تفسير الطبري تفسير الصفحة 157 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 157
158
156
 الآية : 52
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصّلْنَاهُ عَلَىَ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: أقسم يا محمد لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب, يعني القرآن الذي أنزله إليهم, يقول: لقد أنزلنا إليهم هذا القرآن مفصلاّ مبينا فيه الحقّ من الباطل, عَلى عِلْمٍ يقول: على علم منا بحقّ ما فصل فيه من الباطل الذي ميز فيه بينه وبين الحقّ, هُدًى وَرَحْمَةً يقول: بيناه ليهتدي ويرحم به قوم يصدّقون به وبما فيه من أمر الله ونهيه وأخباره ووعده ووعيده, فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى. وهذه الاَية مردودة على قوله: كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى للمُؤْمِنينَ. وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصّلْناهُ على عِلْمٍ والهدى في موضع نصب على القطع من الهاء التي في قوله: فَصّلْناهُ ولو نُصب على فعل فصّلناه, فيكون المعنى: فصّلنا الكتاب كذلك كان صحيحا ولو قرىء «هُدًى وَرَحْمَةٍ» كان فِي الإعراب فصيحا, وكان خفض ذلك بالردّ على الكتاب.
الآية : 53
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ فَهَل لّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذّبون بآيات الله ويجحدون لقاءه, إلاّ تأويله؟ يقول: إلاّ ما يئول إليه أمرهم من ورودهم على عذاب الله, وصليّهم جحيمه, وأشباه هذا مما أوعدهم الله به. وقد بيّنا معنى التأويل فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11526ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْويلَهُ: أي ثوابه يَوْمَ يَأْتي تَأْوِيلُهُ أي ثوابه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, قال: حدثنا معمر, عن قتادة: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ قال: تأويله: عاقبته.
11527ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ قال: جزاءه, يَوْمَ يَأْتي تَأْوِيلُهُ قال: جزاؤه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن أبي زائدة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
11528ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: هَلْ يَنْظُرُون إلاّ تَأْوِيلَهُ أما تأويله: فعواقبه مثل وقعة بدر, والقيامة, وما وعد فيه من موعد.
11529ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتي تَأْويلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ فلا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتمّ تأويله يوم القيامة, ففي ذلك أنزل: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ حيث أثاب الله تبارك وتعالى أولياءه وأعداءه ثواب أعمالهم, يَقُولُ يومئذ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ... الاَية.
11530ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتي تَأْويلُهُ قال: يوم القيامة.
11531ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: يَوْمَ يَأْتي تَأْوِيلُهُ قال: يأتي تحقيقه. وقرأ قول الله تعالى: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قال: هذا تحقيقها. وقرأ قول الله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاّ اللّهُ قال: ما يعلم حقيقته ومتى يأتي إلاّ الله تعالى.
وأما قوله: يَوْمَ يَأْتي تَأْويلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ فإن معناه: يوم يجيء ما يئول إليه أمرهم من عقاب الله, يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: أي يقول الذين ضيعوا وتركوا ما أمروا به من العمل المنجيهم مما آل إليه أمرهم يومئذٍ من العذاب من قبل ذلك في الدنيا: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ أقسم المساكين حين عاينوا البلاء وحلّ بهم العقاب أنّ رسل الله التي أتتهم بالنذارة وبلغتهم عن الله الرسالة, قد كانت نصحت لهم وصَدَقتهم عن الله, وذلك حين لا ينفعهم التصديق ولا ينجيهم من سخط الله وأليم عقابه كثرة القيل والقال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11532ـ حدثني محمد بن عمرو بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: يقول الّذِينَ نَسُوهُ منْ قَبْلُ قَدْ جاءَت رسُلُ رَبّنا بالحَقّ أما الذين نسوه فتركوه, فلما رأوا ما وعدهم أنبياؤهم استيقنوا فقالوا: قد جاءت رسل ربنا بالحقّ.
11533ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ قال: أعرضوا عنه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أوْ نُرَدّ فَنَعْمَلَ غيرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم أنهم يقولون عند حلول سخط الله بهم وورودهم أليم عذابه ومعاينتهم تأويل ما كانت رسل الله تعدهم: هل لنا من أصدقاء وأولياء اليوم, فيشفعوا لنا عند ربنا, فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في الدنيا, أو نردّ إلى الدنيا مرّة أخرى, فنعمل فيها بما يرضيه ويعتبه من أنفسنا؟ قال: هذا القول المساكين هنالك, لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم, فيذكروا ذلك في وقت لا خلة فيه لهم ولا شفاعة, يقول الله جلّ ثناؤه: قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ يقول: غبنوا أنفسهم حظوظها ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الاَخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل, وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يقول: وأسلمهم لعذاب الله, وحاد عنهم أولياؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله, ويزعمون كذبا وافتراء أنهم أربابهم من دون الله.
11534ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ يقول: شروْها بخسران.
وإنما رفع قوله أوْ نُرَدّ ولم ينصب عطفا على قوله: فَيَشْفَعُوا لَنا لأن المعنى: هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا, أو هل نردّ فنعمل غير الذي كنا نعمل. ولم يرد به العطف على قوله فَيَشْفَعُوا لَنا.
الآية : 54
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم أيها الناس, هو المعبود الذي له العبادة من كلّ شيء الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام, وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة. كما:
11535ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر, عن مجاهد, قال: بدء الخلق: العرش والماء والهواء, وخلقت الأرض من الماء, وكان بدء الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس, وجمع الخلق في يوم الجمعة, وتهوّدت اليهود يوم السبت, ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون.
ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا فإنه يقول: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه, حتى يذهب نضرته ونوره. يَطْلُبُهُ يقول: يطلب الليل النهار حَثِيثا يعني سريعا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11536ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّبن أبي طلحة, عن ابن عباس: يَطْلُبُهُ حَثِيثا يقول: سريعا.
11537ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا قال: يغشي الليل النهار بضوئه, ويطلبه سريعا حتى يدركه.
القول في تأويل قوله تعالى: والشّمْسَ والقَمَر وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأْمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِين.
يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم, كلّ ذلك بأمره, أمرهن الله فأطعن أمره, ألا لله الخلق كله, والأمر الذي لا يخالف ولا يردّ أمره دون ما سواه من الأشياء كلها, ودون ما عبده المشركون من الاَلهة والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تخلق ولا تأمر, تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كلّ شيء ربّ العالمين.
11538ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام أبو عبد الرحمن, قال: حدثنا بقية بن الوليد, قال: ثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاريّ, عن عبد العزيز الشامي, عن أبيه, وكانت له صحبة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللّهَ على ما عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ, وحَمِدَ نَفْسَهُ, قَلّ شُكْرُهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ. وَمَنْ زَعَمَ أنّ اللّهَ جَعَلَ للعِبادِ مِنَ الأمْرِ شَيْئا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ على أنْبِيائِهِ لقوله: ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِينَ».
الآية : 55
القول في تأويل قوله تعالى: {ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ادعوا أيها الناس ربكم وحده, فأخلصوا له الدعاء دون ما تدعون من دونه من الاَلهة والأصنام. تَضَرّعا يقول: تذللاً واستكانة لطاعته. وَخُفْيَةً يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه, لا جهارا مراءاة, وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته, فعل أهل النفاق والخداع لله ولرسوله. كما:
11539ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن المبارك فضالة, عن الحسن, قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر جاره, وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس, وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوّار وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلاّ همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله يقول: ادْعُوا رَبّكُمُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا, فرضي فعله فقال: إذْ نادَى رَبّهُ نِدَاءً خَفِيّا.
11540ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عاصم الأحول, عن أبي عثمان النهدي, عن أبي موسى, قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة, فأشرفوا على واد يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم, فقال: «أيّها النّاسُ ارْبَعُوا على أنْفُسِكُمْ, إنّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمّ وَلا غائِبا إنّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعا قَرِيبا مَعَكُمْ».
11541ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, قوله: ادْعُوا رَبّكُمْ تَضَرّعا وَخْفْيَةً قال: السرّ.
وأما قوله: إنّهُ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ فإن معناه: إن ربكم لا يحبّ من اعتدى فتجاوز حدّه الذي حدّه لعباده في دعائه ومسألته ربه, ورفعه صوته فوق الحدّ الذي حدّ لهم في دعائهم إياه ومسألتهم وفي غير ذلك من الأمور. كما:
11542ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا معتمر بن سليمان, قال: أنبأنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان عن عبادبن عباد, عن علقمة, عن أبي مجلز: ادْعُوا رَبّكُمْ تَضَرّعا وَخُفْيَةً إنه لا يحِبّ المُعْتَدِينَ قال: لا يسأل منازل الأنبياء عليهم السلام.
11543ـ حدثني القاسم قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: إنّهُ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ في الدعاء ولا في غير. قال ابن جريج: إن من الدعاء اعتداء يكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء, ويؤمر بالتضرّع والاستكانة.
الآية : 56
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها وذلك هو الفساد فيها. وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى وبيّنا معناه بشواهده. بعدَ إصْلاحِها يقول: بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحقّ, وإيضاحه حججه لهم. وَادْعُوهُ خَوْفا وَطَمَعا يَقُولُ: وأخلصوا له الدعاء والعمل, ولا تشركوا في عملكم له شيئا غيره من الاَلهة والأصنام وغير ذلك, وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه وإن من كان دعاؤه إياه على غير ذلك فهو بالاَخرة من المكذّبين, لأن من لم يخف عقاب الله ولم يَرْج ثوابه لم يبال ما ركب من أمر يسخطه الله ولا يرضاه. إنّ رَحمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ يقول تعالى ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا قريب منهم. وذلك هو رحمته لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته, إلاّ أن تفارق أرواحهم أجسادهم ولذلك من المعنى ذكر قوله: قَريبٌ وهو من خبر الرحمة والرحمة مؤنثة, لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النسب والأوقات بذلك المعنى, إذا رفعت أخبارا للأسماء أجرتها العرب مجرى الحال فوحدتها مع الواحد والاثنين والجميع وذكّرتها مع المؤنث, فقالوا: كرامة الله بعيد من فلان, وهي قريب من فلان, كما يقولون: هند قريب منا, والهندان منا قريب, والهندات منا قريب, لأن معنى ذلك: هي في مكان قريب منا, فإذا حذفوا المكان وجعلوا القريب خلفا منه, ذكروه ووحدوه في الجمع, كما كان المكان مذكرا وموحدا في الجمع. وأما إذا أنثوه أخرجوه مثنى مع الاثنين ومجموعا مع الجميع فقالوا: هي قريبة, منا, وهما منا قريبتان, كما قال عروة بن الورد:
عَشِيّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌفَتَدْنُو وَلا عَفْراءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فأنّث قريبة, وذكّر بعيدا على ما وصفت. ولو كان القريب من القرابة في النسب لم يكن مع المؤنث إلاّ مؤنثا ومع الجمع إلاّ مجموعا. وكان بعض نحويي البصرة يقول: ذُكّر قريب وهو صفة للرحمة, وذلك كقول العرب: ريح خريق, وملحفة جديد, وشاة سديس. قال: وإن شئت قلت: تفسير الرحمة ههنا المطر ونحوه, فلذلك ذكر كما قال: وَإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا فذكّر لأنه أراد الناس, وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث, كقول الشاعر:
(وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَهَا )
وقد أنكر ذلك من قيله بعض أهل العربية, ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكر قريبا توجيها منه للرحمة إلى معنى المطر أن يقول: هند قام, توجيها منه لهند وهي امرأة إلى معنى إنسان, ورأى أن ما شبه به قوله: إنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ بقوله: وإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنوا غير مشبهة, وذلك أن الطائفة فيما زعم مصدر بمعنى الطيف, كما الصيحة والصياح بمعنى, ولذلك قيل: وأخَذَ الّذِينَ ظَلَمُوا الصّيْحَةُ.
