تفسير الطبري تفسير الصفحة 158 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 158
159
157
 الآية : 58
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: والبلد الطيبة تربته العذبة مشاربه, يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا بإذنه طيبا ثمره في حينه ووقته. وَالّذِي خَبُثَ فردؤت تربته وملحت مشاربه, لا يَخْرُجُ نباته إلاّ نَكِدا يقول: إلاّ عسرا في شدّة, كما قال الشاعر:
لا تُنْجِرُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وَإنْأعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تافِها نَكِدَا
يعني بالتافه: القليل, وبالنكد, العسر, يقال منه: نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَدا ونَكْدا, فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ, والنكد المصدر, ومن أمثالهم نَكْدا وجَحْدا ونُكْدا وجُحْدا, والجحد: الشدّة والضيق, ويقال إذا شفه وسئل قد نكدوه ينكَدونه نَكْدا, كما قال الشاعر:
وأعْطِ ما أعْطَيْتَهُ طَيّبالا خيرَ في المَنْكُودِ والنّاكِدِ
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأه بعض أهل المدينة: «إلاّ نَكَدا» بفتح الكاف. وقرأه بعض الكوفيين بسكون الكاف: «نَكْدا». وخالفهما بعد سائر القرّاء في الأمصار, فقرءوه: إلاّ نَكِدا بكسر الكاف. كأن من قرأه: «نَكَدا» بنصب الكاف أراد المصدر, وكأن من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها فسكنها على لغة من قال: هذه فخْذ وكتْد, وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن يكسر النون من «نكد» حتى يكون قد أصاب القياس.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه: نَكِدا بفتح النون وكسر الكاف لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وقوله: كذلكَ نُصَرّفُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ يقول: كذلك نبين آية بعد آية, وندلي بحجة بعد حجة, ونضرب مثلاً بعد مثل, لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة, باتباعهم ما أمرهم باتباعه وتجنبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر, فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه مثل للمؤمن, والذي خبث فلا يخرج نباته إلا نَكدا مثل للكافر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11547ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح عن عليّ عن ابن عباس قوله: وَالبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ باذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِدا فهذا مثل ضربه الله للمؤمن, يقول: هو طيب وعمله طيب كما البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبِخة المالحة التي لا تخرج منها البرَكة, فالكافر هو الخبيث وعمله خبيث.
11548ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: وَالبَلَدُ الطّيّبُ والّذِي خَبُثَ قال: كلّ ذلك من أرض السباخ وغيرها مثل آدم وذرّيته, فيهم طيب وخبيث.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
11549ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَالبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ باذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِدا قال: هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن.
11550ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد, يعني ابن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَالبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ باذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ هي السبخة لا يَخْرُجُ نباتها إلاّ نَكِدا. والنكِد: الشيء القليل الذي لا ينفع كذلك القلوب لما نزل القرآن, فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به, وثبت الإيمان فيه والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه, ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلاّ ما لا ينفع, كما لم يخرج هذا البلد إلاّ ما لا ينفع من النبات.
11551ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو سعد, عن مجاهد: وَالبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بإذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِدا قال: الطيب ينفعه المطر فينبت, والذي خبث السباخ لا ينفعه المطر لا يخرج نباته إلاّ نكدا, قال: هذا مثل ضربه الله لاَدم وذرّيته كلهم, إنما خلقوا من نفس واحدة, فمنهم من آمن بالله وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله وكتابه فخبُث.
الآية : 59
القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
أقسم ربنا جلّ ثناؤه للمخاطبين بهذه الاَية أنه أرسل نوحا إلى قومه منذرهم بأسه, ومخوّفهم سخطه على عبادتهم غيره, فقال لمن كفر منهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ الذي له العبادة, وذلوا له بالطاعة واخضعوا له بالاستكانة, ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والاَلهة, فإنه ليس لكم معبود يستوجب عليكم العبادة غيره, فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك عَذَابَ يَوْمٍ عظِيم يعني: عذاب يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط ربكم.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله: غَيْرُهُ فقرأ ذلك بعض أهل المدينة والكوفة: «ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غيرِهِ» يخفض «غير» على النعت للإله. وقرأ جماعة من أهل المدينة والبصرة والكوفة: مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غٍيْرُهُ برفع «غيرُ», ردّ الهاء على موضع «من» لأن موضعها رفع لو نزعت من الكلام لكان الكلام رفعا, وقيل: ما لكم إله غير الله, فالعرب لما وصفت من أن المعلوم بالكلام أدخلت «من» فيه أو أخرجت, وإنها تدخلها أحيانا في مثل هذا من الكلام وتخرجها منه أحيانا تردّ ما نعتت به الاسم الذي عملت فيه على لفظه, فإذا خفضت فعلى كلام واحد, لأنها نعت للإله وأما إذا رفعت, فعلى كلامين: ما لكم غيره من إله, وهذا قول يستضعفه أهل العربية.
الآية : 60
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ }.
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن جواب مشركي قوم نوح لنوح, وهم الملأ والملأ: الجماعة من الرجال لا امرأة فيهم أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له: إنّا لَنَرَاكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعنون: في أمر زائل عن الحقّ, مبين زواله عن قصد الحدّ لمن تأمّله.
الآية : 61
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه مجيبا لهم: يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله وإفراده بالطاعة دون الأنداد والاَلهة زوالاً مني عن محجة الحقّ وضلالاً لسبيل الصواب, وما بي ما تظنون من الضلال, ولكني رسول إليكم من ربّ العالمين بما أمرتكم به من إفراده بالطاعة والإقرار له بالوحدانية والبراءة من الأنداد والاَلهة.
الآية : 62
القول في تأويل قوله تعالى: {أُبَلّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه الذين كفروا بالله وكذّبوه: ولكني رسول من ربّ العالمين أرسلني إليكم, فأنا أبلغكم رسالات ربي, وأنصح لكم في تحذيري إياكم عقاب الله على كفركم به وتكذيبكم إياي وردّكم نصيحتي. وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلمُونَ: من أن عقابه لا يردّ عن القوم المجرمين.
الآية : 63
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رّبّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتّقُواْ وَلَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
وهذا أيضا خبر من الله عزّ ذكره عن قيل نوح لقومه أنه قال لهم إذْ ردّوا عليه النصيحة في الله, وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيّا, وقالوا له: ما نَرَاكَ إلاّ بَشَرا مِثْلَنا وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بادِيَ الرأيِ وَما نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كاذبِينَ: أوَ عَجِبْتُمْ أنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول: أو عجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعظة, يذكركم بما أنزل ربكم على رجل منكم. قيل: معنى قوله: على رَجُلٍ منْكُمْ مع رجل منكم لِيُنْذِرَكُمْ يقول: لينذركم بأس الله, ويخوّفكم عقابه على كفركم به. وَلِتَتّقُوا يقول: وكي تتقوا عقاب الله وبأسه, بتوحيده وإخلاص الإيمان به والعمل بطاعته. ولَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ يقول: وليرحمكم ربكم إن اتّقيتم الله وخفتموه وحذّرتم بأسه. وفُتحت الواو من قوله: أوَ عَجِبْتُمْ لأنها واو عطف دخلت عليها ألف استفهام.
الآية : 64
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فكذّب نوحا قومُه, إذ أخبرهم أنه لله رسول إليهم يأمرهم بخلع الأنداد والإقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته, وخالفوا أمر ربهم ولجوا في طغيانهم يعمهون, فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به. وكانوا بنوح عليه السلام ثلاث عشرة, فيما:
11552ـ حدثني به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: نوح وبنوه الثلاثة: سام, وحام, ويافث وأزواجهم, وستة أناسيّ ممن كان آمن به.
وكان حمل معه في الفُلك من كلّ زوجين اثنين, كما قال تبارك وتعالى: وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ. والفُلك: هو السفينة. وأغْرَقْنا الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا يقول: وأغرق الله الذين كذّبوا بحججه ولم يتبعوا رسله ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان. إنّهُمْ كانُوا قَوْما عَمِينَ يقول: عمين عن الحقّ. كما:
11553ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: عَمِينَ قال: عن الحقّ.
11554ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: قَوْما عَمِينَ قال: العَمِي: العامي عن الحقّ.
الآية : 65
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا ولذلك نصب «هودا», لأنه معطوف به على نوح عليهما السلام. قَالَ هود: يا قَوْمِ اعْبُدُوا الله فأفردوا له العبادة, ولا تجعلوا معه إلها غيره, فإنه ليس لكم إله غيره. أفلا تَتّقُونَ ربكم فتحذرونه وتخافون عقابه بعبادتكم غيره, وهو خالقكم ورازقكم دون كلّ ما سواه؟
الآية : 66-67
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنّا لَنَظُنّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عما أجاب هودا له قومه الذين كفروا بالله: قَالَ الملأُ الّذِينَ كَفَرُوا يعني الذين جحدوا توحيد الله, وأنكروا رسالة هود إليهم: إنا لَنَرَاكَ يا هود فِي سَفاهَةٍ يعنون في ضلالة عن الحقّ والصواب, بتركك دينَنا وعبادة آلهتنا. وَإنّا لَنَظُنّكَ مِنَ الكاذِبِينَ في قِيلك إني رسول من ربّ العالمين. قالَ يا قَوْمَ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ: يقول: أي ضلالة عن الحقّ والصواب, وَلَكِنّي رَسُولٌ مِنْ رَبّ العالَمِينَ أرسلني, فأنا أبلغكم رسالات ربي وأؤدّيها إليكم كما أمرني أن أؤديها