سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 5 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 5
006
004
الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَـَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
أما قوله تعالـى: وَبَشّرْ فإنه يعنـي: أخبرهم. والبشارة أصلها الـخبر بـما يسر الـمخبر به, إذا كان سابقا به كل مخبر سواه. وهذا أمر من الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خـلقه الذين آمنوا به وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـماء جاء به من عند ربه, وصدقوا إيـمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالـحة, فقال له: يا مـحمد بَشّرْ من صدقك أنك رسولـي وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي, وحقق تصديقه ذلك قولاً بأداء الصالـح من الأعمال التـي افترضتها علـيه وأوجبتها فـي كتابـي علـى لسانك علـيه, أن له جنات تـجري من تـحتها الأنهار خاصة, دون من كذّب بك وأنكر ما جئت به من الهدى من عندي وعاندك, ودون من أظهر تصديقك وأقرّ بأن ما جئته به فمن عندي قولاً, وجحده اعتقادا ولـم يحققه عملاً. فإن لأولئك النار التـي وقودها الناس والـحجارة معدة عندي. والـجنات جمع جنة, والـجنة: البستان. وإنـما عنى جل ذكر بذكر الـجنة ما فـي الـجنة من أشجارها وثمارها وغروسها دون أرضها, فلذلك قال عزّ ذكره: تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهَارُ لأنه معلوم أنه إنـما أرَادَ جل ثناؤه الـخبر عن ماء أنهارها أنه جار تـحت أشجارها وغروسها وثمارها, لا أنه جار تـحت أرضها لأن الـماء إذا كان جاريا تـحت الأرض, فلا حظّ فـيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بـينها وبـينه.
علـى أن الذي توصف به أنهار الـجنة أنها جارية فـي غير أخاديد. كما:
303ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفـيان, عن عمرو بن مرة, عن أبـي عبـيدة, عن مسروق, قال: نـخـل الـجنة نضيد من أصلها إلـى فرعها, وثمرها أمثال القِلال, كلـما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى, وماؤها يجري فـي غير أخدود.
وحدثنا مـجاهد, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا مسعر بن كدام, عن عمرو بن مرة, عن أبـي عبـيدة بنـحوه.
وحدثنا مـحمد بن بشار قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, قال: سمعت عمرو بن مرة يحدث عن أبـي عبـيدة, فذكر مثله. قال: فقلت لأبـي عبـيدة: من حدثك, فغضب وقال: مسروق.
فإذا كان الأمر كذلك فـي أن أنهارها جارية فـي غير أخاديد, فلا شك أن الذي أريد بـالـجنات أشجار الـجنات وغروسها وثمارها دون أرضها, إذ كانت أنهارها تـجري فوق أرضها وتـحت غروسها وأشجارها, علـى ما ذكره مسروق. وذلك أولـى بصفة الـجنة من أن تكون أنهارها جارية تـحت أرضها. وإنـما رغب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبـاده فـي الإيـمان وحضهم علـى عبـادته, بـما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيـمان به عنده, كما حذرهم فـي الآية التـي قبلها بـما أخبر من إعداده ما أعدّ لأهل الكفر به الـجاعلـين معه الاَلهة والأنداد من عقابه عن إشراك غيره معه, والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كُلـمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأتُوا بِهِ مُتَشَابِها.
قال أبو جعفر: يعنـي: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا من الـجنات, والهاء راجعة علـى «الـجنات», وإنـما الـمعنـيّ أشجارها, فكأنه قال: كلـما رزقوا من أشجار البساتـين التـي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالـحات فـي جناته من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا: هذا الذي رُزِقْنا من قبل.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ فقال بعضهم: تأويـل ذلك هذا الذي رزقنا من قبل هذا فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
304ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل قال: إنهم أتوا بـالثمرة فـي الـجنة, فلـما نظروا إلـيها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل فـي الدنـيا.
305ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل: أي فـي الدنـيا.
306ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قبْل يقولون: ما أشبهه به.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
307ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قالوا: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْل فـي الدنـيا, قال: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها يعرفونه.
قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويـل ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الـجنة من قبل هذا, لشدة مشابهة بعض ذلك فـي اللون والطعم بعضا. ومن علة قائل هذا القول إن ثمار الـجنة كلـما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله. كما:
308ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, قال: سمعت عمرو بن مرّة يحدث عن أبـي عبـيدة, قال: نـخـل الـجنة نضيد من أصلها إلـى فرعها, وثمرها مثل القلال, كلـما نزعت منها ثمرة عادة مكانها أخرى. قالوا: فإنـما اشتبهت عند أهل الـجنة, لأن التـي عادت نظيرة التـي نزعت فأكلت فـي كل معانـيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها لاشتبـاه جميعه فـي كل معانـيه.
وقال بعضهم: بل قالوا: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ لـمشابهته الذي قبله فـي اللون وإن خالفه فـي الطعم. ذكر من قال ذلك:
309ـ حدثنا القاسم بن الـحسين, قال: حدثنا الـحسين بن داود, قال: حدثنا شيخ من الـمَصّيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبـي كثـير, قال: يؤتـي أحدهم بـالصحفة فـيأكل منها, ثم يؤتـي بأخرى فـيقول: هذا الذي أُتـينا به من قبل, فـيقول الـمَلَكُ: كل فـاللون واحد والطعم مختلف.
وهذا التأويـل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفع صحته ظاهر التلاوة. والذي يدل علـى صحته ظاهر الآية ويحقق صحته قول القائلـين إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل فـي الدنـيا. وذلك أن الله جل ثناؤه قال: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا فأخبر جل ثناؤه أن من قـيـل أهل الـجنة كلـما رزقوا من ثمر الـجنة رزقا أن يقولوا: هذا الذي رُزقنا من قبل. ولـم يخصص بأن ذلك من قـيـلهم فـي بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قـيـلهم فـي كل ما رزقوا من ثمرها, فلا شك أن ذلك من قـيـلهم فـي أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الـجنة واستقرارهم فـيها, الذي لـم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أن ذلك من قـيـلهم فـي أوله, كما هو من قـيـلهم فـي وسطه وما يتلوه, فمعلوم أنه مـحال أن يكون من قـيـلهم لأوّل رزق رزقوه من ثمار الـجنة: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هذا من ثمار الـجنة. وكيف يجوز أن يقولوا لأوّل رزق رزقوه من ثمارها ولـما يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رزقناه من قبل إلا أن ينسبهم ذو غرّة وضلال إلـى قـيـل الكذب الذي قد طهرهم الله منه, أو يدفع دافع أن يكون ذلك من قـيـلهم لأول رزق رزقوه منها من ثمارها, فـيدفع صحة ما أوجب الله صحته بقوله: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا من غير نصب دلالة علـى أنه معنـيّ به حال من أحوال دون حال. فقد تبـين بـما بـينا أن معنى الآية: كلـما رزق الذين آمنوا وعملوا الصالـحات من ثمرة من ثمار الـجنة فـي الـجنة رزقا, قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هذا فـي الدنـيا.
فإن سألنا سائل فقال: وكيف قال القوم: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ والذي رُزقوه من قبل قد عدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الـجنة قولاً لا حقـيقة له؟ قـيـل: إن الأمر علـى غير ما ذهبت إلـيه فـي ذلك, وإنـما معناه: هذا من النوع الذي رزقناه من قبل هذا من الثمار والرزق, كالرجل يقول لاَخر: قد أعدّ لك فلان من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبـيخ والشواء والـحلوى, فـيقول الـمقول له ذاك: هذا طعامي فـي منزلـي. يعنـي بذلك أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعده له من الطعام هو طعامه, لأن أعيان ما أخبره صاحبه أنه قد أعدّه له هو طعامه. بل ذلك مـما لا يجوز لسامع سمعه يقول ذلك أن يتوهم أنه أراده أو قصده لأن ذلك خلاف مخرج كلام الـمتكلـم وإنـما يوجه كلام كل متكلـم إلـى الـمعروف فـي الناس من مخارجه دون الـمـجهول من معانـيه. فكذلك ذلك فـي قوله: قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ إذ كان ما كانوا رزقوه من قبل قد فنـي وعدم فمعلوم أنهم عنوا بذلك هذا من النوع الذي رزقناه من قبل, ومن جنسه فـي السّمات والألوان علـى ما قد بـينا من القول فـي ذلك فـي كتابنا هذا.
القول فـي تأول قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها.
قال أبو جعفر: والهاء فـي قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها عائدة علـى الرزق, فتأويـله: وأُتوا بـالذي رزقوا من ثمارها متشابها.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل الـمتشابه فـي ذلك, فقال بعضهم: تشابهه أن كله خيار لا رذل فـيه. ذكر من قال ذلك:
310ـ حدثنا خلاد بن أسلـم, قال: أخبرنا النضر بن شميـل, قال: أخبرنا أبو عامر عن الـحسن فـي قوله: مُتَشابِها قال: خيارا كلها لا رذل فـيها.
311ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء: قرأ الـحسن آيات من البقرة, فأتـى علـى هذه الآية: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: ألـم تروا إلـى ثمار الدنـيا كيف ترذلون بعضه؟ وإن ذلك لـيس فـيه رَذْل
312ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال الـحسن: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه بعضه بعضا لـيس فـيه من رَذْل.
313ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها أي خيارا لا رذل فـيه, وأن ثمار الدنـيا ينقـى منها ويرذل منها, وثمار الـجنة خيار كله لا يرذل منه شيء.
314ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: ثمر الدنـيا منه ما يرذل ومنه نُقاوة, وثمر الـجنة نقاوة كله يشبه بعضه بعضا فـي الطيب لـيس منه مرذول.
وقال بعضهم: تشابهه فـي اللون وهو مختلف فـي الطعم. ذكر من قال ذلك:
315ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النّبـي صلى الله عليه وسلم: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها فـي اللون والـمرأى, ولـيس يشبه الطعم.
316ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها مثل الـخيار.
وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وأتُوا بِه مُتَشابِها لونه, مختلفـا طعمه, مثل الـخيار من القثاء.
317ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر. عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها يشبه بعضه بعضا ويختلف الطعم.
318ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا الثوري, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: مُتَشابِها قال: مشتبها فـي اللون ومختلفـا فـي الطعم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج, عن مـجاهد: وأتُوا بِهِ مُتَشَابِها مثل الـخيار.
وقال بعضهم: تشابه فـي اللون والطعم. ذكر من قال ذلك:
319ـ حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد قوله: مُتَشَابِها قال: اللون والطعم.
320ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن الثوري, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد ويحيى بن سعيد: مُتَشابِها قالا: فـي اللون والطعم.
وقال بعضهم: تشابهه تشابه ثمر الـجنة وثمر الدنـيا فـي اللون وإن اختلف طعومهما. ذكر من قال ذلك:
321ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه ثمر الدنـيا غير أن ثمر الـجنة أطيب.
322ـ وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال حفص بن عمر, قال: حدثنا الـحكم بن أبـان عن عكرمة فـي قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه ثمر الدنـيا, غير أن ثمر الـجنة أطيب.
وقال بعضهم: لا يشبه شيء مـما فـي الـجنة ما فـي الدنـيا إلا الأسماء. ذكر من قال ذلك:
323ـ حدثنـي أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي ح, وحدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قالا جميعا: حدثنا سفـيان عن الأعمش, عن أبـي ظبـيان, عن ابن عبـاس قال أبو كريب فـي حديثه عن الأشجعي: لا يشبه شيء مـما فـي الـجنة ما فـي الدنـيا إلا الأسماء. وقال ابن بشار فـي حديثه عن مؤمل قال: لـيس فـي الدنـيا مـما فـي الـجنة إلا الأسماء.
حدثنا عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد عن الأعمش, عن أبـي ظبـيان, عن ابن عبـاس, قال: لـيس فـي الدنـيا من الـجنة شيء إلا الأسماء.
324ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يعرفون أسماءه كما كانوا فـي الدنـيا, التفـاح بـالتفـاح, والرمان بـالرمان, قالوا فـي الـجنة: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فـي الدنـيا, وأتُوُا بِهِ مُتَشابِها يعرفونه, ولـيس هو مثله فـي الطعم.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه التأويلات بتأويـل الآية, تأويـل من قال: وأُوتُوا بِهِ مُتَشابِها فـي اللون والـمنظر, والطعمُ مختلفٌ. يعنـي بذلك اشتبـاه ثمر الـجنة وثمر الدنـيا فـي الـمنظر واللون, مختلفـا فـي الطعم والذوق لـما قدمنا من العلة فـي تأويـل قوله: كُلـما رُزِقُوا مِنْعها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رِزِقنا مِنْ قَبْلُ وأن معناه: كلـما رزقوا من الـجنان من ثمرة من ثمارها رزقا قالُوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ هذا فـي الدنـيا. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك من أجل أنهم أُتوا بـما أتوا به من ذلك فـي الـجنة متشابها, يعنـي بذلك تشابه ما أتوا به فـي الـجنة منه والذي كانوا رزقوه فـي الدنـيا فـي اللون والـمرأى والـمنظر وإن اختلفـا فـي الطعم والذوق فتبـاينا, فلـم يكن لشيء مـما فـي الـجنة من ذلك نظير فـي الدنـيا.
وقد دللنا علـى فساد قول من زعم أن معنى قوله: قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ إنـما هو قول من أهل الـجنة فـي تشبـيههم بعض ثمرات الـجنة ببعض, وتلك الدلالة علـى فساد ذلك القول هي الدلالة علـى فساد قول من خالف قولنا فـي تأويـل قوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها لأن الله جل ثناؤه إنـما أخبر عن الـمعنى الذي من أجله قال القوم: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بقوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها.
ويُسأل من أنكر ذلك فـيزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مـما فـي الـجنة نظير الشيء مـما فـي الدنـيا بوجه من الوجوه, فـيقال له: أيجوز أن يكون أسماء ما فـي الـجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائر أسماء ما فـي الدنـيا منها؟ فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله, لأن الله جل ثناؤه إنـما عرّف عبـاده فـي الدنـيا ما هو عنده فـي الـجنة بـالأسماء التـي يسمى بها ما فـي الدنـيا من ذلك. وإن قال: ذلك جائز, بل هو كذلك قـيـل: فما أنكرت أن يكون ألوان ما فـيها من ذلك نظائر ألوان ما فـي الدنـيا منه بـمعنى البـياض والـحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان وإن تبـاينت فتفـاضلت بفضل حسن الـمرآة والـمنظر, فكان لـما فـي الـجنة من ذلك من البهاء والـجمال وحسن الـمرآة والـمنظر خلاف الذي لـما فـي الدنـيا منه كما كان جائزا ذلك فـي الأسماء مع اختلاف الـمسميات بـالفضل فـي أجسامها؟ ثم يعكس علـيه القول فـي ذلك, فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا أُلزم فـي الاَخر مثله.