الآية : 57
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّىَ إِذَآ أَقَلّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مّيّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَىَ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره «هُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّياحُ نَشْرا بينَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ». والنشر بفتح النون وسكون الشين في كلام العرب من الرياح الطيبة اللينة الهبوب التي تنشىء السحاب, وكذلك كلّ ريح طيبة عندهم فهي نشر ومنه قول امرىء القيس:
كأنّ المُدَامَ وَصَوْبَ الغَمامِورِيحَ الخُزَامَى وَنَشْرَ القُطُرْ
وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين خلا عاصم بن أبي النجود, فإنه كان يقرؤه: بُشْرا على اختلاف عنه فيه, فروى ذلك بعضهم عنه: بُشْرا بالباء وضمها وسكون الشين, وبعضهم بالباء وضمها وضمّ الشين, وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: وَمِنْ آياتِه أن يُرْسِلَ الرّياحَ مُبَشّراتٍ: تبشر بالمطر, وأنه جمع بشير بُشُرا, كما يجمع النذير نُذُرا. وأما قرّاء المدينة وعامة المكيين والبصريين, فإنهم قرءوا ذلك: «وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ نُشْرا» بضم النون والشين, بمعنى جمع نشور جمع نشرا, كما يجمع الصبور صُبُرا, والشكور شُكُرا. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معناها إذا قرئت كذلك أنها الريح التي تهبّ من كلّ ناحية وتجيء من كلّ وجه. وكان بعضهم يقول: إذا قرئت بضمّ النون فينبغي أن تسكن شينها, لأن ذلك لغة بمعنى النشر بالفتح وقال: العرب تضمّ النون من النشر أحيانا, وتفتح أحيانا بمعنى واحد. قال: فاختلاف القرّاء في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه. وكان يقول: هو نظير الخَسف والخُسف بفتح الخاء وضمها.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأ ذلك «نَشْرا» وَ «نُشُرا» بفتح النون وسكون الشين وبضمّ النون والشين قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار, فلا أحبّ القراءة بها, وإن كان لها معنى صحيح ووجهو نظير الخَسف والخُسف بفتح الخاء وضمها.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأ ذلك «نَشْرا» وَ «نُشُرا» بفتح النون وسكون الشين وبضمّ النون والشين قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار, فلا أحبّ القراءة بها, وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في المعنى والإِعراب لما ذكرنا من العلة وأما قوله بين يدي رحمته فإنه يقول قدام رحمته وأمامها والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه جاء بين يديه لأن ذلك من كلامهم جرى في إخبارهم عن بني آدم وكثر استعمال فيهم حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لايدله والرحمة التي ذكرها جلّ ثناؤه في هذا الموضع المطر.
فمعنى الكلام إذن: والله الذي يرسل الرياح لينا هبوبها, طيبا نسيمها, أمام غيثه الذي يسوقه بها إلى خلقه, فينشىء بها سحابا ثقالاً, حتى إذا أقلّتها, والإقلال بها: حملها, كما يقال: استقلّ البعير بحمله وأقلّه: إذا حمله فقام به. ساقه الله لإحياء بلد ميت قد تعفت مزارعه ودرست مشاربه وأجدب أهله, فأنزل به المطر وأخرج به من كلّ الثمرات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11544ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط عن السديّ: «وَهُوَ الّذِي يُرسِلُ الرّياحَ نُشْرا بينَ يَدَيْ رَحْمَتهِ»... إلى قوله: لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ قال: إن الله يرسل الريح, فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان, فيخرجه من ثم, ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء, ثم يفتح أبواب السماء, فيسيل الماء على السحاب, ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأما رحمته: فهو المطر.
وأما قوله: كذلكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ فإنه يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب, فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقحوط أهله, كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياء بعد فنائهم ودروس آثارهم. لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول تعالى ذكره للمشركين به من عبدة الأصنام, المكذّبين بالبعث بعد الممات, المنكرين للثواب والعقاب: ضربت لكم أيها القوم هذا المثل الذي ذكرت لكم من إحياء البلد الميت بقطر المطر الذي يأتي به السحاب, الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن من كان ذلك من قدرته فيسير في إحياء الموتى بعد فنائها وإعادتها خلقا سويّا بعد دروسها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11545ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: كذلكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ وكذلك تخرجون, وكذلك النشور, كما نخرج الزرع بالماء.
وقال أبو هريرة: «إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم من ماء تحت العرش يُدعى ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء, حتى إذا استكملت أجسامهم نفخ فيهم الروح, ثم يلقي عليهم نومة, فينامون في قبورهم, فإذا نُفخ في الصور الثانية, عاشوا وهم يجدون طعم النوم في رءوسهم وأعينهم, كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه, فعند ذلك يقولون: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فناداهم المنادي هَذَا ما وَعَدَ الرّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ.
11546ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله:كذلكَ نُخْرِجُ المَوْتَى قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تتشقق عنهم الأرض, ثم يرسل الأرواح فتعود كلّ روح إلى جسدها, فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض