تفسير الطبري تفسير الصفحة 423 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 423
424
422
 الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً }.
يقول تعالـى ذكره: لـم يكن لـمؤمن بـالله ورسوله, ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله فـي أنفسهم قضاء أن يتـخيروا من أمرهم غير الذي قضى فـيهم, ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فـيعصوهما, ومن يعص الله ورسوله فـيـما أَمَرا أو نَهَيا فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً مُبِـينا يقول: فقد جار عن قصد السبـيـل, وسلك غير سبـيـل الهدى والرشاد.
وذُكر أن هذه الاَية نزلت فـي زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى فتاه زيد بن حارثة, فـامتنعت من إنكاحه نفسها. ذكر من قال ذلك:
21740ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَما كانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْرا.... إلـى آخر الاَية, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يخطب علـى فتاه زيد بن حارثة, فدخـل علـى زينب بنت جحش الأسدية فخطبها, فقالت: لست بناكحته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فـانكحيه», فقلت: يا رسول الله أؤامَر فـي نفسي فبـينـما هما يتـحدّثان أنزل الله هذه الاَية علـى رسوله: وَما كانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ... إلـى قوله: ضَلالاً مُبِـينا قالت: قد رضيته لـي يا رسول الله مَنْكَحا؟ قال: «نَعم», قالت: إذن لا أعصى رسول الله, قد أنكحته نفسي.
21741ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: أنْ تَكُونَ لَهُمُ الـخِيرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ قال: زينب بنت جحش وكراهتها نكاح زيد بن حارثة حين أمرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
21742ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَما كانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْرا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الـخِيرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ قال: نزلت هذه الاَية فـي زينب بنت جحش, وكانت بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضيت, ورأت أنه يخطبها علـى نفسه فلـما علـمت أنه يخطبها علـى زيد بن حارثة أبت وأنكرت, فأنزل الله: وَما كانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْرا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الـخِيرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ قال: فتابعته بعد ذلك ورضيت.
21743ـ حدثنـي أبو عبـيد الوصافـي, قال: حدثنا مـحمد بن حمير, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن ابن أبـي عمرة, عن عكرمة عن ابن عبـاس, قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة, فـاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حَسَبـا, وكانت امرأة فـيها حدّة, فأنزل الله: وَما كانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْرا... الاَية كلها.
وقـيـل: نزلت فـي أمّ كلثوم بنت عُقْبة بن أبـي مُعَيط, وذلك أنها وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فزوّجها زيد بن حارثة. ذكر من قال ذلك:
21744ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَما كانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْرا.... إلـى آخر الاَية, قال: نزلت فـي أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبـي مُعَيط, وكانت من أوّل من هاجر من النساء, فوهبت نفسها للنبـيّ صلى الله عليه وسلم, فزوّجها زيد بن حارثة, فسخِطت هي وأخوها, وقالا: إنـما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجنا عبده قال: فنزل القرآن: وَما كانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْرا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الـخِيرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ... إلـى آخر الاَية قال: وجاء أمر أجمع من هذا: النّبِـيّ أوْلَـى بـالـمُؤْمِنِـينَ منْ أنْفُسِهمْ قال: فذاك خاصّ, وهذا إجماع.
الآية : 37
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم عتابـا من الله له وَ اذكر يا مـحمد إذْ تَقُولُ لِلّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِ بـالهِداية وأنْعَمْتَ عَلَـيْهِ بـالعِتق, يعنـي زيد بن حارثة مولـى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمْسِكْ عَلَـيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهِ, وذلك أن زينب بنت جحش فـيـما ذُكر رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته, وهي فـي حبـال مولاه, فألِقـي فـي نفس زيد كراهتها لـما علـم الله مـما وقع فـي نفس نبـيه ما وقع, فأراد فراقها, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمْسِكْ عَلَـيْكَ زَوْجَكَ وهو صلى الله عليه وسلم يحبّ أن تكون قد بـانت منه لـينكحها, وَاتّقِ اللّهَ وخَفِ الله فـي الواجب له علـيك فـي زوجتك وتُـخْفِـي فِـي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ يقول: وتـخفـي فـي نفسك مـحبة فراقه إياها لتتزوّجها إن هو فـارقها, والله مبد ما تـخفـي فـي نفسك من ذلك وتَـخْشَى النّاسَ واللّهُ أحَقّ أنْ تَـخْشاهُ يقول تعالـى ذكره: وتـخاف أن يقول الناس: أمر رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلّقها, والله أحقّ أن تـخشاه من الناس.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21745ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِ وهو زيد أنعم الله علـيه بـالإسلام, وأنعمت علـيه أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمْسِكْ عَلَـيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُـخْفِـي فِـي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ قال: وكان يخفـي فـي نفسه ودّ أنه طلقها. قال الـحسن: ما أنزلت علـيه آية كانت أشدّ علـيه منها قوله: وتُـخْفِـي فـي نفسك ما اللّهُ مُبْدِيهِ ولو كان نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كاتـما شيئا من الوحي لكتـمها وتَـخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَـخْشاهُ قال: خشِي نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس.
21746ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم قد زوّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش, ابنة عمته, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريده وعلـى البـاب ستر من شعر, فرفعت الريح الستر فـانكشف, وهي فـي حجرتها حاسرة, فوقع إعجابها فـي قلب النبـيّ صلى الله عليه وسلم فلـما وقع ذلك كرّهت إلـى الاَخر, فجاء فقال: يا رسول الله, إنـي أريد أن أفـارق صاحبتـي, قال: «ما لَكَ, أرَابَكَ مِنْها شَيْءٌ؟» قال: لا, والله ما رابنـي منها شيء يا رسول الله, ولا رأيت إلا خيرا, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمْسِكْ عَلَـيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ», فذلك قول الله تعالـى: وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَـيْهِ وأنْعَمْتَ عَلَـيْهِ أمْسِكْ عَلَـيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُـخْفِـي فِـي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ تـخفـي فـي نفسك إن فـارقها تزوّجتها.
21747ـ حدثنـي مـحمد بن موسى الـجرشي, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن ثابت, عن أبـي حمزة, قال: نزلت هذه الاَية: وتُـخْفِـي فِـي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيه فـي زينب بنت جحش.
21748ـ حدثنا خلاد بن أسلـم, قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة, عن علـيّ بن زيد بن جدعان, عن علـيّ بن حسين, قال: كان الله تبـارك وتعالـى أعلـم نبـيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه, فلـما أتاه زيد يشكوها قال: اتّقِ اللّهَ وأمْسِكْ عَلَـيْكَ زَوْجَكَ, قال الله: وتُـخْفِـي فـي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْديهِ.
21749ـ حدثنـي إسحاق بن شاهين, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن عائشة, قالت: لو كتـم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مـما أوحي إلـيه من كتاب الله لكتـم: وتُـخْفِـي فِـي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ وتَـخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَـخْشاهُ.
وقوله: فَلَـمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا زَوّجْناكَها يقول تعالـى ذكره: فلـما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته, وهي الوطر ومنه قول الشاعر:
وَدّعَنِـيِ قَبْلَ أن أُوَدّعَهُلَـمّا قَضَى منْ شَبَـابِنا وَطَرَا
زَوّجْناكَها يقول: زوّجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبـانت منه لكَيْلا يَكُونَ علـى الـمُؤْمِنِـينَ حَرَجٌ فِـي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ يعنـي: فـي نكاح نساء من تَبَنّوا ولـيسوا ببنـيهم ولا أولادهم علـى صحة إذا هم طلقوهنّ وبنّ منهم إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول: إذا قضوا منهنّ حاجاتهم, وآرابهم وفـارقوهنّ وحَلَلْن لغيرهم, ولـم يكن ذلك نزولاً منهم لهم عنهنّ وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً يقول: وكان ما قضى الله من قضاء مفعولاً: أي كائنا كان لا مـحالة. وإنـما يعنـي بذلك أن قضاء الله فـي زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ماضيا مفعولاً كائنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21750ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لِكَيْلا يَكُونَ عَلـى الـمُؤْمِنِـينَ حَرَجٌ فِـي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول: إذا طلّقوهنّ, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبَنىّ زيد بن حارثة.
21751ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَلَـمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا... إلـى قوله: وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً إذا كان ذلك منه غير نازل لك, فذلك قول الله: وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ.
21752ـ حدثنـي مـحمد بن عثمان الواسطي, قال: حدثنا جعفر بن عون, عن الـمعلـى بن عرفـان, عن مـحمد بن عبد الله بن جحش, قال: تفـاخرت عائشة وزينب, قال: فقالت زينب: أنا الذي نزل تزويجي.
21753ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبـي قال: كانت زينب زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم تقول للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: إنـي لأدلّ علـيك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهنّ. إن جدّي وجدّك واحد, وإنـي أنكحنـيك الله من السماء, وإن السفـير لـجبرائيـلُ علـيه السلام.

الآية : 38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّا كَانَ عَلَى النّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: ما كان علـى النبـيّ من حرج من إثم فـيـما أحلّ الله له من نكاح امرأة من تَبَنّاه بعد فراقه إياها, كما:
21754ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ما كانَ علـى النّبِـيّ مِنْ حَرَجٍ فِـيـما فَرَضَ للّهُ لَهُ: أي أحلّ الله له.
وقوله: سُنّةَ اللّهِ فِـي الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِ يقول: لـم يكن الله تعالـى لُـيؤْثِم نبـيه فـيـما أحلّ له مثالَ فعله بـمن قبله من الرسل الذين مضوا قبله فـي أنه لـم يؤثمهم بـما أحلّ لهم, لـم يكن لنبـيه أن يخشى الناس فـيـما أمره به أو أحله له. ونصب قوله: سُنّةَ اللّهِ علـى معنى: حقا من الله, كأنه قال: فعلنا ذلك سَنّةً منا.
وقوله: وكانَ أمْرُ اللّهِ قَدَرا مَقْدُورا يقول: وكان أمر الله قضاء مقضيا. وكان ابن زيد يقول فـي ذلك ما:
21755ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وكانَ أمْرُ اللّهِ قَدَرا مَقْدُورا إن الله كان علـمه معه قبل أن يخـلق الأشياء كلها, فأتـمه فـي علـمه أن يخـلق خـلقا, ويأمرهم وينهاهم, ويجعل ثوابـا لأهل طاعته, وعقابـا لأهل معصيته فلـما ائتـمر ذلك الأمر قدّره, فلـما قدّره كتب وغاب علـيه, فسماه الغيب وأمّ الكتاب, وخـلق الـخـلق علـى ذلك الكتاب أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم, وما يصيبهم من الأشياء من الرخاء والشدّة من الكتاب الذي كتبه أنه يصيبهم وقرأ: أُولَئِكَ يَنالَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حتّـى إذَا نَفِدَ ذَلكَ جَاءَتْهُمْ رُسُلَنا يَتَوَفّوْنَهُمْ, وأمر الله الذي ائتـمر قدره حين قدره مقدرا, فلا يكون إلا ما فـي ذلك, وما فـي ذلك الكتاب, وفـي ذلك التقدير, ائتـمر أمرا ثم قدره, ثم خـلق علـيه, فقال: كان أمر الله الذي مضى وفرغ منه, وخـلق علـيه الـخـلق قَدَرا مَقْدُورا شاء أمرا لـيـمضي به أمره وقدره, وشاء أمرا يرضاه من عبـاده فـي طاعته فلـما أن كان الذي شاء من طاعته لعبـاده رضيه لهم, ولـما أن كان الذي شاء أراد أن ينفذ فـيه أمره وتدبـيره وقدره, وقرأ: وَلَقَدْ ذَرأْنا لِـجَهَنّـمَ كَثِـيرا مِنَ الـجِنّ وَالإنْسِ فشاء أن يكون هؤلاء من أهل النار, وشاء أن تكون أعمالهم أعمال أهل النار, فقال: وكَذلكَ زَيّنا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ وقال: وكذلكَ زَيّنَ لِكَثِـيرٍ مِنَ الـمُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِـيُرْدُوهُمْ وَلِـيَـلْبِسُوا عَلَـيْهِمْ دِينَهُمْ هَذِهِ أعمالُ أهْلُ النّار وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ, قال: وكَذلكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِـيّ عَدُوّا شَياطِينَ... إلـى قوله: وَلَوْ شاءَ رَبّكَ ما فَعَلُوهُ وقرأ: وأقْسَمُوا بـاللّهِ جَهْدَ أيـمانِهِمْ... إلـى كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِـيُؤْمِنُوا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ أن يؤمنوا بذلك, قال: فأخرجوه من اسمه الذي تسمّى به, قال: هو الفعّال لـما يريد, فزعموا أنه ما أراد.
الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً }.
يقول تعالـى ذكره: سنة الله فـي الذين خـلوا من قبل مـحمد من الرسل, الذي يبلغون رسالات الله إلـى من أُرسلوا إلـيه, ويخافون الله فـي تركهم تبلـيغ ذلك إياهم, ولا يخافون أحدا إلا الله, فإنهم إياه يرهبون إن هم قصروا عن تبلـيغهم رسالة الله إلـى من أُرسلوا إلـيه. يقول لنبـيه مـحمد: فمن أولئك الرسل الذين هذه صفتهم, فكن ولا تـخش أحدا إلا الله, فإن الله يـمنعك من جميع خـلقه, ولا يـمنعك أحد من خـلقه منه, إن أراد بك سوءا. «والذين» من قوله: الّذِينَ يُبَلّغونَ رِسالاَتِ اللّهِ خفض ردّا علـى «الذين» التـي فـي قوله: سَنّةَ اللّهِ فِـي الّذِينَ خَـلَوْا. وقوله: وكَفَـى بـاللّهِ حَسِيبـا يقول تعالـى ذكره: وكفـاك يا مـحمد بـالله حافظا لأعمال خـلقه, ومـحاسبـا لهم علـيها.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـَكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً }.
يقول تعالـى ذكره: ما كان أيها الناس مـحمد أبـا زيد بن حارثة, ولا أبـا أحد من رجالكم, الذين لـم يـلده مـحمد, فـيحرم علـيه نكاح زوجته بعد فراقه إياها, ولكنه رسول الله وخاتـم النبـيـين, الذي ختـم النبوّة فطبع علـيها, فلا تفتـح لأحد بعده إلـى قـيام الساعة, وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علـم لا يخفـى علـيه شيء. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21756ـ حدثتا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ما كانَ مـحَمّدٌ أبـا أحَدٍ مِنْ رجالِكُمْ قال: نزلت فـي زيد, إنه لـم يكن بـابنه ولعمري ولقد وُلد له ذكور, إنه لأبو القاسم وإبراهيـم والطيب والـمطهر وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخاتَـمَ النّبِـيّـينَ: أي آخرهم وكانَ اللّهُ بكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـما.
21757ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا علـيّ بن قادم, قال: حدثنا سفـيان, عن نسير بن ذعلوق, عن علـيّ بن الـحسين فـي قوله: ما كانَ مُـحَمّدٌ أبـا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْقال: نزلت فـي زيد بن حارثة.
والنصب فـي رسول الله صلى الله عليه وسلم بـمعنى تكرير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, والرفع بـمعنى الاستئناف, ولكن هو رسول الله, والقراءة النصب عندنا.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَخاتَـمَ النّبِـيّـينَ فقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى الـحسن وعاصم بكسر التاء من خاتـم النبـيـين, بـمعنى أنه ختـم النبـيـين. ذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: وَلَكِن نَبِـيّا خَتـمَ النّبِـيّـينَ فذلك دلـيـل علـى صحة قراءة من قرأه بكسر التاء, بـمعنى أنه الذي ختـم الأنبـياء صلى الله عليه وسلم وعلـيهم وقرأ ذلك فـيـما يذكر الـحسن وعاصم: خاتَـمَ النّبِـيّـينَ بفتـح التاء, بـمعنى أنه آخر النبـيـين, كما قرأ: «مَخْتُومٌ خَاتـمَهُ مِسْكٌ» بـمعنى: آخره مسك من قرأ ذلك كذلك.
الآية : 41 -44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً }.
يقول تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرا كثـيرا, فلا تـخـلو أبدانكم من ذكره فـي حال من أحوال طاقتكم ذلك وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصَيلاً يقول: صلوا له غدوة صلاة الصبح, وعشيا صلاة العصر. وقوله: هُوَ الّذِي يُصَلّـي عَلَـيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ يقول تعالـى ذكره: ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثـير, وتسبحونه بُكرة وأصيلاً, إذا أنتـم فعلتـم ذلك, الذي يرحمكم, ويثنـي علـيكم هو, ويدعو لكم ملائكته. وقـيـل: إن معنى قوله: يُصَلّـي عَلَـيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ يشيع عنكم الذكر الـجميـل فـي عبـاد الله. وقوله: لِـيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظّلُـماتِ إلـى النّورِ يقول: تدعو ملائكة الله لكم, فـيخرجكم الله من الضلالة إلـى الهُدى, ومن الكفر إلـى الإسلام. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21758ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـي, عن ابن عبـاس, فـي قوله: اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْرا كَثِـيرا يقول: لا يفِرض علـى عبـاده فريضة إلا جعل لها حدّا معلوما, ثم عذر أهلها فـي حال عذر, غير الذكر, فإن الله لـم يجعل له حدّا ينتهي إلـيه ولـم يعذر أحدا فـي تركه إلا مغلوبـا علـى عقله, قال: اذْكُرُوا اللّهَ قِـياما وقُعُودا وعلـى جُنُوبكم بـاللـيـل والنهار فـي البرّ والبحر, وفـي السفر والـحضر, والغنى والفقر, والسقم والصحة, والسرّ والعلانـية, وعلـى كلّ حال, وقال: سَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلاً فإذا فعلتـم ذلك صلـى علـيكم هو وملائكته قال الله عزّ وجلّ هُوَ الّذِي يُصَلّـي عَلَـيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ.
21759ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلاً صلاة الغداة, وصلاة العصر.
وقوله: لِـيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظّلَـماتِ إلـى النّورِ: أي من الضلالات إلـى الهدى.
21760ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: هُوَ الّذِي يُصَلّـي عَلَـيْكمْ وَمَلائِكَتُهُ لِـيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظّلُـماتِ إلـى النّورِ قال: من الضلالة إلـى الهُدى, قال: والضلالة: الظلـمات, والنور: الهدى.
وقوله: وكانَ بـالـمُؤْمِنِـينَ رَحِيـما يقول تعالـى ذكره: وكان بـالـمؤمنـين به ورسوله ذا رحمة أن يعذّبهم وهم له مطيعون, ولأمره متبعون تَـحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَـلْقَوْنَهُ سَلامٌ يقول جلّ ثناؤه: تـحية هؤلاء الـمؤمنـين يوم القـيامة فـي الـجنة سلام, يقول بعضهم لبعض: أمنة لنا ولكم بدخولنا هذا الـمدخـل من الله أن يعذّبنا بـالنار أبدا, كما:
21761ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: تَـحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَـلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال: تـحية أهل الـجنة السلام.
وقوله: وأعَدّ لَهُمْ أجْرا كَرِيـما يقول: وأعدّ لهؤلاء الـمؤمنـين ثوابـا لهم علـى طاعتهم إياه فـي الدنـيا كريـما, وذلك هو الـجنة, كما:
21762ـ حدثتا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأعَدّ لَهُمْ أجْرا كَرِيـما: أي الـجنة