تفسير الطبري تفسير الصفحة 375 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 375
376
374
 الآية : 182-187
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ }
يعنـي بقول وزِنُوا بـالقِسْطاسِ وزنوا بـالـميزان الـمُسْتقِـيـمِ الذي لا بخس فـيه علـى من وزنتـم له وَلا تَبْخَسوا النّاسَ أشْياءَهُمْ يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم فـي الكيـل والوزن وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسدِينَ يقول: ولا تكثروا فـي الأرض الفساد. وقد بـيّنا ذلك كله بشواهده, واختلاف أهل التأويـل فـيه فـيـما مضى, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّقُواْ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلّةَ الأوّلِينَ * قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحّرِينَ * وَمَآ أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نّظُنّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَاتّقُوا أيها القوم عقاب ربكم الّذِي خَـلَقَكُمْ, وَ خـلق الـجبِلّةَ الأوّلِـينَ يعنـي بـالـجبِلّة: الـخـلق الأوّلـين. وفـي الـجبلة للعرب لغتان: كسر الـجيـم والبـاء وتشديد اللام, وضم الـجيـم والبـاء وتشديد اللام فإذا نُزعت الهاء من آخرها كان الضمّ فـي الـجيـم والبـاء أكثر كما قال جلّ ثناؤه: وَلَقَدْ أضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِـيرا وربـما سكنوا البـاء من الـجِبْل, كما قال أبو ذُؤيب:
مَنايا يُقَرّبْنَ الـحُتُوفَ لأَهْلِها جِهارا ويَسْتَـمْتِعْنَ بـالأنَسِ الـجِبْلِ
وبنـحو ما قلنا فـي معنى الـجبِلّة قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20329ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: قوله وَاتّقُوا الّذِي خَـلَقَكُمْ والـجِبِلّةَ الأوّلِـينَ يقول: خـلق الأوّلـين.
20330ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: والـجِبِلّةَ الأوّلِـينَ قال: الـخـلـيقة.
20331ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله والـجِبِلّةَ الأوّلِـينَ قال: الـخـلق الأوّلـين, الـجبلة: الـخـلق.
وقوله: قالُوا إنّـمَا أنْتَ مِنَ الـمُسَحّرِينَ يقول: قالوا: إنـما أنت يا شعيب معلّلٌ تعلّلُ بـالطعام والشراب, كما نعلّل بهما, ولست مَلَكا وَما أنْتَ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تأكل وتشرب وَإنْ نَظُنّكَ لَـمِنَ الكاذِبِـينَ. يقول: وما نـحسبك فـيـما تـخبرنا وتدعونا إلـيه, إلا مـمن يكذِب فـيـما يقول, فإن كنت صادقا فـيـما تقول بأنك رسول الله كما تزعم فَأسْقِطْ عَلَـيْنا كِسَفـا مِنَ السّماءِ يعنـي قِطعا من السماء, وهي جمع كِسْفة, جُمع كذلك كما تـجمع تـمرة: تـمرا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20332ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: كِسَفـا يقول: قِطعا.
20333ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله كِسَفـا مِنَ السّماءِ: جانبـا من السماء.
20334ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله فَأسْقِطْ عَلَـيْنا كِسَفـا مِنَ السّماءِ قال: ناحية من السماء, عذاب ذلك الكسف.

الآية : 188-189
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ إِنّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
يقول تعالـى ذكره: قال شُعيب لقومه: رَبّـي أعْلَـمُ بِـمَا تَعْمَلُونَ يقول: بأعمالهم هو بها مـحيط, لا يخفـى علـيه منها شيء, وهو مـجازيكم بها جزاءكم فَكَذّبُوهُ يقول: فكذّبه قومه فأخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ يعنـي بـالظلة: سحابة ظللتهم, فلـما تتامّوا تـحتها التهبت علـيهم نارا, وأحرقتهم, وبذلك جاءت الاَثار. ذكر من قال ذلك:
20335ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن زيد بن معاوية, فـي قوله: فَأخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُلّةِ قال: أصابهم حرّ أقلقهم فـي بـيوتهم, فنشأت لهم سحابة كهيئة الظلة, فـابتدروها, فلـما تتاموا تـحتها أخذتهم الرجفة.
20336ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, فـي قوله: عَذَابُ يَوْمِ الظُلّةِ قال: كانوا يحفرون الأسراب لـيتبرّدوا فـيها, فإذا دخـلوها وجدوها أشدّ حرّا من الظاهر, وكانت الظلة سحابة.
20337ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي جرير بن حازم أنه سمع قَتادة يقول: بعث شُعيب إلـى أمتـين: إلـى قومه أهل مدين, وألـى أصحاب الأيكة. وكانت الأيكة من شجر ملتفّ فلـما أراد الله أن يعذّبهم, بعث الله علـيهم حرّا شديدا, ورفع لهم العذاب كأنه سحابة فلـما دنت منهم خرجوا إلـيها رجاء بردها, فلـما كانوا تـحتها مطرت علـيهم نارا. قال: فذلك قوله: فَأخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظّلّةِ.
20338ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: ثنـي سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد, قال: حدثنا حاتـم بن أبـي صغيرة, قال: ثنـي يزيد البـاهلـي, قال: سألت عبد الله بن عبـاس, عن هذه الاَية فَأخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ إنّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيـمٍ فقال عبد الله بن عبـاس: بعث الله علـيهم وَمَدَةً وحرّا شديدا, فأخذ بأنفـاسهم, فدخـلوا البـيوت, فدخـل علـيهم أجواف البـيوت, فأخذ بأنفـاسهم, فخرجوا من البـيوت هرابـا إلـى البرية, فبعث الله علـيهم سحابة, فأظلتهم من الشمس, فوجدوا لها بردا ولذّة, فنادى بعضهم بعضا, حتـى إذا اجتـمعوا تـحتها, أرسلها الله علـيهم نارا. قال عبد الله بن عبـاس: فذلك عذاب يوم الظلة, إنه كان عذاب يوم عظيـم.
20339ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله «يَوْمِ الظّلّةِ» قال: إظلال العذاب إياهم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد عَذَابُ يَوْمِ الظلّةِ قال: أظلّ العذابُ قوم شُعيب.
قال ابن جُرَيج: لـما أنزل الله علـيهم أوّل العذاب, أخذهم منه حرّ شديد, فرفع الله لهم غمامة, فخرج إلـيها طائفة منهم لـيستظلوا بها, فأصابهم منها رَوْحٌ وبرد وريح طيبة, فصبّ الله علـيهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابـا, فذلك قوله: عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ.
20340ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر بن راشد, قال: ثنـي رجل من أصحابنا, عن بعض العلـماء قال: كانوا عطّلوا حدّا, فوسع الله علـيهم فـي الرزق, ثم عطلوا حدّا, فوسع الله علـيهم فـي الرزق, ثم عطلوا حدّا, فوسع الله علـيهم فـي الرزق, فجعلوا كلـما عطلوا حدّا وسع الله علـيهم فـي الرزق, حتـى إذا أراد إهلاكهم سلّط الله علـيهم حرّا لا يستطيعون أن يتقارّوا, ولا ينفعهم ظلّ ولا ماء, حتـى ذهب ذاهب منهم, فـاستظلّ تـحت ظُلة, فوجد رَوْحا, فنادى أصحابه: هلـموا إلـى الرّوْح, فذهبوا إلـيه سراعا, حتـى إذا اجتـمعوا ألهبها الله علـيهم نارا, فذلك عذاب يوم الظلة.
20341ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن ابن عبـاس, قال: من حدثك من العلـماء ما عذاب يوم الظلة؟ فكذّبه.
20342ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَأخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ قوم شعيب, حبس الله عنهم الظلّ والريح, فأصابهم حرّ شديد, ثم بعث الله لهم سحابة فـيها العذاب, فلـما رأوا السحابة انطلقوا يؤمونها, زعموا يستظلون, فـاضطرمت علـيهم نارا فأهلكتهم.
20343ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَأخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ, إنّهُ كانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيـمٍ قال: بعث الله إلـيهم ظُلّة من سحاب, وبعث إلـى الشمس فأحرقت ما علـى وجه الأرض, فخرجوا كلهم إلـى تلك الظّلة, حتـى إذا اجتـمعوا كلهم, كشف الله عنهم الظلة, وأحمى علـيهم الشمس, فـاحترقوا كما يحترق الـجراد فـي الـمِقلَـى. وقوله: إنّهُ كانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيـمٍ يقول تعالـى ذكره: إن عذاب يوم الظلة كان عذاب يوم لقوم شُعيب عظيـم.

الآية : 190-191
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ }.
يقول تعالـى ذكره: إن فـي تعذيبنا قوم شُعيب عذاب يوم الظلة, بتكذيبهم نبـيهم شُعيبـا, لاَيةً لقومك يا مـحمد, وعبرةً لـمن اعتبر, إن اعتبروا أن سنتنا فـيهم بتكذيبهم إياك, سنتنا فـي أصحاب الأيكة وَما كانَ أكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِـينَ فـي سابق علـمنا فـيهم وَإنّ رَبّكَ يا مـحمد لَهُوَ العَزِيزُ فـي نقمته مـمن انتقم منه من أعدائه الرّحِيـمُ بـمن تاب من خـلقه, وأناب إلـى طاعته.

الآية : 192-195
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ * عَلَىَ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مّبِينٍ }.
يقول تعالـى ذكره: وإنّ هذا القرآن لتَنْزِيـلُ رَبّ العَالَـمينَ والهاء فـي قوله وَإنّهُ كناية الذكر الذي فـي قوله: وَما يَأْتِـيهِمْ منْ ذِكْرٍ منَ الرّحْمَنِ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20344ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله لتَنْزِيـلُ رَبّ العالَـمِينَ قال: هذا القرآن.
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأَمِينُ فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والبصرة نَزَلَ بهِ مخففة الرّوحُ الأَمِينُ رفعا بـمعنى: أن الروح الأمين هو الذي نزل بـالقرآن علـى مـحمد, وهو جبريـل. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة نَزّلَ مشددة الزاي الرّوحَ الأَمِينَ نصبـا, بـمعنى: أن ربّ العالـمين نزّل بـالقرآن الروح الأمين, وهو جبريـل علـيه السلام.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرّاء الأمصار, متقاربتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, وذلك أن الروح الأمين إذا نزل علـى مـحمد بـالقرآن, لـم ينزل به إلا بأمر الله إياه بـالنزول, ولن يجهل أن ذلك كذلك ذو إيـمان بـالله, وأن الله إذا أنزله به نزل. وبنـحو الذي قلنا فـي أن الـمعنـيّ بـالروح الأمين فـي هذا الـموضع جبريـل قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20345ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأَمِينُ قال: جبريـل.
20346ـ حدثنا الـحسين, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قول الله نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ قال: جبريـل.
20347ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج قال الرّوحُ الأمِينُ جبريـل.
20348ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله الرُوحُ الأَمِينُ قال: جبريـل.
وقوله عَلـى قَلْبِكَ يقول: نزل به الروح الأمين فتلاه علـيك يا مـحمد, حتـى وعيته بقلبك. وقوله: لِتَكُونَ مِنَ الـمُنْذِرِينَ يقول: لتكون من رسل الله الذين كانوا ينذرون من أُرسلوا إلـيه من قومهم, فتنذر بهذا التنزيـل قومك الـمكذّبـين بآيات الله. وقوله: بِلِسانٍ عَرَبِـيّ مُبِـينٍ يقول: لتنذر قومك بلسان عربـيّ مبـين, يبـين لـمن سمعه أنه عربـيّ, وبلسان العرب نزل, والبـاء من قول بِلِسانٍ من صلة قوله: نَزَلَ, وإنـما ذكر تعالـى ذكره أنه نزل هذا القرآن بلسان عربـيّ مبـين فـي هذا الـموضع, إعلاما منه مشركي قريش أنه أنزله كذلك, لئلا يقولوا إنه نزل بغير لساننا, فنـحن إنـما نعرض عنه ولا نسمعه, لأنا لا نفهمه, وإنـما هذا تقريع لهم, وذلك أنه تعالـى ذكره قال: ما يَأْتِـيهُمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرّحْمَن مُـحْدَثٍ إلاّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ثم قال: لـم يعرضوا عنه لأنهم لا يفهمون معانـيه, بل يفهمونها, لأنه تنزيـل ربّ العالـمين نزل به الروح الأمين بلسانهم العربـيّ, ولكنهم أعرضوا عنه تكذيبـا به واستكبـارا فَقَدْ كَذّبُوا فَسَيأتـيهمْ أنْبـاءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئونَ كما أتـى هذه الأمـم التـي قصصنا نبأها فـي هذه السورة حين كذّبت رسلها أنبـاء ما كانوا به يُكذبون.

الآية : 196-201
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّهُ لَفِي زُبُرِ الأوّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزّلْنَاهُ عَلَىَ بَعْضِ الأعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ }.
يقول تعالـى ذكره: وإن هذا القرآن لفـي زبر الأوّلـين: يعنـي فـي كتب الأوّلـين, وخُرّج مَخْرَج العموم ومعناه الـخصوص, وإنـما هو: وإن هذا القرآن لفـي بعض زبر الأوّلـين يعنـي: أن ذكره وخبره فـي بعض ما نزل من الكتب علـى بعض رسله. وقوله: أوَ لـمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أنْ يَعْلَـمَهُ عُلَـماءُ بَنِـي إسْرائِيـلَ يقول تعالـى ذكره: أو لـم يكن لهؤلاء الـمعرضين عما يأتـيك يا مـحمد من ذكر ربك, دِلالةٌ علـى أنك رسول ربّ العالـمين, أن يعلـم حقـيقة ذلك وصحته علـماء بنـي إسرائيـل. وقـيـل: عنـي بعلـماء بنـي إسرائيـل فـي هذا الـموضع: عبد الله بن سلام ومن أشبهه مـمن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بنـي إسرائيـل فـي عصره. ذكر من قال ذلك:
20349ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: أوَ لـمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أنْ يَعْلَـمَهُ عُلَـماءُ بَنِـي إسْرائِيـلَ قال: كان عبد الله بن سلام من علـماء بنـي إسرائيـل, وكان من خيارهم, فآمن بكتاب مـحمد صلى الله عليه وسلم, فقال لهم الله: أو لـم يكن لهم آية أن يعلـمه علـماء بنـي إسرائيـل وخيارهم.
20350ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله عُلَـماءُ بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: عبد الله بن سلام وغيره من علـمائهم.
20351ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج أوَ لَـمْ يَكُنْ لَهَمْ آيَةً قال مـحمد: أنْ يَعْلَـمَهُ قال: يعرفه عُلَـماءُ بَنِـي إسْرَائِيـلَ.
قال ابن جُرَيج, قال مـجاهد: علـماء بنـي إسرائيـل: عبد الله بن سلام, وغيره من علـمائهم.
20351حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: أوَ لـمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أنْ يَعْلَـمَهُ عُلَـماءُ بَنِـي إسْرائِيـلَ قال: أو لـم يكن للنبـيّ آية, علامة أن علـماء بنـي إسرائيـل كانوا يعلـمون أنهم كانوا يجدون مكتوبـا عندهم, وقوله: وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلـى بَعْضِ الأعْجَمِينَ يقول تعالـى ذكره: ولو نزّلنا هذا القرآن علـى بعض البهائم التـي لا تنطق, وإنـما قـيـل علـى بعض الأعجميـين, ولـم يقل علـى بعض الأعجمين, لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بـالعُجمة وأنه لا يفصح بـالعربـية: هذا رجل أعْجم, وللـمرأة: هذه امرأة عَجْماء, وللـجماعة: هؤلاء قوم عُجْم وأعجمون, وإذا أريد هذا الـمعنى وصف به العربـيّ والأعْجَميّ, لأنه إنـما يعنـي أنه غير فصيح اللسان, وقد يكون كذلك, وهو من العرب ومن هذا الـمعنى قول الشاعر:
مِنْ وَائِلٍ لا حَيّ يَعْدِلُهُمْمِنْ سُوقَةٍ عَرَبٌ وَلا عُجْمُ
فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلـى أصله من العجم, لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان, فإنه يقال: هذا رجل عجميّ, وهذان رجلان عجميان, وهؤلاء قوم عَجَم, كما يقال: عربـيّ, وعربـيان, وقوم عرب. وإذا قـيـل: هذا رجل أعجميّ, فإنـما نسب إلـى نفسه كما يقال للأحمر: هذا أحمري ضخم, وكما قال العجاج:
والدّهْرَ بـالإِنْسانِ دَوّارِيّ ومعناه: دوّار, فنسبه إلـى فعل نفسه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20352ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن مـحمد بن أبـي موسى, قال: كنت واقـفـا إلـى جنب عبد الله بن مطيع بعرفة, فتلا هذه الاَية: وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلـى بَعْضِ الأعجْمَينَ. فقَرأهُ عَلَـيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِـينَ قال: لو نزل علـى بعيري هذا فتكلـم به ما آمنوا به لقَالُوا: لَوْلاَ فُصّلَتْ آيَاتُهُ حتـى يفقهه عربـيّ وعجميّ, لو فعلنا ذلك.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت داود بن أبـي هند, عن مـحمد بن أبـي موسى, قال: كان عبد الله بن مطيع واقـفـا بعرفة, فقرأ هذه الاَية وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلـى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فقرأه علـيهم, قال: فقال: جملـي هذا أعجم, فلو أُنزل علـى هذا ما كانوا به مؤمنـين. ورُوي عن قِتادة فـي ذلك ما.
20353ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلـى بَعْضِ الأعْجَمِينَ قال: لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به, لأنهم لا يعرفون بـالعجمية.
وهذا الذي ذكرناه عن قتادة قول لا وجه له, لأنه وجّه الكلام أن معناه: ولو أنزلناه أعجميا, وإنـما التنزيـل وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلـى بَعْضِ الأعْجَمينَ يعنـي: ولو نزّلنا هذا القرآن العربـيّ علـي بهيـمة من العجم أو بعض ما لا يفصح, ولـم يقل: ولو نزّلناه أعجميا. فـيكون تأويـل الكلام ما قاله.
وقوله فَقَرأهُ عَلَـيْهِمْ يقول: فقرأ هذا القرآن علـى كفـار قومك يا مـحمد حتـمت علـيهم أن لا يؤمنوا ذلك الأعجم ما كانوا به مؤمنـين. يقول: لـم يكونوا لـيؤمنوا به, لـما قد جرى لهم فـي سابق علـمي من الشقاء, وهذا تسلـية من الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه, لئلا يشتدّ وجده بإدبـارهم عنه, وإعراضهم عن الاستـماع لهذا القرآن, لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه علـى قبولهم منه, والدخول فـيـما دعاهم إلـيه, حتـى عاتبه ربه علـى شدّة حرصه علـى ذلك منهم, فقال له: لَعَلّكَ بـاخِعٌ نَفْسَكَ أنْ لا يَكُونُوا مُؤْمِنِـينَ ثم قال مؤْيِسَه من إيـمانهم وأنهم هالكون ببعض مثلاته, كما هلك بعض الأمـم الذين قصّ علـيهم قصصهم فـي هذه السورة. ولو نزّلناه علـى بعض الأعجمين يا مـحمد لا علـيك, فإنك رجل منهم, ويقولون لك: ما أنت إلا بشر مثلنا, وهلا نزل به مَلَك, فقرأ ذلك الأعجم علـيهم هذا القرآن, ولـم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حقّ, وأنه تنزيـل من عندي, ما كانوا به مصدّقـين, فخفض من حرصك علـى إيـمانهم به, ثم وكد تعالـى ذكره الـخبر عما قد حتـم علـى هؤلاء الـمشركين, الذين آيس نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم من إيـمانهم من الشقاء والبلاء, فقال: كما حتـمنا علـى هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلـى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فقرأه علـيهم كَذَلِكَ نَسْلُكهُ التكذيب والكفر فِـي قُلُوبِ الـمـجرِمِينَ. ويعنـي بقوله: سلكنا: أدخـلنا, والهاء فـي قوله سَلَكْناهُ كناية من ذكر قوله ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِـينَ, كأنه قال: كذلك أدخـلنا فـي قلوب الـمـجرمين ترك الإيـمان بهذا القرآن. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20354ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: كذَلكَ سَلَكْناهُ قال: الكفر فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ.
20355ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله كَذلكَ سَلَكْناهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حتـى يَرَوا العَذَابَ الأَلِـيـمَ.
20356ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا زيد بن أبـي الزرقاء, عن سفـيان, عن حميد, عن الـحسن, فـي هذه الاَية كَذلكَ سَلَكْناهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ قال: خـلقناه.
20357ـ قال: ثنا زيد, عن حماد بن سلـمة, عن حميد, قال: سألت الـحسن فـي بـيت أبـي خـلـيفة, عن قوله كذلكَ سَلَكْناهُ فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ قال: الشرك سلكه فـي قلوبهم, وقوله: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حتـى يَرَوا العَذَابَ الأَلِـيـمَ يقول: فعلنا ذلك بهم لئلا يصدّقوا بهذا القرآن, حتـى يروا العذاب الألـيـم فـي عاجل الدنـيا, كما رأت ذلك الأمـم الذين قصّ الله قصصهم فـي هذه السورة. ورفع قوله لا يُؤْمِنُونَ لأن العرب من شأنها إذا وضعت فـي موضع مثل هذا الـموضع «لا» ربـما جزمت ما بعدها, وربـما رفعت فتقول: ربطت الفرس لا تنفلتْ, وأحكمت العقد لا ينـحلّ, جزما ورفعا. وإنـما تفعل ذلك لأن تأويـل ذلك: إن لـم أحكم العقد انـحلّ, فجزمه علـى التأويـل, ورفعه بأن الـجازم غير ظاهر. ومن الشاهد علـى الـجزم فـي ذلك قول الشاعر:
لَوْ كُنْتَ إذْ جِئْتَنا حاوَلْتَ رُؤْيَتَنا أوْ جِئْتَنا ماشِيا لا يَعْرِفِ الفَرَس
وقول الاَخر:
لَطالَـمَا حّلأْتـمَاها لا تَرِدْ فَخَـلّـياها وَالسّجالَ تَبْبَترِدْ

الآية : 202-204
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: فـيأتـي هؤلاء الـمكذّبـين بهذا القرآن, العذاب الألـيـم بغتة, يعنـي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول: لا يعلـمون قبل ذلك بـمـجيئه حتـى يفجأهم بغتة فَـيَقُولُوا حين يأتـيهم بغتة هَلْ نَـحْنُ مُنْظَرُونَ: أي هل نـحن مؤخّر عنا العذاب, ومُنْسأ فـي آجالنا لنثوب, وننـيب إلـى الله من شركنا وكفرنا بـالله, فنراجع الإيـمان به, وننـيب إلـى طاعته. وقوله: أفَبِعَذَابِنا يَسْتَعْجِلُونَ يقول تعالـى ذكره: أفبعذابنا هؤلاء الـمشركون يستعجلون بقولهم: لن نؤمن لك حتـى تُسقط السماء كما زعمت علـينا كِسَفـا.

الآية : 205-207
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مّتّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمّ جَآءَهُم مّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ثم جاءهم العذاب الذي كانوا يوعدون علـى كفرهم بآياتنا, وتكذيبهم رسولنا, ما أغْنَى عَنْهُمْ يقول: أيّ شيء أغنى عنهم التأخير الذي أخّرنا فـي آجالهم, والـمتاع الذي متعناهم به من الـحياة, إذ لـم يتوبوا من شركهم, هل زادهم تـمتـيعنا إياهم ذلك إلا خبـالاً, وهل نفعهم شيئا, بل ضرّهم بـازديادهم من الاَثام, واكتسابهم من الإجرام ما لو لـم يـمتعوا لـم يكتسبوه.
20358ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله أفَرأيْتَ إنْ مَتّعْناهُمْ سِنـينَ إلـى قوله ما أغْنَى عَنْهُمْ ما كانُوا يُـمَتّعُونَ قال: هؤلاء أهل الكفر