تفسير الآية - القول في معنى قوله تعالى : ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ..

  1. تفسير السعدي
  2. تفسير البغوي
  3. التفسير الوسيط
  4. تفسير ابن كثير
  5. تفسير الطبري
الفسير الوسيط | التفسير الوسيط للقرآن الكريم للطنطاوي | تأليف شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي (المتوفى: 1431هـ) : ويعتبر هذا التفسير من التفاسير الحديثة و القيمة لطلاب العلم و الباحثين في تفسير القرآن العظيم بأسلوب منهجي سهل و عبارة مفهومة, تفسير الآية 27 من سورةالحديد - التفسير الوسيط .
  
   

﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾
[ سورة الحديد: 27]

معنى و تفسير الآية 27 من سورة الحديد : ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى .


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

تفسير السعدي : ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى


ثُمَّ قَفَّيْنَا أي: أتبعنا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خص الله عيسى عليه السلام؛ لأن السياق مع النصارى، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام، وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ الذي هو من كتب الله الفاضلة، وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ الآيات.
ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام.
وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا والرهبانية: العبادة، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة، ووظفوها على أنفسهم، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم، قصدهم بذلك رضا الله تعالى، ومع ذلك فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا أي: ما قاموا بها ولا أدوا حقوقها، فقصروا من وجهين: من جهة ابتداعهم، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم.
فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم.
ومنهم من هو مستقيم على أمر الله، ولهذا قال: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ أي: الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع إيمانهم بعيسى، كل أعطاه الله على حسب إيمانه وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ

تفسير البغوي : مضمون الآية 27 من سورة الحديد


( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ) [ على دينه ] ( رأفة ) وهي أشد الرقة ( ورحمة ) كانوا متوادين بعضهم لبعض ، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " رحماء بينهم " .
( الفتح - 29 ( ورهبانية ابتدعوها ) من قبل أنفسهم ، وليس هذا بعطف على ما قبله ، وانتصابه بفعل مضمر كأنه قال : وابتدعوا رهبانية أي جاءوا بها من قبل أنفسهم ( ما كتبناها ) أي ما فرضناها ( عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ) يعني : ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية ، وتلك الرهبانية ما حملوا أنفسهم من المشاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ( فما رعوها حق رعايتها ) أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى فتهودوا وتنصروا ودخلوا في دين ملوكهم وتركوا الترهب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا به ، وذلك قوله تعالى : ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ) وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة ( وكثير منهم فاسقون ) وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنبأني عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا الصعق بن حزن ، عن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة آزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله - عز وجل - فيهم : " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " .
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال لي : " يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام ، يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : " ورهبانية ابتدعوها " الآية .
" فآتينا الذين آمنوا منهم " يعني من ثبتوا عليها أجرهم ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد ، والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع "وروي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله "وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوارة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه ، فجمعهم ملوكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا : نحن نكفيكم أنفسنا فقالت طائفة : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله - عز وجل - : " ورهبانية ابتدعوها " أي ابتدعها هؤلاء الصالحون ( فما رعوها حق رعايتها ) يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ) يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله " وكثير منهم فاسقون " هم الذين جاءوا من بعدهم ، قال : فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره وآمنوا به

التفسير الوسيط : ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى


ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال: قفا فلان أثر فلان.. إذا اتبعه، وقفى على أثره بفلان، إذا اتبعه إياه.. وأصله من القفا وهو مؤخر العنق.. فكأن الذي يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه.
وضمير الجمع في قوله عَلى آثارِهِمْ يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب.
أى: ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول.
حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أى: أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه.
قالوا: والإنجيل كلمة يونانية من النجل وهو الأصل، يقال: رحم الله ناجليه، أى:والديه، وقيل: الإنجيل مأخوذ من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته.
ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجل.
وقيل هو من النجل الذي هو سعة العين، ومنه قولهم: طعنة نجلاء، أى: واسعة.
وسمى الإنجيل بهذا الاسم، لأنه سعة ونور وضياء، أنزله الله-تبارك وتعالى- على نبيه عيسى، ليكون بشارة وهداية لقومه .
وأعاد- سبحانه - مع عيسى- عليه السلام- كلمة وَقَفَّيْنا للإشعار بأن المسافة التي كانت بين عيسى- عليه السلام- وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة.
ثم بين- سبحانه - بعض السمات التي كانت واضحة في أتباع عيسى فقال: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ.
والرأفة: اللين وخفض الجناح، والرحمة.
العطف والشفقة.
قالوا: وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص، لأن الرأفة، رحمة خاصة، تتعلق بدفع الأذى والضر.
أما الرحمة فهي أشمل وأعم، لأنها عطف وشفقة على كل من كان في حاجة إليها.
و «الرهبانية» معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان.
وهم النصارى المبالغون في الرهبة والخوف من الله-تبارك وتعالى- والزهد في متاع الحياة الدنيا.
قال بعض العلماء: والرهبانية: اسم للحالة التي يكون عليها الراهب متصفا بها في غالب شئون دينه، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس، لأن قياس النسب إلى الراهب: الراهبية، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة، كما زيدت في قولهم: شعرانى، لكثير الشعر، ولحياني لعظيم اللحية «2» .
وقوله-تبارك وتعالى-: ورهبانية ابتدعوها.. منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
أى: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فهو من باب الاشتغال.
ويصح أن يكون معطوفا على قوله: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وقوله: ابْتَدَعُوها في موضع الصفة، والكلام على حذف مضاف، أى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة لهم.
وجملة: ما كتبناها عليهم، مستأنفة مبينة لجملة ابْتَدَعُوها.
والاستثناء في قوله: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ منقطع.
والضمير في قوله: فَما رَعَوْها يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية.
والمعنى: ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر، حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به رَأْفَةً أى لينا وخفض جناح وَرَحْمَةً أى: شفقة وعطفا، وحب رهبانية مبتدعة منهم، أى: هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم، زهدا في متاع الحياة الدنيا.
ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ولكنهم بمرور الأيام، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف.. بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم.
ولذا ختم- سبحانه - الآية الكريمة بقوله: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
أى: أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى- عليه السلام- وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده.. فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة.
وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- حيث كفروا به وقالوا: الله ثالث ثلاثة، أو قالوا: المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب.
وقوله: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذي جاء به عيسى- عليه السلام- وفسقوا عن أمر ربهم.. أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا.
قال الإمام ابن جرير: واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها.
فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، ولم يقوموا بها، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهودوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حتى رعايتها، لأنهم كانوا كفارا.. فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك لأن الله-تبارك وتعالى- قد أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم، فدل ذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها.
وكثير منهم- أى: من الذين ابتدعوا الرهبانية- أهل معاص، وخروج عن طاعة الله-تبارك وتعالى- وعن الإيمان به .
وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه: وقوله-تبارك وتعالى- ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة.
وقوله- سبحانه -: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أى: ما فرضناها نحن عليهم رأسا، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله-تبارك وتعالى-: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ما حافظوا عليها حق المحافظة، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر، وهو عهد مع الله-تبارك وتعالى- يجب رعايته، لا سيما إذا قصد به رضاه- عز وجل.
وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل.
أى: ما قضيناها عليهم لشيء من الأشياء، إلا ليبتغوا بها رضوان الله، ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها.. إلا أنهم لم يحافظوا عليها، ولم يرعوها حق رعايتها.
والفرق بين الوجهين: أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا، وأن الثاني يقتضى أنهم أمروا بها، لابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها.
والظاهر أن الضمير في قوله فَما رَعَوْها يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم، أى: فما رعاها كلهم بل بعضهم .
فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى- عليه السلام- فطهروا أرواحهم من كل دنس، وزهدوا في متع الحياة الدنيا.. وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- وقالوا الأقوال الباطلة في شأنه، وفعلوا الأفعال القبيحة التي تغضب الله-تبارك وتعالى-:ثم ختم- سبحانه - السورة الكريمة بهذا النداء للمؤمنين فقال- تعالى:

تفسير ابن كثير : شرح الآية 27 من سورة الحديد


( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل ) وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ) وهم الحواريون ( رأفة ورحمة ) أي : رأفة وهي الخشية ) ورحمة ) بالخلق .وقوله : ( ورهبانية ابتدعوها ) أي : ابتدعتها أمة النصارى ( ما كتبناها عليهم ) أي : ما شرعناها لهم ، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم .وقوله : ( إلا ابتغاء رضوان الله ) فيه قولان ، أحدهما : أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ، قال سعيد بن جبير ، وقتادة . والآخر : ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله .وقوله : ( فما رعوها حق رعايتها ) أي : فما قاموا بما التزموه حق القيام . وهذا ذم لهم من وجهين ، أحدهما : في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله . والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله ، عز وجل .وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي ، حدثنا السندي بن عبدويه ، حدثنا بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن جده ابن مسعود قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا ابن مسعود " . قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : " هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق ، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران ، فصبرت ونجت . ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكرهم الله ، عز وجل : ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم )وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا الصعق بن حزن ، حدثنا عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن سويد بن غفلة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة ، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم . . . " وذكر نحو ما تقدم ، وفيه : " ( فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ) هم الذين آمنوا بي وصدقوني ( وكثير منهم فاسقون ) وهم الذين كذبوني وخالفوني "ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر ، فإنه أحد الوضاعين للحديث ، ولكن قد أسنده أبو يعلى ، وسنده عن شيبان بن فروخ ، عن الصعق بن حزن به مثل ذلك فقوي الحديث من هذا الوجه .وقال ابن جرير ، وأبو عبد الرحمن النسائي - واللفظ له - : أخبرنا الحسين بن حريث ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان بن سعيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : كان ملوك بعد عيسى ، عليه السلام ، بدلت التوراة والإنجيل ، فكان منهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ، فقيل لملوكهم : ما نجد شيئا أشد من شتم يشتمونا هؤلاء ، إنهم يقرءون : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة : 44 ] ، هذه الآيات ، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم ، فادعهم فليقرءوا كما نقرأ ، وليؤمنوا كما آمنا . فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل ، إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا : فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم . وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا . وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي ، ونحتفر الآبار ، ونحترث البقول ، فلا نرد عليكم ولا نمر بكم . وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ، ففعلوا ذلك فأنزل الله ، عز وجل : ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ) والآخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، ونتخذ دورا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق منهم إلا القليل ، انحط منهم رجل من صومعته ، وجاء سائح من سياحته ، وصاحب الدير من ديره ، فآمنوا به وصدقوه ، فقال الله ، عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ) أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم والتوراة والإنجيل ، وبإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم قال ( ويجعل لكم نورا تمشون به ) [ الحديد : 28 ] : القرآن ، واتباعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لئلا يعلم أهل الكتاب ) الذين يتشبهون بكم ( ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )هذا السياق فيه غرابة ، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين الأخريين على غير هذا ، والله أعلم .وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء : أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير ، وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها ، فلما سلم قال : يرحمك الله ، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة ، أم شيء تنفلته ؟ قال : إنها المكتوبة ، وإنها صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " . ثم غدوا من الغد فقالوا : نركب فننظر ونعتبر قال : نعم فركبوا جميعا ، فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا ، خاوية على عروشها فقالوا : تعرف هذه الديار ؟ قال : ما أعرفني بها وبأهلها . هؤلاء أهل الديار ، أهلكهم البغي والحسد ، إن الحسد يطفئ نور الحسنات ، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه ، والعين تزني ، والكف ، والقدم ، والجسد ، واللسان ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبهوقال الإمام أحمد : حدثنا يعمر ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا سفيان ، عن زيد العمي ، عن أبي إياس ، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل "ورواه الحافظ أبو يعلى ، عن عبد الله بن محمد بن أسماء ، عن عبد الله بن المبارك به ولفظه : " لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله "وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين - هو ابن محمد - حدثنا ابن عياش - يعني إسماعيل - عن الحجاج بن مروان الكلاعي ، وعقيل بن مدرك السلمي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رجلا جاءه فقال : أوصني ، فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبلك ، أوصيك بتقوى الله ، فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن ، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض . تفرد به أحمد

تفسير الطبري : معنى الآية 27 من سورة الحديد


يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات على آثار نوح وإبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم، ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته، ( رَأْفَةٌ ) وهو أشدّ الرحمة، ( وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) يقول: أحدثوها( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم، ( إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ) يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) .
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، لم يقوموا بها، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهوّدوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها، فلم يرعوها حقّ رعايتها، لأنهم كانوا كفارا، ولكنهم قالوا: نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليًّا، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الأحرف، إلى الموضع الذي ذكرنا أن أهل التأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء، واتخذوا الصوامع.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) قال: لم تُكتب عليهم، ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) قال: فلم؟ قال: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعا، فما رَعوها حقّ رعايتها.
ذكر من قال: الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها.
ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم.
حدثنا الحسين بن الحريث [أبو عمار المَرْوزِيّ] قال: ثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت ملوك بعد عيسى بدّلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل، فقيل لملكهم: ما نجد شيئا أشدّ علينا من شتم يشتُمناه هؤلاء، أنهم يقرءون وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ هؤلاء الآيات، مع ما يعيبوننا به في قراءتهم، فادعهم فليقرءوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا به، قال: فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل، إلا ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك فدعونا؛ قال: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نردّ عليكم، وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش، فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، فلا نردّ عليكم، ولا نمرّ بكم، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم؛ قال: ففعلوا ذلك، فأنزل الله جلّ ثناؤه ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا )، الآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم؛ قال: فلما بعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولم يبق منهم إلا قليل، انحطّ رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وجاء صاحب الدار من داره، وآمنوا به وصدّقوه، فقال الله جلّ ثناؤه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: أجرين لإيمانهم بعيسى، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل، وإيمانهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وتصديقهم به.
قال: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ : القرآن، واتباعهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقال لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا داود بن المحبر، قال: ثنا الصعق بن حزن، قال: ثنا عقيل الجعدّي، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد ين غفلة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثُ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ: فِرْقَةٌ مِنَ الثَّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وََقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللهِ ودِين عيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ؛ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاة المُلُوكِ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانَيْ قَوْمَهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللهِ ودِينِ عيسى ابن مَرْيم صَلَواتُ اللهُ عَليْه، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ، وَنَشَرَتَهُمْ بالمَناشِير؛ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دينِ اللهِ ودِينِ عيسَى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجبالِ، فَتَرَهَّبُوا فيها، فَهُوَ قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَلَّ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) قال: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله، ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) قال: ما رعاها الذين من بعدهم حقَّ رعايتها، ( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ) قال: وهم الذين آمنوا بي، وصدّقوني.
قال ( وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) قال: وفهم الذين جحدوني وكذّبوني.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا )، قال الآخرون: ممن تعبد من أهل الشرك، وفني من فني منهم، يقولون: نتعبَّد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم.
* ذكر من قال: الذين لم يرعوها حق رعايتها: الذين ابتدعوها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) .
.
.
.
إلى قوله : ( حَقَّ رِعَايَتِهَا ) يقول: ما أطاعوني فيها، وتكلَّموا فيها بمعصية الله، وذلك أن الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلما استخرج أهل الإيمان، ولم يبق منهم إلا قليل، وكثر أهل الشرك، وذهب الرسل وقهروا، اعتزلوا في الغيران، فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله عزّ وجلّ ودينه، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية، فلم يرعوها حقّ رعايتها، وثبتت طائفة على دين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، حين جاءهم بالبينات، وبعث الله عزّ وجلّ محمدا رسولا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهم كذلك، فذلك قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ .
.
.
إلى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ): كان الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قيل أن يبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فلما استخرج أهل الإيمان، ولم يبق منهم إلا القليل، وكثر أهل الشرك، وانقطعت الرسل، اعتزلوا الناس، فصاروا في الغيران، فلم يزالوا كذلك حتى غيرت طائفة منهم، فتركوا دين الله وأمره، وعهده الذي عهده إليهم، وأخذوا بالبدع، فابتدعدوا النصرانية واليهودية، فقال الله عزّ وجلّ لهم: ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا )، وثبتت طائفة منهم على دين عيسى صلوات الله عليه، حتى بعث الله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فآمنوا به.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا بن أبي مريم، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: إن الله كتب عليكم صيام رمضان، ولم يكتب عليكم قيامه، وإنما القيام شيء ابتدعتموه، وإن قوما ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم، ابتغوا بها رضوان الله، فلم يرعوها حق رعايتها،فعابهم الله بتركها، فقال: ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم؛ قال: فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك، لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه: ( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ )، إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكون كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم.
والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وقوله: ( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء، الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله، وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة، وكثير منهم أهل معاص، وخرج عن طاعته، والإيمان به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد ( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ) قال: الذين رعوا ذلك الحقّ.

ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون

سورة : الحديد - الأية : ( 27 )  - الجزء : ( 27 )  -  الصفحة: ( 541 ) - عدد الأيات : ( 29 )

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون
  2. تفسير: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب
  3. تفسير: أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة
  4. تفسير: وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه
  5. تفسير: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن
  6. تفسير: كلا إنه تذكرة
  7. تفسير: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون
  8. تفسير: آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال
  9. تفسير: ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب
  10. تفسير: إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير

تحميل سورة الحديد mp3 :

سورة الحديد mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة الحديد

سورة الحديد بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة الحديد بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة الحديد بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة الحديد بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة الحديد بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة الحديد بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة الحديد بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة الحديد بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة الحديد بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة الحديد بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب