تفسير الطبري تفسير الصفحة 373 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 373
374
372
 الآية : 136 - 138
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَـَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: قالت عاد لنبـيهم هود صلى الله عليه وسلم: معتدل عندنا وعظك إيانا, وتركك الوعظ, فلن نؤمن لك ولن نصدّقك علـى ما جئتنا به.
وقوله: إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الـمدينة سوى أبـي جعفر, وعامة قرّاء الكوفة الـمتأخرين منهم: إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ من قبلنا: وقرأ ذلك أبو جعفر, وأبو عمرو بن العلاء: «إنْ هَذَا خَـلْقُ الأوّلِـينَ» بفتـح الـخاء وتسكين اللام بـمعنى: ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوّلـين وأحاديثهم.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, نـحو اختلاف القرّاء فـي قراءته, فقال بعضهم: معناه: ما هذا إلا دين الأوّلـين وعادتهم وأخلاقهم. ذكر من قال ذلك:
20299ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ يقول: دين الأوّلـين.
20300ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة قوله إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ يقول: هكذا خِـلْقة الأوّلـين, وهكذا كانوا يحيون ويـموتون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هذا إلا كذب الأوّلـين وأساطيرهم. ذكر من قال ذلك:
20301ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ قال: أساطير الأوّلـين.
20302ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ قال: كذبهم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
20303ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ قال: إن هذا إلا أمر الأوّلـين وأساطير الأوّلـين اكتتبها فهي تُـملـي علـيه بكرة وأصيلاً.
20304ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن علقمة, عن ابن مسعود إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ يقول: إن هذا إلا اختلاق الأوّلـين.
قال: ثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا داود, عن الشعبـيّ, عن علقمة, عن عبد الله, أنه كان يقرأ إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ ويقول شيء اختلقوه.
20305ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن داود, عن الشعبـيّ, قال: قال علقمة إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ قال: اختلاق الأوّلـين.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب: قراءة من قرأ إنْ هَذَا إلاّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ بضمّ الـخاء واللام, بـمعنى: إن هذا إلا عادة الأوّلـين ودينهم, كما قال ابن عبـاس, لأنهم إنـما عُوتبوا علـى البنـيان الذي كانوا يتـخذونه, وبطشهم بـالناس بطش الـجبـابرة, وقلة شكرهم ربهم فـيـما أنعم علـيهم, فأجابوا نبـيهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك, احتذاءً منهم سنة من قبلهم من الأمـم, واقتفـاءً منهم آثارهم, فقالوا: ما هذا الذي نفعه إلا خُـلق الأوّلـين, يَعنون بـالـخُـلق: عادةَ الأوّلـين. ويزيد ذلك بـيانا وتصحيحا لـما اخترنا من القراءة والتأويـل, قولهُم: وَما نَـحْنُ بِـمُعَذّبِـينَ لأنهم لو كانوا لا يُقرّون بأن لهم ربـا يقدر علـى تعذيبهم, ما قالوا وَما نَـحْنُ بِـمَعَذّبِـينَ بل كانوا يقولون: إنْ هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خـلق الأوّلـين, وما لنا من معذّب يعذّبنا, ولكنهم كانوا مقرّين بـالصانع, ويعبدون الاَلهة, علـى نـحو ما كان مشركو العرب يعبدونها, ويقولون إنّها تُقَرّبُنا إلـى اللّهِ زُلْفَـى, فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوّته: سَوَاءٌ عَلَـيْنا أوَعَظْتَ أمْ لَـمْ تَكُنْ مِنَ الَواعِظِينَ ثم قالوا له: ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم, وما الله معذّبنا علـيه, كما أخبرنا تعالـى ذكره عن الأمـم الـخالـية قبلنا, أنهم كانوا يقولون لرسلهم: إنّا وَجَدْنا آبـاءَنا عَلـى أُمّةٍ وَإنّا عَلـى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ.

الآية : 139 - 140
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَكَذّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ }.
يقول تعالـى ذكره: فكذّبت عاد رسول ربهم هُودا, والهاء فـي قوله فَكَذّبُوهُ من ذكر هود. فَأهْلَكْناهُمْ يقول: فأهلكنا عادا بتكذيبهم رسولنا, إنّ فِـي ذَلِكَ لاَيَةً يقول تعالـى ذكره: إنّ فـي إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها, لعبرةً وموعظةً لقومك يا مـحمد, الـمكذّبـيك فـيـما أتـيتهم به من عند ربك. وَما كانَ أكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِـينَ يقول: وما كان أكثر من أهلكنا بـالذين يؤمنون فـي سابق علـم الله. وإنّ رَبّكَ لَهُوَ العَزِيزُ فـي انتقامه من أعدائه, الرحيـم بـالـمؤمنـين به.

الآية : 141 - 145
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتّقُونَ * إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: كذّبت ثمود رسل الله, إذ دعاهم صالـح أخوهم إلـى الله, فقال لهم: ألا تتقون عقاب الله يا قوم علـى معصيتكم إياه, وخلافكم أمره, بطاعتكم أمر الـمفسدين فـي أرض الله, إنّـي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أرسلنـي إلـيكم بتـحذيركم عقوبته علـى خلافكم أمره أمِينٌ علـى رسالته التـي أرسلها معي إلـيكم فَـاتّقُوا اللّهَ أيها القوم, واحذروا عقابه وأطِيعُونِ فـي تـحذيري إياكم, وأمر ربكم بـاتبـاع طاعته وَما أسألُكُمْ عَلَـيْهِ مِنْ أَجْرٍ يقول: وما أسألكم علـى نصحي إياكم, وإنذاركم من جزاء ولا ثواب إنْ أجْرِيَ إلاّ عَلـى رَبّ العالَـمِينَ يقول: إن جزائي وثوابـي إلاّ علـى ربّ جميع ما فـي السموات, وما فـي الأرض, وما بـينهما من خـلق.

الآية : 146 - 150
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل صالـح لقومه من ثمود: أيترككم يا قوم ربكم فـي هذه الدنـيا آمنـين, لا تـخافون شيئا فِـي جَنَاتٍ وَعُيُونٍ يقول: فـي بساتـين وعيون ماء وَزُرُوعٍ ونَـخْـلٍ طَلْعُها هَضِيـمٌ يعنـي بـالطلع: الكُفُرّى.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله هَضِيـمٌ فقال بعضهم: معناه الـيانع النضيج. ذكر من قال ذلك:
20306ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله ونَـخْـلٍ طَلْعُها هَضِيـمٌ يقول: أينع وبلغ فهو هضيـم.
وقال آخرون: بل هو الـمتهشم الـمتفتت. ذكر من قال ذلك:
20307ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله ونَـخْـلٍ طَلْعُها هَضِيـمٌ قال مـحمد بن عمرو فـي حديثه تهشم هشيـما. وقال الـحارث: تهشّم تهشّما.
20308ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: سمعت عبد الكريـم يقول: سمعت مـجاهدا يقول فـي قوله ونَـخْـلٍ طَلْعُهَا هَضِيـمٌ قال: حين تطلع يقبض علـيه فـيهضمه.
قال: ابن جُرَيج. قال مـجاهد: إذا مسّ تهشّم وتفتّت, قال: هو من الرطب هضيـم تقبض علـيه فتهضمه.
وقال آخرون: هو الرطب اللـين. ذكر من قال ذلك:
20309ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرِمة قوله ونَـخْـلٍ طَلْعُها هَضِيـمٌ قال: الهضيـم: الرطب اللـين.
وقال آخرون: هو الراكب بعضه بعضا. ذكر من قال ذلك:
20310ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: طَلْعُها هَضِيـمٌ إذا كثر حمل النـخـلة فركب بعضها بعضا, حتـى نقص بعضها بعضا, فهو حينئذ هضيـم.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: الهضيـم: هو الـمتكسر من لـينه ورطوبته, وذلك من قولهم: هضم فلان حقه: إذا انتقصه وتـحيّفه, فكذلك الهضم فـي الطلع, إنـما هو التنقص منه من رطوبته ولـينه إما بـمسّ الأيدي, وإما بركوب بعضه بعضا, وأصله مفعول صرف إلـى فعيـل.
وقوله: وَتَنْـحِتُونَ مِنَ الـجِبـالِ بُـيُوتا فَرِهِينَ يقول تعالـى ذكره: وتتـخذون من الـجبـال بـيوتا. فـاختلفت القرّاء فـي قراءة قوله فـارِهِينَ فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: فـارِهِينَ بـمعنى: حاذقـين بنـحتها. وقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: «فَرِهِينَ» بغير ألف, بـمعنى: أشرين بطرين.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك علـى نـحو اختلاف القرّاء فـي قراءته, فقال بعضهم: معنى فـارهين: حاذقـين. ذكر من قال ذلك:
20311ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثام, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح وعبد الله بن شدّاد وتَنْـحِتُونَ مِنَ الـجِبـالِ بُـيُوتا فـارِهِينَ قال أحدهما: حاذقـين, وقال الاَخر: يتـجبرون.
حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا مروان, قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالدف, عن أبـي صالـح وَتَنْـحِتُونَ مِنَ الـجِبـالِ بُـيُوتا فـارِهِينَ قال: حاذقـين بنـحتها.
20312ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فـارِهِينَ يقول: حاذقـين.
وقال آخرون: معنى فـارهين: مستفرهين متـجبرين. ذكر من قال ذلك:
20313ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن السديّ, عن عبد الله بن شدّاد فـي قوله «فَرِهِينَ» قال: يتـجبرون.
قال أبو جعفر: والصواب: فـارهين.
وقال آخرون مـمن قرأه فـارهين: معنى ذلك: كَيّسين. ذكر من قال ذلك:
20314ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فـاِرِهِينَ قال: كيسين.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبـيد, عن الضحاك أنه قرأ فـارهِينَ قال: كيسين.
وقال آخرون: فرهين: أشرين. ذكر من قال ذلك:
20315ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَتَنْـحِتُونَ مِنَ الـجِبـالِ بُـيُوتا فـارِهِينَ يقول: أشرين, ويقال: كيسين.
20316ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: «بُـيُوتا فَرِهِينَ» قال: شرهين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, بـمثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: أقوياء. ذكر من قال ذلك:
20317ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: «وَتَنْـحِتُونَ مِنَ الـجِبـالِ بُـيُوتا فَرِهِينَ» قال: الفَرِه: القويّ. وقال آخرون فـي ذلك بـما:
20318ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة, فـي قوله «فَرِهِينَ» قال: معجبـين بصنـيعكم.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأها فـارِهِينَ وقراءة من قرأ «فَرِهِينَ» قراءتان معروفتان, مستفـيضة القراءة بكل واحدة منهما فـي علـماء القرّاء, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. ومعنى قراءة من قرأ فـارِهِينَ: حاذقـين بنـحتها, متـخبرين لـمواضع نـحتها, كيسين, من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ «فَرِهِينَ»: مَرِحين أشرين. وقد يجوز أن يكون معنى فَـارِه وفَرِه واحدا, فـيكون فـاره مبنـيا علـى بنائه, وأصله من فعل يفعل, ويكون فره صفة, كما يقال: فلان حاذق بهذا الأمر وحَذِق. ومن الفـاره بـمعنى الـمرح قول الشاعر عديّ بن وادع العوفـي من الأزد:
لا أسْتَكِينُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْوَ لَنْ تَرَانِـي بِخَيْرٍ فـارِهَ الطّلَبِ
أي مرح الطلب. وقوله: فـاتّقُوا اللّهَ وأطِيعُونِ يقول تعالـى ذكره: فـاتقوا عقاب الله أيها القوم علـى معصيتكم ربكم, وخلافكم أمره, وأطيعونِ فـي نصيحتـي لكم, وإنذاري إياكم عقاب الله ترشدوا.

الآية : 151 - 153
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تُطِيعُوَاْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحّرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل صالـح لقومه من ثمود: لا تطيعوا أيها القوم أمر الـمسرفـين علـى أنفسهم فـي تـماديهم فـي معصية الله, واجترائهم علـى سخطه, وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون فـي الأرض, ولا يصلـحون من ثمود الذين وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: وكانَ فِـي الـمَدينَةِ تَسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ وَلا يُصْلِـحُونَ يقول: الذين يسعون فـي أرض الله بـمعاصيه, ولا يصلـحون, يقول: ولا يصلـحون أنفسهم بـالعمل بطاعة الله.
وقوله: إنّـمَا أنْتَ منَ الـمُسَحّرِينَ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه إنـما أنت من الـمسحورين. ذكر من قال ذلك:
20319ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد إنّـمَا أنْتَ مِنَ الـمُسَحّرِينَ قال: من الـمسحورين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
20320ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله إنّـمَا أنْتَ مِنَ الـمُسَحّرِينَ قال: إنـما أنت من الـمسحورين.
وقال آخرون: معناه: من الـمخـلوقـين. ذكر من قال ذلك:
20321ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد, قال: حدثنا موسى بن عمرو, عن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, فـي قوله إنّـمَا أنْتَ مِنَ الـمُسَحّرِينَ قال: من الـمخـلوقـين.
واختلف أهل الـمعرفة بكلام العرب فـي معنى ذلك, فكان بعض أهل البصرة يقول: كلّ من أكل من إنس أو دابة فهو مسحّر, وذلك لأن له سَحْرا يَقْرِي ما أكل فـيه, واستشهد علـى ذلك بقول لَبـيد:
فإنْ تَسْأَلَـينا فِـيـمَ نَـحْنُ فإنّناعَصَافِـيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ الـمُسَحّرِ
وقال بعض نـحويّـي الكوفـيـين نـحو هذا, غير أنه قال: أخذ من قولك: انتفخ سَحْرُك: أي أنك تأكل الطعام والشراب, فتُسَحّر به وتُعَلّل. وقال: معنى قول لبـيد: «من هذا الأنام الـمسحرّ»: من هذا الأنام الـمعّلل الـمخدوع. قال: ويُروى أن السّحْر من ذلك, لأنه كالـخديعة.
والصواب من القول فـي ذلك عندي: القول الذي ذكرته عن ابن عبـاس, أن معناه: إنـما أنت من الـمخـلوقـين الذين يُعْلّلون بـالطعام والشراب مثلنا, ولـيست ربـا ولا ملكا فنطيعَك, ونعلـم أنك صادق فـيـما تقول. والـمسحّر: الـمفعل من السحرة, وهو الذي له سحرة.

الآية : 154- 156
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَآ أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * قَالَ هَـَذِهِ نَاقَةٌ لّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مّعْلُومٍ * وَلاَ تَمَسّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل ثمود لنبـيها صالـح: ما أنْتَ يا صالـح إلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا من بنـي آدم, تأكل ما نأكل, وتشرب ما نشرب, ولست بربّ ولا ملك, فعلام نتبعك؟ فإن كنت صادقا فـي قـيـلك, وأن الله أرسلك إلـينا فَأْتِ بِآيَةً يعنـي: بدلالة وحجة علـى أنك مـحقّ فـيـما تقول, إن كنت مـمن صَدَقَنا فـي دعواه أن الله أرسله إلـينا. وقد:
20322ـ حدثنـي أحمد بن عمرو البصري, قال: حدثنا عمرو بن عاصم الكلابـيّ, قال: حدثنا داود بن أبـي الفرات, قال: حدثنا عِلبـاء بن أحمر, عن عكرِمة, عن ابن عبـاس, أن صالـحا النبـيّ صلى الله عليه وسلم بعثه الله إلـى قومه, فآمنوا به واتبعوه, فمات صالـح, فرجعوا عن الإسلام, فأتاهم صالـح, فقال لهم: أنا صالـح, قالوا: إن كنت صادقا فأتنا بآية, فأتاهم بـالناقة, فكذّبوه وعقروها, فعذّبهم الله.
وقوله: قالَ هَذِهِ ناقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْم مَعْلُومٍ يقول تعالـى ذكره: قال صالـح لثمود لـما سألوه آية يعلـمون بها صدقه, فأتاهم بناقة أخرجها من صخرة أو هضبة: هذه ناقة يا قوم, لها شرب ولكم مثله شرب يوم آخر معلوم, ما لكم من الشرب, لـيس لكم فـي يوم وردها أن تشربوا من شربها شيئا, ولا لها أن تشرب فـي يومكم شيئا. ويعنـي بـالشرب: الـحظّ والنصيب من الـماء, يقول: لها حظّ من الـماء, ولكم مثله, والشّرْب والشّرْب والشّرْب مصادر كلها بـالضم والفتـح والكسر. وقد حُكي عن العرب سماعا: آخرها أقلها شُرْبـا وشِربـا.)
وقوله: وَلا تَـمَسّوها بِسُوءٍ يقول: لا تـمسوها بـما يؤذيها من عقر وقتل ونـحو ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20323ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, فـي قوله: وَلا تَـمَسّوها بِسُوءٍ لا تعقروها. وقوله: فَـيأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيـمٍ يقول: فـيحلّ بكم من الله عذاب يوم عظيـم عذابه.

الآية : 157 - 159
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ }.
يقول تعالـى ذكره, فخالفت ثمود أمر نبـيها صالـح صلى الله عليه وسلم, فعقروا الناقة التـي قال لهم صالـح: لا تـمسوها بسوء, فأصبحوا نادمين علـى عقرها, فلـم ينفعهم ندمهم, وأخذهم عذاب الله الذي كان صالـح توعدهم به فأهلكهم إنّ فِـي ذلكَ لاَيَةً يقول: إنّ فـي إهلاك ثمود بـما فعلت من عقرها ناقة الله وخلافها أمر نبـيّ الله صالـح لعبرة لـمن اعتبر به يا مـحمد من قومك وَما كانَ أكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِـينَ يقول: ولن يؤمن أكثرهم فـي سابق علـم الله وَإنّ رَبّكَ يا مـحمد لَهُوَ العَزِيزُ فـي انتقامه من أعدائه الرّحِيـمُ بـمن آمن به من خـلقه