تفسير الطبري تفسير الصفحة 193 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 193
194
192
 الآية : 37
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّمَا النّسِيَءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلّونَهُ عَاماً وَيُحَرّمُونَهُ عَاماً لّيُوَاطِئُواْ عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّواْ مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوَءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ما النسيء إلا زيادة في الكفر, والنسيء مصدر من قول القائل: نسأت في أيامك ونسأ الله في أجلك: أي زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك حتى تبقى فيها حيّا. وكل زيادة حدثت في شيء, فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء ولذلك قيل للبن إذا كثر بالماء نسيء, وقيل للمرأة الحبلى نسوء, ونُسئت المرأة, لزيادة الولد فيها وقيل: نسأت الناقة وأنسأتها: إذا زجرتها ليزداد سيرها. وقد يحتمل أن النسيء فعيل صرف إليه من مفعول, كما قيل: لعين وقتيل, بمعنى: ملعون ومقتول, ويكون معناه: إنما الشهر المؤخر زيادة في الكفر. وكأنّ القول الأول أشبه بمعنى الكلام, وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة وتصييرهم الحرام منهن حلالاً والحلال منهنّ حراما, زيادة في كفرهم وجحودهم أحكام الله وآياته. وقد كان بعض القرّاء يقرأ ذلك: «إنّمَا النّسي» بترك الهمز وترك مده: يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا.
واختلف القراء في قراءة ذلك, فقرأته عامة الكوفيين: يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى: يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه الذين كفروا. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: يَضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى: يزول عن حجة الله التي جعلها لعباده طريقا يسلكونه إلى مرضاته الذين كفروا. وقد حُكي عن الحسن البصري: يُضِلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا بمعنى: يضلّ بالنسيء الذي سنة الذين كفروا, الناس.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان, قد قرأت بكلّ واحدة القرّاء أهل العلم بالقرآن والمعرفة به, وهما متقاربتا المعنى, لأن من أضله الله فهو ضالّ ومن ضلّ فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ, فبأيتهما قرأ القارىء فهو للصواب في ذلك مصيب. وأما الصواب من القراء في النسيء, فالهمز, وقراءته على تقدير فعيل, لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.
وأما قوله: يُحِلّونَهُ عاما فإن معناه: يحلّ الذين كفروا النسيء, والهاء في قوله: يُحِلّونَهُ عائدة عليه.
ومعنى الكلام: يحلون الذين أخروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم عاما ويحرّمونه عاما, لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حللوا من الشهور وتحريمهم ما حرّموا منها, عدّة ما حرّم الله فَيْحِلّوا ما حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالِهِمُ يقول: حسن لهم وحبّب إليهم سيىء أعمالهم وقبيحها وما خولف به أمر الله وطاعته. وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينِ يقول: والله لا يوفّق لمحاسن الأفعال وحلها وما لله فيه رضا, القوم الجاحدين توحيده والمنكرين نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه يخذلهم عن الهدى كما خذل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13053ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: النسيء: هو أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام, وكان يكنى أبا ثمامة, فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يْحَابُ ولا يعاب, ألا وإن صفر العام الأوّل حلال فيحلّه الناس, فيحرّم صفر عاما, ويحرّم المحرّم عاما, فذلك قوله تعالى: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ... إلى قوله: الكَافِرينَ. وقوله: إنّمَا النّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يقول: يتركون المحرّم عاما, وعاما يحرّمُونه.
قال أبو جعفر: وهذا التأويل من تأويل ابن عباس يدلّ على صحة قراءة من قرأ «النسي» بترك الهمزة وترك المدّ, وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه فعل من قول القائل: نسيت الشيء أنساه, ومن قول الله: نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ بمعنى: تركوا الله فتركهم.
13054ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: فهو المحرّم كان يحرّم عاما وصفر عاما, وزيد صفر آخر في الأشهر الحرم, وكانوا يحرّمون صفرا مرّة ويحلونه مرّة, فعاب الله ذلك, وكانت هوزان وغطفان وبنو سليم تفعله.
13055ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي وائل: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: كان النسيء رجلاً من بني كنانة, وكان ذا رأي فيهم, وكان يجعل سنة المحرّم صفرا, فيغزون فيه فيغتنمون فيه ويصيبون, ويحرّمه سنة.
قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن أبي وائل: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ... الآية, وكان رجل من بني كنانة يسمى النسيء, فكان يجعل المحرّم صفر ويستحل فيه الغنائم, فنزلت هذه الآية.
13056ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا إدريس, قال: سمعت ليثا, عن مجاهد, قال: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام في الموسم على حمار له, فيقول: أيها الناس إني لا أُعاب ولا أُحاب, ولا مردّ لما أقول إنا قد حرّمنا المحرّم, وأخرنا صفر ثم يجيء العام المقبل بعده, فيقول مثل مقالته, ويقول: إنا قد حرمنا صفر, وأخرنا المحرّم فهو قوله: لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ قال: يعني الأربعة, فيحلوا ما حرّم الله لتأخير هذا الشهر الحرام.
13057ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ النسيء: المحرّم, وكان يحرّم المحرّم عاما ويحرّم صفرا عاما, فالزيادة صفر, وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرّم, فيحلوا ما حرّم الله, وكانت هوزان وغطفان وبنو سليم يعظمونه, هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية.
13058ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ... إلى قوله: الكافِرِينَ عمد أناس من أهل الضلالة, فزادوا صفرا في الأشهر الحرم, فكان يقوم قائمهم في الموسم, فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرّم فيحرّمونه ذلك العام. ثم يقول في العام المقبل فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرّمونه ذلك العام. وكان يقال لهما: الصفران. قال: فكان أوّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة, وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة صفوان بن أمية أحد بني فقيم بن الحرث, ثم أحد بني كنانة.
13059ـ حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: فرض الله الحجّ في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة, والمحرّم, وصفر, وربيع, وربيع, وجمادى, وجمادى, ورجب, وشعبان, ورمضان, وشوّال, وذو القعدة, وذو الحجة, يحجون فيه مرّة ثم يسكتون عن المحرّم فلا يذكرونه, ثم يعودون فيسمون صفر صفر, ثم يسمون رجب جمادى الاَخرة, ثم يسمون شعبان ورمضان, ثم يسمون رمضان شوالاً, ثم يسمون ذا القعدة شوّالاً, ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة, ثم يسمون المحرّم ذا الحجة فيحجون فيه, واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة, فكانوا يحجون في كل شهر عامين, حتى وافق حجة أبي بكر رضي الله عنه الاَخر من العامين في ذي القعدة. ثم حجّ النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حجّ, فوافق ذا الحجة, فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ».
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: حجوا في ذي الحجة عامين, ثم حجوا في المحرّم عامين, ثم حجوا في صفر عامين, فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين, حتى وافقت حجة أبي بكر الاَخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حجّ النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة. فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ».
13060ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمران بن عيينة, عن حصين, عن أبي مالك: إنّمَا النّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشرا شهرا, فيجعلون المحرّم صفرا, فيستحلون فيه الحرمات. فأنزل الله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ.
13061ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا... الآية. قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له القَلَمّس, كان في الجاهلية, وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام, يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمدّ إليه يده. فلما كان هو, قال: اخرجوا بنا قالوا له: هذا المحرم. فقال: ننسئه العام, هما العام صفران, فإذا كان عام قابل قضينا فجعلناهما محرمين قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل, قال: لا تغزوا في صفر حرّموه مع المحرّم, هما محرّمان المحرم أنسأناه عاما أوّل ونقضيه ذلك الإنساء. وقال شاعرهم:
(وَمِنّا مُنْسِيءُ الشّهْرِ القَلَمّسْ
وأنزل الله: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ... إلى آخر الآية.
وأما قوله: زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ فإن معناه: زيادة كفر بالنسيء إلى كفرهم بالله. وقيل ابتداعهم النسيء كما:
13062ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: إنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يقول: ازدادوا به كفرا إلى كفرهم.
وأما قوله: لِيُوَاطِئُوا فإنه من قول القائل: واطأت فلانا على كذا أواطئه مواطأة: إذا وافقته عليه, معينا له, غير مخالف عليه.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما:
13063ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ ما حَرّمَ اللّهُ يقول: يشبهون.
وذلك قريب المعنى مما بيّنا, وذلك أن ما شابه الشيء فقد وافقه من الوجه الذي شابهه.
وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرّمونها عدة الأشهر الأربعة التي حرّمها الله, لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها, وإن قدّموا وأخّروا فذلك مواطأة عدتهم عدّة ما حرّم الله.
الآية : 38
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ }.
وهذه الآية حثّ من الله جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم, وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك. يقول جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ما لَكُمْ أيّ شيء أمركم, إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ يقول: إذا قال لكم رسول الله محمد: انفروا أي اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم. وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاجه على ذلك, ومنه نفور الدابة غير أنه يقال من النفر إلى الغزو: نفر فلان إلى ثغر كذا يَنْفِرُ نَفْرا ونَفِيرا, وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرقون بها بين اختلاف المخبر عنه وإن اتفقت معاني الخبر فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون إذ قيل لكم: اخرجوا غزاه في سبيل الله أي في جهاد أعداء اللّه, اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ يقول تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها. وقيل: «اثّاقلتم» لأنه أدغم التاء في الثاء. فأحدث لها ألف ليتوصل إلى الكلام بها. لأن التاء مدغمة في الثاء, ولو أسقطت الألف وابتدىء بها لم تكن إلا متحركة, فأحدثت الألف لتقع الحركة بها, كما قال جلّ ثناؤه: حتى إذَا ادّاركُوا فِيهَا جَمِيعا وكما قال الشاعر:
تُولي الضجيجَ إذا ما اسْتافَها خَصِراعَذْبَ المَذاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ
فهو بني الفعل افتعلتم من التثاقل.
وقوله: أرَضِيتُمْ بالحَياةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ يقول جلّ ثناؤه, أرضيتم بحظّ الدنيا والدعة فيها عوضا من نعيم الاَخرة وما عند الله للمتقين في جنانه؟ فَمَا مِتَاعُ الحَياةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرةِ يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذّاتها في نعيم الاَخرة والكرامة التي أعدّها الله لأوليائه وأهل طاعته إلاّ قَلِيلٌ يسير. يقول لهم: فاطلبوا أيها المؤمنون نعيم الاَخرة وترف الكرامة التي عند الله لأوليائه بطاعته, والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوّه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13064ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ما لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرضِ أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد الطائف, وبعد حنين. أمروا بالنفير في الصيف حين خُرِفَت النخل, وطابت الثمار, واشتهوا الظلال, وشقّ عليهم المخرج.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرض... الآية, قال: هذا حين أُمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين, وبعد الطائف أمرهم بالنفير في الصيف, حين اخْتُرِفَت النخل, وطابت الثمار, واشتهُوا الظلال, وشقّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: منا الثقيل, وذو الحجة, والضيّعة, والشغل, والمنتشر به أمره في ذلك. فأنزل الله: انْفِرُوا خفافا وثَقالاً.
القول في تأويل قوله تعالى:
{إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله, متوعدهم على ترك النفر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى من استنفركم رسول الله, يعذّبكم الله عاجلاً في الدنيا بترككم النفر إليهم عذابا موجعا. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غيرَكُمْ يقول: يستبدل الله بكم نبيه قوما غيركم, ينفرون إذا استنفروا, ويجيبونه إذا دعوا, ويطيعون الله ورسوله. وَلا تَضُرّوه شَيْئا يقول: ولا تضرّوا الله بترككم النفير ومعصيتكم إياه شيئا, لأنه لا حاجة به إليكم, بل أنتم أهل الحاجة إليه, وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء واللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول جلّ ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير. وقد ذكر أن العذاب الأليم في هذا الموضع كان احتباس القطر عنهم. ذكر من قال ذلك:
13065ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا زيد بن الحباب, قال: ثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي, قال: ثني نجدة الخراساني, قال: سمعت ابن عباس, سئل عن قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيّا من أحيار العرب, فتثاقلوا عنه, فأمسك عنهم المطر, فكان ذلك عذابهم, فذلك قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد المؤمن, عن نجدة, قال: سألت ابن عباس, فذكر نحوه, إلا أنه قال: فكان عذابهم أن أمسك عنهم المطر.
13066ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما استنفر الله المؤمنين في لهبان الحرّ في غزوة تبوك قبل الشأم على ما يعلم الله من الجهد.
وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة. ذكر من قال ذلك:
13067ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصريّ, قالا: قال: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وقال: ما كانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ... إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ فنسختها الآية التي تلتها: ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ.
قال أبو جعفر: ولا خبر بالذي قال عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكروا يجب التسليم له, ولا حجة تأتي بصحة ذلك, وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد. وجائز أن يكون قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما لخاصّ من الناس, ويكون المراد به من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم ينفر على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذا كان ذلك كذلك, كان قوله: ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها, وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض, وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الاَيتين نسخ للأخرى, وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عُنِيَتْ به.
الآية : 39
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ }.
وهذه الآية حثّ من الله جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم, وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك. يقول جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ما لَكُمْ أيّ شيء أمركم, إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ يقول: إذا قال لكم رسول الله محمد: انفروا أي اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم. وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاجه على ذلك, ومنه نفور الدابة غير أنه يقال من النفر إلى الغزو: نفر فلان إلى ثغر كذا يَنْفِرُ نَفْرا ونَفِيرا, وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرقون بها بين اختلاف المخبر عنه وإن اتفقت معاني الخبر فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون إذ قيل لكم: اخرجوا غزاه في سبيل الله أي في جهاد أعداء اللّه, اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ يقول تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها. وقيل: «اثّاقلتم» لأنه أدغم التاء في الثاء. فأحدث لها ألف ليتوصل إلى الكلام بها. لأن التاء مدغمة في الثاء, ولو أسقطت الألف وابتدىء بها لم تكن إلا متحركة, فأحدثت الألف لتقع الحركة بها, كما قال جلّ ثناؤه: حتى إذَا ادّاركُوا فِيهَا جَمِيعا وكما قال الشاعر:
تُولي الضجيجَ إذا ما اسْتافَها خَصِراعَذْبَ المَذاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ
فهو بني الفعل افتعلتم من التثاقل.
وقوله: أرَضِيتُمْ بالحَياةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ يقول جلّ ثناؤه, أرضيتم بحظّ الدنيا والدعة فيها عوضا من نعيم الاَخرة وما عند الله للمتقين في جنانه؟ فَمَا مِتَاعُ الحَياةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرةِ يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذّاتها في نعيم الاَخرة والكرامة التي أعدّها الله لأوليائه وأهل طاعته إلاّ قَلِيلٌ يسير. يقول لهم: فاطلبوا أيها المؤمنون نعيم الاَخرة وترف الكرامة التي عند الله لأوليائه بطاعته, والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوّه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13064ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ما لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرضِ أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد الطائف, وبعد حنين. أمروا بالنفير في الصيف حين خُرِفَت النخل, وطابت الثمار, واشتهوا الظلال, وشقّ عليهم المخرج.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرض... الآية, قال: هذا حين أُمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين, وبعد الطائف أمرهم بالنفير في الصيف, حين اخْتُرِفَت النخل, وطابت الثمار, واشتهُوا الظلال, وشقّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: منا الثقيل, وذو الحجة, والضيّعة, والشغل, والمنتشر به أمره في ذلك. فأنزل الله: انْفِرُوا خفافا وثَقالاً.
القول في تأويل قوله تعالى:
{إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله, متوعدهم على ترك النفر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى من استنفركم رسول الله, يعذّبكم الله عاجلاً في الدنيا بترككم النفر إليهم عذابا موجعا. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غيرَكُمْ يقول: يستبدل الله بكم نبيه قوما غيركم, ينفرون إذا استنفروا, ويجيبونه إذا دعوا, ويطيعون الله ورسوله. وَلا تَضُرّوه شَيْئا يقول: ولا تضرّوا الله بترككم النفير ومعصيتكم إياه شيئا, لأنه لا حاجة به إليكم, بل أنتم أهل الحاجة إليه, وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء واللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول جلّ ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير. وقد ذكر أن العذاب الأليم في هذا الموضع كان احتباس القطر عنهم. ذكر من قال ذلك:
13065ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا زيد بن الحباب, قال: ثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي, قال: ثني نجدة الخراساني, قال: سمعت ابن عباس, سئل عن قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيّا من أحيار العرب, فتثاقلوا عنه, فأمسك عنهم المطر, فكان ذلك عذابهم, فذلك قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد المؤمن, عن نجدة, قال: سألت ابن عباس, فذكر نحوه, إلا أنه قال: فكان عذابهم أن أمسك عنهم المطر.
13066ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما استنفر الله المؤمنين في لهبان الحرّ في غزوة تبوك قبل الشأم على ما يعلم الله من الجهد.
وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة. ذكر من قال ذلك:
13067ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصريّ, قالا: قال: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وقال: ما كانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ... إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ فنسختها الآية التي تلتها: ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ.
قال أبو جعفر: ولا خبر بالذي قال عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكروا يجب التسليم له, ولا حجة تأتي بصحة ذلك, وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد. وجائز أن يكون قوله: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما لخاصّ من الناس, ويكون المراد به من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم ينفر على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذا كان ذلك كذلك, كان قوله: ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها, وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض, وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الاَيتين نسخ للأخرى, وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عُنِيَتْ به.
الآية : 40
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ السّفْلَىَ وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
وهذا إعلام من الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم, أعانوه أو لم يعينوه, وتذكير منه لهم فعل ذلك به, وهو من العدد في قلة والعدوّ في كثرة, فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدوّ في قلّة؟ يقول لهم جلّ ثناؤه: إلا تنفروا أيها المؤمنون مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه, فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم كما نصره إذ أخرجه الذين كفروا بالله من قريش من وطنه وداره ثانِيَ اثْنَيْنِ يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين: أي واحد من الاثنين, وكذلك تقول العرب: «هُوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ» يعني أحد الاثنين, وثالث ثلاثة, ورابع أربعة, يعني: أحد ثلاثة, وأحد الأربعة, وذلك خلاف قولهم: هو أخو ستة وغلام سبعة, لأن الأخ والغلام غير الستة والسبعة, وثالث الثلاثة: أحد الثلاثة. وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر, رضي الله عنه, لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش, إذ همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار. وقوله: إذْ هُما فِي الغارِ يقول إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار والغار: النقب العظيم يكون في الجبل. إذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر: لا تَحْزَنْ وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما, فجزع من ذلك, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تَحْزَنْ لأنّ اللّهَ مَعَنا, واللّهُ ناصِرُنا, فَلَنِ يَعْلَمَ المُشْرِكُونَ بِنا, وَلَنْ يَصِلُوا إلَيْنَا يقول جلّ ثناؤه: فقد نصره الله على عدوّه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد, فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثر الله أنصاره وعدد جنوده؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13068ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: إلاّ تَنْصُرُوهُ ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعثه يقول الله: فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ قال: ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعث, فالله فاعل به كذلك ناصره كما نصره إذا ذاك ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الغارِ.
13069ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ... الآية, قال: فكان صاحبه أبو بكر. وأما الغار: فجبل بمكة يقال له ثور.
13070ـ حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد, قال: ثني أبي, قال: حدثنا أبان العطار, قال: حدثنا هشام بن عروة, عن عروة, قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه, وكان لأبي بكر منيحة من غنم تروح على أهله, فأرسل أبو بكر عامر بن فُهيرة في الغنم إلى ثور, وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في قور, وهو الغار الذي سماه الله في القرآن.
13071ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي, قال: حدثنا عفان وحبان, قالا: حدثنا همام, عن ثابت عن أنس, أن أبا بكر رضي الله عنه حدثهم, قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار, وأقدام المشركين فوق رُءُوسِنَا, فقلت: يا رسول الله, لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا فقال: «يا أبا بَكْرٍ ما ظَنّكَ باثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثَهُما».
13072ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن شريك, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد, قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا.
13073ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: إذْ هُما فِي الغارِ قال: في الجبل الذي يسمى ثورا, مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليال.
13074ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحارث, عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل: أنا, قال: اقرأ فلما بلغ: إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبه.
القول في تأويل قوله تعالى: فأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَة الّذِينَ كَفَروُا السّفْلَى وكلمةٌ اللّهِ هِيَ العُلْيا واللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل: على أبي بكر وأيّدهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا يقول: وقوّاه بجنود من عنده من الملائكة لم تروها أنتم. وَجَعَلَ كِلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا وهي كلمة الشرك السّفْلَى لأنها قُهرت وأذّلت وأبطلها الله تعالى ومحق أهلها, وكلّ مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب والغالب هو الأعلى. وكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العْلْيَا يقول: ودين الله وتوحيده وقول لا إله إلا الله, وهي كلمته العليا على الشرك وأهله, الغاليةُ. كما:
13075ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى وهي: الشرك بالله. وكَلِمَةُ اللّهُ هِيَ العُلْيا وهي لا إله إلا الله.
وقوله: وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العُليا خبر مبتدأ غير مردود على قوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى لأن ذلك لو كان معطوفا على الكلمة الأولى لكان نصبا.
وأما قوله: واللّهُ عَزِيرٌ حَكِيمٌ فإنه يعني: والله عزيز في انتقامه من أهل الكفر به, لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ولا ينصره من عاقبه ناصر, حكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته