﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾
[ الحديد: 27]

سورة : الحديد - Al-Hadid  - الجزء : ( 27 )  -  الصفحة: ( 541 )

Then, We sent after them, Our Messengers, and We sent 'Iesa (Jesus) - son of Maryam (Mary), and gave him the Injeel (Gospel). And We ordained in the hearts of those who followed him, compassion and mercy. But the Monasticism which they invented for themselves, We did not prescribe for them, but (they sought it) only to please Allah therewith, but that they did not observe it with the right observance. So We gave those among them who believed, their (due) reward, but many of them are Fasiqun (rebellious, disobedient to Allah).


قـفـينا على آثارهم : أتبَعناهم و بعثنا بعدهمْ
الإنجيل : و قد حرّفوه بَعد
الذين اتبعوه : على دينه الذي أرسل به
رأفة و رحمة : مودّة و لينا ، و شفـَقة ً و تعطّـفا
رهبانية : مغالاة في التعبّد و التـّـقـشّـف
ما كتبناها عليهم : ما فرضناها عليهم بل ابتدعوها
فما رعوها : بلْ ضيّعها أخلافهم و كفروا بدين عيسى عليه السلام

ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات، وقفَّينا بعيسى ابن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه على دينه لينًا وشفقة، فكانوا متوادِّين فيما بينهم، وابتدعوا رهبانية بالغلوِّ في العبادة ما فرضناها عليهم، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم، قَصْدُهم بذلك رضا الله، فما قاموا بها حق القيام، فآتينا الذين آمنوا منهم بالله ورسله أجرهم حسب إيمانهم، وكثير منهم خارجون عن طاعة الله مكذبون بنيه محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا - تفسير السعدي

{ ثُمَّ قَفَّيْنَا }- أي: أتبعنا { عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } خص الله عيسى عليه السلام؛ لأن السياق مع النصارى، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام، { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ } الذي هو من كتب الله الفاضلة، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } كما قال تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } الآيات.ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام.{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } والرهبانية: العبادة، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة، ووظفوها على أنفسهم، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم، قصدهم بذلك رضا الله تعالى، ومع ذلك { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا }- أي: ما قاموا بها ولا أدوا حقوقها، فقصروا من وجهين: من جهة ابتداعهم، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم.
فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم.ومنهم من هو مستقيم على أمر الله، ولهذا قال: { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ }- أي: الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع إيمانهم بعيسى، كل أعطاه الله على حسب إيمانه { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }

تفسير الآية 27 - سورة الحديد

تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى : الآية رقم 27 من سورة الحديد

 سورة الحديد الآية رقم 27

ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا - مكتوبة

الآية 27 من سورة الحديد بالرسم العثماني


﴿ ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ  ﴾ [ الحديد: 27]


﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد: 27]

  1. الآية مشكولة
  2. تفسير الآية
  3. استماع mp3
  4. الرسم العثماني
  5. تفسير الصفحة
فهرس القرآن | سور القرآن الكريم : سورة الحديد Al-Hadid الآية رقم 27 , مكتوبة بكتابة عادية و كذلك بالشكيل و مصورة مع الاستماع للآية بصوت ثلاثين قارئ من أشهر قراء العالم الاسلامي مع تفسيرها ,مكتوبة بالرسم العثماني لمونتاج فيديو اليوتيوب .
  
   

تحميل الآية 27 من الحديد صوت mp3


تدبر الآية: ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا

غالبًا ما يجعلُ الله في قلوب الخَلق من الرأفة والرحمة بحسَب نصيبهم من اتِّباع الرسُل والشَّرع المطهَّر.
مَن ابتدعَ بدعةً لم يوفَّق لإقامتها ولو اجتهد، فما بُني على باطل آلَ إلى باطل.
لا يقبلُ الله إلا ما كان على الهَدي الأول؛ الكتاب والسنَّة، ومَن اختار غيرَ هذا المسلك ضلَّ وأضلَّ.
أوَّلُ مَن ينحرفُ عن المذاهب الضالَّة المبتدَعة هم واضعوها والدعاة إليها، ولا يسلَمُ إلا مَن اتَّبع الفطرةَ فهي دربُ السلامة.
ذمَّ الله الغلوَّ في العبادة وحرَّمه، فكيف بالغلوِّ الذي يستبيحُ الدماء، ويجعل التكفيرَ سيفًا مُصْلتًا على رقاب أهل الإسلام؟! عجبًا لمَن يسُنُّ سنَّةً باطلة وطريقةً منحرفة، ويزيِّنها للناس، ثم يكون أوَّلَ مضيِّع لها ناشز عنها!

ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال: قفا فلان أثر فلان.. إذا اتبعه، وقفى على أثره بفلان، إذا اتبعه إياه.. وأصله من القفا وهو مؤخر العنق.. فكأن الذي يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه.
وضمير الجمع في قوله عَلى آثارِهِمْ يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب.
أى: ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول.
حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أى: أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه.
قالوا: والإنجيل كلمة يونانية من النجل وهو الأصل، يقال: رحم الله ناجليه، أى:والديه، وقيل: الإنجيل مأخوذ من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته.
ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجل.
وقيل هو من النجل الذي هو سعة العين، ومنه قولهم: طعنة نجلاء، أى: واسعة.
وسمى الإنجيل بهذا الاسم، لأنه سعة ونور وضياء، أنزله الله-تبارك وتعالى- على نبيه عيسى، ليكون بشارة وهداية لقومه .
وأعاد- سبحانه - مع عيسى- عليه السلام- كلمة وَقَفَّيْنا للإشعار بأن المسافة التي كانت بين عيسى- عليه السلام- وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة.
ثم بين- سبحانه - بعض السمات التي كانت واضحة في أتباع عيسى فقال: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ.
والرأفة: اللين وخفض الجناح، والرحمة.
العطف والشفقة.
قالوا: وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص، لأن الرأفة، رحمة خاصة، تتعلق بدفع الأذى والضر.
أما الرحمة فهي أشمل وأعم، لأنها عطف وشفقة على كل من كان في حاجة إليها.
و «الرهبانية» معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان.
وهم النصارى المبالغون في الرهبة والخوف من الله-تبارك وتعالى- والزهد في متاع الحياة الدنيا.
قال بعض العلماء: والرهبانية: اسم للحالة التي يكون عليها الراهب متصفا بها في غالب شئون دينه، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس، لأن قياس النسب إلى الراهب: الراهبية، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة، كما زيدت في قولهم: شعرانى، لكثير الشعر، ولحياني لعظيم اللحية «2» .
وقوله-تبارك وتعالى-: ورهبانية ابتدعوها.. منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
أى: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فهو من باب الاشتغال.
ويصح أن يكون معطوفا على قوله: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وقوله: ابْتَدَعُوها في موضع الصفة، والكلام على حذف مضاف، أى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة لهم.
وجملة: ما كتبناها عليهم، مستأنفة مبينة لجملة ابْتَدَعُوها.
والاستثناء في قوله: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ منقطع.
والضمير في قوله: فَما رَعَوْها يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية.
والمعنى: ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر، حتى انتهينا إلى عيسى- عليه السلام- فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به رَأْفَةً أى لينا وخفض جناح وَرَحْمَةً أى: شفقة وعطفا، وحب رهبانية مبتدعة منهم، أى: هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم، زهدا في متاع الحياة الدنيا.
ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ولكنهم بمرور الأيام، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف.. بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم.
ولذا ختم- سبحانه - الآية الكريمة بقوله: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
أى: أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى- عليه السلام- وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده.. فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة.
وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- حيث كفروا به وقالوا: الله ثالث ثلاثة، أو قالوا: المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب.
وقوله: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذي جاء به عيسى- عليه السلام- وفسقوا عن أمر ربهم.. أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا.
قال الإمام ابن جرير: واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها.
فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، ولم يقوموا بها، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهودوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حتى رعايتها، لأنهم كانوا كفارا.. فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك لأن الله-تبارك وتعالى- قد أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم، فدل ذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها.
وكثير منهم- أى: من الذين ابتدعوا الرهبانية- أهل معاص، وخروج عن طاعة الله-تبارك وتعالى- وعن الإيمان به .
وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه: وقوله-تبارك وتعالى- ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة.
وقوله- سبحانه -: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أى: ما فرضناها نحن عليهم رأسا، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله-تبارك وتعالى-: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أى: ما حافظوا عليها حق المحافظة، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر، وهو عهد مع الله-تبارك وتعالى- يجب رعايته، لا سيما إذا قصد به رضاه- عز وجل.
وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل.
أى: ما قضيناها عليهم لشيء من الأشياء، إلا ليبتغوا بها رضوان الله، ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها.. إلا أنهم لم يحافظوا عليها، ولم يرعوها حق رعايتها.
والفرق بين الوجهين: أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا، وأن الثاني يقتضى أنهم أمروا بها، لابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها.
والظاهر أن الضمير في قوله فَما رَعَوْها يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم، أى: فما رعاها كلهم بل بعضهم .
فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى- عليه السلام- فطهروا أرواحهم من كل دنس، وزهدوا في متع الحياة الدنيا.. وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى- عليه السلام- وقالوا الأقوال الباطلة في شأنه، وفعلوا الأفعال القبيحة التي تغضب الله-تبارك وتعالى-:ثم ختم- سبحانه - السورة الكريمة بهذا النداء للمؤمنين فقال- تعالى:
قوله تعالى : ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقونفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : ثم قفينا أي : أتبعنا على آثارهم أي : على آثار الذرية .
وقيل : على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم وقفينا بعيسى ابن مريم فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه وآتيناه الإنجيل وهو الكتاب المنزل عليه .
وتقدم اشتقاقه في أول سورة ( آل عمران ) .
الثانية : قوله تعالى : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه على دينه يعني الحواريين وأتباعهم رأفة ورحمة أي : مودة فكان يواد بعضهم بعضا .
وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس ، وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه .
والرأفة : اللين ، والرحمة : الشفقة .
وقيل : الرأفة : تخفيف الكل ، والرحمة : تحمل الثقل .
وقيل : الرأفة أشد الرحمة .
وتم الكلام .
ثم قال : ورهبانية ابتدعوها أي : من قبل أنفسهم .
والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل ، قال أبو علي : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها .
وقال الزجاج : أي : ابتدعوها رهبانية ، كما تقول : رأيت زيدا وعمرا كلمت .
وقيل : إنه معطوف على الرأفة والرحمة ، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها .
قال الماوردي : وفيها قراءتان ، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف ، من الرهب .
الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان ؛ وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع ، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا .
قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع .
وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع .
وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبراري والجبال .
ما كتبناها عليهم أي : ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها ؛ قاله ابن زيد .
وقوله تعالى : إلا ابتغاء رضوان الله أي : ما أمرناهم إلا بما يرضي الله ؛ قاله ابن مسلم .
وقال الزجاج : ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة .
ويكون ابتغاء رضوان الله بدلا من الهاء والألف في كتبناها والمعنى : ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله .
وقيل : إلا ابتغاء الاستئناء منقطع ، والتقدير : ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله .
فما رعوها حق رعايتها أي : فما قاموا بها حق القيام .
وهذا خصوص ، لأن الذين لم يرعوها بعض القوم ، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم ، كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللهوهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر .
وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى ، فقال أناس لملكهم : لو قتلت هذه الطائفة .
فقال المؤمنون : نحن نكفيكم أنفسنا .
فطائفة قالت : ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها ، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم .
وقالت طائفة : دعونا نهيم في الأرض ونسيح ، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية ، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا .
وطائفة قالت : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا .
وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا ، فمضى أولئك على منهاج عيسى ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا : نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله الآية .
يقول : ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها المتأخرون حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها وكثير منهم فاسقون يعني المتأخرين ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، جاءوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
الثالثة : وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية .
وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان - قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ، ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ، فعابهم الله بتركها فقال : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها .
الرابعة : وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت ، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان .
وقد مضى بيان هذا في سورة ( الكهف ) مستوفى والحمد لله .
وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال : مر رجل بغار فيه شيء من ماء ، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا .
قال : لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل ، فأتاه فقال : يا نبي الله ! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا .
قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ، ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة .
وروى الكوفيون عن ابن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تدري أي الناس أعلم قال : قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه ، هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ؟ ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا : إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه ، فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا ورهبانية الآية - أتدري ما رهبانية أمتي ؟ الهجرة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة ، وهلك سائرها ، فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودينعيسى - عليه السلام - حتى قتلوا ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ، أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك - ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم : ورهبانية ابتدعوها - الآية - فمن آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون ، يعني الذي تهودوا وتنصروا .
وقيل : هؤلاء الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون .
وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي : إن الأولين أصروا على الكفر أيضا ، فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر .
والله أعلم .


شرح المفردات و معاني الكلمات : قفينا , آثارهم , برسلنا , وقفينا , بعيسى , ابن , مريم , آتيناه , الإنجيل , جعلنا , قلوب , اتبعوه , رأفة , رحمة , رهبانية , ابتدعوها , كتبناها , ابتغاء , رضوان , الله , رعوها , حق , رعايتها , فآتينا , آمنوا , أجرهم , كثير , فاسقون ,
English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

آيات من القرآن الكريم

  1. فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا
  2. وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن
  3. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى
  4. وحفظا من كل شيطان مارد
  5. وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون
  6. قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم
  7. وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما
  8. فانطلقوا وهم يتخافتون
  9. وجنات وعيون
  10. ثم يطمع أن أزيد

تحميل سورة الحديد mp3 :

سورة الحديد mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة الحديد

سورة الحديد بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة الحديد بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة الحديد بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة الحديد بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة الحديد بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة الحديد بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة الحديد بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة الحديد بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة الحديد بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة الحديد بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري


الباحث القرآني | البحث في القرآن الكريم


Tuesday, December 3, 2024

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب