تفسير الآية - القول في معنى قوله تعالى : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه ..

  1. تفسير السعدي
  2. تفسير البغوي
  3. التفسير الوسيط
  4. تفسير ابن كثير
  5. تفسير الطبري
الفسير الوسيط | التفسير الوسيط للقرآن الكريم للطنطاوي | تأليف شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي (المتوفى: 1431هـ) : ويعتبر هذا التفسير من التفاسير الحديثة و القيمة لطلاب العلم و الباحثين في تفسير القرآن العظيم بأسلوب منهجي سهل و عبارة مفهومة, تفسير الآية 40 من سورةالتوبة - التفسير الوسيط .
  
   

﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
[ سورة التوبة: 40]

معنى و تفسير الآية 40 من سورة التوبة : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه .


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

تفسير السعدي : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه


أي‏:‏ إلا تنصروا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم فاللّه غني عنكم، لا تضرونه شيئا، فقد نصره في أقل ما يكون وأذلة ‏‏إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏‏ من مكة لما هموا بقتله، وسعوا في ذلك، وحرصوا أشد الحرص، فألجؤوه إلى أن يخرج‏.
‏‏‏ثَانِيَ اثْنَيْنِ‏‏ أي‏:‏ هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه‏.
‏ ‏‏إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ‏‏ أي‏:‏ لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب‏.
‏فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال‏.
‏‏‏إِذْ يَقُولُ‏‏ النبي صلى الله عليه وسلم ‏‏لِصَاحِبِهِ‏‏ أبي بكر لما حزن واشتد قلقه، ‏‏لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏‏ بعونه ونصره وتأييده‏.
‏‏‏فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ‏‏ أي‏:‏ الثبات والطمأنينة، والسكون المثبتة للفؤاد، ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال ‏‏لا تحزن إن اللّه معنا‏‏‏‏وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا‏‏ وهي الملائكة الكرام، الذين جعلهم اللّه حرسا له، ‏‏وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى‏‏ أي‏:‏ الساقطة المخذولة، فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين، في ظنهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخذه، حنقين عليه، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك، فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم، بل ولا أدركوا شيئا منه‏.
‏ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع، فإن النصر على قسمين‏:‏ نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا، وقصدوا، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم‏.
‏والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر، فنصر اللّه إياه، أن يرد عنه عدوه، ويدافع عنه، ولعل هذا النصر أنفع النصرين، ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع‏.
‏وقوله ‏‏وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا‏‏ أي كلماته القدرية وكلماته الدينية، هي العالية على كلمة غيره، التي من جملتها قوله‏:‏ ‏‏وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏‏ ‏‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏‏ ‏‏وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏‏ فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان، بالحجج الواضحة، والآيات الباهرة والسلطان الناصر‏.
‏‏‏وَاللَّهُ عَزِيزٌ‏‏ لا يغالبه مغالب، ولا يفوته هارب، ‏‏حَكِيمٌ‏‏ يضع الأشياء مواضعها، وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر، اقتضته الحكمة الإلهية‏.
‏وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كافرًا، لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها‏.
‏وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته‏.
‏وفيها‏:‏ أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى إذا نزل بالعبد أن يسعى في ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة‏.

تفسير البغوي : مضمون الآية 40 من سورة التوبة


قوله تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه ، أعانوه أو لم يعينوه ، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد؟ ( إذ أخرجه الذين كفروا ) من مكة حين مكروا به وأرادوا تبيينه وهموا بقتله ، ( ثاني اثنين ) أي هو أحد الاثنين ، والاثنان : أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ( إذ هما في الغار ) وهو نقب في جبل ثور بمكة ، ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) قال الشعبي : عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان ، أنبأنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا أحمد بن عبد الله الدورقي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، عن علي بن هاشم عن كثير النواء عن جميع بن عمير قال : أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : " أنت صاحبي في الغار ، وصاحبي على الحوض " .
قال الحسين بن الفضل : من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن .
وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا ، لا يكون كافرا .
وقوله عز وجل : ( لا تحزن إن الله معنا ) لم يكن حزن أبي بكر جبنا منه ، وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال : إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك يا أبا بكر؟ قال : أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار ، فدخل فاستبرأه ثم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر .
أخبرنا أبو المظفر التميمي ، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النظر ، أخبرنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا أبو قلابة الرقاشي ، حدثنا حيان بن هلال ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا ثابت البناني ، حدثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثهم ، قال : نظرت إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا ، فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا ، فلما ابتلي المسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين : " إني أريت دار هجرتكم ، ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان " .
فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال : " نعم " فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين - كانتا عنده - ورق السمر ، وهو الخبط ، أربعة أشهر .
قال ابن شهاب .
قال عروة : قالت عائشة رضي الله عنها : فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ، قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن ، فأذن له ، فدخل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : أخرج من عندك ، فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، قال : " فإني قد أذن لي في الخروج " فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين ، قال رسول الله : " بالثمن " قالت عائشة رضي الله عنها : فجهزناهما أحث الجهاز ، وصنعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب ، فبذلك سميت ذات النطاقين ، قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور ، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن ، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة ، كبائت فيها ، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة ، مولى أبي بكر ، منحة من غنم ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل ، وهو لبن منحتهما - ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا ، والخريت : الماهر بالهداية ، قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي ، وهو على دين كفار قريش فأمناه ، فدفعا إليه راحلتيهما وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل .
قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم : أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره ، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج ، أقبل رجل منهم ، حتى قام علينا ونحن جلوس ، فقال : يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه ، قال سراقة : فعرفت أنهم هم ، فقلت له : إنهم ليسوا بهم ، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ، ثم لبثت في المجلس ساعة ، ثم قمت فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة ، فتحبسها علي ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت ، فخططت بزجه الأرض ، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي ، فخررت عنها فقمت ، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره ، فركبت فرسي وعصيت الأزلام ، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت ، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره ، فناديتهم بالأمان ، فوقفوا ، فركبت فرسي حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبر ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع ، فلم يرزآني ولم يسألاني شيئا إلا أن قالا أخف عنا ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام ، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض ، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة ، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلاح ، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى ، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته ، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين ، وكان مربدا للتمر ، لسهيل وسهل ، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته : هذا إن شاء الله المنزل .
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين ، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا بل نهبه لك يا رسول الله ، ثم بناه مسجدا ، وطفق رسول الله ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن :هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر - ربنا - وأطهرويقول :اللهم إن الأجر أجر الآخره فارحم الأنصار والمهاجرهفتمثل ببيت رجل من المسلمين لم يسم لي .
قال ابن شهاب : ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات .
قال الزهري : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضا في أسفل النقب ، والعنكبوت حتى نسجت بيتا ، وفي القصة : أنبت يمامة على فم الغار ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أعم أبصارهم عنا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون : لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت .
قوله عز وجل : ( فأنزل الله سكينته عليه ) قيل: على النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن عباس : على أبي بكر رضي الله عنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ، ( وأيده بجنود لم تروها ) وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته .
وقيل: ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا .
وقال مجاهد والكلبي : أعانه بالملائكة يوم بدر ، أخبر أنه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر .
( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) وكلمتهم الشرك ، وهي السفلى إلى يوم القيامة ، ( وكلمة الله هي العليا ) إلى يوم القيامة .
قال ابن عباس : هي قول لا إله إلا الله .
وقيل كلمة الذين كفروا : ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله : وعد الله أنه ناصره .
وقرأ يعقوب : " وكلمة الله " بنصب التاء على العطف ( والله عزيز حكيم ) .

التفسير الوسيط : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه


ثم ذكرهم، سبحانه، بما يعرفونه من حال الرسول صلى الله عليه وسلم حيث نصره الله.
تعالى، على أعدائه بدون عون منهم، وأيده بجنود لم يروها فقال، إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ.
قال ابن جرير.
هذا إعلام من الله لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه، وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة .
والمعنى: إنكم، أيها المؤمنون، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده، ولم تنصروا رسولكم الذي استنفركم للخروج معه.
فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة، كما نصره، وأنتم تعلمون ذلك، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ثانِيَ اثْنَيْنِ أى: أحد اثنين.
والثاني: أبو بكر الصديق، رضى الله عنه.
يقال.
فلان ثالث ثلاثة، أو رابع أربعة.. أى: هو واحد من الثلاثة أو من الأربعة.
فإذا قيل: فلان رابع ثلاثة أو خامس أربعة، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته إليهم، أو صير الأربعة خمسة.
وأسند سبحانه الإخراج إلى المشركين مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج بنفسه بإذن من الله، تعالى، لأنهم السبب في هذا الخروج حيث اضطروه إلى ذلك، بعد أن تآمروا على قتله.
قيل: وجواب الشرط في قوله، إِلَّا تَنْصُرُوهُ محذوف وقوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ تعليل لهذا المحذوف.
والتقدير: إلا تنصروه ينصره الله في كل حال.
فَقَدْ نَصَرَهُ سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بلده ولم يكن معه سوى رجل واحد.
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت.
كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جوابا للشرط؟.
قلت «فيه وجهان» أحدهما: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد.
ولا أقل من الواحد، فدل بقوله.
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت.
والثاني.
أنه أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت، فلن يخذل من بعده، .
وقوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ حال من الهاء في قوله أَخْرَجَهُ أى أخرجه الذين كفروا حال كونه منفردا عن جميع الناس إلا أبا بكر الصديق- رضى الله عنه-.
وقوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ.
والغار: النقب العظيم يكون في الجبل.
والمراد به هنا: غار جبل ثور.
وهو جبل في الجهة الجنوبية لمكة، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام.
وقوله: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بدل ثان من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ.
أى.
إلا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار، ووقت أن كان صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه الصديق: لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته.
وذلك أن أبا بكر وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، أحس بحركة المشركين من فوق الغار، فخاف خوفا شديدا لا على حياته هو، وإنما على حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك، أخذ في تسكين روعه وجزعه وجعل يقول له: لا تحزن إن الله معنا.
أخرج الشيخان عن أبى بكر قال.
نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رءوسنا، فقلت.
يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال:«يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا» .
وقوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها.. بيان لما أحاط الله به نبيه- صلى الله عليه وسلم - من مظاهر الحفظ والرعاية.
والسكينة: من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد التحرك.
أو من السكن- بالتحريك- وهو كل ما سكنت إليه نفسك، واطمأنت به من أهل وغيرهم.
والمراد بها هنا: الطمأنينة التي استقرت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار، لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه.
والمراد بالجنود المؤيدين له.
الملائكة الذين أرسلهم- سبحانه - لهذا الغرض: والضمير في قوله: عَلَيْهِ يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أى.
فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله صلى الله عليه وسلم وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه.
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله عَلَيْهِ يعود إلى أبى بكر الصديق، لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى السكينة.
وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف.
وقد رد أصحاب الرأى الأول على ذلك بأن قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها الضمير فيه لا يصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله عَلَيْهِ عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يحصل تفكك في الكلام.
أما نزول السكينة فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان، وللدلالة على علو شأنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير قوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أى.
تأييده ونصره عليه أى.
على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين.
وقيل.
على أبى بكر.
قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة.
وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال، ولهذا قال: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أى: الملائكة .
وقوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة.
والمراد بكلمة الذين كفروا.
كلمة الشرك، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهي اتفاقهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمراد بكلمة الله: دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام، وما يترتب على اتباع هذا الدين من نصر وحسن عاقبة، أى: كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة، أن جعل كلمة الشرك هي السفلى، أى.
المقهورة الذليلة.
وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإسلام هي العليا أى: هي الثابتة الغالبة النافذة.
وقراءة الجمهور برفع.
كَلِمَةَ على الابتداء.
وقوله هِيَ مبتدأ ثان: وقوله:الْعُلْيا خبرها، والجملة خبر المبتدأ الأول.
ويجوز أن يكون الضمير هِيَ ضمير فصل، وقوله الْعُلْيا هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب وَكَلِمَةُ اللَّهِ بالنصب عطفا على مفعول جعل وهو كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أى: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وجعل كلمة الله هي العليا.
قالوا: وقراءة الرفع أبلغ وأوجه، لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت، ولأن الجعل لم يتطرق إلى الجملة الثانية وهي قوله: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا لأنها في ذاتها عالية ثابتة، بدون جعلها كذلك في حادثة معينة.
بخلاف علو غيرها فهو غير ذاتى، وإنما هو علو مؤقت في حالة معينة، ثم مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك.
وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
أى: والله-تبارك وتعالى- عَزِيزٌ لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر، ولا ينصر من عاقبه ناصر، حَكِيمٌ في تصريفه شأن خلقه، لا قصور في تدبيره، ولا نقص في أفعاله.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية: الدلالة على فضل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- وعلى علو منزلته، وقوة إيمانه، وشدة إخلاصه لله-تبارك وتعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومما يشهد لذلك، أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما أذن الله له بالهجرة، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في طريق هجرته إلى المدينة.
ولقد أظهر الصديق- رضى الله عنه- خلال مصاحبته للرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من ألوان الوفاء والإخلاص وصدق العقيدة .
قال الآلوسى ما ملخصه: واستدل بالآية على فضل أبى بكر.. فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا بكر.. فعن الحسن قال: عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال:إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ الآية.
ولأن فيها النص على صحبته للرسول صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة: لأنه هو المراد بالصاحب في قوله إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ وهذا مما وقع عليه الإجماع.
ومن هنا قالوا: من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر، لإنكار كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة .
وقد ساق الإمام الرازي، والشيخ رشيد رضا، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجها في فضل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، فارجع إليهما إن شئت .

تفسير ابن كثير : شرح الآية 40 من سورة التوبة


يقول تعالى : ( إلا تنصروه ) أي : تنصروا رسوله ، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه ، كما تولى نصره ( إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين ) [ إذ هما في الغار ] ) أي : عام الهجرة ، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه ، فخرج منهم هاربا صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة ، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ، ثم يسيرا نحو المدينة ، فجعل أبو بكر - رضي الله عنه - يجزع أن يطلع عليهم أحد ، فيخلص إلى الرسول - عليه السلام - منهم أذى ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسكنه ويثبته ويقول : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، كما قال الإمام أحمد :حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا ثابت ، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . قال : فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما .أخرجاه في الصحيحين .ولهذا قال تعالى : ( فأنزل الله سكينته عليه ) أي : تأييده ونصره عليه ، أي : على الرسول في أشهر القولين : وقيل : على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره ، قالوا : لأن الرسول لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ؛ ولهذا قال : ( وأيده بجنود لم تروها ) أي الملائكة ، ( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا )قال ابن عباس : يعني ( كلمة الذين كفروا ) الشرك و ( كلمة الله ) هي : لا إله إلا الله .وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .وقوله : ( والله عزيز ) أي : في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب ، لا يضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه ، ( حكيم ) في أقواله وأفعاله .

تفسير الطبري : معنى الآية 40 من سورة التوبة


القول في تأويل قوله : إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَاقال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم, أعانوه أو لم يعينوه, = وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به, وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة, فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه, فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره =(إذ أخرجه الذين كفروا)، بالله من قريش من وطنه وداره =(ثاني اثنين)، يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين.
* * *وكذلك تقول العرب: " هو ثاني اثنين " يعني: أحد الاثنين, و " ثالث ثلاثة, ورابع أربعة ", يعني: أحد الثلاثة, وأحد الأربعة.
وذلك خلاف قولهم: " هو أخو ستة، وغلام سبعة ", لأن " الأخ "، و " الغلام " غير الستة والسبعة, " وثالث الثلاثة "، أحد الثلاثة.
* * *وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ثاني اثنين)، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه, لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار.
* * *وقوله: (إذ هما في الغار)، يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه، في الغار.
* * *و " الغار "، النقب العظيم يكون في الجبل.
* * *=(إذ يقول لصاحبه)، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر، (لا تحزن)، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما, فجزع من ذلك, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحزن "، لأن الله معنا والله ناصرنا, (33)فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.
يقول جل ثناؤه: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد, فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم، وقد كثَّر الله أنصاره, وعدد جنودِه؟* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:16725- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (إلا تنصروه)، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثَه.
يقول الله: فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
16726- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله)، قال: ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعثَ, فالله فاعلٌ به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك (ثانيَ اثنين إذ هما في الغار).
16727- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله)، الآية, قال: فكان صاحبَه أبو بكر، وأما " الغار "، فجبل بمكة يقال له: " ثَوْر ".
16728- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة, عن عروة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه, وكان لأبي بكر مَنِيحةٌ من غَنَم تروح على أهله, (34) فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور.
وكان عامر بن فهيرةَ يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور, وهو " الغار " الذي سماه الله في القرآن.
(35)16729- حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال، حدثنا عفان وحَبَّان قالا حدثنا همام, عن ثابت، عن أنس, أن أبا بكر رضي الله عنه حدَّثهم قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدامُ المشركين فوق رؤوسنا, فقلت: يا رسول الله, لو أن أحدهم رفع قَدَمَه أبصرنا! فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ (36)16730- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا.
16731- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: (إذ هما في الغار)، قال: في الجبل الذي يسمَّى ثورًا, مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليالٍ.
16732- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحارث, عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيُّكم يقرأ " سورة التوبة "؟ (37) قال رجل: أنا.
قال: اقرأ.
فلما بلغ: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن)، بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبُه.
(38)* * *القول في تأويل قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله (39) = وقد قيل: على أبي بكر =(وأيده بجنود لم تروها)، يقول: وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم (40) =(وجعل كلمة الذين كفروا)، وهي كلمة الشرك =(السُّفْلى)، لأنها قُهِرَت وأذِلَّت، وأبطلها الله تعالى، ومحق أهلها, وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى =(وكلمة الله هي العليا)، يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله, وهي كلمتُه =(العليا)، على الشرك وأهله, الغالبةُ، (41) كما:-16733- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى)، وهي: الشرك بالله =(وكلمة الله هي العليا)، وهي: لا إله إلا الله.
* * *وقوله: (وكلمة الله هي العليا)، خبر مبتدأ، غيرُ مردودٍ على قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى)، لأن ذلك لو كان معطوفًا على " الكلمة " الأولى، لكان نصبًا.
(42)* * *وأما قوله: (والله عزيز حكيم)، فإنه يعني: (والله عزيز)، في انتقامه من أهل الكفر به, لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصر من عاقبه ناصر =(حكيم)، في تدبيره خلقَه، وتصريفه إياهم في مشيئته.
(43)------------------------الهوامش:(33) انظر تفسير "مع" فيما سلف ص : 240 ، تعليق : 2، والمراجع هناك.
(34) " المنيحة" ، شاة أو ناقة يعيرها الرجل أخاه، يحتلبها وينتفع بلبنها سنة، ثم يردها إليه.
(35) الأثر: 16728 - هذا جزء من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، والذي خرجته فيما سلف برقم : 16083 ، ومواضع أخرى كثيرة.
وهذا الجزء من الكتاب في تاريخ الطبري 2 : 246.
(36) الأثر : 16729 - " يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي" ، شيخ الطبري ، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4 2 302 .
و "عفان" هو "عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار"، ثقة، من شيوخ أحمد والبخاري، مضى برقم : 5392 .
و "حبان"، هو "حبان بن هلال الباهلي" ، ثقة، روى له الجماعة.
مضى برقم : 5472 .
" حبان " بفتح الحاء لا بكسرها.
و "همام" هو "همام بن يحيى بن دينار الأزدي" ، ثقة روى له الجماعة ، مضى مرارًا، آخرها: 16306.
و "ثابت" هو "ثابت بن أسلم البناني" ، ثقة روى له الجماعة، مضى برقم : 2942 ، 7030 .
وهذا الخبر رواه من طريق عفان بن مسلم، ابن سعد في الطبقات 3 1 123 ، وأحمد في مسنده رقم : 11، والترمذي في تفسير الآية.
ورواه من طريق حبان بن هلال، البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 245 ) ، ومسلم في صحيحه 15 : 149 .
ورواه البخاري من طريق محمد بن سنان ، عن هلال في صحيحه (الفتح 7 : 9) .
وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب، إنما يروى من حديث همام .
وقد روى هذا الحديث حبان بن هلال ، وغير واحد ، عن همام ، نحو هذا " .
وخرجه السيوطي في الدر 3 : 242 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وأبي عوانة ، وابن حبان ، وابن المنذر ، وابن مردويه.
(37) في المخطوطة: "سورة البقرة" ، وهو خطأ أبين من أن يدل على تصحيحه.
(38) الأثر : 16732 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري"، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم : 5973 .
وأبوه "الحارث بن يعقوب بن ثعلبة، أو : ابن عبد الله ، الأنصاري المصري".
ثقة.
مترجم في التهذيب ، والكبير 1 2 282 ، وابن أبي حاتم 1 2 93.
(39) انظر تفسير "السكينة" فيما سلف ص : 189، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
(40) انظر تفسير " التأييد " فيما سلف ص : 44 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(41) انظر تفسير "الأعلى" فيما سلف 7 : 234.
(42) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 438 ، وهو فصل جيد واضح.
(43) انظر تفسير "عزيز" و "حكيم"، فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم).

إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنـزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم

سورة : التوبة - الأية : ( 40 )  - الجزء : ( 10 )  -  الصفحة: ( 193 ) - عدد الأيات : ( 129 )

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا
  2. تفسير: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء
  3. تفسير: ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
  4. تفسير: قال فرعون وما رب العالمين
  5. تفسير: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة
  6. تفسير: وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
  7. تفسير: ولقد جاء آل فرعون النذر
  8. تفسير: ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون
  9. تفسير: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
  10. تفسير: ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا

تحميل سورة التوبة mp3 :

سورة التوبة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة التوبة

سورة التوبة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة التوبة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة التوبة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة التوبة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة التوبة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة التوبة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة التوبة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة التوبة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة التوبة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة التوبة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب