفقتهم.
الآية : 31
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ }..
قال أبو جعفر: وهذا أيضا أحد الأدلة علـى أن القول فـي أمر ابنـي آدم بخلاف ما رواه عمرو عن الـحسن لأن الرجلـين اللذين وصف الله صفتهما فـي هذه الاَية لو كانا من بنـي إسرائيـل لـم يجهل القاتل دفن أخيه ومواراة سوأة أخيه, ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه. ولـم يكن القاتل منهما أخاه علـم سنة الله فـي عادة الـموتـى, ولـم يدر ما يصنع بأخيه الـمقتول, فذكر أنه كان يحمله علـى عاتقه حينا حتـى أراحت جِيفته, فأحبّ الله تعريفه السنة فـي موتـى خـلقه, فقّـيض له الغرابـين اللذين وصف صفتهما فـي كتابه.
ذكر الأخبـار عن أهل التأويـل بـالذي كان من فعل القاتل من ابنـي آدم بأخيه الـمقتول بعد قتله إياه:
9262ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن أبـي رَوْق الهَمْدانـي, عن أبـيه, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: مكث يحمل أخاه فـي جراب علـى رقبته سنة, حتـى بعث الله جلّ وعزّ الغرابَـين, فرآهما يبحثان, فقال: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟ فدفن أخاه.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابـا يَبْحَثُ فِـي الأرْضِ لِـيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ بعث الله جلّ وعزّ غرابـا حيا إلـى غراب ميت, فجعل الغراب الـحيّ يواري سوأة الغراب الـميت, فقال ابن آدم الذي قتل أخاه: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ... الاَية.
9263ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـيـما ذكر عن أبـي مالك. وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس. وعن مرّة, عن عبد الله. وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم: لـما مات الغلام تركه بـالعَراء ولا يعلـم كيف يُدْفن, فبعث الله غرابـين أخوين, فـاقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, فحفر له, ثم حثا علـيه, فلـما رآه قال: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوارِىَ سَوْءَةَ أخِي فهو قول الله: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابـا يَبْحَثُ فِـي الأرْضِ لِـيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ.
9264ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: يَبْحَثُ قال: بعث الله غرابـا حتـى حفر لاَخر إلـى جنبه ميت وابن آدم القاتل ينظر إلـيه, ثم بحث علـيه حتـى غيبه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: غُرابـا يَبْحَثُ فـي الأَرْضِ حتـى حفر لاَخر ميت إلـى جنبه, فغيّبه, وابن آدم القاتل ينظر إلـيه حيث يبحث علـيه, حتـى غيبه فقال: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ... الاَية.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, قوله: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابـا يَبْحَثُ فِـي الأرْضِ قال: بعث الله غرابـا إلـى غراب, فـاقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, فجعل يَحْثِـي علـيه التراب, فقال: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوْأةَ أخِي فأصْبَحَ منَ النّادِمِينَ.
حدثنـي الـمثنى, قال: ثنـي عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابـا يَبْحَثُ فِـي الأرْضِ قال: جاء غراب إلـى غراب ميت, فحثـي علـيه من التراب حتـى واراه, فقال الذي قتل أخاه: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ... الاَية.
9265ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, عن فضيـل بن مرزوق, عن عطية, قال: لـما قتله ندم, فضمه إلـيه حتـى أرْوَح, وعكفت علـيه الطير والسبـاع تنتظر متـى يرمي به فتأكلَه.
9266ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابـا يَبْحَثُ فِـي الأرْضِ لِـيُرِيَهُ أنه بعثه الله عزّ ذكره يبحث فـي الأرض ذُكِر لنا أنهما غرابـان اقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, وذلك يعنـي ابن آدم ينظر, وجعل الـحيّ يحثـي علـى الـميت التراب, فعند ذلك قال ما قال: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ... الاَية, إلـى قوله: مِنَ النّادِمِينَ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: أما قوله: فَبَعَثَ اللّهُ غُرابـا قال: قتل غراب غرابـا, فجعل يحثو علـيه, فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد فـي قوله: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابـا يَبْحَثُ فِـي الأرْضِ لِـيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ قال: وارى الغرابُ الغرابَ. قال: كان يحمله علـى عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به, يحمله ويضعه إلـى الأرض حتـى رأى يدفن الغراب, فقال: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوأة أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ.
9267ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا معلـى بن أسد, قال: حدثنا خالد, عن حصين, عن أبـي مالك فـي قول الله: يَا وَيْـلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ قال: بعث الله غرابـا, فجعل يبحث علـى غراب ميت التراب, قال: فقال عند ذلك: أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوأة أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ.
9268ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابـا يَبْحَثُ فـي الأرْضِ: بعث الله غرابـا حيا إلـى غراب ميت, فجعل الغراب الـحيّ يواري سوأة الغراب الـميت, فقال ابن آدم الذي قتل أخاه: يَا وَيْـلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ... الاَية.
9269ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق فـيـما يذكر عن بعض أهل العلـم بـالكتاب الأوّل, قال: لـما قتله سُقِط فـي يديه, ولـم يد كيف يواريه, وذلك أنه كان فـيـما يزعمون أوّل قتـيـل من بـين آدم, وأول ميت (قال) يا وَيْـلَتا أعَجَزْتُ نْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوأةَ أخي... الاَية (إلـى قوله: ثُمّ إنّ كثـيرا مِنْهُمْ بعد ذلكَ فـي الأرْضِ لـمُسْرِفون قال:) ويزعم أهل التوراة أن قابـيـل حين قتل أخاه هابـيـل, قال له جلّ ثناؤه: يا قابـيـل أين أخوك هابـيـل؟ قال: ما أدري ما كنت علـيه رقـيبـا. فقال الله جلّ وعزّ له: إن صوت دم أخيك لـيَنُادينـي من الأرض, الاَن أنت ملعون من الأرض التـي فتـحت فـاها فبلعت دم أخيك من يدك, فإذا أنت عملت فـي الأرض, فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتـى تكون فزعا تائها فـي الأرض. قال قابـيـل: عظمت خطيئتـي عن أن تغفرها, قد أخرجتنـي الـيوم عن وجه الأرض, وأتواري من قدّامك, وأكون فزعا تائها فـي الأرض, وكلّ من لقـينـي قتلنـي فقال جلّ وعزّ: لـيس ذلك كذلك, ولا يكون كل قاتل قتـيلاً يجزى واحدا, ولكن يجزي سبعة, وجعل الله فـي قابـيـل آية, لئلا يقتله كلّ من وجده. وخرج قابـيـل من قدّام الله عزّ وجلّ, من شرقـي عَدَن الـجنة.
9270ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, قال: حدثنا الأعمش, عن خيثمة, قال: لـما قتل ابن آدم أخاه نَشفَت الأرض دمه, فُلعنت, فلـم تنشف الأرض دما بعد.
فتأويـل الكلام: فأثار الله للقاتل إذ لـم يدر ما يصنع بأخيه الـمقتول غرابـا يبحث فـي الأرض, يقول: يحفر فـي الأرض, فـيثـير ترابها لـيريه كيف يواري سوءة أخيه, يقول: لـيريه كيف يواري جيفة أخيه. وقد يحتـمل أن يكون عنى بـالسوءة الفَرْج, غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الـجِيفة, وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. وفـي ذلك مـحذوف ترك ذكره, استغناء بدلالة ما ذكر منه, وهو: فأراه بأن بحث فـي الأرض لغراب آخر ميت, فواراه فـيها, فقال القاتل أخاه حينئذٍ: يا وَيْـلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ الذي وارى الغرابَ الاَخر الـميت فَأُوارِيَ سَوأةَ أخِي؟ فواراه حينئذٍ فأصْبَحَ منَ النّادِمينَ علـى ما فَرَط منه من معصية الله عزّ ذكره فـي قتله أخاه. وكلّ ما ذكر الله عزّ وجلّ فـي هذه الاَيات, مَثَل ضربه الله لبنـي آدم, وحرّض به الـمؤمنـين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى استعمال العفو والصفح عن الـيهود, الذين كانوا هَمّوا بقتل النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وقتلهم من بنـي النضير, إذ أتوهم يستعينونهم فـي دية قتـيَـلْـي عمرو بن أمية الضّمْرِي, وعرّفهم جلّ وعزّ رداءة سجية أوائلهم وسوء استقامتهم علـى منهج الـحقّ مع كثرة أياديه وآلائه عندهم, وضرب مثلهم فـي عدوّهم ومثل الـمؤمنـين فـي الوفـاء لهم والعفو عنهم بـابَنْـي آدم الـمقرّبَـين قرابـينهما اللذين ذكرهما الله فـي هذه الاَيات. ثم ذلك مَثَل لهم علـى التأسّي بـالفـاضل منهما دون الطالـح, وبذلك جاء الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9271ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, قال: قلت لبكر بن عبد الله: أما بلغك أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله جلّ وَعَزّ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَـيْ آدَمَ مَثَلاً, فخُذُوا خَيْرَهُما وَدَعُوا شَرّهُما؟» قال: بلـى.
9272ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق,, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ابْنَـيْ آدَمَ ضُرِبـا مَثَلاً لِهَذِهِ الأُمّةِ فَخُذُوا بـالـخَيْرِ مِنْهُما».
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن عاصم الأحول, عن الـحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ ضَرَبَ لَكُمْ ابْنَـيْ آدَمَ مَثَلاً, فَخُذُوا مِنْ خَيْرِهِمْ وَدَعُوا الشّرّ»