تفسير الطبري تفسير الصفحة 290 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 290
291
289
 الآية : 76
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً }.
يقول عزّ وجلّ: وإن كاد هؤلاء القوم لـيستفزونك من الأرض: يقول: لـيستـخفونك من الأرض التـي أنت بها لـيخرجوك منها وَإذا لا يَـلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِـيلاً يقول: ولو أخرجوك منها لـم يـلبثوا بعدك فـيها إلاّ قلـيلاً، حتـى أهلكهم بعذاب عاجل.
واختلف أهل التأويـل فـي الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لـيخرجوه من الأرض وفـي الأرض التـي أرادوا أن يخرجوه منها فقال بعضهم: الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الـيهود، والأرض التـي أرادوا أن يخرجوه منها الـمدينة. ذكر من قال ذلك:
17021ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: زعم حضرميّ أنه بلغه أن بعض الـيهود قال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: إن أرض الأنبـياء أرض الشام، وإن هذه لـيست بأرض الأنبـياء، فأنزل الله وَإنْ كادُوا لَـيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِـيُخْرِجُوكَ مِنْها.
وقال آخرون: بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا، والأرض مكة. ذكر من قال ذلك:
17022ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله وَإنْ كادُوا لَـيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِـيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإذا لا يَـلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِـيلاً وقد همّ أهل مكة بإخراج النبـيّ صلى الله عليه وسلم من مكة، ولو فعلوا ذلك لـما توطنوا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتـى أمره، ولقلـما مع ذلك لبثوا بعد خروج نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتـى بعث الله علـيهم القتل يوم بدر.
حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة لَـيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ قال: قد فعلوا بعد ذلك، فأهلكهم الله يوم بدر، ولـم يـلبثوا بعده إلاّ قلـيلاً حتـى أهلكهم الله يوم بدر. وكذلك كانت سنّة الله فـي الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
17023ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد خِلافَكَ إلاّ قَلِـيلاً قال: لو أخرجت قريش مـحمدا لعذّبوا بذلك.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب، قول قتادة ومـجاهد، وذلك أن قوله: وَإنْ كادُوا لَـيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ فـي سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم، ولـم يجر للـيهود قبل ذلك ذكر، فـيوجه قوله وَإنْ كادُوا إلـى أنه خبر عنهم، فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولـى من غيره. وأما القلـيـل الذي استثناه الله جلّ ذكره فـي قوله وإذا لا يَـلْبَثُونَ خَـلْفَكَ إلاّ قَلِـيلاً فإنه فـيـما قـيـل، ما بـين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلـى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر. ذكر من قال ذلك:
17024ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وإذا لا يَـلْبَثُونَ خَـلْفَكَ إلاّ قَلِـيلاً يعنـي بـالقلـيـل يوم أخذهم ببدر، فكان ذلك هو القلـيـل الذي لبثوا بعد.
17025ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَإذا لا يَـلْبَثُونَ خَـلْفَكَ إلاّ قَلِـيلاً كان القلـيـل الذي لبثوا بعد خروج النبـيّ صلى الله عليه وسلم من بـين أظهرهم إلـى بدر، فأخذهم بـالعذاب يوم بدر، وعُنِـي بقوله خلافك بعدك، كما قال الشاعر:
عَقَبَ الرّذَاذُ خِلافَها فكأنّـمَابسَط الشّواطِبُ بَـيْنَهُنّ حَصِيرا
يعنـي بقوله: خلافها: بعدها. وقد حُكي عن بعضهم أنه كان يقرؤها: خـلفك. ومعنى ذلك، ومعنى الـخلاف فـي هذا الـموضع واحد.
الآية : 77
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {سُنّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنّتِنَا تَحْوِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره: لو أخرجوك لـم يـلبثوا خلافك إلاّ قلـيلاً، ولأهلكناهم بعذاب من عندنا، سنتنا فـيـمن قد أرسلنا قبلك من رسلنا، فإنا كذلك كنا نفعل بـالأمـم إذا أخرجت رسلها من بـين أظهرهم ونصبت السنة علـى الـخروج من معنى قوله لا يَـلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِـيلاً لأن معنى ذلك: لعذّبناهم بعد قلـيـل كسنتنا فـي أمـم من أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تـجد لسنتنا تـحويلاً عما جرت به. كما:
17026ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: سُنّةَ مَنْ قَدْ أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَـجِدُ لِسُنّتِنا تَـحْوِيلاً: أي سنة الأمـم والرسل كانت قبلك كذلك إذا كذّبوا رسلهم وأخرجوهم، لـم يناظروا أن الله أنزل علـيهم عذابه.
الآية : 78
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَىَ غَسَقِ الْلّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: أقِمِ الصّلاةَ يا مـحمد لِدُلُوكِ الشّمْسِ.
واختلف أهل التأويـل فـي الوقت الذي عناه الله بدلوك الشمس، فقال بعضهم: هو وقت غروبها، والصلاة التـي أمر بإقامتها حينئذٍ: صلاة الـمغرب. ذكر من قال ذلك:
17027ـ حدثنـي واصل بن عبد الأعلـى الأسدي، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن أبـي إسحاق، يعنـي الشيبـانـي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبـيه، أنه كان مع عبد الله بن مسعود، علـى سطح حين غربت الشمس، فقرأ: أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إلـى غَسَق اللّـيـل، حتـى فرغ من الاَية، ثم قال: والذي نفسي بـيده إن هذا لَـحِينَ دَلَكَتِ الشمس وأفطر الصائم ووقت الصلاة.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، أن أبـا عُبـيدة بن عبد الله كتب إلـيه أن عبد الله بن مسعود كان إذا غربت الشمس صلّـى الـمغرب، ويفطر عندها إن كان صائما، ويقسم علـيها يـمينا ما يقسمه علـى شيء من الصلوات بـالله الذي لا إله إلاّ هو، إن هذه الساعة لـميقات هذه الصلاة، ويقرأ فـيها تفسيرها من كتاب الله أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكَ الشّمْسِ إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن عاصم، عن أبـي وائل، عن عبد الله قال: هذا دلوك الشمس، وهذا غسق اللـيـل، وأشار إلـى الـمشرق والـمغرب.
17028ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، قال: قال ابن عبـاس: دلوك الشمس: غروبها، يقول: دلكت براح.
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله، أنه قال: حين غربت الشمس دلكت، يعنـي براح مكانا.
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس، قال: دلوكها: غروبها.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: قد ذكر لنا أن ابن مسعود كان يصلـيها إذا وجبت وعندها يفطر إذا كان صائما، ثم يقسم علـيها قسما لا يقسمه علـى شيء من الصلوات بـالله الذي لا إله إلاّ هو، إن هذه الساعة لـميقات هذه الصلاة، ثم يقرأ ويصلـيها وتصديقها من كتاب الله: أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ.
17029ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ قال: كان أبـي يقول: دلوكها: حين تريد الشمس تغرب إلـى أن يغسق اللـيـل، قال: هي الـمغرب حين يغسق اللـيـل، وتَدلُك الشمس للغروب.
حدثنـي سعيد بن الربـيع، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، سمع عمرو بن دينار أبـا عبـيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: كان عبد الله بن مسعود يصلـي الـمغرب حين يغرب حاجب الشمس، ويحلف أنه الوقت الذي قال الله أقِمِ الصّلاةَ لدُلُوكِ الشّمْسِ إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: قال عبد الله حين غربت الشمس: هذا والله الذي لا إله غيره وقت هذه الصلاة. وقال: دلوكها: غروبها.
وقال آخرون: دلوك الشمس: ميـلها للزوال، والصلاة التـي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند دلوكها: الظهر. ذكر من قال ذلك:
17030ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال: دلوكها: ميـلها، يعنـي الشمس.
17031ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن الشعبـيّ، عن ابن عبـاس، قال، فـي قوله أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْس قال: دلوكها: زوالها.
17032ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الـحميد بن جعفر، عن نافع، عن ابن عمر، فـي قوله أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ قال: دلوكها: ميـلها.
17033ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن سيار بن سلامة، عن أبـي برزة الأسلـميّ، قوله أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ قال: إذا زالت.
حدثنا ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا أبو تـميـلة، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، قال: حدثنا سيار بن سلامة الرياحي، قال: أتـيت أبـا برزة فسأله والدي عن مواقـيت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلـي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا: أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ.
17034ـ حدثنـي الـحسين بن علـيّ الصدائي، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا مبـارك، عن الـحسن، قال: قال الله عزّ وجلّ لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ قال: الظهر دلوكها، إذا زالت عن بطن السماء، وكان لها فـي الأرض فَـيْء.
حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يونس، عن الـحسن، فـي قوله أقِمِ الصّلاةَ لدُلُوكِ الشّمْسِ قال: دلوكها: زوالها.
17035ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك، مثل ذلك.
17036ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبـي جعفر فـي أقِمِ الصّلاةَ لِدِلُوكِ الشّمْسِ قال: لزوال الشمس.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن ابن عبـاس، قال دلوك الشمس: زيغها بعد نصف النهار، يعنـي الظلّ.
17037ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: دلوك الشمس، قال: حين تزيغ عن بطن السماء.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله أقِمِ الصّلاةَ لِدِلُوكِ الشّمْسِ أي إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر.
17038ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد لِدُلُوكِ الشّمْسِ قال: حين تزيغ.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قال: دلوك الشمس: حين تزيغ.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عنى بقوله أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ: صلاة الظهر، وذلك أن الدلوك فـي كلام العرب: الـميـل، يقال منه: دلك فلان إلـى كذا: إذا مال إلـيه. ومنه الـخبر الذي روي عن الـحسن أن رجلاً قال له: أيُدالك الرجل امرأته؟ يعنـي بذلك: أيـميـل بها إلـى الـمـماطلة بحقها. ومنه قول الراجز:
هَذَا مَقامُ قَدَميْ رَبـاحِغُدْوَةَ حتـى دَلَكَتْ بِرَاحِ
ويروى: براح بفتـح البـاء، فمن روى ذلك: بِراح، بكسر البـاء، فإنه يعنـي: أنه يضع الناظر كفه علـى حاجبه من شعاعها، لـينظر ما لقـي من غيارها. وهذا تفسير أهل الغريب أبـي عبـيدة والأصمعي وأبـي عمرو الشيبـانـيّ وغيرهم. وقد ذكرت فـي الـخبر الذي رويت عن عبد الله بن مسعود، أنه قال حين غربت الشمس: دلكت براح، يعنـي: براح مكانا، ولست أدري هذا التفسير، أعنـي قوله: براح مكانا مِنْ كلام من هو مـمن فـي الإسناد، أو من كلام عبد الله، فإن يكن من كلام عبد الله، فلا شكّ أنه كان أعلـم بذلك من أهل الغريب الذين ذكرت قولهم، وأن الصواب فـي ذلك قوله، دون قولهم، وإن لـم يكن من كلام عبد الله، فإن أهل العربـية كانوا أعلـم بذلك منه، ولـما قال أهل الغريب فـي ذلك شاهد من قول العجاج، وهو قوله:
والشّمْسُ قد كادَتْ تَكُونُ دَنَفـاأدْفَعُها بـالرّاحِ كَيْ تَزَحْلَفـا
فأخبر أنه يدفع شعاعها لـينظر إلـى مغيبها براحه. ومن روى ذلك بفتـح البـاء، فإنه جعله اسما للشمس وكسر الـحاء لإخراجه إياه علـى تقدير قَطامِ وحَذامِ ورَقاشِ، فإذا كان معنى الدلوك فـي كلام العرب هو الـميـل، فلا شكَ أن الشمس إذا زالت عن كبد السماء، فقد مالت للغروب، وذلك وقت صلاة الظهر، وبذلك ورد الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فـي إسناد بعضه بعض النظر.
17039ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خالد بن مخـلد، قال: ثنـي مـحمد بن جعفر، قال: ثنـي يحيى بن سعيد، قال: ثنـي أبو بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن أبـي مسعود عقبة بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتانِـي جَبْرَائِيـلُ عَلَـيْهِ السّلامُ لِدُولُوكِ الشّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلّـى بِـيَ الظّهْرَ».
17040ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تـميـلة، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، قال: ثنـي سيار بن سلامة الرياحي، قال: قال أبو بَرزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلـي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ.
17041ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قـيس، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن رجل، عن جابر بن عبد الله، قال: دعوت نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه، فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «اخْرُجْ يا أبـا بَكْرٍ قَدْ دَلَكَتِ الشّمْسُ».
حدثنـي مـحمد بن عثمان الرازي، قال: حدثنا سهل بن بكار، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأسود بن قـيس، عن نُبَـيح العَنَزِيّ، عن جابر بن عبد الله، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم، نـحو حديث ابن حميد.
فإذا كان صحيحا ما قلنا بـالذي به استشهدنا، فبـين إذن أن معنى قوله جلّ ثناؤه: أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ أن صلاة الظهر والعصر بحدودهما مـما أوجب الله علـيك فـيهما لأنهما الصلاتان اللتان فرضهما الله علـى نبـيه من وقت دلوك الشمس إلـى غسق اللـيـل وغسق اللـيـل: هو إقبـاله ودنوّه بظلامه، كما قال الشاعر:
(آبَ هَذَا اللّـيْـلُ إذْ غَسَقَا )
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل علـى اختلاف منهم فـي الصلاة التـي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عنده، فقال بعضهم: الصلاة التـي أمر بإقامتها عنده صلاة الـمغرب. ذكر من قال ذلك:
17042ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله أقِمِ الصّلاةَ لِدِلُوكِ الشّمْسِ إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ قال: غسق اللـيـل: بدوّ اللـيـل.
17043ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: سمعت عكرمة سئل عن هذه الاَية: أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ قال: بدوّ اللـيـل.
17044ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: غسق اللـيـل: غروب الشمس.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
17045ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة غَسَقِ اللّـيْـلِ: صلاة الـمغرب.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ بدوّ اللـيـل لصلاة الـمغرب.
وقد ذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تَزَالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمّتِـي عَلـى الفِطْرَةِ ما صَلّوْا صَلاةَ الـمَغْرِبِ قَبْلَ أنْ تَبْدُوَ النّـجومُ».
17046ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله إلـى غَسَقٍ اللّـيْـلِ يعنـي ظلام اللـيـل.
17047ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبـي يقول: غَسَقِ اللّـيْـلِ: ظلـمة اللـيـل.
وقال آخرون: هي صلاة العصر. ذكر من قال ذلك:
17048ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبـي جعفر إلـى غَسَقِ اللّـيْـلِ قال: صلاة العصر.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: الصلاة التـي أمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند غسق اللـيـل، هي صلاة الـمغرب دون غيرها، لأن غسق اللـيـل هو ما وصفنا من إقبـال اللـيـل وظلامه، وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس. فأما صلاة العصر، فإنها مـما تقام بـين ابتداء دلوك الشمس إلـى غسق اللـيـل، لا عند غسق اللـيـل. وأما قوله: وقُرآنَ الفَجْرِ فإن معناه وأقم قرآن الفجر: أي ما تقرأ به صلاة الفجر من القرآن، والقرآن معطوف علـى الصلاة فـي قوله: أقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ.
وكان بعض نـحويـي البصرة يقول: نصب قوله وَقُرآنَ الفَجْرِ علـى الإغراء، كأنه قال: وعلـيك قرآن الفجر إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا يقول: إن ما تقرأ به فـي صلاة الفجر من القرآن كان مشهودا، يشهده فـيـما ذكر ملائكة اللـيـل وملائكة النهار. وبـالذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل: وجاءت الاَثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
17049ـ حدثنـي عبـيد بن أسبـاط بن مـحمد القرشي، قال: ثنـي أبـي، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن ابن مسعود عن أبـي صالـح، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي هذه الاَية وقُرآنَ الفَجْرِ إن قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا قال: «تَشْهَدُهُ مَلائِكَةُ اللّـيْـلِ وَمَلائِكَةُ النّهارِ».
17050ـ حدثنا مـحمد بن سهل، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا لـيث بن سعد وحدثنا مـحمد بن سهل بن عسكر، قال حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: حدثنا اللـيث بن سعد، عن زيادة بن مـحمد، عن مـحمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبـيد، عن أبـي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ يَفْتَـحُ الذّكْرَ فِـي ثَلاثِ ساعاتٍ يَبْقَـينَ مِنَ اللّـيْـلِ: فِـي السّاعَةِ الأُولـى مِنْهُنّ يَنْظُرُ فِـي الكِتابِ الّذِي لا يَنْظُرُ فِـيهِ أحدٌ غيرُه فَـيَـمْـحُوا ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ، ثُمّ يَنْزِلُ فِـي السّاعَةِ الثّانِـيَةِ إلـى جَنّةِ عَدْنٍ، وَهِيَ دَارُهُ الّتِـي لَـمْ تَرَها عَيْنٌ، وَلا تَـخْطُرُ عَلـى قَلْبِ بَشَرٍ، وَهِيَ مَسْكَنُهُ، وَلا يَسْكُنُ مَعَهُ مِنْ بَنِـي آدَمَ غيرُ ثَلاثَةٍ: النّبِـيّـينَ والصّدّيقِـينَ والشّهَدَاءِ، ثُمّ يَقولُ: طُوبَى لِـمَنْ دَخَـلَكِ، ثُمّ يَنْزِلُ فِـي السّاعَةِ الثّالِثَةِ إلـى السمّاءِ الدّنـيْا بِرُوحِهِ وَمَلائِكَتِهِ فَتَنْتَفِضُ، فَـيَقُولُ: قُومي بَعوْنِـي، ثُمّ يَطّلعُ إلـى عِبـادِهِ، فَـيَقُولُ: مَنْ يَسْتَغْفِرُنِـي أغْفِرْ لَهُ، مَنْ يَسْألْنِـي أُعْطِهِ، مَنْ يَدْعُونِـي فَأسْتَـجِيبَ لَهُ حتـى يَطْلُعَ الفَجْرُ، فذلك حين يقول وَقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا» قال موسى فـي حديثه: شهده الله وملائكة اللـيـل وملائكة النهار. وقال ابن عسكر فـي حديثه: فـيشهده الله وملائكة اللـيـل وملائكة النهار.
17051ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، قال: قال أبو عبـيدة بن عبد الله: كان عبد الله يحدّث أن صلاة الفجر عندها يجتـمع الـحرسان من ملائكة الله، ويقرأ هذه الاَية: وَقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا.
17052ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا وقرآن الفجر: صلاة الصبح، كنا نـحدّث أن عندها يجتـمع الـحَرَسان من ملائكة الله حَرَس: اللـيـل وحَرَس النهار.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَقُرآنَ الفَجْرِ صلاة الفجر. وأما قوله: كانَ مَشْهُودا فإنه يقول: ملائكة اللـيـل وملائكة النهار يشهدون تلك الصلاة.
17053ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبـي عبـيدة، عن عبد الله أنه قال فـي هذه الاَية: وَقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا قال: تنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة اللـيـل.
حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن ضرار بن عبد الله بن أبـي الهُذيـل، عن أبـي عبـيدة، فـي قوله: وَقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا قال: يشهده حرس اللـيـل وحرس النهار من الـملائكة فـي صلاة الفجر.
17054ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، فـي قوله: وَقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا قال: كانوا يقولون تـجتـمع ملائكة اللـيـل وملائكة النهار فـي صلاة الفجر فتشهد فـيها جميعا، ثم يصعد هؤلاء ويقـيـم هؤلاء.
17055ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس وَقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا يعنـي صلاة الصبح.
17056ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحرث قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَقرآنَ الفَجْرِ قال: صلاة الصبح.
17057ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَقُرآنَ الفَجْرِ صلاة الصبح إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا قال: تـجتـمع فـي صلاة الفجر ملائكة اللـيـل وملائكة النهار.
17058ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله وَقُرآنَ الفَجْرِ يعنـي صلاة الغداة.
17059ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَقُرآنَ الفَجْرِ قال: صلاة الفجر إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا قال: مشهودا من الـملائكة فـيـما يذكرون. قال: وكان علـيّ بن أبـي طالب، وأُبـيّ بن كعب يقولان: الصلاة الوسطى التـي حضّ الله علـيها: صلاة الصبح. قال: وذلك أن صلاة الظهر وصلاة العصر: صلاتا النهار، والـمغرب والعشاء: صلاتا اللـيـل، وهي بـينها، وهي صلاة نوم، ما نعمل صلاة يُغفل عنها مثلها.
17060ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن الـجريري، عن أبـي الورد بن ثمامة، عن أبـي مـحمد الـحضرمي، قال: حدثنا كعب فـي هذا الـمسجد، قال: والذي نفس كعب بـيده، إن هذه الاَية وَقُرآنَ الفَجْر إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا إنها لصلاة الفجر إنها لـمشهودة.
حدثنـي الـحسن بن علـيّ بن عبـاس، قال: حدثنا بشر بن شعيب، قال: أخبرنـي أبـي، عن الزهري، قال: ثنـي سعيد بن الـمسيب، وأبو سلـمة بن عبد الرحمن، أن أبـا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تَـجْتَـمِعُ مَلائِكَةُ اللّـيْـلِ وَمَلائِكَةُ النّهارِ فِـي صَلاةِ الفَجْرِ»، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتـم وَقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآن الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، فـي قوله وَقُرآنَ الفَجْرِ إنّ قُرآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا قال: صلاة الفجر تـجتـمع فـيها ملائكة اللـيـل وملائكة النهار.
الآية : 79
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم ومن اللـيـل فـاسهر بعد نومة يا مـحمد بـالقرآن، نافلة لك خالصة دون أمتك. والتهجد: التـيقظ والسهر بعد نومة من اللـيـل. وأما الهجود نفسه: فـالنوم، كما قال الشاعر:
ألا طَرَقْتَنا والرّفـاقُ هُجُودُفَبـاتَتْ بِعُلاّتِ النّوَالِ تَـجُودُ
وقال الـحُطَيئة:
ألا طَرَقَتْ هِنْدُ الهُنُودِ وُصحْبَتِـيبِحَوْرَانَ حَوَرَانِ الـجُنُودِ هُجُودُ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17061ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أبـي وشعيب بن اللـيث، عن اللـيث، عن مـجاهد بن يزيد، عن أبـي هلال، عن الأعرج أنه قال: أخبرنـي حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجل من الأنصار، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي سفر، فقال: لأنظرنّ كيف يصلـي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استـيقظ، فرفع رأسه إلـى السماء، فتلا أربع آيات من آخر سورة آل عمران إنّ فِـي خَـلْقٍ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاخْتِلافِ اللّـيْـلِ والنّهارِ حتـى مرّ بـالأربع، ثم أهوى إلـى القربة، فأخذ سواكا فـاستنّ به، ثم توضأ، ثم صلـى، ثم نام، ثم استـيقظ فصنع كصنعه أوّل مرّة، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله.
17062ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سعيد، عن أبـي إسحاق، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن علقمة والأسود أنهما قالا: التهجد بعد نومة.
17063ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: التهجد: بعد نومة.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: ثنـي أبو إسحاق، عن مـحمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة والأسود، بـمثله.
حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا هشيـم، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، قال: التهجد: بعد النوم.
17064ـ حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا يزيد، عن هشام، عن الـحسن، قال: التهجد: ما كان بعد العشاء الاَخرة.
17065ـ حُدثت عن عبد الله بن صالـح، عن اللـيث، عن جعفر بن ربـيعة، عن الأعرج، عن كثـير بن العبـاس، عن الـحجاج بن عمرو، قال: إنـما التهجد بعد رقدة.
وأما قوله نافِلَةً لَكَ فإنه يقول: نفلاً لك عن فرائضك التـي فرضتها علـيك.
واختُلف فـي الـمعنى الذي من أجله خصّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كون صلاة كلّ مصلّ بعد هجوده، إذا كان قبل هجوده قد كان أدّى فرائضه نافلة نفلاً، إذ كانت غير واجبة علـيه، فقال بعضهم: معنى خصوصه بذلك: هو أنها كانت فريضة علـيه، وهي لغيره تطوّع، وقـيـل له: أقمها نافلة لك: أي فضلاً لك من الفرائض التـي فرضتها علـيك عما فرضت علـى غيرك. ذكر من قال ذلك:
17066ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: وَمِنَ اللّـيْـلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ يعنـي بـالنافلة أنها للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، أُمر بقـيام اللـيـل وكُتب علـيه.
وقال آخرون: بل قـيـل ذلك له علـيه الصلاة والسلام لأنه لـم يكن فعله ذلك يكفّر عنه شيئا من الذنوب، لأن الله تعالـى كان قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فكان له نافلة فضل، فأما غيره فهو له كفـارة، ولـيس هو له نافلة. ذكر من قال ذلك:
17067ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثـير، عن مـجاهد، قال: النافلة للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فما عمل من عمل سوى الـمكتوبة، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك فـي كفـارة الذنوب، فهي نوافل وزيادة، والناس يعملون ما سوى الـمكتوبة لذنوبهم فـي كفـارتها، فلـيست للناس نوافل.
وأولـى القولـين بـالصواب فـي ذلك، القول الذي ذكرنا عن ابن عبـاس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالـى قد خصه بـما فرض علـيه من قـيام اللـيـل، دون سائر أمته. فأما ما ذكر عن مـجاهد فـي ذلك، فقول لا معنى له، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما ذُكِر عنه أكثر ما كان استغفـارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزّ وجلّ علـيه لِـيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ وذلك أن هذه السورة أنزلت علـيه بعد مُنْصَرِفَه من الـحديبـية، وأنزل علـيه إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْـحُ عام قبض. وقـيـل له فـيها فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابـا فكان يُعدّ له صلى الله عليه وسلم فـي الـمـجلس الواحد استغفـار مئة مرّة، ومعلوم أن الله لـم يأمره أن يستغفر إلا لـما يغفر له بـاستغفـاره ذلك، فبـين إذن وجه فساد ما قاله مـجاهد.
17068ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن الأعمش، عن شمر، عن عطية، عن شهر، عن أبـي أُمامة، قال: إنـما كانت النافلة للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
17069ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة نافِلَةً لَكَ قال: تطوّعا وفضيـلة لك.
وقوله: عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمودا وعسى من الله واجبة، وإنـما وجه قول أهل العلـم: عسى من الله واجبة، لعلـم الـمؤمنـين أن الله لا يدع أن يفعل بعبـاده ما أطمعهم فـيه من الـجزاء علـى أعمالهم والعوض علـى طاعتهم إياه لـيس من صفته الغرور، ولا شكّ أنه قد أطمع من قال ذلك له فـي نفعه، إذا هو تعاهده ولزمه، فإن لزم الـمقول له ذلك وتعاهده ثم لـم ينفعه، ولا سبب يحول بـينه وبـين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه علـى تعاهده إياه ولزومه، فإنه لصاحبه غارّ بـما كان من إخلافه إياه فـيـما كان أطمعه فـيه بقوله الذي قال له. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعبـاده صحّ ووجب أن كلّ ما أطمعهم فـيه من طمع علـى طاعته، أو علـى فعل من الأفعال، أو أمر أو نهى أمرهم به، أو نهاهم عنه، فإنه موف لهم به، وإنهم منه كالعدة التـي لا يخـلف الوفـاء بها، قالوا: عسى ولعلّ من الله واجبة.
وتأويـل الكلام: أقم الصلاة الـمفروضة يا مـحمد فـي هذه الأوقات التـي أمرتك بإقامتها فـيها، ومن اللـيـل فتهجد فرضا فرضته علـيك، لعلّ ربك يبعثك يوم القـيامة مقاما تقوم فـيه مـحمودا تـحمده، وتغبط فـيه.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك الـمقام الـمـحمود، فقال أكثر أهل العلـم: ذلك هو الـمقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة للشفـاعة للناس لـيريحهم ربهم من عظيـم ما هم فـيه من شدّة ذلك الـيوم. ذكر من قال ذلك:
17070ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، عن حُذيفة، قال: يجمع الناس فـي صعيد واحد، فـيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حُفـاة عراة كما خُـلقوا، قـياما لا تكلّـم نفس إلا بإذنه، ينادَى: يا مـحمد، فـيقول: «لبـيك وسعديك والـخير فـي يديك، والشرّ لـيس إلـيك، والـمهديّ من هَدَيت، عبدك بـين يديك، وبك وإلـيك، لا ملـجأ ولا منـجا منك إلا إلـيك، تبـارك وتعالـيت، سبحانك ربّ هذا البـيت» فهذا الـمقام الـمـحمود الذي ذكره الله تعالـى.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي إسحاق، عن صلة بن زُفر، عن حُذيفة، قال: يُجْمع الناس فـي صعيد واحد. فلا تَكَلّـم نفس، فأوّل ما يدعو مـحمد النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فـيقوم مـحمد النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فـيقول: «لبـيك»، ثم ذكر مثله.
17071ـ حدثنا سلـيـمان بن عمرو بن خالد الرقـي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبـيه عن ابن عبـاس، قوله: عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمودا قال: الـمقام الـمـحمود: مقام الشفـاعة.
17072ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن سلـمة بن كهيـل، قال: حدثنا أبو الزعراء، عن عبد الله فـي قصة ذكرها، قال: ثم يؤمر بـالصراط فـيضرب علـى جسر جهنـم، فـيـمرّ الناس بقدر أعمالهم يـمرّ أوّلهم كالبرق، وكمرّ الريح، وكمرّ الطير، وكأسرع البهائم، ثم كذلك حتـى يـمرّ الرجل سعيا، ثم مشيا، حتـى يجيء آخرهم يتلبّط علـى بطنه، فـيقول: ربّ لـما أبطأت بـي، فـيقول: إنـي لـم أبطأ بك، إنـما أبطأ بك عملك، قال: ثم يأذن الله فـي الشفـاعة، فـيكون أوّل شافع يوم القـيامة جبرئيـل علـيه السلام، روح القُدس، ثم إبراهيـم خـلـيـل الرحمن، ثم موسى، أو عيسى، قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما قال قال: ثم يقوم نبـيكم علـيه الصلاة والسلام رابعا، فلا يشفع أحد بعده فـيـما يشفع فـيه، وهو الـمقام الـمـحمود الذي ذكر الله عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمودا.
17073ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن عوف، عن الـحسن فـي قول الله تعالـى وَمِنَ اللّـيْـلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسَى أنْ يَبْعَثَك رَبّكَ مَقاما مَـحْمُودا قال: الـمقام الـمـحمود: مقام الشفـاعة يوم القـيامة.
17074ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى: وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله تعالـى: مَقاما مَـحْمُودا قال: شفـاعة مـحمد يوم القـيامة.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
17075ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبـي عثمان، عن سلـيـمان، قال: هو الشفـاعة، يشفعه الله فـي أمته، فهو الـمقام الـمـحمود.
17076ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمُودا، وقد ذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر بـين أن يكون نبـيا عبدا، أو ملكا نبـيا، فأومأ إلـيه جبرئيـل علـيه السلام: أن تَوَاضَعْ، فـاختار نبـيّ الله أن يكون عبدا نبـيا، فأُعْطِي به نبـيّ الله ثنتـين: إنه أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وأوّل شافع. وكان أهل العلـم يَرَوْن أنه الـمقام الـمـحمود الذي قال الله تبـارك وتعالـى عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمُودا شفـاعة يوم القـيامة.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة مَقاما مَـحْمُودا قال: هي الشفـاعة، يشفّعه الله فـي أمته.
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر والثوريّ، عن أبـي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، قال: سمعت حُذيفة يقول فـي قوله: عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمُودا قال: يجمع الله الناس فـي صعيد واحد حيث يُسمعهم الداعي، فَـيْنَفُذُهم البصرُ حُفـاة عُراة، كما خُـلِقوا سكوتا لا تكلّـم نفس إلا بإذنه، قال: فـينادَى مـحمد، فـيقول: لَبّـيك وسَعْديك، والـخيرُ فـي يديك، والشرّ لـيس إلـيك، والـمهديّ من هَدَيْت، وعبدُك بـين يديك، ولك وإلـيك، لا مْلـجَأَ ولا منـجَى منك إلا إلـيك، تبـاركت وتعالـيت، سبحانك ربّ البـيت، قال: فذلك الـمقامُ الـمـحمودُ الذي ذكر الله عَسَى أنْ يْبَعَثَكَ رَبّكَ مَقامَا مَـحْمُودا.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن أبـي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، قال حُذيفة: يجمع الله الناس فـي صعيد واحد، حيث يَنْفُذُهم البصر، ويُسْمعهم الداعي، حُفـاة عُراة كما خُـلقوا أوّل مرّة، ثم يقوم النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـيقول: «لبـيك وسعديك»، ثم ذكر نـحوه، إلا أنه قال: هو الـمقام الـمـحمود.
وقال آخرون: بل ذلك الـمقام الـمـحمود الذي وعد الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يبعثه إياه، هو أن يقاعده معه علـى عرشه. ذكر من قال ذلك:
17077ـ حدثنا عبـاد بن يعقوب الأسدي، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن لـيث، عن مـجاهد، فـي قوله: عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمُودا قال: يُجْلسه معه علـى عرشه.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب ما صحّ به الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما:
17078ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن داود بن يزيد، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمودا سُئل عنها، قال: «هِيَ الشّفـاعَةُ».
17079ـ حدثنا علـيّ بن حرب، قال: حدثنا مَكّيّ بن إبراهيـم، قال: حدثنا داود بن يزيد الأَوْدِيّ، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمُودا قال: «هو الـمقام الذي أشفع فـيه لأمتـي».
17080ـ حدثنا أبو عُتبة الـحِمْصِيّ أحمد بن الفَرَج، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، عن الزّبـيديّ، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يُحشَرُ النّاسُ يَوْمَ القِـيامَةِ، فَأكُونُ أنا وأُمّتِـي علـى تَلَ، فَـيَكْسُونِـي رَبّـي حُلّةً خَضْراءَ، ثُمّ يُؤْذَنَ لِـي، فأقُولُ ما شاءَ اللّهُ أنْ أقُولَ، فَذَلِكَ الـمَقامُ الـمَـحْمُودُ».
17081ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم، قال: حدثنا شعيب بن اللـيث، قال: ثنـي اللـيث، عن عبـيد الله بن أبـي جعفر، أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الشّمْسَ لَتَدْنُو حتـى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَـيْنَـما هُمْ كَذلِكَ اسْتَغاثُوا بآدَمَ عَلَـيْهِ السّلامُ، فَـيَقُولُ: لَسْتُ صَاحِبَ ذلكَ، ثُمّ بِـمُوسَى عَلَـيْهِ السّلامُ، فَـيَقُولُ كَذلكَ ثُمّ بِـمُـحَمّدٍ فَـيَشْفَعُ بـينَ الـخَـلْقِ فَـيَـمْشِي حتـى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الـجَنّةِ، فَـيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللّهُ مَقاما مَـحْمُودا».
17082ـ حدثنـي أبو زيد عمر بن شَبّة، قال: حدثنا موسى بن إسماعيـل، قال: حدثنا سعيد بن زيد، عن علـيّ بن الـحكم، قال: ثنـي عثمان، عن إبراهيـم، عن الأسود وعلقمة، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّـي لأَقُومُ الـمَقامَ الـمَـحْمُودَ» فقال رجل: يا رسول الله، وما ذلك الـمقام الـمـحمود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ إذَا جِيءَ بِكُمْ حُفـاةً عُرَاةً غُرْلاً فَـيَكُونُ أوّلَ مَنْ يُكْسَى إبْراهِيـمُ عَلَـيْهِ السّلامُ، فَـيُؤْتَـى برِيطَتْـينِ بَـيْضَاوَيْنِ، فَـيَـلْبَسُهُما، ثُمّ يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلَ العَرْشِ، ثُمّ أوَتـى بكِسْوتَـي فألْبَسُها، فَأقُومُ عَنْ يَـمِينِهِ مَقاما لا يَقُومُهُ غَيرِي يَغْبِطُنِـي فِـيهِ الأوّلُونَ والاَخِرُونَ، ثُمّ يُفْتَـحُ نَهْرٌ مِنَ الكَوْثَرِ إلـى الـحَوْضِ».
17083ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن علـيّ بن الـحسين، أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا كانَ يَوْمَ القِـيامَةِ مَدّ اللّهُ الأرْضُ مَدّ الأدِيـمِ حتـى لا يَكُونَ لِبَشِرٍ مِنَ النّاسِ إلاّ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ»، قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «فَأكُونُ أوّلَ مَنْ يُدْعَى وَجَبْرَئِيـلُ عَنْ يَـمِينِ الرّحْمَنِ، واللّهِ ما رآهُ قَبْلَها، فَأقُولُ: أيّ ربّ إنّ هَذَا أخْبَرَنِـي أنّكَ أرْسَلْتَهُ إلـيّ، فَـيَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: صَدَقَ، ثُمّ أشْفَعُ، قال: فَهُوَ الـمَقامُ الـمَـحْمُودُ».
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن علـيّ بن الـحسين، قال: قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كانَ يَوْمُ القِـيامَةِ»، فذكر نـحوه، وزاد فـيه: «ثُمّ أشْفَعُ فَأقُولُ: يا ربّ عِبـادُكَ عَبَدُوكَ فـي أطْرافِ الأرْضِ، وَهُوَ الـمَقامُ الـمَـحْمُودُ».
17084ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا إبراهيـم بن طهمان، عن آدم، عن علـيّ، قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الناس يحشرون يوم القـيامة، فـيجيء مع كلّ نبـيّ أمته، ثم يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي آخر الأمـم هو وأمته، فـيرقـى هو وأمته علـى كَوم فوق الناس، فـيقول: يا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، فما زال يردّها بعضهم علـى بعض يرجع ذلك إلـيه، وهو الـمقام الـمـحمود الذي وعده الله إياه.
حدثنا مـحمد بن عوف، قال: حدثنا حَيْوة وربـيع، قالا: حدثنا مـحمد بن حرب، عن الزبـيديّ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ النّاسُ يَوْمَ القِـيامَةِ فَأكُونُ أنا وأمّتِـي علـى تَلّ، فَـيَكْسُونِـي رَبّـي عَزّ وَجَلّ حُلّةً خَضْرَاءَ، ثُمّ يُؤْذَنُ لـيَ فأقُولُ ما شاءَ اللّهُ أنْ أقُولَ، فذلكَ الـمَقامُ الـمَـحْمُودُ».
وهذا وإن كان هو الصحيح من
القول فـي تأويـل قوله عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَـحْمُودا لـما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مـجاهد من أن الله يُقعد مـحمدا صلى الله عليه وسلم علـى عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. فأما من جهة النظر، فإن جميع من ينتـحل الإسلام إنـما اختلفوا فـي معنى ذلك علـى أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بـائن من خـلقه كان قبل خـلقه الأشياء، ثم خـلق الأشياء فلـم يـماسّها، وهو كما لـم يزل، غير أن الأشياء التـي خـلقها، إذ لـم يكن هو لها مـماسا، وجب أن يكون لها مبـاينا، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مـماسّ للأجسام أو مبـاين لها. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فـاعل الأشياء، ولـم يجز فـي قولهم: إنه يوصف بأنه مـماسّ للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مبـاين، فعلـى مذهب هؤلاء سواء أقعد مـحمدا صلى الله عليه وسلم علـى عرشه، أو علـى الأرض إذ كان من قولهم إن بـينونته من عرشه، وبـينونته من أرضه بـمعنى واحد فـي أنه بـائن منهما كلـيهما، غير مـماسّ لواحد منهما.
وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالـى ذكره قبل خـلقه الأشياء، لا شيء يـماسه، ولا شيء يبـاينه، ثم خـلق الأشياء فأقامها بقدرته، وهو كما لـم يزل قبل الأشياء خـلقه لا شيء يـماسه ولا شيء يبـاينه، فعلـى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد مـحمدا صلى الله عليه وسلم علـى عرشه، أو علـى أرضه، إذ كان سواء علـى قولهم عرشه وأرضه فـي أنه لا مـماس ولا مبـاين لهذا، كما أنه لا مـماس ولا مبـاين لهذه.
وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خـلقه الأشياء لا شيء يـماسه، ولا شيء يبـاينه، ثم أحدث الأشياء وخـلقها، فخـلق لنفسه عرشا استوى علـيه جالسا، وصار له مـماسا، كما أنه قد كان قبل خـلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا، ولا شيء يحرمه ذلك، ثم خـلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا، وأعطى هذا، ومنع هذا، قالوا: فكذلك كان قبل خـلقه الأشياء يـماسه ولا يبـاينه، وخـلق الأشياء فماس العرش بجلوسه علـيه دون سائر خـلقه، فهو مـماس ما شاء من خـلقه، ومبـاين ما شاء منه، فعلـى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد مـحمدا علـى عرشه، أو أقعده علـى منبر من نور، إذ كان من قولهم: إن جلوس الربّ علـى عرشه، لـيس بجلوس يشغل جميع العرش، ولا فـي إقعاد مـحمد صلى الله عليه وسلم موجبـا له صفة الربوبـية، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه، كما أن مبـاينة مـحمد صلى الله عليه وسلم ما كان مبـاينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبـية، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مبـاين، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف علـى قول قائل هذه الـمقالة بأنه مبـاين لها، هو مبـاين له. قالوا: فإذا كان معنى مبـاين ومبـاين لا يوجب لـمـحمد صلى الله عليه وسلم الـخروج من صفة العبودة والدخول فـي معنى الربوبـية، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده علـى عرش الرحمن، فقد تبـين إذا بـما قُلنا أنه غير مـحال فـي قول أحد مـمن ينتـحل الإسلام ما قاله مـجاهد من أن الله تبـارك وتعالـى يُقْعِد مـحمدا علـى عرشه.
فإن قال قائل: فإنا لا ننكر إقعادا الله مـحمدا علـى عرشه، وإنـما ننكر إقعاده.
17085ـ حدثنـي عبـاس بن عبد العظيـم، قال: حدثنا يحيى بن كثـير، عن الـجَريريّ، عن سيف السّدُوسيّ، عن عبد الله بن سلام، قال: إن مـحمدا صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة علـى كرسيّ الربّ بـين يدي الربّ تبـارك وتعالـى، وإنـما ينكر إقعاده إياه معه. قـيـل: أفجائز عندك أن يقعده علـيه لا معه. فإن أجاز ذلك صار إلـى الإقرار بأنه إما معه، أو إلـى أنه يقعده، والله للعرش مبـاين، أو لا مـماسّ ولا مبـاين، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولاً فـي بعض ما كان ينكره وإن قال ذلك غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق التـي حكينا قولهم، وذلك فراق لقول جميع من ينتـحل الإسلام، إذ كان لا قول فـي ذلك إلا الأقوال الثلاثة التـي حكيناها، وغير مـحال فـي قول منها ما قال مـجاهد فـي ذلك.
الآية : 80
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقُل رّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لّي مِن لّدُنْكَ سُلْطَاناً نّصِيراً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه: وقل يا مـحمد يا ربّ أدخـلنـي مدخـل صدق.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى مُدْخـل الصدق الذي أمره الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب إلـيه فـي أن يدخـله إياه، وفـي مخرج الصدق الذي أمره أن يرغب إلـيه فـي أن يخرجه إياه، فقال بعضهم: عَنَى بـمُدْخـل الصّدق: مُدْخـل رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة، حين هاجر إلـيها، ومُخْرج الصدق: مُخْرجه من مكة، حين خرج منها مهاجرا إلـى الـمدينة.ذكر من قال ذلك:
17086ـ حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: حدثنا جرير، عن قابوس بن أبـي ظَبْـيان، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـمكة، ثم أمر بـالهجرة، فأنزل الله تبـارك وتعالـى اسمه وَقُلْ رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لـي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا.
17087ـ حدثنا مـحمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، عن عوف عن الـحسن، فـي قول الله: أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ قال: كفـار أهل مكة لـما ائتـمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم لـيقتلوه، أو يطردوه، أو يُوثِقوه، وأراد الله قتال أهل مكة، فأمره أن يخرج إلـى الـمدينة، فهو الذي قال الله أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقِ.
17088ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة مُدْخَـلَ صِدْقٍ قال: الـمدينة وَمُخْرَجَ صِدْقٍ قال: مكة.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَقُلْ رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ أخرجه الله من مكة إلـى الهجرة بـالـمدينة.
17089ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَقُلْ رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ قال: الـمدينة حين هاجر إلـيها، ومخرج صدق: مكة حين خرج منها مخرج صدق، قال ذلك حين خرج مهاجرا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقل ربّ أمتنـي إماتة صِدْق، وأخرجنـي بعد الـمـمات من قبري يوم القـيامة مُخْرَج صدق. ذكر من قال ذلك:
17090ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس وَقُلْ رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ... الاَية، قال: يعنـي بـالإدخال: الـموت، والإخراج: الـحياة بعد الـمـمات.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك: أدخـلنـي فـي أمرك الذي أرسلتنـي من النبوّة مُدْخَـل صدق، وأخرجنـي منه مُخْرَج صدق. ذكر من قال ذلك:
17091ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ قال: فـيـما أرسلتنـي به من أمرك وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ قال كذلك أيضا.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، بنـحوه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخـلنـي مدخـل صدق: الـجنة، وأخرجنـي مخرج صدق: من مكة إلـى الـمدينة. ذكر من قال ذلك:
17092ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال الـحسن: أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ الـجنة ومُخْرَجَ صِدْقٍ من مكة إلـى الـمدينة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخـلنـي فـي الإسلام مُدْخـل صدق. ذكر من قال ذلك:
17093ـ حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا ابن نـمير، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح فـي قوله: رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ قال: أدخـلنـي فـي الإسلام مدخـل صدق وأخْرِجْنِـي منه مُخْرَجَ صِدْقٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخـلنـي مكة آمنا، وأخرجنـي منها آمنا. ذكر من قال ذلك:
17094ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك قال فـي قوله: رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ يعنـي مكة، دخـل فـيها آمنا، وخرج منها آمنا.
وأشبه هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وأدخـلنـي الـمدينة مُدْخـل صدق، وأخرجنـي من مكة مُخْرج صدق.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الاَية، لأن ذلك عقـيب قوله: وَإنْ كادُوا لَـيَسْتَفِزّونَكَ مِن الأرْضِ لِـيُخْرِجُوكَ مِنْها وإذا لا يَـلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إلاّ قَلِـيلاً. وقد دللنا فـيـما مضى، علـى أنه عنى بذلك أهل مكة فإذ كان ذلك عقـيب خبر الله عما كان الـمشركون أرادوا من استفزازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لـيخرجوه عن مكة، كان بـيّنا، إذ كان الله قد أخرجه منها، أن قوله: وَقُلْ رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ أمر منه له بـالرغبة إلـيه فـي أن يخرجه من البلدة التـي هم الـمشركون بإخراجه منها مخرج صدق، وأن يدخـله البلدة التـي نقله الله إلـيها مدخـل صدق.
وقوله: وَاجْعَلْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: واجعل لـي ملكا ناصرا ينصرنـي علـى من ناوأنـي، وعِزّا أقـيـم به دينك، وأدفع به عنه من أراده بسوء. ذكر من قال ذلك:
17095ـ حدثنا مـحمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، عن عوف، عن الـحسن، فـي قول الله عزّ وجلّ: وَاجْعَلْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا يُوعِده لَـيَنْزِعَنّ مُلك فـارس، وعزّ فـارس، ولـيجعلنه له، وعزّ الرّوم، ومُلك الروم، ولـيجعلنه له.
17096ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، فـي قوله: وَاجْعَلْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا وإن نبـيّ الله علـم أن لا طاقةَ له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله عزّ وجلّ، ولـحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بـين أظهر عبـاده، لولا ذلك لأغار بعضهم علـى بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم.
وقال آخرون: بل عُنِـي بذلك حجة بـينة. ذكر من قال ذلك:
17097ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ سُلْطانا نَصِيرا قال: حجة بـينة.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: ذلك أمر من الله تعالـى نبـيه بـالرغبة إلـيه فـي أن يؤتـيه سلطانا نصيرا له علـى من بغاه وكاده، وحاول منعه من إقامته فرائض الله فـي نفسه وعبـاده.
وإنـما قلت ذلك أولـى بـالصواب، لأن ذلك عقـيب خبر الله عما كان الـمشركون هموا به من إخراجه من مكة، فأعلـمه عزّ وجلّ أنهم لو فعلوا ذلك عوجلوا بـالعذاب عن قريب، ثم أمره بـالرغبة إلـيه فـي إخراجه من بـين أظهرهم إخراج صدق يحاوله علـيهم، ويدخـله بلدة غيرها، بـمدخـل صدق يحاوله علـيهم ولأهلها فـي دخولها إلـيها، وأن يجعل له سلطانا نصيرا علـى أهل البلدة التـي أخرجه أهلها منها، وعلـى كلّ من كان لهم شبـيها، وإذا أوتـي ذلك، فقد أوتـي لا شكّ حجة بـينة.
وأما قوله: نَصِيرا فإن ابن زيد كان يقول فـيه، نـحو قولنا الذي قلنا فـيه.
17098ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَاجْعَلَ لِـي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا قال: ينصرنـي، وقد قال الله لـموسى سَنَشُدّ عَضُدَكَ بأخِيكَ وَنـجْعَلُ لَكُما سُلْطانا فَلا يَصِلُونَ إلَـيكُما بآياتنا هذا مقدّم ومؤخّر، إنـما هو سلطان بآياتنا فلا يصلون إلـيكما.
الآية : 81 و 82
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً * وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً }.
يقول تعالـى ذكره: وقل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين الذين كادوا أن يستفزّونك من الأرض لـيخرجوك منها: جاءَ الـحَقّ وَزَهَقَ البـاطِلُ.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحقّ الذي أمر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلـم الـمشركين أنه قد جاء، والبـاطل الذي أمره أن يعلـمهم أنه قد زَهَق، فقال بعضهم: الـحقّ: هو القرآن فـي هذا الـموضع، والبـاطل: هو الشيطان. ذكر من قال ذلك:
17099ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَقُلْ جاءَ الـحَقّ قال: الـحقّ: القرآن وَزَهَقَ البـاطِلُ إنّ البـاطِلَ كانَ زَهُوقا.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَقُلْ جاءَ الـحَقّ قال: القرآن: وَزَهَقَ البـاطِلُ قال: هلك البـاطل وهو الشيطان.
وقال آخرون: بل عُنِـي بـالـحقّ جهاد الـمشركين وبـالبـاطل الشرك. ذكر من قال ذلك:
17100ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: وَقُلْ جاءَ الـحَقّ قال: دنا القتال وَزَهَقَ البـاطِلُ قال: الشرك وما هم فـيه.
17101ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن أبـي معمر، عن ابن مسعود، قال: دخـل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البـيت ثلاثُ مئة وستون صنـما، فجعل يطعنها ويقول: جاءَ الـحَقّ وَزَهَقَ البـاطِلُ إنّ البـاطِلَ كانَ زَهُوقا.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: أمر الله تبـارك وتعالـى نبـيه علـيه الصلاة والسلام أن يخبر الـمشركين أن الـحقّ قد جاء، وهو كلّ ما كان لله فـيه رضا وطاعة، وأن البـاطل قد زهق: يقول: وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فـيه ولا طاعة مـما هو له معصية وللشيطان طاعة، وذلك أن الـحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبلـيس، وأن البـاطل: هو كلّ ما وافق طاعته، ولـم يخصص الله عزّ ذكره بـالـخبر عن بعض طاعاته، ولا ذهاب بعض معاصيه، بل عمّ الـخبر عن مـجيء جميع الـحقّ، وذهاب جميع البـاطل، وبذلك جاء القرآن والتنزيـل، وعلـى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بـالله، أعنـي علـى إقامة جميع الـحقّ، وإبطال جميع البـاطل.
وأما قوله عزّ وجلّ: وَزَهَقَ البـاطِلُ فإن معناه: ذهب البـاطل، من قولهم: زَهَقت نفسه: إذا خرجت وأزهقتها أنا ومن قولهم: أزهق السهم: إذا جاوز الغرض فـاستـمرّ علـى جهته، يقال منه: زهق البـاطل، يزهَق زُهوقا، وأزهقه الله: أي أذهبه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17102ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس إنّ البـاطِلَ كانَ زَهُوقا يقول: ذاهبـا.
وقوله عزّ وجلّ: ونُنَزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفـاءٌ وَرَحْمَةٌ للْـمُؤْمِنِـينَ يقول تعالـى ذكره: وننزّل علـيك يا مـحمد من القرآن ما هو شفـاء يستشفـى به من الـجهل من الضلالة، ويبصر به من العمى للـمؤمنـين ورحمة لهم دون الكافرين به، لأن الـمؤمنـين يعملون بـما فـيه من فرائض الله، ويحلون حلاله، ويحرّمون حرامه فـيدخـلهم بذلك الـجنة، ويُنـجيهم من عذابه، فهو لهم رحمة ونعمة من الله، أنعم بها علـيهم وَلا يَزِيدُ الظّالِـمِينَ إلاّ خَسارا يقول: ولا يزيد هذا الذي ننزل علـيك من القرآن الكافرين به إلا خسارا: يقول: إهلاكا، لأنهم كلـما نزل فـيه أمر من الله بشيء أو نهى عن شيء كفروا به، فلـم يأتـمروا لأمره، ولـم ينتهوا عما نهاهم عنه، فزادهم ذلك خسارا إلـى ما كانوا فـيه قبل ذلك من الـخسار، ورجسا إلـى رجسهم قبلُ، كما:
17103ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَنُنّزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفـاءٌ وَرَحْمَةٌ للْـمُؤْمِنِـينَ إذا سمعه الـمؤمن انتفع به وحفظه ووعاه وَلا يَزِيدُ الظّالِـمِينَ به إلاّ خَسارا أنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، وإن الله جعل هذا القرآن شفـاء ورحمة للـمؤمنـين.
الآية : 83
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ كَانَ يَئُوساً }.
يقول تبـارك وتعالـى: وإذا أنعمنا علـى الإنسان، فنـجّيناه من رب ما هو فـيه فـي البحر، وهو ما قد أشرف فـيه علـيه من الهلاك بعصوف الريح علـيه إلـى البرّ، وغير ذلك من نعمنا، أعرض عن ذكرنا، وقد كان بنا مستغيثا دون كلّ أحد سوانا فـي حال الشدّة التـي كان فـيها وَنأَي بِجانِبِهِ يقول: وبعد منا بجانبه، يعنـي بنفسه، كَأَنْ لَـمْ يَدْعُنَا إِلَـيَ ضُرَ مَسّهُ قبل ذلك، كما:
17104ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن مـجاهد، فـي قوله: وَنأَي بِجانِبِهِ قال: تبـاعد منا.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
والقراءة علـى تصيـير الهمزة فـي نَأَى قبل الألف، وهي اللغة الفصيحة، وبها نقرأ. وكان بعض أهل الـمدينة يقرأ ذلك «وَناء» فـيصير الهمزة بعد الألف، وذلك وإن كان لغة جائزة قد جاءت عن العرب بتقديـمهم فـي نظائر ذلك الهمز فـي موضع هو فـيه مؤخرّ، وتأخيرهموه فـي موضع، هو مقدّم، كما قال الشاعر:
أعلامٌ يِقَلّلُ رَاءَ رُؤْيافَهْوَ يَهْذِي بِـما رأى فِـي الـمَنامِ
وكما قال آبـار وهي أبآر، فقدموا الهمزة، فلـيس ذلك هو اللغة الـجُودَي، بل الأخرى هي الفصيحة.
وقوله عزّ وجل: وَإذَا مَسّهُ الشّرّ كانَ يَئُوسا يقول: وإذا مسه الشرّ والشدّة كان قنوطا من الفرج والرّوْح.
وبنـحو الذي قلنا فـي الـيئوس، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17105ـ حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: وَإذَا مَسّهُ الشّرُ كانَ يَئُوسا يقول: قَنُوطا.
17106ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإذَا مَسّهُ الشّرّ كانَ يَئُوسا يقول: إذا مسه الشرّ أَيِس وقَنِط.
الآية : 84
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ فَرَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىَ سَبِيلاً }.
يقول عزّ وجلّ لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد للناس: كلكم يعمل علـى شاكلته: علـى ناحيته وطريقته فَرَبّكُمْ أعْلَـمُ بِـمَنْ هو منكم أهْدَى سَبِـيلاً يقول: ربكم أعلـم بـمن هو منكم أهدى طريقا إلـى الـحقّ من غيره. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17107ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: كُلّ يَعْمَلُ عَلـى شاكِلَتِهِ يقول: علـى ناحيته.
17108ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: عَلـى شاكِلَتِهِ قال: علـى ناحيته.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قُلْ كُلّ يَعْمَلُ علـى شاكِلَتِهِ قال: علـى طبـيعته علـى حِدَته.
17109ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قُلْ كُل يَعْمَلُ عَلـى شاكِلَتِهِيقول: علـى ناحيته وعلـى ما ينوي.
وقال آخرون: الشاكلة: الدّين. ذكر من قال ذلك:
17110ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: كُلّ يَعْمَلُ علـى شاكِلَتِهِ قال: علـى دينه، الشاكلة: الدين.

الآية : 85
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك الكفـار بـالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي؟ قل لهم: الروح من أمر ربـي، وما أوتـيتـم أنتـم وجميع الناس من العلـم إلا قلـيلاً. وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فنزلت هذه الاَية بـمسألتهم إياه عنها، كانوا قوما من الـيهود. ذكر الرواية بذلك:
17111ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي حرث بـالـمدينة، ومعه عَسِيب يتوكأ علـيه، فمر بقوم من الـيهود، فقال بعضهم: اسألوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، فقام متوكئا علـى عسيبه، فقمت خـلفه، فظننت أنه يوحَى إلـيه، فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرُوحُ مِنْ أمْرِ رَبّـي وَما أُوتِـيتُـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً فقال بعضهم لبعض: ألـم نقل لكم لا تسألوه.
حدثنا يحيى بن إبراهيـم الـمسعوديّ، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: بـينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي حَرّة بـالـمدينة، إذ مررنا علـى يهود، فقال بعضهم: سَلُوه عن الروح، فقالوا: ما أربكم إلـى أن تسمعوا ما تكرهون، فقاموا إلـيه، فسألوه، فقام فعرفت أنه يوحَى إلـيه، فقمت مكانـي، ثم قرأ: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّـي وَما أُوتِـيُتـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً فقالوا: ألـم ننهكم أن تسألوه.
17112ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله تعالـى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّـي وَما أُوتِـيُتُـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً فقالوا: أتزعم أنا لـم نؤتَ من العلـم إلا قلـيلا، وقد أوتـينا التوراة، وهي الـحكمة، وَمَنْ يُؤْتَ الـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوِتَـيَ خَيْرا كَثِـيرا. قال: فنزلت: وَلَوْ أنّ ما فِـي الأرْضِ من شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَـمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِـماتُ اللّهِ قال: ما أوتـيتـم علـى علـم، فنـجاكم الله به من النار، فهو كثـير طيب، وهو فـي علـم الله قلـيـل.
حدثنـي إسماعيـل بن أبـي الـمتوكل، قال: حدثنا الأشجعيّ أبو عاصم الـحِمْصيّ، قال: حدثنا إسحاق بن عيسى أبو يعقوب، قال: حدثنا القاسم بن معن، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إنـي لـمع النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي حرث بـالـمدينة، إذ أتاه يهوديّ، قال: يا أبـا القاسم، ما الروح؟ فسكت النبـيّ صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عزّ وجلّ: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ ربّـي.
17113ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ لقـيت الـيهود نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم، فتغَشّوه وسألوه وقالوا: إن كان نبـيا علـم، فسيعلـم ذلك، فسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنـين فأنزل الله فـي كتابه ذلك كله وَيَسْئَلُونَكَ عَن الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّـي وَما أُوتِـيُتـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً يعنـي الـيهود.
17114ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال: يهود تسأل عنه.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال: يهود تسأله.
17115ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ... الاَية: وذلك أن الـيهود قالوا للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: أخبرنا ما الروح، وكيف تعذّب الروح التـي فـي الـجسد وإنـما الروح من الله عزّ وجلّ، ولـم يكن نزل علـيه فـيه شيء، فلـم يُحِر إلـيهم شيئا، فأتاه جَبرئيـل علـيه السلام، فقال له: قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّـي وَما أُوتِـيُتـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً فأخبرهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، قالوا له: من جاءك بهذا؟ فقال لهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «جاءنِـي بِهِ جِبْرِيـلُ مِنْ عِنْدِ اللّهِ»، فقالوا: والله ما قاله لك إلا عدوّ لنا، فأنزل الله تبـارك اسمه: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّا لِـجْبرِيـلَ فإنّهُ نَزّلَهُ عَلـى قَلْبِكَ... الاَية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم، عن عبد الله، قال: كنت أمشي مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فمررنا بأناس من الـيهود، فقالوا: يا أبـا القاسم ما الرّوح؟ فأُسْكِت، فرأيت أنه يوحَى إلـيه، قال: فتنـحيت عنه إلـى سُبـاطة، فنزلت علـيه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ... الاَية، فقالت الـيهود: هكذا نـجده عندنا.
واختلف أهل التأويـل فـي الروح الذي ذُكِر فـي هذا الـموضع ما هي؟ فقال بعضهم: هي جبرئيـل علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:
17116ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال: هو جبرائيـل، قال قتادة: وكان ابن عبـاس يكتـمه.
وقال آخرون: هي مَلك من الـملائكة. ذكر من قال ذلك:
17117ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروحِ قال: الروح: مَلك.
17118ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قـيسارية، عمن حدثه عن علـيّ بن أبـي طالب، أنه قال فـي قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال: هو ملَك من الـملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها، يخـلق الله من كلّ تسبـيحة ملَكا يطير مع الـملائكة إلـى يوم القـيامة.
وقد بـيّنا معنى الرّوح فـي غير هذا الـموضع من كتابنا، بـما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: منْ أمْرِ رَبّـي فإنه يعنـي: أنه من الأمر الذي يعلـمه الله عزّ وجلّ دونكم، فلا تعلـمونه ويعلـم ما هو.
وأما قوله: وَما أُوتِـيتُـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي الـمعنـيّ بقوله وَما أُوتِـيتُـمْ منَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً فقال بعضهم: عنى بذلك: الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم، ولكن لـما ضمّ غير الـمخاطب إلـى الـمخاطب، خرج الكلام علـى الـمخاطبة، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتـمع فـي الكلام مخبر عنه غائب ومخاطب، أخرجو الكلام خطابـا للـجمع. ذكر من قال ذلك:
17119ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت بـمكة وَما أُوتِـيتُـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً فلـما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الـمدينة أتاه أحبـار يهود، فقالوا: يا مـحمد ألـم يبلغنا أنك تقول وَما أُوتِـيتُـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً أفعنـيتنا أم قومك؟ قال: «كُلاّ قَدْ عَنَـيْتُ»، قالوا: فإنك تتلو أنا أوتـينا التوراة وفـيها تبـيان كلّ شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هِيَ فـي عِلْـمِ اللّهِ قَلِـيـلٌ، وَقَدْ آتاكُمْ ما إنْ عَمِلْتُـمْ بِهِ انْتَفَعْتُـمْ»، فَأنْزَل الله وَلَوْ أنّ ما فِـي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ... إلـى قوله إنّ اللّهَ سَميعٌ بَصِيرٌ.
17120ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله عزّ وجلّ وَما أُوتِـيتُـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً قال: يا مـحمد والناس أجمعون.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم. ذكر من قال ذلك:
17121ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَما أُوتِـيتُـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاّ قَلِـيلاً يعنـي: الـيهود.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: خرج الكلام خطابـا لـمن خوطب به، والـمراد به جميع الـخـلق، لأن علـم كلّ أحد سوى الله، وإن كثر فـي علـم الله قلـيـل. وإنـما معنى الكلام: وما أوتـيتـم أيها الناس من العلـم إلاّ قلـيلاً من كثـير مـما يعلـم الله.

الآية : 86
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً }.
يقول ذكره: ولئن شئنا لنذهبنّ بـالذي آتـيناك من العلـم الذي أوحينا إلـيك من هذا القرآن لنذهبنّ به، فلا تعلـمه، ثم لا تـجد لنفسك بـما نفعل بك من ذلك وكيلاً، يعنـي: قـيّـما يقوم لك، فـيـمنعنا من فعل ذلك بك، ولا ناصرا ينصرك، فـيحول بـيننا وبـين ما نريد بك، قال: وكان عبد الله بن مسعود يتأوّل معنى ذهاب الله عزّ وجلّ به رفعه من صدور قارئيه. ذكر الرواية بذلك:
17122ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفـيع، عن بُنْدار، عن معقل، قال: قلت لعبد الله، وذكر أنه يُسرى علـى القرآن: كيف وقد أثبتناه فـي صدورنا ومصاحفنا؟ قال: يُسرى علـيه لـيلاً، فلا يبقـى منه فـي مصحف ولا فـي صدر رجل، ثم قرأ عبد الله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بـالّذِي أوْحَيْنا إلَـيْكَ.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا ابن إسحاق بن يحيى، عن الـمسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود، قال: تطرق الناسَ ريح حمراء من نـحو الشام، فلا يبقـى فـي مصحف رجل ولا قلبه آية. قال رجل: يا أبـا عبد الرحمن، إنـي قد جمعت القرآن، قال: لا يبقـى فـي صدرك منه شيء. ثم قرأ ابن مسعود: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بـالّذِي أوْحَيْنا إلَـيْكَ»