وكان أبو موسى الأشعري يقول فـي ذلك بـما:
325ـ حدثنـي به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ وعبد الوهاب, ومـحمد بن جعفر, عن عوف عن قسامة عن الأشعري, قال: إن الله لـما أخرج آدم من الـجنة زوّده من ثمار الـجنة, وعلـمه صنعة كل شيء, فثماركم هذه من ثمار الـجنة, غير أن هذه تَغَيّرُ وتلك لا تَغَيّرُ.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن معنى قوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها أنه متشابه فـي الفضل: أي كل واحد منه له من الفضل فـي نـحوه مثل الذي للاَخر فـي نـحوه.
قال أبو جعفر: ولـيس هذا قولاً نستـجيز التشاغل بـالدلالة علـى فساده لـخروجه عن قول جميع علـماء أهل التأويـل, وحسب قول بخروجه عن قول أهل العلـم دلالة علـى خطئه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَهُمْ فِـيهَا أزْواجٌ مُطَهّرَةٌ.
قال أبو جعفر: والهاء والـميـم اللتان فـي «لهم» عائدتان علـى الذين آمنوا وعملوا الصالـحات, والهاء والألف اللتان فـي «فـيها» عائدتان علـى الـجنات. وتأويـل ذلك: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالـحات أن لهم جنات فـيها أزواج مطهرة. والأزواج جمع زوج, وهي امرأة الرجل, يقال: فلانة زوج فلان وزوجته. وأما قوله مُطَهّرَةٌ فإن تأويـله أنهن طهرن من كل أذى وقَذًى وريبة, مـما يكون فـي نساء أهل الدنـيا من الـحيض والنفـاس والغائط والبول والـمخاط والبصاق والـمنـيّ, وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والـمكاره. كما:
326ـ حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر. ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم, أما أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ فإنهن لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنـخمن.
327ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ يقول: مطهرة من القذر والأذى.
328ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى القطان, عن سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ولَهُمْ فِـيهَا أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَـمْذِين.
329ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نـحوه, إلا أنه زاد فـيه: ولا يُـمنـين ولا يحضن.
330ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: مطهرة من الـحيض والغائط والبول والنـخام والبزاق والـمنـيّ والولد.
وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
331ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: لا يبلن ولا يتغوّطن, ولا يحضن, ولا يـلدن, ولا يـمنـين, ولا يبزقن.
أخبرنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نـحو حديث مـحمد بن عمرو, عن أبـي عاصم.
332ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ إي والله من الإثم والأذى.
333ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: طهرهن الله من كل بول وغائط وقذر, ومن كل مأثم.
334ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة قال: مطهرة من الـحيض, والـحبل, والأذى.
335ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنـي ابن أبـي جعفر عن أبـيه, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: الـمطهرة من الـحيض والـحبل.
336ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد: وَلَهُمْ فـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: الـمطهرة: التـي لا تـحيض قال: وأزواج الدنـيا لـيست بـمطهرة, ألا تراهن يدمين ويتركن الصلاة والصيام؟ قال ابن زيد: وكذلك خـلقت حوّاء حتـى عصت, فلـما عصت قال الله: إنـي خـلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة.
337ـ وحدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع عن الـحسن فـي قوله وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: يقول: مطهرة من الـحيض.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا خالد بن يزيد, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, عن الـحسن فـي قوله: وَلَهُمْ فـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: من الـحيض.
338ـ وحدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جريج, عن عطاء قوله: لَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: من الولد والـحيض والغائط والبول, وذكر أشياء من هذا النـحو.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَهُمْ فـيها خالدُونَ.
قال أبو جعفر: يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالـحات فـي الـجنات خالدون, فـالهاء والـميـم من قوله وَهُمْ عائدة علـى الذين آمنوا وعملوا الصالـحات, والهاء والألف فـي «فـيها» علـى الـجنات, وخـلودهم فـيها: دوام بقائهم فـيها علـى ما أعطاهم الله فـيها من الـحَبْرَة والنعيـم الـمقـيـم.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهَـَذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فـيه هذه الآية وفـي تأويـلها.
فقال بعضهم بـما:
339ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: لـما ضرب الله هذين الـمثلـين للـمنافقـين, يعنـي قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقوله: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السّماءِ الاَيات الثلاث, قال الـمنافقون: الله أعلـى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله إنّ اللّهَ لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً إلـى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ.
وقال آخرون بـما:
340ـ حدثنـي به أحمد بن إبراهيـم, قال: حدثنا قُراد عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, فـي قوله تعالـى: إنّ اللّهَ لا يَسْتَـحِيِـي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا قال: هذا مثل ضربه الله للدنـيا, إن البعوضة تـحيا ما جاعت, فإذا سمنت ماتت, وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا الـمثل فـي القرآن, إذا امتلئوا من الدنـيا رِيّا أخذهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فلَـمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَـحْنَا عَلَـيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ الآية.
341ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس بنـحوه, إلا أنه قال: فإذا خـلت آجالهم, وانقطعت مدتهم, صاروا كالبعوضة تـحيا ما جاعت وتـموت إذا رويت فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا الـمثل إذا امتلئوا من الدنـيا ريّا أخذهم الله فأهلكهم, فذلك قوله: حَتّـى إذَا فَرِحُوا بِـمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ.
وقال آخرون بـما:
342ـ حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: إن اللّهَ لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا أي إن الله لا يستـحيـي من الـحقّ أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر. إن الله حين ذكر فـي كتابه الذبـاب والعنكبوت, قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: إنّ اللّهَ لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.
وحدثنا الـحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لـما ذكر الله العنكبوت والذبـاب, قال الـمشركون: ما بـال العنكبوت والذبـاب يذكران؟ فأنزل الله: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها.
وقد ذهب كل قائل مـمن ذكرنا قوله فـي هذه الآية وفـي الـمعنى الذي نزلت فـيه مذهبـا, غير أن أولـى ذلك بـالصواب وأشبهه بـالـحقّ ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عبـاس. وذلك أن الله جل ذكره أخبر عبـاده أنه لا يستـحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها عقـيب أمثال قد تقدمت فـي هذه السورة ضربها للـمنافقـين دون الأمثال التـي ضربها فـي سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول, أعنـي قوله: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما جوابـا لنكير الكفـار والـمنافقـين ما ضُرب لهم من الأمثال فـي هذه السورة أحقّ وأولـى من أن يكون ذلك جوابـا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال فـي غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنـما أوجب أن يكون ذلك جوابـا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال فـي سائر السور لأن الأمثال التـي ضربها الله لهم ولاَلهتهم فـي سائر السور أمثال موافقة الـمعنى, لـما أخبر عنه أنه لا يستـحي أن يضربه مثلاً, إذْ كان بعضها تـمثـيلاً لاَلهتهم بـالعنكبوت وبعضها تشبـيها لها فـي الضعف والـمهانة بـالذبـاب, ولـيس ذكر شيء من ذلك بـموجود فـي هذه السورة فـيجوز أن يقال: إن الله لا يستـحيـي أن يضرب مثلاً ما فإن ذلك بخلاف ما ظن, وذلك أن قول الله جل ثناؤه: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا إنـما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستـحيـي أن يضرب فـي الـحقّ من الأمثال صغيرها وكبـيرها ابتلاءً بذلك عبـاده واختبـارا منه لهم لـيـميز به أهل الإيـمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به, إضلالاً منه به لقوم وهداية منه به لاَخرين كما:
343ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: مَثَلاً مَا بَعُوضَةً يعنـي الأمثال صغيرها وكبـيرها, يؤمن بها الـمؤمنون, ويعلـمون أنها الـحقّ من ربهم, ويهديهم الله بها, ويضلّ بها الفـاسقـين. يقول: يعرفه الـمؤمنون فـيؤمنون به, ويعرفه الفـاسقون فـيكفرون به.
وحدثنـي الـمثنى, قال حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بـمثله.
وحدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
قال أبو جعفر: لا أنه جل ذكره قصد الـخبر عن عين البعوضة أنه لا يستـحيـي من ضرب الـمثل بها, ولكن البعوضة لـما كانت أضعف الـخـلق كما:
344ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة, قال: البعوضة أضعف ما خـلق الله.
345ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج بنـحوه. خصها الله بـالذكر فـي القلة, فأخبر أنه لا يستـحيـي أن يضرب أقلّ الأمثال فـي الـحقّ وأحقرها وأعلاها إلـى غير نهاية فـي الارتفـاع جوابـا منه جل ذكره لـمن أنكر من منافقـي خـلقه ما ضرب لهم من الـمثل بـموقد النار والصيّب من السماء علـى ما نَعَتهما به من نَعْتهما.
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير الـمنافقـين الأمثال التـي وصفت الذي هذا الـخبر جوابه, فنعلـم أن القول فـي ذلك ما قلت؟ قـيـل: الدلالة علـى ذلك بـينها جلّ ذكره فـي قوله: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً وأن القوم الذين ضرب لهم الأمثال فـي الاَيتـين الـمقدمتـين, اللتـين مثّل ما علـيه الـمنافقون مقـيـمون فـيهما بـمُوقِدِ النار وبـالصيب من السماء علـى ما وصف من ذلك قبل قوله: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً قد أنكروا الـمثل وقالوا: ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً, فأوضح خطأ قـيـلهم ذلك, وقبح لهم ما نطقوا به وأخبرهم بحكمهم فـي قـيـلهم ما قالوا منه, وأنه ضلال وفسوق, وأن الصواب والهدى ما قاله الـمؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويـل قوله: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي فإن بعض الـمنسوبـين إلـى الـمعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي إن الله لا يخشى أن يضرب مثلاً, ويستشهد علـى ذلك من قوله بقول الله تعالـى: وَتَـخْشَى الناسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَـخْشاهُ ويزعم أن معنى ذلك: وتستـحي الناسَ والله أحقّ أن تستـحيه فـيقول: الاستـحياء بـمعنى الـخشية, والـخشية بـمعنى الاستـحياء.
وأما معنى قوله: أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً فهو أن يبـين ويصف, كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ بـمعنى وصف لكم, وكما قال الكميت:
وذَلِكَ ضَرْبُ أخْماسٍ أُرِيدَتْلأِسْدَاسٍ عَسَى أنْ لا تَكُونا
بـمعنى وصف أخماس. والـمثل: الشبه, يقال: هذا مَثَلُ هذا ومِثْلُه, كما يقال: شَبَهُه وشِبْهُه, ومنه قول كعب بن زهير:
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاًوَمَا مَوَاعِيدُها إلاّ الأبـاطِيـلُ
يعنـي شَبَها.
فمعنى قوله إذا: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً: إن الله لا يخشى أن يصف شبها لـما شبه به وأما «ما» التـي مع «مثل» فإنها بـمعنى «الذي», لأن معنى الكلام: إن الله لا يستـحيـي أن يضرب الذي هو بعوضة فـي الصغر والقلة فما فوقها مثلاً.
فإن قال لنا قائل: فإن كان القول فـي ذلك كما قلت فما وجه نصب البعوضة, وقد علـمت أن تأويـل الكلام علـى ما تأوّلت: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أن يَضْرِبَ مَثَلاً الذي هو بعوضة, فـالبعوضة علـى قولك فـي مـحل الرفع, فأنّى أتاها النصب؟ قـيـل: أتاها النصب من وجهين: أحدهما أن ما لـما كانت فـي مـحل نصب بقوله: يَضْرِب وكانت البعوضة لها صلة أعربت بتعريبها فألزمت إعرابها كما قال حسان بن ثابت:
وكَفَـى بِنا فَضْلاً علـى مَنْ غَيْرِناحُبّ النّبِـيّ مُـحَمّدٍ إيّانا
فعرّبت غير بإعراب «مَنْ», فـالعرب تفعل ذلك خاصة فـي «من» و«ما» تعرب صلاتهما بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة أحيانا ونكرة أحيانا.
وأما الوجه الاَخر, فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستـحيـي أن يضرب مثلاً ما بـين بعوضة إلـى ما فوقها, ثم حذف ذكر «بـين» و«إلـى», إذ كان فـي نصب البعوضة ودخول الفـاء فـي «ما» الثانـية دلالة علـيهما, كما قالت العرب: «مُطرنا ما زبـالة فـالثعلبـية», و«له عشرون ما ناقة فجملاً», و«هي أحسن الناس ما قرنا فقدما», يعنون: ما بـين قرنها إلـى قدمها, وكذلك يقولون فـي كل ما حسن فـيه من الكلام دخول «ما بـين كذا إلـى كذا», ينصبون الأول والثانـي لـيدلّ النصب فـيهما علـى الـمـحذوف من الكلام. فكذلك ذلك فـي قوله: ما بعوضة فما فوقها.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن «ما» التـي مع الـمَثَل صلة فـي الكلام بـمعنى التطوّل, وأن معنى الكلام: إن الله لا يستـحيـي أن يضرب بعوضة مثلاً فما فوقها. فعلـى هذا التأويـل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب«يضرب», وأن تكون «ما» الثانـية التـي فـي «فما فوقها» معطوفة علـى البعوضة لا علـى «ما».
وأما تأويـل قوله: فَمَا فَوْقَهَا: فما هو أعظم منها عندي لـما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خـلق الله, فإذا كانت أضعف خـلق الله فهي نهاية فـي القلة والضعف, وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه, فقد يجب أن يكون الـمعنى علـى ما قالاه فما فوقها فـي العظم والكبر, إذ كانت البعوضة نهاية فـي الضعف والقلة.
وقـيـل فـي تأويـل قوله: فَمَا فَوْقَها فـي الصغر والقلة, كما يقال فـي الرجل يذكره الذاكر فـيصفه بـاللؤم والشحّ, فـيقول السامع: نعم, وفوق ذاك, يعنـي فوق الذي وصف فـي الشحّ واللؤم. وهذا قول خلاف تأويـل أهل العلـم الذين تُرتضى معرفتهم بتأويـل القرآن, فقد تبـين إذا بـما وصفنا أن معنى الكلام: إن الله لا يستـحيـي أن يصف شبها لـما شبه به الذي هو ما بـين بعوضة إلـى ما فوق البعوضة. فأما تأويـل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز فـي ما إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بـمعنى التطول.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَأما الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأما الّذِينَ كَفَروا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ذكره: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فأما الذين صدقوا الله ورسوله. وقوله: فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعنـي فـيعرفون أن الـمثل الذي ضربه الله لـما ضربه له مثل. كما.
346ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ أن هذا الـمثل الـحق من ربهم أنه كلام الله ومن عنده. وكما:
347ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, قوله: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ: أي يعلـمون أنه كلام الرحمن وأنه الـحقّ من الله.
وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذا مَثَلاً قال أبو جعفر: وقوله: وأما الّذِينَ كَفَرُوا يعنـي الذين جحدوا آيات الله وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علـموا أنه حقّ. وذلك صفة الـمنافقـين, وإياهم عنى الله جل وعزّ ومن كان من نظرائهم وشركائهم من الـمشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية, فـيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلاً, كما قد ذكرنا قبل من الـخبر الذي رويناه عن مـجاهد الذي.
348ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَق مِنْ رَبّهِمْ الآية, قال: يؤمن بها الـمؤمنون, ويعلـمون أنها الـحقّ من ربهم, ويهديهم الله بها ويضلّ بها الفـاسقون. يقول: يعرفه الـمؤمنون فـيؤمنون به, ويعرفه الفـاسقون فـيكفرون به.
وتأويـل قوله: ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً ما الذي أراد الله بهذا الـمثل مثلاً, ف«ذا» الذي مع «ما» فـي معنى «الذي» وأراد صلته, وهذا إشارة إلـى الـمثل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يضلّ به كَثِـيرا ويَهْدِي بِهِ كَثِـيرا.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل وعزّ: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا يضلّ الله به كثـيرا من خـلقه, والهاء فـي «به» من ذكر الـمثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ, ومعنى الكلام: أن الله يضلّ بـالـمثل الذي يضرّبه كثـيرا من أهل النفـاق والكفر. كما:
349ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا يعنـي الـمنافقـين, وَيَهْدِي بِهِ كَثِـيرا يعنـي الـمؤمنـين فـيزيد هؤلاء ضلالاً إلـى ضلالهم لتكذيبهم بـما قد علـموه حقا يقـينا من الـمثل الذي ضربه الله لـما ضربه له وأنه لـما ضربه له موافق, فذلك إضلال الله إياهم به. ويهدي به يعنـي بـالـمثل كثـيرا من أهل الإيـمان والتصديق, فـيزيدهم هدى إلـى هداهم وإيـمانا إلـى إيـمانهم, لتصديقهم بـما قد علـموه حقا يقـينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به, وذلك هداية من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن الـمنافقـين, كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بـمثل لا يعرفه كل أحد يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والـخبر عن الله فقال الله: وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفـاسِقِـينَ وفـيـما فـي سورة الـمدثر من قول الله: وَلِـيَقُولَ الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ما ينبىء عن أنه فـي سورة البقرة كذلك مبتدأ, أعنـي قوله: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا وَيَهْدِي بِهِ كَثِـيرا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ.
وتأويـل ذلك ما:
350ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ: هم الـمنافقون.
351ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ فسقوا فأضلهم الله علـى فسقهم.
352ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: وَما يُضِل بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ: هم أهل النفـاق.
قال أبو جعفر: وأصل الفسق فـي كلام العرب: الـخروج عن الشيء, يقال منه: فسقت الرطبة, إذا خرجت من قشرها ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة, لـخروجها عن جحرها. فكذلك الـمنافق والكافر سُميا فـاسقـين لـخروجهما عن طاعة ربهما, ولذلك قال جل ذكره فـي صفة إبلـيس: إلاّ إبْلِـيسَ كَانَ مِنَ الـجنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يعنـي به: خرج عن طاعته واتبـاع أمره. كما:
353ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق عن داود بن الـحصين, عن عكرمة مولـى ابن عبـاس, عن ابن عبـاس فـي قوله: بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أي بـما بعدوا عن أمري.
فمعنى قوله: وَمَا يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفـاسِقِـينَ: وما يضلّ الله بـالـمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفـاق إلا الـخارجين عن طاعته والتاركين اتبـاع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفـاق.
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفـاسقـين الذين أخبر أنه لا يضلّ بـالـمثل الذي ضربه لأهل النفـاق غيرهم, فقال: ومَا يُضِلّ اللّهُ بـالـمثل الذي يضربه علـى ما وصف قبل فـي الاَيات الـمتقدمة إلا الفـاسقـين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل الـمعرفة فـي معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفـاسقـين بنقضه, فقال بعضهم: هو وصية الله إلـى خـلقه, وأمره إياهم بـما أمرهم به من طاعته, ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته فـي كتبه وعلـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم, ونقضهم ذلك تركهم العمل به.
وقال آخرون: إنـما نزلت هذه الاَيات فـي كفـار أهل الكتاب والـمنافقـين منهم, وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ وبقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ فكل ما فـي هذه الاَيات فعذل لهم وتوبـيخ إلـى انقضاء قصصهم. قالوا: فعهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه: هو ما أخذه الله علـيهم فـي التوراة من العمل بـما فـيها, واتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث, والتصديق به وبـما جاء به من عند ربهم. ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقـيقته, وإنكارهم ذلك, وكتـمانهم علـم ذلك عن الناس, بعد إعطائهم الله من أنفسهم الـميثاق لـيبـيننه للناس ولا يكتـمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قلـيلاً.
وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفـاق وعهده إلـى جميعهم فـي توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالز علـى ربوبـيته وعهده إلـيهم فـي أمره ونهيه ما احتـج به لرسله من الـمعجزات التـي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتـي بـمثلها الشاهدة لهم علـى صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بـما قد تبـينت لهم صحته بـالأدلة, وتكذيبهم الرسل والكتب, مع علـمهم أن ما أتوا به حق.
وقال آخرون: العهد الذي ذكره الله جل ذكره, هو العهد الذي أخذه علـيهم حين أخرجهم من صلب آدم, الذي وصفه فـي قوله: وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ علـى أنْفُسِهِمْ الاَيتـين, ونقضُهم ذلك, تركهم الوفـاء به. وأولـى الأقوال عندي بـالصواب فـي ذلك, قول من قال: إن هذه الاَيات نزلت فـي كفـار أحبـار الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما قرب منها من بقايا بنـي إسرائيـل, ومن كان علـى شركه من أهل النفـاق الذين قد بـينا قصصهم فـيـما مضى من كتاب هذا. وقد دللنا علـى أن قول الله جل ثناؤه: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ وقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ فـيهم أنزلت, وفـيـمن كان علـى مثل الذي هم علـيه من الشرك بـالله. غير أن هذه الاَيات عندي وإن كانت فـيهم نزلت, فإنه معنـيّ بها كل من كان علـى مثل ما كانوا علـيه من الضلال, ومعنـيّ بـما وافق منها صفة الـمنافقـين خاصةً جميعُ الـمنافقـين, وبـما وافق منها صفة كفـار أحبـار الـيهود جميع من كان لهم نظيرا فـي كفرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه يعمّ أحيانا جميعهم بـالصفة لتقديـمه ذكر جميعها فـي أول الاَيات التـي ذكرتْ قصصهم, ويخصّ أحيانا بـالصفة بعضهم لتفصيـله فـي أول الاَيات بـين فريقـيهم, أعنـي فريق الـمنافقـين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بـالله, وفريق كفـار أحبـار الـيهود, فـالذين ينقضون عهد الله: هم التاركون ما عهد الله إلـيهم من الإقرار بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به وتبـيـين نبوّته للناس الكاتـمون بـيان ذلك بعد علـمهم به وبـما قد أخذ الله علـيهم فـي ذلك, كما قال الله جل ذكره: وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ لَتُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ ولا تَكْتُـمُونَهُ فَنبذوهُ وراءَ ظهُورهِمْ ونبذهم ذلك وراء ظهورهم: هو نقضهم العهد الذي عهد إلـيهم فـي التوراة الذي وصفناه, وتَرْكُهم العمل به.
وإنـما قلت: إنه عنى بهذه الاَيات من قلت إنه عَنَى بها, لأن الاَيات من ابتداء الاَيات الـخمس والستّ من سورة البقرة فـيهم نزلت إلـى تـمام قصصهم, وفـي الآية التـي بعد الـخبر عن خـلق آدم وبـيانه فـي قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُروا نِعْمَتِـي الّتِـي أنْعَمْتُ عَلَـيْكُمْ وأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ وخطابه إياهم جلّ ذكره بـالوفـاء فـي ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدلّ علـى أن قوله: الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ مقصود به كفـارهم ومنافقوهم, ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان علـى ضلالهم. غير أن الـخطاب وإن كان لـمن وصفت من الفريقـين فداخـل فـي أحكامهم وفـيـما أوجب الله لهم من الوعيد والذمّ والتوبـيخ كل من كان علـى سبـيـلهم ومنهاجهم من جميع الـخـلق وأصناف الأمـم الـمخاطبـين بـالأمر والنهي. فمعنى الآية إذا: وما يضلّ به إلا التاركين طاعة الله, الـخارجين عن اتبـاع أمره ونهيه, الناكثـين عهود الله التـي عهدها إلـيهم فـي الكتب التـي أنزلها إلـى رسله وعلـى ألسن أنبـيائه بـاتبـاع أمر رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وطاعة الله فـيـما افترض علـيهم فـي التوراة من تبـيـين أمره للناس, وإخبـارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبـا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته وترك كتـمان ذلك لهم. ونَكْثُهم ذلك ونَقْضُهم إياه, هو مخالفتهم الله فـي عهده إلـيهم فـيـما وصفت أنه عهد إلـيهم بعد إعطائهم ربهم الـميثاق بـالوفـاء بذلك كما وصفهم به جل ذكره بقوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يأخُذونَ عَرَضَ هَذَا الأدنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإنْ يأتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يأخُذُوهُ ألَـمْ يُؤْخَذْ عَلَـيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ أنْ لا يَقُولُوا علـى اللّهِ إلاّ الـحَقّ.
وأما قوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فإنه يعنـي من بعد توثق الله فـيه بأخذ عهوده بـالوفـاء له بـما عهد إلـيهم فـي ذلك, غير أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان توثّقا, والـميثاق اسم منه, والهاء فـي الـميثاق عائدة علـى اسم الله.
وقد يدخـل فـي حكم هذه الآية كل من كان بـالصفة التـي وصف الله بها هؤلاء الفـاسقـين من الـمنافقـين والكفـار فـي نقض العهد وقطع الرحم والإفساد فـي الأرض. كما:
354ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: الّذِينَ يَنْقُضونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فإياكم ونقض هذا الـميثاق, فإن الله قد كره نقضه وأوعد فـيه وقدم فـيه فـي آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة, وإنا لا نعلـم الله جل ذكره أوعد فـي ذنب ما أوعد فـي نقض الـميثاق, فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فلـيف به لله.
355ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ الله بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فـي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ فهي ست خلال فـي أهل النفـاق إذا كانت لهم الظّهَرَة أظهروا هذه الـخلال الستّ جميعا: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وعدوا أخـلفوا, وإذا اؤتـمنوا خانوا, ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل, وأفسدوا فـي الأرض. وإذا كانت علـيهم الظّهَرَة أظهروا الـخلال الثلاث: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وعدوا أخـلفوا, وإذا اؤتـمنوا خانوا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ.
قال أبو جعفر: والذي رغب الله فـي وصله وذمّ علـى قطعه فـي هذه الآية: الرحم, وقد بـين ذلك فـي كتابه فقال تعالـى: فَهَلْ عَسَيْتُـمْ إنْ تَوَلّـيْتُـمْ أنْ تُفْسِدُوا فِـي الأرْضِ وتُقَطّعُوا أرْحَامَكُمْ وإنـما عنى بـالرحم: أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة, وقطع ذلك ظلـمه فـي ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها وأوجب من برّها ووصلها أداء الواجب لها إلـيها: من حقوق الله التـي أوجب لها, والتعطف علـيها بـما يحقّ التعطف به علـيها. و«أن» التـي مع «يوصل» فـي مـحل خفض بـمعنى ردّها علـى موضع الهاء التـي فـي «به» فكان معنى الكلام: ويقطعون الذي أمر الله بأن يوصل. والهاء التـي فـي «به» هي كناية عن ذكر «أن يوصل».
وبـما قلنا فـي تأويـل قوله: ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ وأنه الرحم كان قتادة يقول:
356ـ حدثنا بشر بن معاذ. قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة.
وقد تأوّل بعضهم ذلك أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين به وأرحامهم, واستشهد علـى ذلك بعموم ظاهر الآية, وأن لا دلالة علـى أنه معنـيّ بها: بعض ما أمر الله بوصله دون بعض.
قال أبو جعفر: وهذا مذهب من تأويـل الآية غير بعيد من الصواب, ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر الـمنافقـين فـي غير آية من كتابه, فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرة تلك, غير أنها وإن كانت كذلك فهي دالة علـى ذمّ الله كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله رحما كانت أو غيرها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ويُفْسِدُونَ فـي الأرْضِ.
قال أبو جعفر: وفسادهم فـي الأرض هو ما تقدم وَصْفُنَاه قبل من معصيتهم ربهم وكفرهم به, وتكذيبهم رسوله, وجحدهم نبوّته, وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حق من عنده.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ.
قال أبو جعفر: والـخاسرون جمع خاسر, والـخاسرون: الناقصون أنفسهم حظوظها بـمعصيتهم الله من رحمته, كما يخسر الرجل فـي تـجارته بأن يوضَع من رأس ماله فـي بـيعه. فكذلك الكافر والـمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التـي خـلقها لعبـاده فـي القـيامة أحوج ما كان إلـى رحمته, يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَر خَسْرا وخُسْرانا وخَسَارا, كما قال جرير بن عطية:
إنّ سَلِـيطا فِـي الـخسَارِ إنّهْأوْلادُ قَوْمٍ خُـلِقُوا أقِنّهْ
يعنـي بقوله فـي الـخسار: أي فـيـما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم.
وقد قـيـل: إن معنى أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ: أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بـالصفة التـي وصفه بها فـي هذه الآية بحرمان الله إياه ما حرمه من رحمته بـمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويـل الكلام علـى معناه دون البـيان عن تأويـل عين الكلـمة بعينها, فإن أهل التأويـل ربـما فعلوا ذلك لعلل كثـيرة تدعوهم إلـيه.
وقال بعضهم فـي ذلك بـما:
357ـ حدثت به عن الـمنـجاب. قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: كل شيء نسبه الله إلـى غير أهل الإسلام من اسم مثل «خاسر», فإنـما يعنـي به الكفر, وما نسبه إلـى أهل الإسلام فإنـما يعنـي به الذنب.
الآية : 28
====== !!!! يوجد خطأ فى البرنامج !!! =========
الآية : 29
تأويل قوله تعالى:{هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
فأخبرهم جل ذكره أنه خـلق لهم ما فـي الأرض جميعا, لأن الأرض وجميع ما فـيها لبنـي آدم منافع. أما فـي الدين فدلـيـل علـى وحدانـية ربهم, وأما فـي الدنـيا فمعاش وبلاغ لهم إلـى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا. وقوله: «هو» مكنى من اسم الله جل ذكره, عائد علـى اسمه فـي قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِـاللّهِ. ومعنى خـلقه ما خـلق جل ثناؤه: إنشاؤه عينه, وإخراجه من حال العدم إلـى الوجود. و«ما» بـمعنى «الذي». فمعنى الكلام إذا: كيف تكفرون بـالله وقد كنتـم نطفـا فـي أصلاب آبـائكم, فجعلكم بشرا أحياء, ثم يـميتكم, ثم هو مـحيـيكم بعد ذلك, وبـاعثكم يوم الـحشر للثواب والعقاب, وهو الـمنعم علـيكم بـما خـلق لكم فـي الأرض من معايشكم وأدلتكم علـى وحدانـية ربكم. و«كيف» بـمعنى التعجب والتوبـيخ لا بـمعنى الاستفهام, كأنه قال: ويحكم كيف تكفرون بـالله, كما قال: فأين تذهبون. وحل قوله: وكُنْتُـمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ مـحلّ الـحال, وفـيه إضمار «قد», ولكنها حذفت لـما فـي الكلام من الدلـيـل علـيها. وذلك أن «فعل» إذا حلت مـحلّ الـحال كان معلوما أنها مقتضية «قد», كما قال جل ثناؤه: أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بـمعنى: قد حصرت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحت كثرت ماشيتك, تريد: قد كثرت ماشيتك.
وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: هوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا كان قتادة يقول:
368ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا نعم والله سخر لكم ما فـي الأرض.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ثُم اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ.
قال أبو جعفر: اختلف فـي تأويـل قوله: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ فقال بعضهم: معنى استوى إلـى السماء, أقبل علـيها, كما تقول: كان فلان مقبلاً علـى فلان ثم استوى علـيّ يشاتـمنـي واستوى إلـيّ يشاتـمنـي, بـمعنى: أقبل علـيّ وإلـيّ يشاتـمنـي. واستشهد علـى أن الاستواء بـمعنى الإقبـال بقول الشاعر:
أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَىسَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضّجُوعِ
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع, وكان ذلك عنده بـمعنى أقبلن. وهذا من التأويـل فـي هذا البـيت خطأ, وإنـما معنى قوله: «واستوين من الضجوع» عندي: استوين علـى الطريق من الضجوع خارجات, بـمعنى استقمن علـيه.
وقال بعضهم: لـم يكن ذلك من الله جل ذكره بتـحوّل, ولكنه بـمعنى فعله, كما تقول: كان الـخـلـيفة فـي أهل العراق يوالـيهم ثم تـحوّل إلـى الشام, إنـما يريد تـحوّل فعله.
وقال بعضهم: قوله ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ يعنـي به: استوت, كما قال الشاعر:
أقُولُ لَهُ لَـمّا اسْتَوَى فـي تُرَابِهِعلـى أيّ دِينٍ قَتّلَ الناسَ مُصْعَبُ
وقال بعضهم: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ: عمد إلـيها. وقال: بل كل تارك عملاً كان فـيه إلـى آخره فهو مستو لـما عمد ومستو إلـيه.
وقال بعضهم: الاستواء: هو العلوّ, والعلوّ: هو الارتفـاع.
ومـمن قال ذلك الربـيع بن أنس.
369ـ حدثت بذلك عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ يقول: ارتفع إلـى السماء.
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بـمعنى العلوّ والارتفـاع فـي الذي استوى إلـى السماء, فقال بعضهم: الذي استوى إلـى السماء وعلا علـيها: هو خالقها ومنشئها.
وقال بعضهم: بل العالـي إلـيها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء.
قال أبو جعفر: الاستواء فـي كلام العرب منصرف علـى وجوه: منها انتهاء شبـاب الرجل وقوّته, فـيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل, ومنها استقامة ما كان فـيه أَوَدٌ من الأمور والأسبـاب, يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيـم:
طالَ علـى رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْوعَفـا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ
يعنـي: استقام به.
ومنها الإقبـال علـى الشيء بـالفعل, كما يقال: استوى فلان علـى فلان بـما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إلـيه. ومنها الاحتـياز والاستـيلاء كقولهم: استوى فلان علـى الـمـملكة, بـمعنى احتوى علـيها وحازها. ومنها العلوّ والارتفـاع, كقول القائل: استوى فلان علـى سريره, يعنـي به علوّه علـيه.
وأولـى الـمعانـي بقول الله جل ثناؤه: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السماءِ فَسَوّاهُنْ علا علـيهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخـلقهنّ سبع سموات.
والعجب مـمن أنكر الـمعنى الـمفهوم من كلام العرب فـي تأويـل قول الله: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ الذي هو بـمعنى العلوّ والارتفـاع هربـا عند نفسه من أن يـلزمه بزعمه إذا تأوله بـمعناه الـمفهم كذلك أن يكون إنـما علا وارتفع بعد أن كان تـحتها, إلـى أن تأوله بـالـمـجهول من تأويـله الـمستنكر, ثم لـم ينـج مـما هرب منه. فـيقال له: زعمت أن تأويـل قوله: اسْتَوَى أقْبَلَ, أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إلـيها؟ فإن زعم أن ذلك لـيس بإقبـال فعل ولكنه إقبـال تدبـير, قـيـل له: فكذلك فقل: علا علـيها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله, ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بـما لـيس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال فـي ذلك قولاً لقول أهل الـحقّ فـيه مخالفـا, وفـيـما بـينا منه ما يشرف بذي الفهم علـى ما فـيه له الكفـاية إنه شاء الله تعالـى.
قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلـى السماء, كان قبل خـلق السماء أم بعده؟ قـيـل: بعده, وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات, كما قال جل ثناؤه: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها والاستواء كان بعد أن خـلقها دخانا, وقبل أن يسوّيها سبع سموات.
وقال بعضهم: إنـما قال استوى إلـى السماء ولا سماء, كقول الرجل لاَخر: «اعمل هذا الثوب» وإنـما معه غزلٌ. وأما قوله فَسَوّاهُنّ فإنه يعنـي هيأهنّ وخـلقهنّ ودبرهنّ وقوّمهنّ, والتسوية فـي كلام العرب: التقويـم والإصلاح والتوطئة, كما يقال: سوّى فلان لفلان هذا الأمر: إذا قوّمه وأصلـحه ووطأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويـمه إياهن علـى مشيئته, وتدبـيره لهن علـى إرادته, وتفتـيقهن بعد ارتاقهن كما:
370ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ يقول: سوى خـلقهن وهو بكل شيء علـيـم.
وقال جل ذكره: فَسَوّاهُنّ فأخرج مكنـيّهن مخرج مكنى الـجمع. وقد قال قبل: ثم استوى إلـى السماء فأخرجها علـى تقدير الواحد. وإنـما أخرج مكنـيهن مخرج مكنـيّ الـجمع. لأن السماء جمع واحدها سماوة, فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر, ونـخـلة ونـخـل وما أشبه ذلك ولذلك أُنّثَتْ مرة, فقـيـل: هذه سماء, وذُكّرتْ أخرى فقـيـل: السماء منفطر به كما يفعل ذلك بـالـجمع الذي لا فرق بـينه وبـين واحدة غير دخول الهاء وخروجها, فـيقال: هذا بقر وهذه بقر, وهذا نـخـل وهذه نـخـل, وما أشبه ذلك. وكان بعض أهل العربـية يزعم أن السماء واحدة, غير أنها تدلّ علـى السموات, فقـيـل: فَسَوّاهُنّ يراد بذلك التـي ذكرت, وما دلت علـيه من سائر السموات التـي لـم تذكر معها. قال: وإنـما تذكّر إذا ذكّرت وهي مؤنثة, فـيقال: السماء منفطر به كما يذكر الـمؤنث, وكما قال الشاعر:
فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهاولا أرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
وكما قال أعشى بنـي ثعلبة:
فإمّا تَرَيْ لِـمّتِـي بُدّلَتْفإنّ الـحَوَادِثَ أزْرَى بِهَا
وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء, وأرضا فوق أرض, فهي فـي التأويـل واحدة إن شئت, ثم تكون تلك الواحدة جماعا, كما يقال: ثوب أخلاق وأسمال, وبرمة أعشار للـمتكسرة, وبرمة أكسار وأجبـار, وأخلاق: أي أن نواحيه أخلاق.
فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت: إن الله جل ثناؤه استوى إلـى السماء وهي دخان قبل أن يسوّيها سبع سموات, ثم سوّاها سبعا بعد استوائه إلـيها, فكيف زعمت أنها جماع؟ قـيـل: إنهنّ كنّ سبعا غير مستويات, فلذلك قال جلّ ذكره: فسوّاهنّ سبعا: كما:
371ـ حدثنـي مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: قال مـحمد بن إسحاق: كان أوّل ما خـلق الله تبـارك وتعالـى: النور والظلـمة, ثم ميز بـينهما فجعل الظلـمة لـيلاً أسود مظلـما, وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا, ثم سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلـم من دخان الـماء حتـى استقللن ولـم يحبكهن, وقد أغطش فـي السماء الدنـيا لـيـلها وأخرج ضحاها, فجرى فـيها اللـيـل والنهار, ولـيس فـيها شمس ولا قمر ولا نـجوم, ثم دحى الأرض, وأرساها بـالـجبـال, وقدّر فـيها الأقوات, وبثّ فـيها ما أراد من الـخـلق, ففرغ من الأرض وما قدّر فـيها من أقواتها فـي أربعة أيام. ثم استوى إلـى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن, وجعل فـي السماء الدنـيا شمسها وقمرها ونـجومها, وأوحى فـي كل سماء أمرها, فأكمل خـلقهنّ فـي يومين. ففرغ من خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام, ثم استوى فـي الـيوم السابع فوق سمواته, ثم قال للسموات والأرض: ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها لـما أردت بكما, فـاطمئنا علـيه طوعا أو كرها, قَالتَا: أتَـيْنا طائِعِينَ.
فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلـى السماء بعد خـلقه الأرض وما فـيها وهنّ سبع من دخان, فسوّاهنّ كما وصف. وإنـما استشهدنا لقولنا الذي قلنا فـي ذلك بقول ابن إسحاق لأنه أوضح بـيانا عن خبر السموات أنهنّ كنّ سبعا من دخان قبل استواء ربنا إلـيها بتسويتها من غيره, وأحسن شرحا لـما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التـي قال الله فـيها: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ بـمعنى الـجمع علـى ما وصفنا, وأنه إنـما قال جل ثناؤه: فسوّاهنّ إذ كانت السماء بـمعنى الـجمع علـى ما بـينا.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التـي ذكرها فـي قوله: فسَوّاهُنّ إذ كن قد خـلقن سبعا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذكر خـلقهن بعد ذكر خـلق الأرض, ألأنها خـلقت قبلها, أم بـمعنى غير ذلك؟ قـيـل: قد ذكرنا ذلك فـي الـخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق, ونزيد ذلك توكيدا بـما انضمّ إلـيه من أخبـار بعض السلف الـمتقدمين وأقوالهم.
372ـ فحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا ثُم اسْتَوَى إلـى السماء فَسَواهُن سَبْعَ سَمَواتٍ قال: إن الله تبـارك وتعالـى كان عرشه علـى الـماء, ولـم يخـلق شيئا غير ما خـلق قبل الـماء, فلـما أراد أن يخـلق الـخـلق أخرج من الـماء دخانا, فـارتفع فوق الـماء فسما علـيه, فسماه سماءً, ثم أيبس الـماء فجعله أرضا واحدة, ثم فتقها فجعل سبع أرضين فـي يومين فـي الأحد والاثنـين, فخـلق الأرض علـى حوت, والـحوت هو النون الذي ذكره الله فـي القرآن: ن والقَلَـم والـحوت فـي الـماء والـماء علـى ظهر صفـاة, والصفـاة علـى ظهر ملك, والـملك علـى صخرة, والصخرة فـي الريح وهي الصخرة التـي ذكر لقمان لـيست فـي السماء ولا فـي الأرض. فتـحرّك الـحوت فـاضطرب, فتزلزت الأرض, فأرسى علـيها الـجبـال فقرّت, فـالـجبـال تفخر علـى الأرض, فذلك قوله: وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أنْ تَـمِيدَ بِكُمْ وخـلق الـجبـال فـيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها فـي يومين فـي الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: أئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِـالّذِي خَـلَقَ أَلارْضَ فِـي يَوْمَيْنِ وَتَـجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا ذَلِكَ رَبّ العَالَـمِينَ وَجَعَلَ فِـيها رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِـيها يقول: أنبت شجرها وَقَدّرَ فِـيها أقْواتها يقول أقواتها لأهلها فـي أرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواء للسّائِلِـينَ يقول: قل لـمن يسألك هكذا الأمر ثمّ اسْتَوى إلَـى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وكان ذلك الدخان من تنفس الـماء حين تنفس, فجعلها سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات فـي يومين فـي الـخميس والـجمعة, وإنـما سمي يوم الـجمعة لأنه جمع فـيه خـلق السموات والأرض وأوْحَى فـي كُل سماءٍ أمْرَها قال: خـلق فـي كل سماء خـلقها من الـملائكة والـخـلق الذي فـيها, من البحار وجبـال البَرَدِ وما لا يعلـم. ثم زين السماء الدنـيا بـالكواكب, فجعلها زينة وحفظا تـحفظ من الشياطين. فلـما فرغ من خـلق ما أحبّ استوى علـى العرش, فذلك حين يقول: خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام يقول: كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما.
373ـ وحدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: هُوَ الّهذي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ قال: خـلق الأرض قبل السماء, فلـما خـلق الأرض ثار منها دخان, فذلك حين يقول: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال: بعضهنّ فوق بعض, وسبع أرضين بعضهنّ تـحت بعض.
374ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال: بعضهنّ فوق بعض, بـين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام.
375ـ وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس فـي قوله حيث ذكر خـلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خـلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء, ثم استوى إلـى السماء فسوّاهنّ سبع سموات, ثم دحا الأرض بعد ذلك, فذلك قوله: وَالأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها.
376ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي أبو معشر, عن سعيد بن أبـي سعيد, عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الـخـلق يوم الأحد, فخـلق الأرضين فـي الأحد والاثنـين, وخـلق الأقوات والرواسي فـي الثلاثاء والأربعاء, وخـلق السموات فـي الـخميس والـجمعة, وفرغ فـي آخر ساعة من يوم الـجمعة, فخـلق فـيها آدم علـى عجل فتلك الساعة التـي تقوم فـيها الساعة.
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذا: هو الذي أنعم علـيكم, فخـلق لكم ما فـي الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك علـيكم, لـيكون لكم بلاغا فـي دنـياكم, ومتاعا إلـى موافـاة آجالكم, ودلـيلاً لكم علـى وحدانـية ربكم. ثم علا إلـى السموات السبع وهي دخان, فسوّاهن وحبكهن, وأجرى فـي بعضهن شمسه وقمره ونـجومه, وقدّر فـي كل واحدة منهنّ ما قدّر من خـلقه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِـيـمٌ.
يعنـي بقوله جلّ جلاله: وهو نفسه, وبقوله: بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ: أن الذي خـلقكم وخـلق لكم ما فـي الأرض جميعا, وسّوى السموات السبع بـما فـيهن, فأحكمهن من دخان الـماء وأتقن صنعهن, لا يخفـى علـيه أيها الـمنافقون والـملـحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب, ما تبدون وما تكتـمون فـي أنفسكم, وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمَنّا بِـاللّهِ وبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وهم علـى التكذيب به منطوون. وكذبت أحبـاركم بـما أتاهم به رسولـي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون, وجحدوا وكتـموا ما قد أخذت علـيهم ببـيانه لـخـلقـي من أمر مـحمد ونبوّته الـمواثـيق, وهم به عالـمون بل أنا عالـم بذلك وغيره من أموركم, وأمور غيركم, إنـي بكل شيء علـيـم. وقوله: عَلِـيـمٌ بـمعنى عالـم. ورُوي عن ابن عبـاس أنه كان يقول: هو الذي قد كمل فـي علـمه.
377ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, قال: حدثنـي علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قال: العالـم الذي قد كمل فـي علـمه
006
004
الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَـَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
أما قوله تعالـى: وَبَشّرْ فإنه يعنـي: أخبرهم. والبشارة أصلها الـخبر بـما يسر الـمخبر به, إذا كان سابقا به كل مخبر سواه. وهذا أمر من الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خـلقه الذين آمنوا به وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـماء جاء به من عند ربه, وصدقوا إيـمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالـحة, فقال له: يا مـحمد بَشّرْ من صدقك أنك رسولـي وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي, وحقق تصديقه ذلك قولاً بأداء الصالـح من الأعمال التـي افترضتها علـيه وأوجبتها فـي كتابـي علـى لسانك علـيه, أن له جنات تـجري من تـحتها الأنهار خاصة, دون من كذّب بك وأنكر ما جئت به من الهدى من عندي وعاندك, ودون من أظهر تصديقك وأقرّ بأن ما جئته به فمن عندي قولاً, وجحده اعتقادا ولـم يحققه عملاً. فإن لأولئك النار التـي وقودها الناس والـحجارة معدة عندي. والـجنات جمع جنة, والـجنة: البستان. وإنـما عنى جل ذكر بذكر الـجنة ما فـي الـجنة من أشجارها وثمارها وغروسها دون أرضها, فلذلك قال عزّ ذكره: تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهَارُ لأنه معلوم أنه إنـما أرَادَ جل ثناؤه الـخبر عن ماء أنهارها أنه جار تـحت أشجارها وغروسها وثمارها, لا أنه جار تـحت أرضها لأن الـماء إذا كان جاريا تـحت الأرض, فلا حظّ فـيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بـينها وبـينه.
علـى أن الذي توصف به أنهار الـجنة أنها جارية فـي غير أخاديد. كما:
303ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفـيان, عن عمرو بن مرة, عن أبـي عبـيدة, عن مسروق, قال: نـخـل الـجنة نضيد من أصلها إلـى فرعها, وثمرها أمثال القِلال, كلـما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى, وماؤها يجري فـي غير أخدود.
وحدثنا مـجاهد, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا مسعر بن كدام, عن عمرو بن مرة, عن أبـي عبـيدة بنـحوه.
وحدثنا مـحمد بن بشار قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, قال: سمعت عمرو بن مرة يحدث عن أبـي عبـيدة, فذكر مثله. قال: فقلت لأبـي عبـيدة: من حدثك, فغضب وقال: مسروق.
فإذا كان الأمر كذلك فـي أن أنهارها جارية فـي غير أخاديد, فلا شك أن الذي أريد بـالـجنات أشجار الـجنات وغروسها وثمارها دون أرضها, إذ كانت أنهارها تـجري فوق أرضها وتـحت غروسها وأشجارها, علـى ما ذكره مسروق. وذلك أولـى بصفة الـجنة من أن تكون أنهارها جارية تـحت أرضها. وإنـما رغب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبـاده فـي الإيـمان وحضهم علـى عبـادته, بـما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيـمان به عنده, كما حذرهم فـي الآية التـي قبلها بـما أخبر من إعداده ما أعدّ لأهل الكفر به الـجاعلـين معه الاَلهة والأنداد من عقابه عن إشراك غيره معه, والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كُلـمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأتُوا بِهِ مُتَشَابِها.
قال أبو جعفر: يعنـي: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا من الـجنات, والهاء راجعة علـى «الـجنات», وإنـما الـمعنـيّ أشجارها, فكأنه قال: كلـما رزقوا من أشجار البساتـين التـي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالـحات فـي جناته من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا: هذا الذي رُزِقْنا من قبل.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ فقال بعضهم: تأويـل ذلك هذا الذي رزقنا من قبل هذا فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
304ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل قال: إنهم أتوا بـالثمرة فـي الـجنة, فلـما نظروا إلـيها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل فـي الدنـيا.
305ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل: أي فـي الدنـيا.
306ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قبْل يقولون: ما أشبهه به.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
307ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, قالوا: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْل فـي الدنـيا, قال: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها يعرفونه.
قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويـل ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الـجنة من قبل هذا, لشدة مشابهة بعض ذلك فـي اللون والطعم بعضا. ومن علة قائل هذا القول إن ثمار الـجنة كلـما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله. كما:
308ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, قال: سمعت عمرو بن مرّة يحدث عن أبـي عبـيدة, قال: نـخـل الـجنة نضيد من أصلها إلـى فرعها, وثمرها مثل القلال, كلـما نزعت منها ثمرة عادة مكانها أخرى. قالوا: فإنـما اشتبهت عند أهل الـجنة, لأن التـي عادت نظيرة التـي نزعت فأكلت فـي كل معانـيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها لاشتبـاه جميعه فـي كل معانـيه.
وقال بعضهم: بل قالوا: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ لـمشابهته الذي قبله فـي اللون وإن خالفه فـي الطعم. ذكر من قال ذلك:
309ـ حدثنا القاسم بن الـحسين, قال: حدثنا الـحسين بن داود, قال: حدثنا شيخ من الـمَصّيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبـي كثـير, قال: يؤتـي أحدهم بـالصحفة فـيأكل منها, ثم يؤتـي بأخرى فـيقول: هذا الذي أُتـينا به من قبل, فـيقول الـمَلَكُ: كل فـاللون واحد والطعم مختلف.
وهذا التأويـل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفع صحته ظاهر التلاوة. والذي يدل علـى صحته ظاهر الآية ويحقق صحته قول القائلـين إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل فـي الدنـيا. وذلك أن الله جل ثناؤه قال: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا فأخبر جل ثناؤه أن من قـيـل أهل الـجنة كلـما رزقوا من ثمر الـجنة رزقا أن يقولوا: هذا الذي رُزقنا من قبل. ولـم يخصص بأن ذلك من قـيـلهم فـي بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قـيـلهم فـي كل ما رزقوا من ثمرها, فلا شك أن ذلك من قـيـلهم فـي أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الـجنة واستقرارهم فـيها, الذي لـم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أن ذلك من قـيـلهم فـي أوله, كما هو من قـيـلهم فـي وسطه وما يتلوه, فمعلوم أنه مـحال أن يكون من قـيـلهم لأوّل رزق رزقوه من ثمار الـجنة: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هذا من ثمار الـجنة. وكيف يجوز أن يقولوا لأوّل رزق رزقوه من ثمارها ولـما يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رزقناه من قبل إلا أن ينسبهم ذو غرّة وضلال إلـى قـيـل الكذب الذي قد طهرهم الله منه, أو يدفع دافع أن يكون ذلك من قـيـلهم لأول رزق رزقوه منها من ثمارها, فـيدفع صحة ما أوجب الله صحته بقوله: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا من غير نصب دلالة علـى أنه معنـيّ به حال من أحوال دون حال. فقد تبـين بـما بـينا أن معنى الآية: كلـما رزق الذين آمنوا وعملوا الصالـحات من ثمرة من ثمار الـجنة فـي الـجنة رزقا, قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هذا فـي الدنـيا.
فإن سألنا سائل فقال: وكيف قال القوم: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ والذي رُزقوه من قبل قد عدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الـجنة قولاً لا حقـيقة له؟ قـيـل: إن الأمر علـى غير ما ذهبت إلـيه فـي ذلك, وإنـما معناه: هذا من النوع الذي رزقناه من قبل هذا من الثمار والرزق, كالرجل يقول لاَخر: قد أعدّ لك فلان من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبـيخ والشواء والـحلوى, فـيقول الـمقول له ذاك: هذا طعامي فـي منزلـي. يعنـي بذلك أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعده له من الطعام هو طعامه, لأن أعيان ما أخبره صاحبه أنه قد أعدّه له هو طعامه. بل ذلك مـما لا يجوز لسامع سمعه يقول ذلك أن يتوهم أنه أراده أو قصده لأن ذلك خلاف مخرج كلام الـمتكلـم وإنـما يوجه كلام كل متكلـم إلـى الـمعروف فـي الناس من مخارجه دون الـمـجهول من معانـيه. فكذلك ذلك فـي قوله: قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ إذ كان ما كانوا رزقوه من قبل قد فنـي وعدم فمعلوم أنهم عنوا بذلك هذا من النوع الذي رزقناه من قبل, ومن جنسه فـي السّمات والألوان علـى ما قد بـينا من القول فـي ذلك فـي كتابنا هذا.
القول فـي تأول قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها.
قال أبو جعفر: والهاء فـي قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها عائدة علـى الرزق, فتأويـله: وأُتوا بـالذي رزقوا من ثمارها متشابها.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل الـمتشابه فـي ذلك, فقال بعضهم: تشابهه أن كله خيار لا رذل فـيه. ذكر من قال ذلك:
310ـ حدثنا خلاد بن أسلـم, قال: أخبرنا النضر بن شميـل, قال: أخبرنا أبو عامر عن الـحسن فـي قوله: مُتَشابِها قال: خيارا كلها لا رذل فـيها.
311ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء: قرأ الـحسن آيات من البقرة, فأتـى علـى هذه الآية: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: ألـم تروا إلـى ثمار الدنـيا كيف ترذلون بعضه؟ وإن ذلك لـيس فـيه رَذْل
312ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال الـحسن: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه بعضه بعضا لـيس فـيه من رَذْل.
313ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها أي خيارا لا رذل فـيه, وأن ثمار الدنـيا ينقـى منها ويرذل منها, وثمار الـجنة خيار كله لا يرذل منه شيء.
314ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: ثمر الدنـيا منه ما يرذل ومنه نُقاوة, وثمر الـجنة نقاوة كله يشبه بعضه بعضا فـي الطيب لـيس منه مرذول.
وقال بعضهم: تشابهه فـي اللون وهو مختلف فـي الطعم. ذكر من قال ذلك:
315ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النّبـي صلى الله عليه وسلم: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها فـي اللون والـمرأى, ولـيس يشبه الطعم.
316ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها مثل الـخيار.
وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وأتُوا بِه مُتَشابِها لونه, مختلفـا طعمه, مثل الـخيار من القثاء.
317ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر. عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها يشبه بعضه بعضا ويختلف الطعم.
318ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا الثوري, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: مُتَشابِها قال: مشتبها فـي اللون ومختلفـا فـي الطعم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج, عن مـجاهد: وأتُوا بِهِ مُتَشَابِها مثل الـخيار.
وقال بعضهم: تشابه فـي اللون والطعم. ذكر من قال ذلك:
319ـ حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن رجل, عن مـجاهد قوله: مُتَشَابِها قال: اللون والطعم.
320ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن الثوري, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد ويحيى بن سعيد: مُتَشابِها قالا: فـي اللون والطعم.
وقال بعضهم: تشابهه تشابه ثمر الـجنة وثمر الدنـيا فـي اللون وإن اختلف طعومهما. ذكر من قال ذلك:
321ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه ثمر الدنـيا غير أن ثمر الـجنة أطيب.
322ـ وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال حفص بن عمر, قال: حدثنا الـحكم بن أبـان عن عكرمة فـي قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه ثمر الدنـيا, غير أن ثمر الـجنة أطيب.
وقال بعضهم: لا يشبه شيء مـما فـي الـجنة ما فـي الدنـيا إلا الأسماء. ذكر من قال ذلك:
323ـ حدثنـي أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي ح, وحدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قالا جميعا: حدثنا سفـيان عن الأعمش, عن أبـي ظبـيان, عن ابن عبـاس قال أبو كريب فـي حديثه عن الأشجعي: لا يشبه شيء مـما فـي الـجنة ما فـي الدنـيا إلا الأسماء. وقال ابن بشار فـي حديثه عن مؤمل قال: لـيس فـي الدنـيا مـما فـي الـجنة إلا الأسماء.
حدثنا عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد عن الأعمش, عن أبـي ظبـيان, عن ابن عبـاس, قال: لـيس فـي الدنـيا من الـجنة شيء إلا الأسماء.
324ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يعرفون أسماءه كما كانوا فـي الدنـيا, التفـاح بـالتفـاح, والرمان بـالرمان, قالوا فـي الـجنة: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فـي الدنـيا, وأتُوُا بِهِ مُتَشابِها يعرفونه, ولـيس هو مثله فـي الطعم.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه التأويلات بتأويـل الآية, تأويـل من قال: وأُوتُوا بِهِ مُتَشابِها فـي اللون والـمنظر, والطعمُ مختلفٌ. يعنـي بذلك اشتبـاه ثمر الـجنة وثمر الدنـيا فـي الـمنظر واللون, مختلفـا فـي الطعم والذوق لـما قدمنا من العلة فـي تأويـل قوله: كُلـما رُزِقُوا مِنْعها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رِزِقنا مِنْ قَبْلُ وأن معناه: كلـما رزقوا من الـجنان من ثمرة من ثمارها رزقا قالُوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ هذا فـي الدنـيا. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك من أجل أنهم أُتوا بـما أتوا به من ذلك فـي الـجنة متشابها, يعنـي بذلك تشابه ما أتوا به فـي الـجنة منه والذي كانوا رزقوه فـي الدنـيا فـي اللون والـمرأى والـمنظر وإن اختلفـا فـي الطعم والذوق فتبـاينا, فلـم يكن لشيء مـما فـي الـجنة من ذلك نظير فـي الدنـيا.
وقد دللنا علـى فساد قول من زعم أن معنى قوله: قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ إنـما هو قول من أهل الـجنة فـي تشبـيههم بعض ثمرات الـجنة ببعض, وتلك الدلالة علـى فساد ذلك القول هي الدلالة علـى فساد قول من خالف قولنا فـي تأويـل قوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها لأن الله جل ثناؤه إنـما أخبر عن الـمعنى الذي من أجله قال القوم: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بقوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها.
ويُسأل من أنكر ذلك فـيزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مـما فـي الـجنة نظير الشيء مـما فـي الدنـيا بوجه من الوجوه, فـيقال له: أيجوز أن يكون أسماء ما فـي الـجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائر أسماء ما فـي الدنـيا منها؟ فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله, لأن الله جل ثناؤه إنـما عرّف عبـاده فـي الدنـيا ما هو عنده فـي الـجنة بـالأسماء التـي يسمى بها ما فـي الدنـيا من ذلك. وإن قال: ذلك جائز, بل هو كذلك قـيـل: فما أنكرت أن يكون ألوان ما فـيها من ذلك نظائر ألوان ما فـي الدنـيا منه بـمعنى البـياض والـحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان وإن تبـاينت فتفـاضلت بفضل حسن الـمرآة والـمنظر, فكان لـما فـي الـجنة من ذلك من البهاء والـجمال وحسن الـمرآة والـمنظر خلاف الذي لـما فـي الدنـيا منه كما كان جائزا ذلك فـي الأسماء مع اختلاف الـمسميات بـالفضل فـي أجسامها؟ ثم يعكس علـيه القول فـي ذلك, فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا أُلزم فـي الاَخر مثله.
وكان أبو موسى الأشعري يقول فـي ذلك بـما:
325ـ حدثنـي به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ وعبد الوهاب, ومـحمد بن جعفر, عن عوف عن قسامة عن الأشعري, قال: إن الله لـما أخرج آدم من الـجنة زوّده من ثمار الـجنة, وعلـمه صنعة كل شيء, فثماركم هذه من ثمار الـجنة, غير أن هذه تَغَيّرُ وتلك لا تَغَيّرُ.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن معنى قوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها أنه متشابه فـي الفضل: أي كل واحد منه له من الفضل فـي نـحوه مثل الذي للاَخر فـي نـحوه.
قال أبو جعفر: ولـيس هذا قولاً نستـجيز التشاغل بـالدلالة علـى فساده لـخروجه عن قول جميع علـماء أهل التأويـل, وحسب قول بخروجه عن قول أهل العلـم دلالة علـى خطئه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَهُمْ فِـيهَا أزْواجٌ مُطَهّرَةٌ.
قال أبو جعفر: والهاء والـميـم اللتان فـي «لهم» عائدتان علـى الذين آمنوا وعملوا الصالـحات, والهاء والألف اللتان فـي «فـيها» عائدتان علـى الـجنات. وتأويـل ذلك: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالـحات أن لهم جنات فـيها أزواج مطهرة. والأزواج جمع زوج, وهي امرأة الرجل, يقال: فلانة زوج فلان وزوجته. وأما قوله مُطَهّرَةٌ فإن تأويـله أنهن طهرن من كل أذى وقَذًى وريبة, مـما يكون فـي نساء أهل الدنـيا من الـحيض والنفـاس والغائط والبول والـمخاط والبصاق والـمنـيّ, وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والـمكاره. كما:
326ـ حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر. ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم, أما أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ فإنهن لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنـخمن.
327ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ يقول: مطهرة من القذر والأذى.
328ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى القطان, عن سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ولَهُمْ فِـيهَا أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَـمْذِين.
329ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نـحوه, إلا أنه زاد فـيه: ولا يُـمنـين ولا يحضن.
330ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: مطهرة من الـحيض والغائط والبول والنـخام والبزاق والـمنـيّ والولد.
وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
331ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: لا يبلن ولا يتغوّطن, ولا يحضن, ولا يـلدن, ولا يـمنـين, ولا يبزقن.
أخبرنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نـحو حديث مـحمد بن عمرو, عن أبـي عاصم.
332ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ إي والله من الإثم والأذى.
333ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: طهرهن الله من كل بول وغائط وقذر, ومن كل مأثم.
334ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن قتادة قال: مطهرة من الـحيض, والـحبل, والأذى.
335ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنـي ابن أبـي جعفر عن أبـيه, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: الـمطهرة من الـحيض والـحبل.
336ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد: وَلَهُمْ فـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: الـمطهرة: التـي لا تـحيض قال: وأزواج الدنـيا لـيست بـمطهرة, ألا تراهن يدمين ويتركن الصلاة والصيام؟ قال ابن زيد: وكذلك خـلقت حوّاء حتـى عصت, فلـما عصت قال الله: إنـي خـلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة.
337ـ وحدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع عن الـحسن فـي قوله وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: يقول: مطهرة من الـحيض.
حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا خالد بن يزيد, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, عن الـحسن فـي قوله: وَلَهُمْ فـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: من الـحيض.
338ـ وحدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جريج, عن عطاء قوله: لَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: من الولد والـحيض والغائط والبول, وذكر أشياء من هذا النـحو.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَهُمْ فـيها خالدُونَ.
قال أبو جعفر: يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالـحات فـي الـجنات خالدون, فـالهاء والـميـم من قوله وَهُمْ عائدة علـى الذين آمنوا وعملوا الصالـحات, والهاء والألف فـي «فـيها» علـى الـجنات, وخـلودهم فـيها: دوام بقائهم فـيها علـى ما أعطاهم الله فـيها من الـحَبْرَة والنعيـم الـمقـيـم.
الآية : 26
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهَـَذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فـيه هذه الآية وفـي تأويـلها.
فقال بعضهم بـما:
339ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: لـما ضرب الله هذين الـمثلـين للـمنافقـين, يعنـي قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقوله: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السّماءِ الاَيات الثلاث, قال الـمنافقون: الله أعلـى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله إنّ اللّهَ لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً إلـى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ.
وقال آخرون بـما:
340ـ حدثنـي به أحمد بن إبراهيـم, قال: حدثنا قُراد عن أبـي جعفر الرازي, عن الربـيع بن أنس, فـي قوله تعالـى: إنّ اللّهَ لا يَسْتَـحِيِـي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا قال: هذا مثل ضربه الله للدنـيا, إن البعوضة تـحيا ما جاعت, فإذا سمنت ماتت, وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا الـمثل فـي القرآن, إذا امتلئوا من الدنـيا رِيّا أخذهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فلَـمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَـحْنَا عَلَـيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ الآية.
341ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس بنـحوه, إلا أنه قال: فإذا خـلت آجالهم, وانقطعت مدتهم, صاروا كالبعوضة تـحيا ما جاعت وتـموت إذا رويت فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا الـمثل إذا امتلئوا من الدنـيا ريّا أخذهم الله فأهلكهم, فذلك قوله: حَتّـى إذَا فَرِحُوا بِـمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ.
وقال آخرون بـما:
342ـ حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: إن اللّهَ لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا أي إن الله لا يستـحيـي من الـحقّ أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر. إن الله حين ذكر فـي كتابه الذبـاب والعنكبوت, قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: إنّ اللّهَ لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.
وحدثنا الـحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لـما ذكر الله العنكبوت والذبـاب, قال الـمشركون: ما بـال العنكبوت والذبـاب يذكران؟ فأنزل الله: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها.
وقد ذهب كل قائل مـمن ذكرنا قوله فـي هذه الآية وفـي الـمعنى الذي نزلت فـيه مذهبـا, غير أن أولـى ذلك بـالصواب وأشبهه بـالـحقّ ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عبـاس. وذلك أن الله جل ذكره أخبر عبـاده أنه لا يستـحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها عقـيب أمثال قد تقدمت فـي هذه السورة ضربها للـمنافقـين دون الأمثال التـي ضربها فـي سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول, أعنـي قوله: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما جوابـا لنكير الكفـار والـمنافقـين ما ضُرب لهم من الأمثال فـي هذه السورة أحقّ وأولـى من أن يكون ذلك جوابـا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال فـي غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنـما أوجب أن يكون ذلك جوابـا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال فـي سائر السور لأن الأمثال التـي ضربها الله لهم ولاَلهتهم فـي سائر السور أمثال موافقة الـمعنى, لـما أخبر عنه أنه لا يستـحي أن يضربه مثلاً, إذْ كان بعضها تـمثـيلاً لاَلهتهم بـالعنكبوت وبعضها تشبـيها لها فـي الضعف والـمهانة بـالذبـاب, ولـيس ذكر شيء من ذلك بـموجود فـي هذه السورة فـيجوز أن يقال: إن الله لا يستـحيـي أن يضرب مثلاً ما فإن ذلك بخلاف ما ظن, وذلك أن قول الله جل ثناؤه: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا إنـما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستـحيـي أن يضرب فـي الـحقّ من الأمثال صغيرها وكبـيرها ابتلاءً بذلك عبـاده واختبـارا منه لهم لـيـميز به أهل الإيـمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به, إضلالاً منه به لقوم وهداية منه به لاَخرين كما:
343ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: مَثَلاً مَا بَعُوضَةً يعنـي الأمثال صغيرها وكبـيرها, يؤمن بها الـمؤمنون, ويعلـمون أنها الـحقّ من ربهم, ويهديهم الله بها, ويضلّ بها الفـاسقـين. يقول: يعرفه الـمؤمنون فـيؤمنون به, ويعرفه الفـاسقون فـيكفرون به.
وحدثنـي الـمثنى, قال حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بـمثله.
وحدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد مثله.
قال أبو جعفر: لا أنه جل ذكره قصد الـخبر عن عين البعوضة أنه لا يستـحيـي من ضرب الـمثل بها, ولكن البعوضة لـما كانت أضعف الـخـلق كما:
344ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة, قال: البعوضة أضعف ما خـلق الله.
345ـ وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج بنـحوه. خصها الله بـالذكر فـي القلة, فأخبر أنه لا يستـحيـي أن يضرب أقلّ الأمثال فـي الـحقّ وأحقرها وأعلاها إلـى غير نهاية فـي الارتفـاع جوابـا منه جل ذكره لـمن أنكر من منافقـي خـلقه ما ضرب لهم من الـمثل بـموقد النار والصيّب من السماء علـى ما نَعَتهما به من نَعْتهما.
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير الـمنافقـين الأمثال التـي وصفت الذي هذا الـخبر جوابه, فنعلـم أن القول فـي ذلك ما قلت؟ قـيـل: الدلالة علـى ذلك بـينها جلّ ذكره فـي قوله: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً وأن القوم الذين ضرب لهم الأمثال فـي الاَيتـين الـمقدمتـين, اللتـين مثّل ما علـيه الـمنافقون مقـيـمون فـيهما بـمُوقِدِ النار وبـالصيب من السماء علـى ما وصف من ذلك قبل قوله: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً قد أنكروا الـمثل وقالوا: ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً, فأوضح خطأ قـيـلهم ذلك, وقبح لهم ما نطقوا به وأخبرهم بحكمهم فـي قـيـلهم ما قالوا منه, وأنه ضلال وفسوق, وأن الصواب والهدى ما قاله الـمؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويـل قوله: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي فإن بعض الـمنسوبـين إلـى الـمعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي إن الله لا يخشى أن يضرب مثلاً, ويستشهد علـى ذلك من قوله بقول الله تعالـى: وَتَـخْشَى الناسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَـخْشاهُ ويزعم أن معنى ذلك: وتستـحي الناسَ والله أحقّ أن تستـحيه فـيقول: الاستـحياء بـمعنى الـخشية, والـخشية بـمعنى الاستـحياء.
وأما معنى قوله: أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً فهو أن يبـين ويصف, كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ بـمعنى وصف لكم, وكما قال الكميت:
وذَلِكَ ضَرْبُ أخْماسٍ أُرِيدَتْلأِسْدَاسٍ عَسَى أنْ لا تَكُونا
بـمعنى وصف أخماس. والـمثل: الشبه, يقال: هذا مَثَلُ هذا ومِثْلُه, كما يقال: شَبَهُه وشِبْهُه, ومنه قول كعب بن زهير:
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاًوَمَا مَوَاعِيدُها إلاّ الأبـاطِيـلُ
يعنـي شَبَها.
فمعنى قوله إذا: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً: إن الله لا يخشى أن يصف شبها لـما شبه به وأما «ما» التـي مع «مثل» فإنها بـمعنى «الذي», لأن معنى الكلام: إن الله لا يستـحيـي أن يضرب الذي هو بعوضة فـي الصغر والقلة فما فوقها مثلاً.
فإن قال لنا قائل: فإن كان القول فـي ذلك كما قلت فما وجه نصب البعوضة, وقد علـمت أن تأويـل الكلام علـى ما تأوّلت: إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَـحْيِـي أن يَضْرِبَ مَثَلاً الذي هو بعوضة, فـالبعوضة علـى قولك فـي مـحل الرفع, فأنّى أتاها النصب؟ قـيـل: أتاها النصب من وجهين: أحدهما أن ما لـما كانت فـي مـحل نصب بقوله: يَضْرِب وكانت البعوضة لها صلة أعربت بتعريبها فألزمت إعرابها كما قال حسان بن ثابت:
وكَفَـى بِنا فَضْلاً علـى مَنْ غَيْرِناحُبّ النّبِـيّ مُـحَمّدٍ إيّانا
فعرّبت غير بإعراب «مَنْ», فـالعرب تفعل ذلك خاصة فـي «من» و«ما» تعرب صلاتهما بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة أحيانا ونكرة أحيانا.
وأما الوجه الاَخر, فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستـحيـي أن يضرب مثلاً ما بـين بعوضة إلـى ما فوقها, ثم حذف ذكر «بـين» و«إلـى», إذ كان فـي نصب البعوضة ودخول الفـاء فـي «ما» الثانـية دلالة علـيهما, كما قالت العرب: «مُطرنا ما زبـالة فـالثعلبـية», و«له عشرون ما ناقة فجملاً», و«هي أحسن الناس ما قرنا فقدما», يعنون: ما بـين قرنها إلـى قدمها, وكذلك يقولون فـي كل ما حسن فـيه من الكلام دخول «ما بـين كذا إلـى كذا», ينصبون الأول والثانـي لـيدلّ النصب فـيهما علـى الـمـحذوف من الكلام. فكذلك ذلك فـي قوله: ما بعوضة فما فوقها.
وقد زعم بعض أهل العربـية أن «ما» التـي مع الـمَثَل صلة فـي الكلام بـمعنى التطوّل, وأن معنى الكلام: إن الله لا يستـحيـي أن يضرب بعوضة مثلاً فما فوقها. فعلـى هذا التأويـل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب«يضرب», وأن تكون «ما» الثانـية التـي فـي «فما فوقها» معطوفة علـى البعوضة لا علـى «ما».
وأما تأويـل قوله: فَمَا فَوْقَهَا: فما هو أعظم منها عندي لـما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خـلق الله, فإذا كانت أضعف خـلق الله فهي نهاية فـي القلة والضعف, وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه, فقد يجب أن يكون الـمعنى علـى ما قالاه فما فوقها فـي العظم والكبر, إذ كانت البعوضة نهاية فـي الضعف والقلة.
وقـيـل فـي تأويـل قوله: فَمَا فَوْقَها فـي الصغر والقلة, كما يقال فـي الرجل يذكره الذاكر فـيصفه بـاللؤم والشحّ, فـيقول السامع: نعم, وفوق ذاك, يعنـي فوق الذي وصف فـي الشحّ واللؤم. وهذا قول خلاف تأويـل أهل العلـم الذين تُرتضى معرفتهم بتأويـل القرآن, فقد تبـين إذا بـما وصفنا أن معنى الكلام: إن الله لا يستـحيـي أن يصف شبها لـما شبه به الذي هو ما بـين بعوضة إلـى ما فوق البعوضة. فأما تأويـل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز فـي ما إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بـمعنى التطول.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَأما الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأما الّذِينَ كَفَروا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ذكره: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فأما الذين صدقوا الله ورسوله. وقوله: فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعنـي فـيعرفون أن الـمثل الذي ضربه الله لـما ضربه له مثل. كما.
346ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ أن هذا الـمثل الـحق من ربهم أنه كلام الله ومن عنده. وكما:
347ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, قوله: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ: أي يعلـمون أنه كلام الرحمن وأنه الـحقّ من الله.
وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذا مَثَلاً قال أبو جعفر: وقوله: وأما الّذِينَ كَفَرُوا يعنـي الذين جحدوا آيات الله وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علـموا أنه حقّ. وذلك صفة الـمنافقـين, وإياهم عنى الله جل وعزّ ومن كان من نظرائهم وشركائهم من الـمشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية, فـيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلاً, كما قد ذكرنا قبل من الـخبر الذي رويناه عن مـجاهد الذي.
348ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَق مِنْ رَبّهِمْ الآية, قال: يؤمن بها الـمؤمنون, ويعلـمون أنها الـحقّ من ربهم, ويهديهم الله بها ويضلّ بها الفـاسقون. يقول: يعرفه الـمؤمنون فـيؤمنون به, ويعرفه الفـاسقون فـيكفرون به.
وتأويـل قوله: ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً ما الذي أراد الله بهذا الـمثل مثلاً, ف«ذا» الذي مع «ما» فـي معنى «الذي» وأراد صلته, وهذا إشارة إلـى الـمثل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يضلّ به كَثِـيرا ويَهْدِي بِهِ كَثِـيرا.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل وعزّ: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا يضلّ الله به كثـيرا من خـلقه, والهاء فـي «به» من ذكر الـمثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ, ومعنى الكلام: أن الله يضلّ بـالـمثل الذي يضرّبه كثـيرا من أهل النفـاق والكفر. كما:
349ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا يعنـي الـمنافقـين, وَيَهْدِي بِهِ كَثِـيرا يعنـي الـمؤمنـين فـيزيد هؤلاء ضلالاً إلـى ضلالهم لتكذيبهم بـما قد علـموه حقا يقـينا من الـمثل الذي ضربه الله لـما ضربه له وأنه لـما ضربه له موافق, فذلك إضلال الله إياهم به. ويهدي به يعنـي بـالـمثل كثـيرا من أهل الإيـمان والتصديق, فـيزيدهم هدى إلـى هداهم وإيـمانا إلـى إيـمانهم, لتصديقهم بـما قد علـموه حقا يقـينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به, وذلك هداية من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن الـمنافقـين, كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بـمثل لا يعرفه كل أحد يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والـخبر عن الله فقال الله: وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفـاسِقِـينَ وفـيـما فـي سورة الـمدثر من قول الله: وَلِـيَقُولَ الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ما ينبىء عن أنه فـي سورة البقرة كذلك مبتدأ, أعنـي قوله: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا وَيَهْدِي بِهِ كَثِـيرا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ.
وتأويـل ذلك ما:
350ـ حدثنـي به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره, عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ: هم الـمنافقون.
351ـ وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ فسقوا فأضلهم الله علـى فسقهم.
352ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: وَما يُضِل بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ: هم أهل النفـاق.
قال أبو جعفر: وأصل الفسق فـي كلام العرب: الـخروج عن الشيء, يقال منه: فسقت الرطبة, إذا خرجت من قشرها ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة, لـخروجها عن جحرها. فكذلك الـمنافق والكافر سُميا فـاسقـين لـخروجهما عن طاعة ربهما, ولذلك قال جل ذكره فـي صفة إبلـيس: إلاّ إبْلِـيسَ كَانَ مِنَ الـجنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يعنـي به: خرج عن طاعته واتبـاع أمره. كما:
353ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق عن داود بن الـحصين, عن عكرمة مولـى ابن عبـاس, عن ابن عبـاس فـي قوله: بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أي بـما بعدوا عن أمري.
فمعنى قوله: وَمَا يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفـاسِقِـينَ: وما يضلّ الله بـالـمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفـاق إلا الـخارجين عن طاعته والتاركين اتبـاع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفـاق.
الآية : 27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفـاسقـين الذين أخبر أنه لا يضلّ بـالـمثل الذي ضربه لأهل النفـاق غيرهم, فقال: ومَا يُضِلّ اللّهُ بـالـمثل الذي يضربه علـى ما وصف قبل فـي الاَيات الـمتقدمة إلا الفـاسقـين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل الـمعرفة فـي معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفـاسقـين بنقضه, فقال بعضهم: هو وصية الله إلـى خـلقه, وأمره إياهم بـما أمرهم به من طاعته, ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته فـي كتبه وعلـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم, ونقضهم ذلك تركهم العمل به.
وقال آخرون: إنـما نزلت هذه الاَيات فـي كفـار أهل الكتاب والـمنافقـين منهم, وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ وبقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ فكل ما فـي هذه الاَيات فعذل لهم وتوبـيخ إلـى انقضاء قصصهم. قالوا: فعهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه: هو ما أخذه الله علـيهم فـي التوراة من العمل بـما فـيها, واتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث, والتصديق به وبـما جاء به من عند ربهم. ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقـيقته, وإنكارهم ذلك, وكتـمانهم علـم ذلك عن الناس, بعد إعطائهم الله من أنفسهم الـميثاق لـيبـيننه للناس ولا يكتـمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قلـيلاً.
وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفـاق وعهده إلـى جميعهم فـي توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالز علـى ربوبـيته وعهده إلـيهم فـي أمره ونهيه ما احتـج به لرسله من الـمعجزات التـي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتـي بـمثلها الشاهدة لهم علـى صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بـما قد تبـينت لهم صحته بـالأدلة, وتكذيبهم الرسل والكتب, مع علـمهم أن ما أتوا به حق.
وقال آخرون: العهد الذي ذكره الله جل ذكره, هو العهد الذي أخذه علـيهم حين أخرجهم من صلب آدم, الذي وصفه فـي قوله: وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ علـى أنْفُسِهِمْ الاَيتـين, ونقضُهم ذلك, تركهم الوفـاء به. وأولـى الأقوال عندي بـالصواب فـي ذلك, قول من قال: إن هذه الاَيات نزلت فـي كفـار أحبـار الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما قرب منها من بقايا بنـي إسرائيـل, ومن كان علـى شركه من أهل النفـاق الذين قد بـينا قصصهم فـيـما مضى من كتاب هذا. وقد دللنا علـى أن قول الله جل ثناؤه: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ وقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِـاللّهِ وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ فـيهم أنزلت, وفـيـمن كان علـى مثل الذي هم علـيه من الشرك بـالله. غير أن هذه الاَيات عندي وإن كانت فـيهم نزلت, فإنه معنـيّ بها كل من كان علـى مثل ما كانوا علـيه من الضلال, ومعنـيّ بـما وافق منها صفة الـمنافقـين خاصةً جميعُ الـمنافقـين, وبـما وافق منها صفة كفـار أحبـار الـيهود جميع من كان لهم نظيرا فـي كفرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه يعمّ أحيانا جميعهم بـالصفة لتقديـمه ذكر جميعها فـي أول الاَيات التـي ذكرتْ قصصهم, ويخصّ أحيانا بـالصفة بعضهم لتفصيـله فـي أول الاَيات بـين فريقـيهم, أعنـي فريق الـمنافقـين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بـالله, وفريق كفـار أحبـار الـيهود, فـالذين ينقضون عهد الله: هم التاركون ما عهد الله إلـيهم من الإقرار بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به وتبـيـين نبوّته للناس الكاتـمون بـيان ذلك بعد علـمهم به وبـما قد أخذ الله علـيهم فـي ذلك, كما قال الله جل ذكره: وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ لَتُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ ولا تَكْتُـمُونَهُ فَنبذوهُ وراءَ ظهُورهِمْ ونبذهم ذلك وراء ظهورهم: هو نقضهم العهد الذي عهد إلـيهم فـي التوراة الذي وصفناه, وتَرْكُهم العمل به.
وإنـما قلت: إنه عنى بهذه الاَيات من قلت إنه عَنَى بها, لأن الاَيات من ابتداء الاَيات الـخمس والستّ من سورة البقرة فـيهم نزلت إلـى تـمام قصصهم, وفـي الآية التـي بعد الـخبر عن خـلق آدم وبـيانه فـي قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُروا نِعْمَتِـي الّتِـي أنْعَمْتُ عَلَـيْكُمْ وأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ وخطابه إياهم جلّ ذكره بـالوفـاء فـي ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدلّ علـى أن قوله: الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ مقصود به كفـارهم ومنافقوهم, ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان علـى ضلالهم. غير أن الـخطاب وإن كان لـمن وصفت من الفريقـين فداخـل فـي أحكامهم وفـيـما أوجب الله لهم من الوعيد والذمّ والتوبـيخ كل من كان علـى سبـيـلهم ومنهاجهم من جميع الـخـلق وأصناف الأمـم الـمخاطبـين بـالأمر والنهي. فمعنى الآية إذا: وما يضلّ به إلا التاركين طاعة الله, الـخارجين عن اتبـاع أمره ونهيه, الناكثـين عهود الله التـي عهدها إلـيهم فـي الكتب التـي أنزلها إلـى رسله وعلـى ألسن أنبـيائه بـاتبـاع أمر رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وطاعة الله فـيـما افترض علـيهم فـي التوراة من تبـيـين أمره للناس, وإخبـارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبـا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته وترك كتـمان ذلك لهم. ونَكْثُهم ذلك ونَقْضُهم إياه, هو مخالفتهم الله فـي عهده إلـيهم فـيـما وصفت أنه عهد إلـيهم بعد إعطائهم ربهم الـميثاق بـالوفـاء بذلك كما وصفهم به جل ذكره بقوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يأخُذونَ عَرَضَ هَذَا الأدنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإنْ يأتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يأخُذُوهُ ألَـمْ يُؤْخَذْ عَلَـيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ أنْ لا يَقُولُوا علـى اللّهِ إلاّ الـحَقّ.
وأما قوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فإنه يعنـي من بعد توثق الله فـيه بأخذ عهوده بـالوفـاء له بـما عهد إلـيهم فـي ذلك, غير أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان توثّقا, والـميثاق اسم منه, والهاء فـي الـميثاق عائدة علـى اسم الله.
وقد يدخـل فـي حكم هذه الآية كل من كان بـالصفة التـي وصف الله بها هؤلاء الفـاسقـين من الـمنافقـين والكفـار فـي نقض العهد وقطع الرحم والإفساد فـي الأرض. كما:
354ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: الّذِينَ يَنْقُضونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فإياكم ونقض هذا الـميثاق, فإن الله قد كره نقضه وأوعد فـيه وقدم فـيه فـي آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة, وإنا لا نعلـم الله جل ذكره أوعد فـي ذنب ما أوعد فـي نقض الـميثاق, فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فلـيف به لله.
355ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ الله بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فـي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ فهي ست خلال فـي أهل النفـاق إذا كانت لهم الظّهَرَة أظهروا هذه الـخلال الستّ جميعا: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وعدوا أخـلفوا, وإذا اؤتـمنوا خانوا, ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل, وأفسدوا فـي الأرض. وإذا كانت علـيهم الظّهَرَة أظهروا الـخلال الثلاث: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وعدوا أخـلفوا, وإذا اؤتـمنوا خانوا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ.
قال أبو جعفر: والذي رغب الله فـي وصله وذمّ علـى قطعه فـي هذه الآية: الرحم, وقد بـين ذلك فـي كتابه فقال تعالـى: فَهَلْ عَسَيْتُـمْ إنْ تَوَلّـيْتُـمْ أنْ تُفْسِدُوا فِـي الأرْضِ وتُقَطّعُوا أرْحَامَكُمْ وإنـما عنى بـالرحم: أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة, وقطع ذلك ظلـمه فـي ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها وأوجب من برّها ووصلها أداء الواجب لها إلـيها: من حقوق الله التـي أوجب لها, والتعطف علـيها بـما يحقّ التعطف به علـيها. و«أن» التـي مع «يوصل» فـي مـحل خفض بـمعنى ردّها علـى موضع الهاء التـي فـي «به» فكان معنى الكلام: ويقطعون الذي أمر الله بأن يوصل. والهاء التـي فـي «به» هي كناية عن ذكر «أن يوصل».
وبـما قلنا فـي تأويـل قوله: ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ وأنه الرحم كان قتادة يقول:
356ـ حدثنا بشر بن معاذ. قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة.
وقد تأوّل بعضهم ذلك أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين به وأرحامهم, واستشهد علـى ذلك بعموم ظاهر الآية, وأن لا دلالة علـى أنه معنـيّ بها: بعض ما أمر الله بوصله دون بعض.
قال أبو جعفر: وهذا مذهب من تأويـل الآية غير بعيد من الصواب, ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر الـمنافقـين فـي غير آية من كتابه, فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرة تلك, غير أنها وإن كانت كذلك فهي دالة علـى ذمّ الله كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله رحما كانت أو غيرها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ويُفْسِدُونَ فـي الأرْضِ.
قال أبو جعفر: وفسادهم فـي الأرض هو ما تقدم وَصْفُنَاه قبل من معصيتهم ربهم وكفرهم به, وتكذيبهم رسوله, وجحدهم نبوّته, وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حق من عنده.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ.
قال أبو جعفر: والـخاسرون جمع خاسر, والـخاسرون: الناقصون أنفسهم حظوظها بـمعصيتهم الله من رحمته, كما يخسر الرجل فـي تـجارته بأن يوضَع من رأس ماله فـي بـيعه. فكذلك الكافر والـمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التـي خـلقها لعبـاده فـي القـيامة أحوج ما كان إلـى رحمته, يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَر خَسْرا وخُسْرانا وخَسَارا, كما قال جرير بن عطية:
إنّ سَلِـيطا فِـي الـخسَارِ إنّهْأوْلادُ قَوْمٍ خُـلِقُوا أقِنّهْ
يعنـي بقوله فـي الـخسار: أي فـيـما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم.
وقد قـيـل: إن معنى أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ: أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بـالصفة التـي وصفه بها فـي هذه الآية بحرمان الله إياه ما حرمه من رحمته بـمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويـل الكلام علـى معناه دون البـيان عن تأويـل عين الكلـمة بعينها, فإن أهل التأويـل ربـما فعلوا ذلك لعلل كثـيرة تدعوهم إلـيه.
وقال بعضهم فـي ذلك بـما:
357ـ حدثت به عن الـمنـجاب. قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: كل شيء نسبه الله إلـى غير أهل الإسلام من اسم مثل «خاسر», فإنـما يعنـي به الكفر, وما نسبه إلـى أهل الإسلام فإنـما يعنـي به الذنب.
الآية : 28
====== !!!! يوجد خطأ فى البرنامج !!! =========
الآية : 29
تأويل قوله تعالى:{هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
فأخبرهم جل ذكره أنه خـلق لهم ما فـي الأرض جميعا, لأن الأرض وجميع ما فـيها لبنـي آدم منافع. أما فـي الدين فدلـيـل علـى وحدانـية ربهم, وأما فـي الدنـيا فمعاش وبلاغ لهم إلـى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا. وقوله: «هو» مكنى من اسم الله جل ذكره, عائد علـى اسمه فـي قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِـاللّهِ. ومعنى خـلقه ما خـلق جل ثناؤه: إنشاؤه عينه, وإخراجه من حال العدم إلـى الوجود. و«ما» بـمعنى «الذي». فمعنى الكلام إذا: كيف تكفرون بـالله وقد كنتـم نطفـا فـي أصلاب آبـائكم, فجعلكم بشرا أحياء, ثم يـميتكم, ثم هو مـحيـيكم بعد ذلك, وبـاعثكم يوم الـحشر للثواب والعقاب, وهو الـمنعم علـيكم بـما خـلق لكم فـي الأرض من معايشكم وأدلتكم علـى وحدانـية ربكم. و«كيف» بـمعنى التعجب والتوبـيخ لا بـمعنى الاستفهام, كأنه قال: ويحكم كيف تكفرون بـالله, كما قال: فأين تذهبون. وحل قوله: وكُنْتُـمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ مـحلّ الـحال, وفـيه إضمار «قد», ولكنها حذفت لـما فـي الكلام من الدلـيـل علـيها. وذلك أن «فعل» إذا حلت مـحلّ الـحال كان معلوما أنها مقتضية «قد», كما قال جل ثناؤه: أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بـمعنى: قد حصرت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحت كثرت ماشيتك, تريد: قد كثرت ماشيتك.
وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: هوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا كان قتادة يقول:
368ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا نعم والله سخر لكم ما فـي الأرض.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ثُم اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ.
قال أبو جعفر: اختلف فـي تأويـل قوله: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ فقال بعضهم: معنى استوى إلـى السماء, أقبل علـيها, كما تقول: كان فلان مقبلاً علـى فلان ثم استوى علـيّ يشاتـمنـي واستوى إلـيّ يشاتـمنـي, بـمعنى: أقبل علـيّ وإلـيّ يشاتـمنـي. واستشهد علـى أن الاستواء بـمعنى الإقبـال بقول الشاعر:
أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَىسَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضّجُوعِ
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع, وكان ذلك عنده بـمعنى أقبلن. وهذا من التأويـل فـي هذا البـيت خطأ, وإنـما معنى قوله: «واستوين من الضجوع» عندي: استوين علـى الطريق من الضجوع خارجات, بـمعنى استقمن علـيه.
وقال بعضهم: لـم يكن ذلك من الله جل ذكره بتـحوّل, ولكنه بـمعنى فعله, كما تقول: كان الـخـلـيفة فـي أهل العراق يوالـيهم ثم تـحوّل إلـى الشام, إنـما يريد تـحوّل فعله.
وقال بعضهم: قوله ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ يعنـي به: استوت, كما قال الشاعر:
أقُولُ لَهُ لَـمّا اسْتَوَى فـي تُرَابِهِعلـى أيّ دِينٍ قَتّلَ الناسَ مُصْعَبُ
وقال بعضهم: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ: عمد إلـيها. وقال: بل كل تارك عملاً كان فـيه إلـى آخره فهو مستو لـما عمد ومستو إلـيه.
وقال بعضهم: الاستواء: هو العلوّ, والعلوّ: هو الارتفـاع.
ومـمن قال ذلك الربـيع بن أنس.
369ـ حدثت بذلك عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ يقول: ارتفع إلـى السماء.
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بـمعنى العلوّ والارتفـاع فـي الذي استوى إلـى السماء, فقال بعضهم: الذي استوى إلـى السماء وعلا علـيها: هو خالقها ومنشئها.
وقال بعضهم: بل العالـي إلـيها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء.
قال أبو جعفر: الاستواء فـي كلام العرب منصرف علـى وجوه: منها انتهاء شبـاب الرجل وقوّته, فـيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل, ومنها استقامة ما كان فـيه أَوَدٌ من الأمور والأسبـاب, يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيـم:
طالَ علـى رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْوعَفـا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ
يعنـي: استقام به.
ومنها الإقبـال علـى الشيء بـالفعل, كما يقال: استوى فلان علـى فلان بـما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إلـيه. ومنها الاحتـياز والاستـيلاء كقولهم: استوى فلان علـى الـمـملكة, بـمعنى احتوى علـيها وحازها. ومنها العلوّ والارتفـاع, كقول القائل: استوى فلان علـى سريره, يعنـي به علوّه علـيه.
وأولـى الـمعانـي بقول الله جل ثناؤه: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السماءِ فَسَوّاهُنْ علا علـيهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخـلقهنّ سبع سموات.
والعجب مـمن أنكر الـمعنى الـمفهوم من كلام العرب فـي تأويـل قول الله: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ الذي هو بـمعنى العلوّ والارتفـاع هربـا عند نفسه من أن يـلزمه بزعمه إذا تأوله بـمعناه الـمفهم كذلك أن يكون إنـما علا وارتفع بعد أن كان تـحتها, إلـى أن تأوله بـالـمـجهول من تأويـله الـمستنكر, ثم لـم ينـج مـما هرب منه. فـيقال له: زعمت أن تأويـل قوله: اسْتَوَى أقْبَلَ, أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إلـيها؟ فإن زعم أن ذلك لـيس بإقبـال فعل ولكنه إقبـال تدبـير, قـيـل له: فكذلك فقل: علا علـيها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله, ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بـما لـيس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال فـي ذلك قولاً لقول أهل الـحقّ فـيه مخالفـا, وفـيـما بـينا منه ما يشرف بذي الفهم علـى ما فـيه له الكفـاية إنه شاء الله تعالـى.
قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلـى السماء, كان قبل خـلق السماء أم بعده؟ قـيـل: بعده, وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات, كما قال جل ثناؤه: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها والاستواء كان بعد أن خـلقها دخانا, وقبل أن يسوّيها سبع سموات.
وقال بعضهم: إنـما قال استوى إلـى السماء ولا سماء, كقول الرجل لاَخر: «اعمل هذا الثوب» وإنـما معه غزلٌ. وأما قوله فَسَوّاهُنّ فإنه يعنـي هيأهنّ وخـلقهنّ ودبرهنّ وقوّمهنّ, والتسوية فـي كلام العرب: التقويـم والإصلاح والتوطئة, كما يقال: سوّى فلان لفلان هذا الأمر: إذا قوّمه وأصلـحه ووطأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويـمه إياهن علـى مشيئته, وتدبـيره لهن علـى إرادته, وتفتـيقهن بعد ارتاقهن كما:
370ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ يقول: سوى خـلقهن وهو بكل شيء علـيـم.
وقال جل ذكره: فَسَوّاهُنّ فأخرج مكنـيّهن مخرج مكنى الـجمع. وقد قال قبل: ثم استوى إلـى السماء فأخرجها علـى تقدير الواحد. وإنـما أخرج مكنـيهن مخرج مكنـيّ الـجمع. لأن السماء جمع واحدها سماوة, فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر, ونـخـلة ونـخـل وما أشبه ذلك ولذلك أُنّثَتْ مرة, فقـيـل: هذه سماء, وذُكّرتْ أخرى فقـيـل: السماء منفطر به كما يفعل ذلك بـالـجمع الذي لا فرق بـينه وبـين واحدة غير دخول الهاء وخروجها, فـيقال: هذا بقر وهذه بقر, وهذا نـخـل وهذه نـخـل, وما أشبه ذلك. وكان بعض أهل العربـية يزعم أن السماء واحدة, غير أنها تدلّ علـى السموات, فقـيـل: فَسَوّاهُنّ يراد بذلك التـي ذكرت, وما دلت علـيه من سائر السموات التـي لـم تذكر معها. قال: وإنـما تذكّر إذا ذكّرت وهي مؤنثة, فـيقال: السماء منفطر به كما يذكر الـمؤنث, وكما قال الشاعر:
فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهاولا أرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
وكما قال أعشى بنـي ثعلبة:
فإمّا تَرَيْ لِـمّتِـي بُدّلَتْفإنّ الـحَوَادِثَ أزْرَى بِهَا
وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء, وأرضا فوق أرض, فهي فـي التأويـل واحدة إن شئت, ثم تكون تلك الواحدة جماعا, كما يقال: ثوب أخلاق وأسمال, وبرمة أعشار للـمتكسرة, وبرمة أكسار وأجبـار, وأخلاق: أي أن نواحيه أخلاق.
فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت: إن الله جل ثناؤه استوى إلـى السماء وهي دخان قبل أن يسوّيها سبع سموات, ثم سوّاها سبعا بعد استوائه إلـيها, فكيف زعمت أنها جماع؟ قـيـل: إنهنّ كنّ سبعا غير مستويات, فلذلك قال جلّ ذكره: فسوّاهنّ سبعا: كما:
371ـ حدثنـي مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: قال مـحمد بن إسحاق: كان أوّل ما خـلق الله تبـارك وتعالـى: النور والظلـمة, ثم ميز بـينهما فجعل الظلـمة لـيلاً أسود مظلـما, وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا, ثم سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلـم من دخان الـماء حتـى استقللن ولـم يحبكهن, وقد أغطش فـي السماء الدنـيا لـيـلها وأخرج ضحاها, فجرى فـيها اللـيـل والنهار, ولـيس فـيها شمس ولا قمر ولا نـجوم, ثم دحى الأرض, وأرساها بـالـجبـال, وقدّر فـيها الأقوات, وبثّ فـيها ما أراد من الـخـلق, ففرغ من الأرض وما قدّر فـيها من أقواتها فـي أربعة أيام. ثم استوى إلـى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن, وجعل فـي السماء الدنـيا شمسها وقمرها ونـجومها, وأوحى فـي كل سماء أمرها, فأكمل خـلقهنّ فـي يومين. ففرغ من خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام, ثم استوى فـي الـيوم السابع فوق سمواته, ثم قال للسموات والأرض: ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها لـما أردت بكما, فـاطمئنا علـيه طوعا أو كرها, قَالتَا: أتَـيْنا طائِعِينَ.
فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلـى السماء بعد خـلقه الأرض وما فـيها وهنّ سبع من دخان, فسوّاهنّ كما وصف. وإنـما استشهدنا لقولنا الذي قلنا فـي ذلك بقول ابن إسحاق لأنه أوضح بـيانا عن خبر السموات أنهنّ كنّ سبعا من دخان قبل استواء ربنا إلـيها بتسويتها من غيره, وأحسن شرحا لـما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التـي قال الله فـيها: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ بـمعنى الـجمع علـى ما وصفنا, وأنه إنـما قال جل ثناؤه: فسوّاهنّ إذ كانت السماء بـمعنى الـجمع علـى ما بـينا.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التـي ذكرها فـي قوله: فسَوّاهُنّ إذ كن قد خـلقن سبعا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذكر خـلقهن بعد ذكر خـلق الأرض, ألأنها خـلقت قبلها, أم بـمعنى غير ذلك؟ قـيـل: قد ذكرنا ذلك فـي الـخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق, ونزيد ذلك توكيدا بـما انضمّ إلـيه من أخبـار بعض السلف الـمتقدمين وأقوالهم.
372ـ فحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا ثُم اسْتَوَى إلـى السماء فَسَواهُن سَبْعَ سَمَواتٍ قال: إن الله تبـارك وتعالـى كان عرشه علـى الـماء, ولـم يخـلق شيئا غير ما خـلق قبل الـماء, فلـما أراد أن يخـلق الـخـلق أخرج من الـماء دخانا, فـارتفع فوق الـماء فسما علـيه, فسماه سماءً, ثم أيبس الـماء فجعله أرضا واحدة, ثم فتقها فجعل سبع أرضين فـي يومين فـي الأحد والاثنـين, فخـلق الأرض علـى حوت, والـحوت هو النون الذي ذكره الله فـي القرآن: ن والقَلَـم والـحوت فـي الـماء والـماء علـى ظهر صفـاة, والصفـاة علـى ظهر ملك, والـملك علـى صخرة, والصخرة فـي الريح وهي الصخرة التـي ذكر لقمان لـيست فـي السماء ولا فـي الأرض. فتـحرّك الـحوت فـاضطرب, فتزلزت الأرض, فأرسى علـيها الـجبـال فقرّت, فـالـجبـال تفخر علـى الأرض, فذلك قوله: وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أنْ تَـمِيدَ بِكُمْ وخـلق الـجبـال فـيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها فـي يومين فـي الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: أئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِـالّذِي خَـلَقَ أَلارْضَ فِـي يَوْمَيْنِ وَتَـجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا ذَلِكَ رَبّ العَالَـمِينَ وَجَعَلَ فِـيها رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِـيها يقول: أنبت شجرها وَقَدّرَ فِـيها أقْواتها يقول أقواتها لأهلها فـي أرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواء للسّائِلِـينَ يقول: قل لـمن يسألك هكذا الأمر ثمّ اسْتَوى إلَـى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وكان ذلك الدخان من تنفس الـماء حين تنفس, فجعلها سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات فـي يومين فـي الـخميس والـجمعة, وإنـما سمي يوم الـجمعة لأنه جمع فـيه خـلق السموات والأرض وأوْحَى فـي كُل سماءٍ أمْرَها قال: خـلق فـي كل سماء خـلقها من الـملائكة والـخـلق الذي فـيها, من البحار وجبـال البَرَدِ وما لا يعلـم. ثم زين السماء الدنـيا بـالكواكب, فجعلها زينة وحفظا تـحفظ من الشياطين. فلـما فرغ من خـلق ما أحبّ استوى علـى العرش, فذلك حين يقول: خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام يقول: كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما.
373ـ وحدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: هُوَ الّهذي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ قال: خـلق الأرض قبل السماء, فلـما خـلق الأرض ثار منها دخان, فذلك حين يقول: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال: بعضهنّ فوق بعض, وسبع أرضين بعضهنّ تـحت بعض.
374ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال: بعضهنّ فوق بعض, بـين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام.
375ـ وحدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس فـي قوله حيث ذكر خـلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خـلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء, ثم استوى إلـى السماء فسوّاهنّ سبع سموات, ثم دحا الأرض بعد ذلك, فذلك قوله: وَالأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها.
376ـ وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي أبو معشر, عن سعيد بن أبـي سعيد, عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الـخـلق يوم الأحد, فخـلق الأرضين فـي الأحد والاثنـين, وخـلق الأقوات والرواسي فـي الثلاثاء والأربعاء, وخـلق السموات فـي الـخميس والـجمعة, وفرغ فـي آخر ساعة من يوم الـجمعة, فخـلق فـيها آدم علـى عجل فتلك الساعة التـي تقوم فـيها الساعة.
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذا: هو الذي أنعم علـيكم, فخـلق لكم ما فـي الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك علـيكم, لـيكون لكم بلاغا فـي دنـياكم, ومتاعا إلـى موافـاة آجالكم, ودلـيلاً لكم علـى وحدانـية ربكم. ثم علا إلـى السموات السبع وهي دخان, فسوّاهن وحبكهن, وأجرى فـي بعضهن شمسه وقمره ونـجومه, وقدّر فـي كل واحدة منهنّ ما قدّر من خـلقه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِـيـمٌ.
يعنـي بقوله جلّ جلاله: وهو نفسه, وبقوله: بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ: أن الذي خـلقكم وخـلق لكم ما فـي الأرض جميعا, وسّوى السموات السبع بـما فـيهن, فأحكمهن من دخان الـماء وأتقن صنعهن, لا يخفـى علـيه أيها الـمنافقون والـملـحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب, ما تبدون وما تكتـمون فـي أنفسكم, وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمَنّا بِـاللّهِ وبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وهم علـى التكذيب به منطوون. وكذبت أحبـاركم بـما أتاهم به رسولـي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون, وجحدوا وكتـموا ما قد أخذت علـيهم ببـيانه لـخـلقـي من أمر مـحمد ونبوّته الـمواثـيق, وهم به عالـمون بل أنا عالـم بذلك وغيره من أموركم, وأمور غيركم, إنـي بكل شيء علـيـم. وقوله: عَلِـيـمٌ بـمعنى عالـم. ورُوي عن ابن عبـاس أنه كان يقول: هو الذي قد كمل فـي علـمه.
377ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, قال: حدثنـي علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قال: العالـم الذي قد كمل فـي علـمه
الصفحة رقم 5 من المصحف تحميل و استماع mp3