قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به من للتبعيض . والفاء في قوله فتهجد ناسقة على مضمر ، أي قم فتهجد .به أي بالقرآن . والتهجد من الهجود وهو من الأضداد . يقال : هجد نام ، وهجد سهر ; على الضد .
قال الشاعر :ألا زارت وأهل منى هجود وليت خيالها بمنى يعودآخر :ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجوديعني نياما . وهجد وتهجد بمعنى . وهجدته أي أنمته ، وهجدته أي أيقظته . والتهجد التيقظ بعد رقدة ، فصار اسما للصلاة ; لأنه ينتبه لها . فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم . قال معناه الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم .
وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب
النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد ! إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة . كذلك كانت صلاة
رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : الهجود النوم . يقال : تهجد الرجل إذا سهر ، وألقى الهجود وهو النوم . ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا ; لأن المتهجد هو الذي يلقي الهجود الذي هو النوم عن نفسه . وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتحرج وتأثم وتحنث وتقذر وتنجس ; إذا ألقى ذلك عن نفسه . ومثله قوله - تعالى - : فظلتم تفكهون معناه تندمون ; أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم ، وهي انبساط النفوس وسرورها . يقال : رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك . والمعنى في الآية : ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة .
الثانية : قوله تعالى : نافلة لك أي كرامة لك ; قاله مقاتل . واختلف العلماء في تخصيص
النبي -
صلى الله عليه وسلم - بالذكر دون أمته ; فقيل : كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله : نافلة لك أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة .
قلت : وفي هذا التأويل بعد لوجهين : أحدهما - تسمية الفرض بالنفل ، وذلك مجاز لا حقيقة . الثاني - قوله -
صلى الله عليه وسلم - : خمس صلوات فرضهن الله على العباد وقوله - تعالى - : ( هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ) وهذا نص ، فكيف يقال افترض عليه صلاة زائدة على الخمس ، هذا ما لا يصح ; وإن كان قد روي عنه - عليه السلام - : ثلاث علي فريضة ولأمتي تطوع : قيام الليل والوتر والسواك .
وقيل : كانت صلاة الليل تطوعا منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل ، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة ; كما قالت عائشة ، على ما يأتي مبينا في سورة [
المزمل ] إن شاء الله - تعالى - . وعلى هذا يكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبي -
صلى الله عليه وسلم - ; لأنه مغفور له . فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات . وغيره من الأمة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض ; قال معناه مجاهد وغيره .
وقيل : عطية ; لأن العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في العبادة .
الثالثة : قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال :[
الأول ] وهو أصحها - الشفاعة للناس يوم القيامة ; قاله حذيفة بن اليمان . وفي
صحيح البخاري عن ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها تقول : يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى
النبي -
صلى الله عليه وسلم - ، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود . وفي
صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد -
صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم - عليه السلام - فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى - عليه السلام - فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد -
صلى الله عليه وسلم - فأوتى فأقول أنا لها ... وذكر الحديث .
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - في قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا سئل عنها قال : هي الشفاعة قال : هذا حديث حسن صحيح .
الرابعة : إذا ثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء - عليهم السلام - ، حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد -
صلى الله عليه وسلم - فيشفع هذه الشفاعة لأهل الموقف ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم ، وهي الخاصة به -
صلى الله عليه وسلم - ; ولأجل ذلك قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر . قال النقاش : ل
رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات : العامة ، وشفاعة في السبق إلى الجنة ، وشفاعة في أهل الكبائر . ابن عطية : والمشهور أنهما شفاعتان فقط : العامة ، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار . وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء .
وقال القاضي أبو الفضل عياض : شفاعات نبينا -
صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة خمس شفاعات : العامة . والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب . الثالثة في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيها نبينا -
صلى الله عليه وسلم - ، ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة . وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة : الخوارج والمعتزلة ، فمنعتها على أصولهم الفاسدة ، وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح . الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا -
صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين . الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها ، وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول .
الخامسة : قال القاضي عياض : وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة
النبي -
صلى الله عليه وسلم - ورغبتهم فيها ، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال : إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة
النبي -
صلى الله عليه وسلم - ; لأنها لا تكون إلا للمذنبين ، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات . ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين ، ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة ; لأنها لأصحاب الذنوب أيضا ، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف . روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن
رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال : من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة .[
القول الثاني ] أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة .
قلت : وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول ; فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال
رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي " الحديث .[
القول الثالث ] ما حكاه الطبري عن فرقة ، منها مجاهد ، أنها قالت : المقام المحمود هو أن يجلس الله - تعالى - محمدا -
صلى الله عليه وسلم - معه على كرسيه ; وروت في ذلك حديثا . وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول ، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى ، وفيه بعد . ولا ينكر مع ذلك أن يروى ، والعلم يتأوله . وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا ، من أنكر جوازه على تأويله . قال أبو عمر ومجاهد : وإن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم : أحدهما هذا والثاني في تأويل قوله - تعالى - : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة تنتظر الثواب ; ليس من النظر .
قلت : ذكره هذا في الباب ابن شهاب في حديث التنزيل . وروي عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال : يجلسه على العرش . وهذا تأويل غير مستحيل ; لأن الله - تعالى - كان قبل خلقه الأشياء كلها والعرش - قائما بذاته ، ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها ، بل إظهارا لقدرته وحكمته ، وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة ، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا ، أو كان العرش له مكانا . قيل : هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان ; فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض ; لأن استواء الله - تعالى - على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش ، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف . وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية ، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه . وأما قوله في الإخبار : ( معه فهو بمنزلة قوله : إن الذين عند ربك ، و رب ابن لي عندك بيتا في الجنة . وإن الله لمع المحسنين ونحو ذلك . كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة ، لا إلى المكان .[
الرابع ] إخراجه من النار بشفاعته من يخرج ; قاله جابر بن عبد الله . ذكره مسلم . وقد ذكرناه في ( كتاب التذكرة ) والله الموفق .
السادسة : اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببا للمقام المحمود على قولين : أحدهما : أن البارئ - تعالى - يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفة بوجه الحكمة فيه ، أو بمعرفة وجه الحكمة . الثاني : أن قيام الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس ، فأعطي الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود . ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم ، فأجلهم فيه درجة محمد -
صلى الله عليه وسلم - ; فإنه يعطى ما لا يعطى أحد ويشفع ما لا يشفع أحد . وعسى من الله - عز وجل - واجبة . ومقاما نصب على الظرف . أي في مقام أو إلى مقام . وذكر الطبري عن أبي هريرة أن
رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال : المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي . فالمقام الموضع الذي يقوم فيه الإنسان للأمور الجليلة كالمقامات بين يدي الملوك .