تفسير القرآن | باقة من أهم تفاسير القرآن الكريم المختصرة و الموجزة التي تعطي الوصف الشامل لمعنى الآيات الكريمات : سبعة تفاسير معتبرة لكل آية من كتاب الله تعالى , [ النور: 61] .
﴿ لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾
سورة : النور - الأية : ( 61 )
- الجزء : ( 18 )
-
الصفحة: ( 358 )
﴿ لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾
[ سورة النور: 61]
القول في تفسير قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ..
تفسير الجلالين | التفسير الميسر | تفسير السعدي |
تفسير البغوي | التفسير الوسيط | تفسير ابن كثير |
تفسير الطبري | تفسير القرطبي | إعراب الآية |
التفسير الميسر : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج
ليس على أصحاب الأعذار من العُمْيان وذوي العرج والمرضى إثم في ترك الأمور الواجبة التي لا يقدرون على القيام بها، كالجهاد ونحوه، مما يتوقف على بصر الأعمى أو سلامة الأعرج أو صحة المريض، وليس على أنفسكم-أيها المؤمنون- حرج في أن تأكلوا من بيوت أولادكم، أو من بيوت آبائكم، أو أمهاتكم، أو إخوانكم، أو أخواتكم، أو أعمامكم، أو عماتكم، أو أخوالكم، أو خالاتكم، أو من البيوت التي وُكِّلْتم بحفظها في غيبة أصحابها بإذنهم، أو من بيوت الأصدقاء، ولا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، فإذا دخلتم بيوتًا مسكونة أو غير مسكونة فليسلِّم بعضكم على بعض بتحية الإسلام، وهي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إذا لم يوجد أحد، وهذه التحية شرعها الله، وهي مباركة تُنْمِي المودة والمحبة، طيبة محبوبة للسامع، وبمثل هذا التبيين يبيِّن الله لكم معالم دينه وآياته؛ لتعقلوها، وتعملوا بها.
المختصر في التفسير : شرح المعنى باختصار
ليس على الأعمى الذي فقد بصره إثم، ولا على الأعرج إثم، ولا على المريض إثم؛ إن تركوا ما لا يستطيعون القيام به من التكاليف كالجهاد في سبيل الله، وليس عليكم - أيها المؤمنون - إثم في الأكل من بيوتكم، ومنها بيوت أبنائكم، ولا في الأكل من بيوت آبائكم أو أمهاتكم أو إخوانكم أو أخواتكم أو أعمامكم أو عماتكم، أو أخوالكم أو خالاتكم، أو ما وُكِّلتم على حفظه من البيوت مثل حارس البستان، ولا حرج في الأكل من بيوت صديقكم لطيب نفسه عادة بذلك، ليس عليكم إثم أن تأكلوا مجتمعين أو فُرَادَى، فإذا دخلتم بيوتًا مثل البيوت المذكورة وغيرها فسلّموا على من فيها بأن تقولوا: السلام عليكم، فإن لم يكن فيها أحد فسلموا على أنفسكم بأن تقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، تحية من عند الله شرعها لكم مباركة؛ لِمَا تنشره من المودة والألفة بينكم، طيبة تطيب بها نفس سامعها، بمثل هذا التبيين المتقدم في السورة يبيّن الله الآيات رجاء أن تعقلوها، وتعملوا بما فيها.
تفسير الجلالين : معنى و تأويل الآية 61
«ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج» في مؤاكلة مقابليهمْ «ولا» حرج «على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم» أولادكم «أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه» خزنتموه لغيركم «أو صديقكم» وهو من صدقكم في مودته المعنى يجوز الأكل من بيوت من ذكر وإن لم يحضروا إذا علم رضاهم به «ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا» مجتمعين «أو أشتاتا» متفرقين جمع شت نزل فيمن تحرج أن يأكل وحده وإذا لم بجد يؤاكله يترك الأكل «فإذا دخلتم بيوتا» لكم لا أهل بها «فسلموا على أنفسكم» قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإن الملائكة ترد عليكم وإن كان بها أهل فسلموا عليهم «تحية» حيا «من عند الله مباركة طيبة» يثاب عليها «كذلك يبيَّن الله لكم الآيات» أي يفضل لكم معالم دينكم «لعلكم تعقلون» لكي تفهموا ذلك.
تفسير السعدي : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج
يخبر تعالى عن منته على عباده، وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير، فقال: { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ْ}- أي: ليس على هؤلاء جناح، في ترك الأمور الواجبة، التي تتوقف على واحد منها، وذلك كالجهاد ونحوه، مما يتوقف على بصر الأعمى، أو سلامة الأعرج، أو صحة للمريض، ولهذا المعنى العام الذي ذكرناه، أطلق الكلام في ذلك، ولم يقيد، كما قيد قوله: { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ}- أي: حرج { أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ}- أي: بيوت أولادكم، وهذا موافق للحديث الثابت: " أنت ومالك لأبيك " والحديث الآخر: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم " وليس المراد من قوله: { مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ} بيت الإنسان نفسه، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، الذي ينزه عنه كلام الله، ولأنه نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الإثم من هؤلاء المذكورين، وأما بيت الإنسان نفسه فليس فيه أدنى توهم.{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ ْ} وهؤلاء معروفون، { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ْ}- أي: البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة، أو ولاية ونحو ذلك، وأما تفسيرها بالمملوك، فليس بوجيه، لوجهين: أحدهما: أن المملوك لا يقال فيه " ملكت مفاتحه " بل يقال: " ما ملكتموه " أو " ما ملكت أيمانكم " لأنهم مالكون له جملة، لا لمفاتحه فقط.والثاني: أن بيوت المماليك، غير خارجة عن بيت الإنسان نفسه، لأن المملوك وما ملكه لسيده، فلا وجه لنفي الحرج عنه.{ أَوْ صَدِيقِكُمْ ْ} وهذا الحرج المنفي عن الأكل من هذه البيوت كل ذلك، إذا كان بدون إذن، والحكمة فيه معلومة من السياق، فإن هؤلاء المسمين قد جرت العادة والعرف، بالمسامحة في الأكل منها، لأجل القرابة القريبة، أو التصرف التام، أو الصداقة، فلو قدر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة والشح في الأكل المذكور، لم يجز الأكل، ولم يرتفع الحرج، نظرا للحكمة والمعنى.وقوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ْ} فكل ذلك جائز، أكل أهل البيت الواحد جميعا، أو أكل كل واحد منهم وحده، وهذا نفي للحرج، لا نفي للفضيلة وإلا فالأفضل الاجتماع على الطعام.{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا ْ} نكرة في سياق الشرط، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره، سواء كان في البيت ساكن أم لا، فإذا دخلها الإنسان { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ}- أي: فليسلم بعضكم على بعض، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد، من تواددهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت، من غير فرق بين بيت وبيت، والاستئذان تقدم أن فيه تفصيلا في أحكامه، ثم مدح هذا السلام فقال: { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ْ}- أي: سلامكم بقولكم: " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " أو " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " إذ تدخلون البيوت، { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ْ}- أي: قد شرعها لكم، وجعلها تحيتكم، { مُبَارَكَةً ْ} لاشتمالها على السلامة من النقص، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة، { طَيِّبَةً ْ} لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله، الذي فيه طيبة نفس للمحيا، ومحبة وجلب مودة.لما بين لنا هذه الأحكام الجليلة قال:{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ ْ} الدالات على أحكامه الشرعية وحكمها، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ} عنه فتفهمونها، وتعقلونها بقلوبكم، ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرزينة، فإن معرفة أحكامه الشرعية على وجهها، يزيد في العقل، وينمو به اللب، لكون معانيها أجل المعاني، وآدابها أجل الآداب، ولأن الجزاء من جنس العمل، فكما استعمل عقله للعقل عن ربه، وللتفكر في آياته التي دعاه إليها، زاده من ذلك.وفي هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية وهي: أن " العرف والعادة مخصص للألفاظ، كتخصيص اللفظ للفظ " فإن الأصل، أن الإنسان ممنوع من تناول طعام غيره، مع أن الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء، للعرف والعادة، فكل مسألة تتوقف على الإذن من مالك الشيء، إذا علم إذنه بالقول أو العرف، جاز الإقدام عليه.وفيها دليل على أن الأب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره، لأن الله سمى بيته بيتا للإنسان.وفيها دليل على أن المتصرف في بيت الإنسان، كزوجته، وأخته ونحوهما، يجوز لهما الأكل عادة، وإطعام السائل المعتاد.وفيها دليل، على جواز المشاركة في الطعام، سواء أكلوا مجتمعين، أو متفرقين، ولو أفضى ذلك إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض.
تفسير البغوي : مضمون الآية 61 من سورة النور
قوله تعالى : ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) الآية ، اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أنزل الله - عز وجل - قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( النساء - 29 ) ، تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج ، وقالوا الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل . والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي الطعام ، فأنزل الله هذه الآية وعلى هذا التأويل يكون " على " بمعنى " في " أي : ليس في الأعمى ، يعني : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض .وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى : ربما أكل أكثر ، ويقول الأعرج : ربما أخذ مكان الاثنين ، فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : نزلت الآية ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية ، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره ؟ فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب ، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم قال الحسن : نزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد . قال : تم الكلام عند قوله : " ولا على المريض حرج " ، وقوله تعالى : ) ( ولا على أنفسكم ) كلام منقطع عما قبلهوقيل: لما نزل قوله : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( النساء - 29 ) ، قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله - عز وجل - ( ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ) أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم . قيل: أراد من أموال عيالكم وأزواجكم وبيت المرأة كبيت الزوج . وقال ابن قتيبة : أراد من بيوت أولادكم ، نسب بيوت الأولاد إلى الآباء كما جاء في الحديث : " أنت ومالك لأبيك " ، ( أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر . وقال الضحاك : يعني في بيوت عبيدكم ومماليككم ، وذلك أن السيد يملك منزل عبده ، والمفاتيح الخزائن ، لقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب ( الأنعام - 59 ) ويجوز أن يكون الذي يفتح به . قال عكرمة : إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير . وقال السدي : الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه وقال قوم : " ما ملكتم مفاتحه " ما خزنتموه عندكم قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم .) ( أو صديقكم ) الصديق الذي صدقك في المودة . قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو رضي الله عنه ، خرج غازيا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله ، فقال : تحرجت أن آكل طعامك بغير إذنك فأنزل الله هذه الآية . وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية . والمعنى : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا ) من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ، من غير أن تتزودوا وتحملوا .قوله : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ) نزلت في بني ليث بن عمرو ، وهم حي من بني كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فربما قعد الرجل والطعام ، بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأجنح ، أي : أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية . وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا ، جميعا أو أشتاتا متفرقين .( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) أي : يسلم بعضكم على بعض ، هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته ، وهو قول جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار . وقال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهو أحق من سلمت عليه ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . حدثنا أن الملائكة ترد عليه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله . وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( تحية من عند الله ) نصب على المصدر ، أي : تحيون أنفسكم تحية ، ) ( مباركة طيبة ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حسنة جميلة . وقيل: ذكر البركة والطيبة هاهنا لما فيه من الثواب والأجر ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون )
التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روى عن ابن عباس أنه قال: لما أنزل الله-تبارك وتعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ... تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والعمى والعرج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة، والمريض يضعف عن التناول ولا يستوفى من الطعام حقه، فأنزل الله هذه الآية.وقيل نزلت ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام، فإذا لم يكن عنده شيء ذهب بهم إلى بيت أبيه، أو بيت أمه، أو بعض من سمى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك، ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته، فأنزل الله هذه الآية.وقيل نزلت رخصة للأعمى والأعرج والمريض عن التخلف عن الجهاد..ويبدو لنا أن الآية الكريمة نزلت لتعليم المؤمنين ألوانا متعددة من الآداب التي شرعها الله-تبارك وتعالى- لهم، ويسرها لهم بفضله وإحسانه، حتى يعلموا أن شريعته- سبحانه - مبنية على اليسر لا على العسر، وعلى التخفيف ورفع الحرج، لا على التشديد والتضييق.والحرج: الضيق ومنه الحرجة للشجر الملتف المتكاثف بعضه ببعض، حتى ليصعب على الشخص أن يمشى فيه. والمراد به هنا: الإثم.والمعنى: ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج أو إثم في الأكل من بيوت هؤلاء الذين سماهم الله-تبارك وتعالى-.كذلك ليس عليكم حرج أو إثم- أيها المؤمنون- في أن تأكلوا أنتم ومن معكم مِنْ بُيُوتِكُمْ التي هي ملك لكم.وذكر- سبحانه - بيوتهم هنا مع أنه من المعروف أنه لا حرج في أن يأكل الإنسان من بيته، للإشعار بأن أكلهم من بيوت الذين سيذكرهم- سبحانه - بعد ذلك من الآباء والأمهات والأقارب، يتساوى في نفى الحرج مع أكلهم من بيوتهم أى أن أكل الناس من بيوتهم لم يذكر هنا لنفى حرج كان متوهما، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وأصدقائهم، وبين أكلهم من بيوتهم.وبعضهم يرى أن المراد بقوله أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أى: من بيوت زوجاتهم وأولادهم.ثم ذكر- سبحانه - بيوتا أخرى لا حرج عليهم في الأكل منها فقال: أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ، أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أى: أو البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أصحابها، كأن تكونوا وكلاء عنهم في التصرف في أموالهم. ومفاتح: جمع مفتح- بكسر الميم- وهو آلة الفتح وملك هذه المفاتح: كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه.وقوله أَوْ صَدِيقِكُمْ معطوف على ما قبله والصديق هو من يصدق في مودتك، وتصدق أنت في مودته، وهو اسم جنس يطلق على الواحد والجمع، والمراد هنا: الجمع. أى:ولا حرج عليكم- أيضا- في الأكل من بيوت أصدقائكم.فالآية الكريمة قد أجازت الأكل من هذه البيوت المذكورة، وهي أحد عشر بيتا- وإن لم يكن فيها أصحابها، مادام الآكل قد علم رضا صاحب البيت بذلك، وأن صاحب البيت، لا يكره هذا ولا يتضرر منه، استنادا إلى القواعد العامة في الشريعة، والتي منها: «لا ضرر ولا ضرار» وأنه «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فما معنى أَوْ صَدِيقِكُمْ قلت: معناه: أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون واحدا وجمعا، وكذلك الخليط والقطين والعدو.ويحكى عن الحسن أنه دخل داره، وإذا جماعة من أصدقائه قد استلوا سلالا من تحت سريره فيها أطايب الأطعمة. وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم. يريد أكابر الصحابة ومن لقيهم من البدريين.وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه. فيأخذ منه ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته، أعتقها سرورا بذلك .وقوله- سبحانه -: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً بيان لنوع آخر من أنواع السماحة في شريعة الإسلام.والأشتات: جمع شتّ- بفتح الشين- يقال: شت الأمر يشت شتا وشتاتا، إذا تفرق.ويقال: هذا أمر شت، أى: متفرق.أى: ليس عليكم- أيها المؤمنون- حرج أو إثم في أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، وقد كان بعضهم من عاداته أن لا يأكل منفردا، فإن لم يجد من يأكل معه عاف الطعام، فرفع الله-تبارك وتعالى- هذا الحرج المتكلف، ورد الأمر إلى ما تقتضيه شريعة الإسلام من بساطة ويسر وعدم تكلف، فأباح لهم أن يأكلوا فرادى ومجتمعين.فالجملة الكريمة بيان للحالة التي يجوز عليها الأكل، بعد بيان البيوت التي يجوز الأكل منها والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على أحكم الأداء للترتيب اللفظي والموضوعى، فقد بدأت ببيت الإنسان نفسه، ثم بيوت الآباء، فالأمهات، فالإخوة، فالأخوات، فالأقارب، فالبيوت التي يملكون التصرف فيها فبيوت الأصدقاء ...ثم لم تكتف بذلك، وإنما بينت الحالة التي يباح الأكل منها ...ثم بعد ذلك علمتنا آداب دخول البيوت التي ندخلها للأكل أو لغيره، فقال-تبارك وتعالى-:فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً.والمراد بأنفسكم هنا: أهل تلك البيوت التي يدخلونها، لأنهم بمنزلة أنفسهم في شدة المودة والمحبة والألفة، و «تحية» منصوب بفعل مقدر أى: فحيوا تحية.أى: فإذا دخلتم أيها المؤمنون والمؤمنات بيوتا فسلموا على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم، وحيوهم تحية ثابتة من عند الله، مباركة طيبة، أى مستتبعة لزيادة البركات والخيرات ولزيادة المحبة والمودة.ووصف- سبحانه - هذه التحية بالبركة والطيب، لأنها دعوة مؤمن لمؤمن وكلاهما يرجو بها من الله-تبارك وتعالى- زيادة الخير وطيب الرزق.وتحية الإسلام أن يقول المسلم لأخيه المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.ثم ختم- سبحانه - الآية الكريمة بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.أى: مثل هذا البيان القويم، يبين الله-تبارك وتعالى- لكم الآيات المحكمة، والإرشادات النافعة، لكي تعقلوا ما اشتملت عليه من هدايات، توصلكم متى انتفعتم بها إلى السعادة والفلاح.وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من أحكام وآداب منها ما يتعلق بالحدود، ومنها ما يتعلق بالاستئذان، ومنها ما يتعلق بالتستر والاحتشام، ومنها ما يتعلق بتنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء ... بعد كل ذلك اختتمت ببيان ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من أدب مع رسولهم صلّى الله عليه وسلّم فقال-تبارك وتعالى-:
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج: تفسير ابن كثير
اختلف المفسرون - رحمهم الله - في المعنى الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا ، فقال عطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في الجهاد .
وجعلوا هذه الآية هاهنا كالتي في سورة الفتح وتلك في الجهاد لا محالة ، أي: أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد; لضعفهم وعجزهم ، وكما قال تعالى في سورة { براءة } : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } [ التوبة : 91 ، 92 ] .
وقيل : المراد [ هاهنا ] أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى; لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات ، فربما سبقه غيره إلى ذلك . ولا مع الأعرج; لأنه لا يتمكن من الجلوس ، فيفتات عليه جليسه ، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره ، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم ، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك . وهذا قول سعيد بن جبير ، ومقسم .
وقال الضحاك : كانوا قبل المبعث يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرا وتقززا ، ولئلا يتفضلوا عليهم ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج } الآية قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه ، أو بيت أخته ، أو بيت عمته ، أو بيت خالته . فكان الزمنى يتحرجون من ذلك ، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم . فنزلت هذه الآية رخصة لهم .
وقال السدي : كان الرجل يدخل بيت أبيه ، أو أخيه أو ابنه ، فتتحفه المرأة بالشيء من الطعام ، فلا يأكل من أجل أن رب البيت ليس ثم . فقال الله تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم } إلى قوله : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } .
وقوله تعالى : { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } ، إنما ذكر هذا - وهو معلوم - ليعطف عليه غيره في اللفظ ، وليساويه ما بعده في الحكم . وتضمن هذا بيوت الأبناء; لأنه لم ينص عليهم . ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه ، وقد جاء في المسند والسنن ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنت ومالك لأبيك "
وقوله : { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم } ، إلى قوله { أو ما ملكتم مفاتحه } ، هذا ظاهر . وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، كما هو مذهب [ الإمام ] أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل ، في المشهور عنهما .
وأما قوله : { أو ما ملكتم مفاتحه } فقال سعيد بن جبير ، والسدي : هو خادم الرجل من عبد وقهرمان ، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف .
وقال الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه . فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل; إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم ، وإنما نحن أمناء . فأنزل الله : { أو ما ملكتم مفاتحه } .
وقوله : { أو صديقكم } أي: بيوت أصدقائكم وأصحابكم ، فلا جناح عليكم في الأكل منها ، إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك .
وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه .
وقوله : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : وذلك لما أنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ النساء : 29 ] قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل من الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد . فكف الناس عن ذلك ، فأنزل الله : { ليس على الأعمى } إلى قوله : { أو صديقكم } ، وكانوا أيضا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، حتى يكون معه غيره ، فرخص الله لهم في ذلك ، فقال : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } .
وقال قتادة : وكان هذا الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية ، حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } .
فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ، ومع الجماعة ، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك ، كما رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وحشي بن حرب ، عن أبيه ، عن جده; أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نأكل ولا نشبع . قال : " فلعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه " .
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث الوليد بن مسلم ، به
وقد روى ابن ماجه أيضا ، من حديث عمرو بن دينار القهرماني ، عن سالم ، عن أبيه ، عن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كلوا جميعا ولا تفرقوا; فإن البركة مع الجماعة " .
وقوله : { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } قال سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وقتادة ، والزهري : فليسلم بعضكم على بعض .
وقال ابن جريج : حدثنا أبو الزبير : سمعت جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلت على أهلك ، فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة . قال : ما رأيته إلا يوجبه .
قال ابن جريج : وأخبرني زياد ، عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخل أحدكم بيته ، فليسلم .
قال ابن جريج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم؟ قال : لا ولا آثر وجوبه عن أحد ، ولكن هو أحب إلي ، وما أدعه إلا ناسيا
وقال مجاهد : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله . وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وروى الثوري ، عن عبد الكريم الجزري ، عن مجاهد : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل : بسم الله ، والحمد لله ، السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وقال قتادة : [ إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ] فإنه كان يؤمر بذلك ، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه . وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عويد بن أبي عمران الجوني ، عن أبيه ، عن أنس قال : أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال ، قال : " يا أنس ، أسبغ الوضوء يزد في عمرك ، وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك ، وإذا دخلت - يعني : بيتك - فسلم على أهل بيتك ، يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك . يا أنس ، ارحم الصغير ، ووقر الكبير ، تكن من رفقائي يوم القيامة " .
وقوله : { تحية من عند الله مباركة طيبة } قال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله ، سمعت الله يقول : { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة } ، فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . ثم يدعو لنفسه ويسلم .
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن إسحاق .
والذي في صحيح مسلم ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا ، والله أعلم .
وقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون } لما ذكر تعالى ما في السورة الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة ، نبه تعالى على أنه يبين لعباده الآيات بيانا شافيا ، ليتدبروها ويتعقلوها .
تفسير القرطبي : معنى الآية 61 من سورة النور
قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلونفيه إحدى عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوال ثمانية . أقربها : هل هي منسوخة ، أو ناسخة ، أو محكمة ؛ فهذه ثلاثة أقوال :الأول : أنها منسوخة من قوله تعالى : ولا على أنفسكم إلى آخر الآية ؛ قاله عبد الرحمن بن زيد ، قال : هذا شيء قد انقطع ، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق ، وكانت الستور مرخاة ، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد ؛ فسوغ الله - عز وجل - أن يأكل منه ، ثم صارت الأغلاق على البيوت فلا يحل لأحد أن يفتحها ، فذهب هذا وانقطع . قال صلى الله عليه وسلم - : لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه . . الحديث . خرجه الأئمة .الثاني : أنها ناسخة ؛ قاله جماعة . روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله - عز وجل - يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال المسلمون : إن الله - عز وجل - قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، وأن الطعام من أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكف الناس عن ذلك ؛ فأنزل الله - عز وجل - : ليس على الأعمى حرج إلى أو ما ملكتم مفاتحه . قال : هو الرجل يوكل الرجل بضيعته .قلت : علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بني هاشم سكن الشام ، يكنى أبا الحسن ويقال : أبا محمد ، اسم أبيه أبو طلحة سالم ، تكلم في تفسيره ؛ فقيل : إنه لم ير ابن عباس ، والله أعلم .الثالث : أنها محكمة ؛ قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدى بقولهم ؛ منهم سعيد بن المسيب ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود . وروى الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون : إذا احتجتم فكلوا ؛ فكانوا يقولون : إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس ؛ فأنزل الله - عز وجل - : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم إلى آخر الآية . قال النحاس : يوعبون أي يخرجون بأجمعهم في المغازي ؛ يقال : أوعب بنو فلان لبني فلان إذا جاءوهم بأجمعهم . وقال ابن السكيت : يقال أوعب بنو فلان جلاء ؛ فلم يبق ببلدهم منهم أحد . وجاء الفرس بركض وعيب ؛ أي بأقصى ما عنده . وفي الحديث : في الأنف إذا استوعب جدعه الدية إذا لم يترك منه شيء . واستيعاب الشيء استئصاله . ويقال : بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كل ما جعل فيه . والضمنى هم الزمنى ، واحدهم ضمن زمن . قال النحاس : وهذا القول من أجل ما روي في الآية ؛ لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوفيق أن الآية نزلت في شيء بعينه . قال ابن العربي : وهذا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم ، لكن قوله : أو ما ملكتم مفاتحه قد اقتضاه ؛ فكان هذا القول بعيدا جدا . لكن المختار أن يقال : إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي ؛ وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج ، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه ؛ كالصوم وشروط الصلاة وأركانها ، والجهاد ونحو ذلك . ثم قال بعد ذلك مبينا : وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم . فهذا معنى صحيح ، وتفسير بين مفيد ، يعضده الشرع والعقل ، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل .قلت : وإلى هذا أشار ابن عطية فقال : فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر ، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل ، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص ، فالحرج مرفوع عنهم في هذا . فأما ما قال الناس في الحرج : هنا وهي :الثانية : قال ابن زيد : هو الحرج في الغزو ؛ أي لا حرج عليهم في تأخرهم . وقوله تعالى : ولا على أنفسكم الآية ، معنى مقطوع من الأول . وقالت فرقة : الآية كلها في معنى المطاعم . قالت : وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار ؛ فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى ، ولانبساط الجلسة من الأعرج ، ولرائحة المريض وعلاته ؛ وهي أخلاق جاهلية وكبر ، فنزلت الآية مؤذنة . وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غير أهل الأعذار ، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل ، لعدم الرؤية في الأعمى ، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج ، ولضعف المريض ؛ فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم . وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي : إن أهل الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم ؛ فنزلت الآية مبيحة لهم . وقيل : كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب به إلى بيوت قرابته ؛ فتحرج أهل الأعذار من ذلك ؛ فنزلت الآية .الثالثة : قوله تعالى : ( ولا على أنفسكم ) هذا ابتداء كلام أي : ولا عليكم أيها الناس . ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام . وذكر بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء ; فقال المفسرون : ذلك لأنها داخلة في قوله : " في بيوتكم " لأن بيت ابن الرجل بيته وفي الخبر " أنت ومالك لأبيك " . لأنه ذكر الأقرباء بعد ، ولم يذكر الأولاد . قال النحاس : وعارض بعضهم هذا القول فقال : هذا تحكم على كتاب الله تعالى ; بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفا لهؤلاء ، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنت ومالك لأبيك " بقوي لوهي هذا الحديث ، وأنه لو صح لم تكن فيه حجة ; إذ قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أن مال ذلك المخاطب لأبيه . وقد قيل إن المعنى : أنت لأبيك ، ومالك مبتدأ ; أي : ومالك لك . والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن . وقال الترمذي الحكيم : ووجه قوله تعالى : " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم " كأنه يقول : مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم ; فيكون للأهل والولد هناك شيء قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن ، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت ، أو يكون للزوجة والولد هناك شيء من ملكهم فليس عليه في ذلك حرج . الرابعة : قوله تعالى : أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم قال بعض العلماء : هذا إذا أذنوا له في ذلك . وقال آخرون : أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن يأكل ؛ لأن القرابة التي بينهم هي إذن منهم . وذلك لأن في تلك القرابة عطفا تسمح النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا . ابن العربي : أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا ، فإذا كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه ، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار ، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محرز عنهم إلا بإذن منهم .الخامسة : قوله تعالى : أو ما ملكتم مفاتحه يعني مما اختزنتم وصار في قبضتكم . وعظم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه ؛ وذلك هو تأويل الضحاك ، وقتادة ، ومجاهد . وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء . قال ابن عباس : عني وكيل الرجل على ضيعته ، وخازنه على ماله ؛ فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه . وذكر معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة قال : إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير . ابن العربي : وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعا ؛ وهذا إذا لم تكن له أجرة ، فأما إذا كانت له أجرة على الخزن حرم عليه الأكل . وقرأ سعيد بن جبير ( ملكتم ) بضم الميم وكسر اللام وشدها . وقرأ أيضا ( مفاتيحه ) بياء بين التاء والحاء ، جمع مفتاح ؛ وقد مضى في ( الأنعام ) . وقرأ قتادة ( مفتاحه ) على الإفراد . وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو ، خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية .السادسة : قوله تعالى : أو صديقكم الصديق بمعنى الجمع ، وكذلك العدو ؛ قال الله تعالى : فإنهم عدو لي . وقال جرير :دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديقوالصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك . ثم قيل : إن هذا منسوخ بقوله : لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ، وقوله تعالى : فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها الآية ، وقوله - عليه السلام - : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه . وقيل : هي محكمة ؛ وهو أصح . ذكر محمد بن ثور ، عن معمر قال : دخلت بيت قتادة فأبصرت فيه رطبا فجعلت آكله ؛ فقال : ما هذا ؟ فقلت : أبصرت رطبا في بيتك فأكلت ؛ قال : أحسنت ؛ قال الله تعالى : أو صديقكم . وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : أو صديقكم قال : إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس . وقال معمر قلت لقتادة : ألا أشرب من هذا الحب ؟ قال : أنت لي صديق ! فما هذا الاستئذان . وكان - صلى الله عليه وسلم - يدخل حائط أبي طلحة المسمى ببيرحا ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه ، على ما قاله علماؤنا ؛ قالوا : والماء متملك لأهله . وإذا جاز الشرب من ماء الصديق بغير إذنه جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته ، أو لما بينهما من المودة . ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له - صلى الله عليه وسلم - إذ نام عندها ؛ لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل ، وأن يد زوجته في ذلك عارية . وهذا كله ما لم يتخذ الأكل خبنة ، ولم يقصد بذلك وقاية ماله ، وكان تافها يسيرا .السابعة : قرن الله - عز وجل - في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة ، لأن قرب المودة لصيق . قال ابن عباس في كتاب النقاش : الصديق أوكد من القرابة ؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين فما لنا من شافعين ولا صديق حميم .قلت : ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه ، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه .وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في ( النساء ) . وفي المثل - أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك - قال : أخي إذا كان صديقي .الثامنة : قوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا قيل : إنها نزلت في بني ليث بن بكر ، وهم حي من بني كنانة ، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله . ومنه قول بعض الشعراء :إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحديقال ابن عطية : وكانت هذه السيرة موروثة عندهم عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان لا يأكل وحده . وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه ؛ فنزلت الآية مبينة سنة الأكل ، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب ، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما ، نحت به نحو كرم الخلق ، فأفرطت في إلزامه ، وإن إحضار الأكيل لحسن ، ولكن بألا يحرم الانفراد .التاسعة : قوله تعالى : جميعا أو أشتاتا جميعا نصب على الحال . و أشتاتا جمع شت ، والشت المصدر بمعنى التفرق ؛ يقال : شت القوم أي تفرقوا . وقد ترجم البخاري في صحيحه باب ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج الآية . و - النهد والاجتماع - . ومقصوده فيما قاله علماؤنا في هذا الباب : إباحة الأكل جميعا وإن اختلفت أحوالهم في الأكل . وقد سوغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فصارت تلك سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد ، والولائم ، وفي الإملاق في السفر . وما ملكت مفاتحه بأمانة ، أو قرابة ، أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك . والنهد : ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم ؛ وقد تناهدوا ؛ عن صاحب العين . وقال ابن دريد : يقال من ذلك : تناهد القوم الشيء بينهم . الهروي : وفي حديث الحسن أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم . النهد : ما تخرجه الرفقة عند المناهدة ؛ وهو استقسام النفقة بالسوية في السفر وغيره . والعرب تقول : هات نهدك ؛ بكسر النون . قال المهلب : وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء ، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته ، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره . وقد قيل : إن تركها أشبه بالورع . وإن كانت الرفقة تجتمع كل يوم على طعام أحدهم فهو أحسن من النهد لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله ، ثم لا يدري لعل أحدهم يقصر عن ماله ويأكل غيره أكثر من ماله وإذا كانوا يوما عند هذا ويوما عند هذا بلا شرط فإنما يكونون أضيافا والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه . وقال أيوب السختياني : إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر فيسبق بعضهم إلى المنزل ، فيذبح ، ويهيئ الطعام ، ثم يأتيهم ، ثم يسبق أيضا إلى المنزل فيفعل مثل ذلك ؛ فقالوا : إن هذا الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله فتعالوا نجعل بيننا شيئا لا يتفضل بعضنا على بعض ، فوضعوا النهد بينهم . وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه ، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سرا دونهم .العاشرة : قوله تعالى : فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون اختلف المتأولون في أي البيوت أراد ؛ فقال إبراهيم النخعي ، والحسن : أراد المساجد ؛ والمعنى : سلموا على من فيها من ضيفكم . فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء : السلام على رسول الله . وقيل : يقول السلام عليكم ؛ يريد الملائكة ، ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وذكر عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم الآية ، قال : إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وقيل : المراد بالبيوت البيوت المسكونة ؛ أي فسلموا على أنفسكم . قاله جابر بن عبد الله ، وابن عباس أيضا ، وعطاء بن أبي رباح . وقالوا : يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة ، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . قال ابن العربي : القول بالعموم في البيوت هو الصحيح ، ولا دليل على التخصيص ؛ وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه ، فإذا دخل بيتا لغيره استأذن كما تقدم ، فإذا دخل بيتا لنفسه سلم كما ورد في الخبر ، يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ؛ قاله ابن عمر . وهذا إذا كان فارغا ، فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل : السلام عليكم . وإن كان مسجدا فليقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ . قال ابن العربي : والذي أختاره إذا كان البيت فارغا ألا يلزم السلام ، فإنه إن كان المقصود الملائكة فالملائكة لا تفارق العبد بحال ، أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله . وقد تقدم في سورة ( الكهف ) . وقال القشيري في قوله : إذا دخلتم بيوتا : والأوجه أن يقال إن هذا عام في دخول كل بيت ، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإن لم يكن فيه ساكن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال السلام على من اتبع الهدى ، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وذكر ابن خويز منداد قال : كتب إلي أبو العباس الأصم ، قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثنا جعفر بن ميسرة ، عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أهلها ، واذكروا اسم الله ، فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه ، يقول الشيطان لأصحابه : لا مبيت لكم هاهنا ولا عشاء ، وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه قال الشيطان لأصحابه أدركتم المبيت والعشاء .قلت : هذا الحديث ثبت معناه مرفوع من حديث جابر ، خرجه مسلم . وفي كتاب أبي داود ، عن أبي مالك الأشجعي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا ولج الرجل بيته فليقل اللهم إني أسألك خير الولوج وخير الخروج ، باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ، ثم ليسلم على أهله .الحادية عشرة : قوله تعالى : ( تحية ) مصدر ؛ لأن قوله : ( فسلموا ) معناه فحيوا . وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه . ووصفها أيضا بالطيب لأن سامعها يستطيبها . والكاف من قوله : ( كذلك ) كاف تشبيه . و ( ذلك ) إشارة إلى هذه السنن ؛ أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم .
﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ﴾ [ النور: 61]
English | Türkçe | Indonesia |
Русский | Français | فارسی |
تفسير | انجليزي | اعراب |
تفسير آيات من القرآن الكريم
- تفسير: وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون
- تفسير: والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج
- تفسير: فالزاجرات زجرا
- تفسير: فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون
- تفسير: وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون
- تفسير: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم
- تفسير: ولو تقول علينا بعض الأقاويل
- تفسير: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول
- تفسير: وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين
- تفسير: ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون
تحميل سورة النور mp3 :
سورة النور mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة النور
ماهر المعيقلي
سعد الغامدي
عبد الباسط
أحمد العجمي
المنشاوي
الحصري
مشاري العفاسي
ناصر القطامي
فارس عباد
ياسر الدوسري
لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب