تفسير الطبري تفسير الصفحة 358 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 358
359
357
 الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: إذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربـائكم ويعنـي بقوله: مِنْكُمْ من أحراركم الـحُلُـمَ يعنـي الاحتلام واحتلـموا. فَلْـيَسْتأْذِنُوا يقول: فلا يدخـلوا علـيكم فـي وقت من الأوقات إلاّ بإذن, لا فـي أوقات العَورات الثلاث ولا فـي غيرها. وقوله: كمَا اسْتَأذَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول: كما استأذن الكبـار من ولد الرجل وأقربـائه الأحرار. وخصّ الله تعالـى ذكره فـي هذه الآية الأطفـال بـالذكر وتعريف حكمهم عبـاده فـي الاستئذان دون ذكر ما ملكت أيـماننا, وقد تقدّمت الآية التـي قبلها بتعريفهم حكم الأطفـال الأحرار والـمـمالـيك لأن حكم ما ملكت أيـماننا من ذلك حكم واحد, سواء فـيه حكم كبـارهم وصغارهم فـي أن الإذن علـيهم فـي الساعات الثلاث التـي ذكرها الله فـي الآية التـي قبل.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19857ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: أما من بلغ الـحُلُـم, فإنه لا يدخـل علـى الرجل وأهله يعنـي من الصبـيان الأحرار إلا بإذن علـى كل حال وهو قوله: وَإذَا بَلَغَ الأطْفـالُ مِنْكُمُ الـحُلُـمَ فَلْـيَسْتأْذِنُوا كمَا اسْتأذَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهمْ.
19858ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء: وَإذَا بَلَغَ الأطْفـالُ مِنْكُمُ الـحُلُـمَ فَلْـيَستأْذِنُوا قال: واجب علـى الناس أن يستأذنوا إذا احتلـموا, علـى مَنْ كان مِنَ الناس.
19859ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يونس, عن ابن شهاب, عن ابن الـمسيب, قال: يستأذن الرجل علـى أمه. قال: إنـما نزلت: وَإذَا بَلَغَ الأطْفـالُ مِنْكُمُ الـحُلُـمَ فـي ذلك. كَذلكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ يقول: هكذا يبـين الله لكم آياته, أحكامه وشرائع دينه, كما بـين لكم أمر هؤلاء الأطفـال فـي الاستئذان بعد البلوغ. وَاللّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ يقول: والله علـيـم بـما يصلـح خـلقه وغير ذلك من الأشياء, حكيـم فـي تدبـيره خـلقه.
الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَآءِ الّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لّهُنّ وَاللّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }.
يقول تعالـى ذكره: واللواتـي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء, فلا يحضن ولا يـلدن واحدتهنّ قاعد. اللاّتـي لا يَرْجُونَ نِكاحا يقول: اللاتـي قد يئسن من البعولة, فلا يطمعن فـي الأزواج. فَلَـيْسَ عَلَـيْهنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ يقول: فلـيس علـيهنّ حرج ولا إثم أن يضعن ثـيابهنّ, يعنـي جلابـيبهنّ, وهي القناع الذي يكون فوق الـخمار والرداء الذي يكون فوق الثـياب, لا حرج علـيهنّ أن يضعن ذلك عند الـمـحارم من الرجال وغير الـمـحارم من الغربـاء غير متبرّجات بزينة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19860ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: والقَوَاعِدُ مِنَ النّساءِ اللاّتـي لا يَرْجُونَ نِكاحاوهي الـمرأة, لا جناح علـيها أن تـجلس فـي بـيتها بدِرع وخِمار وتضع عنها الـجلبـاب ما لـم تتبرّج لـما يكره الله, وهو قوله: فَلَـيْسَ عَلَـيْهنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ غَيْرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ ثم قال: وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ.
19861ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ يعنـي: الـجلبـاب, وهو القِناع وهذا للكبـيرة التـي قد قعدت عن الولد, فلا يضرّها أن لا تـجلبب فوق الـخمار. وأما كلّ امرأة مسلـمة حرّة, فعلـيها إذا بلغت الـمـحيض أن تدنَى الـجلبـاب علـى الـخمار. وقال الله فـي سورة الأحزاب: يُدْنِـينَ عَلَـيْهِنّ مِنْ جَلابِـيبِهِنّ ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكان بـالـمدينة رجال من الـمنافقـين إذا مرّت بهم امرأة سيئة الهيئة والزيّ, حَسِب الـمنافقون أنها مزنـية وأنها من بغيتهم, فكانوا يؤذون الـمؤمنات بـالرفث, ولا يعلـمون الـحرّة من الأمة فأنزل الله فـي ذلك: يا أيّها النّبِـيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الـمُؤْمِنِـينَ يُدْنِـينَ عَلَـيْهِنّ مِنْ جَلابِـيبِهِنّ ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ يقول: إذا كان زِيهنّ حسنا لـم يطمع فـيهنّ الـمنافقون.
19862ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, فـي قوله: وَالقَوَاعِدُ مِنَ النّساءِ التـي قعدت من الوَلد وكِبرت. قال ابن جُرَيج: قال مـجاهد: اللاتـي لا يَرْجُونَ نِكاحا قال: لا يردنه. فَلَـيْسَ عَلَـيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ قال: جلابـيبهنّ.
19863ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: والقَوَاعِدُ مِنَ النّساءِ اللاّتـي لا يَرْجُونَ نِكاحا فَلَـيْسَ عَلَـيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ غيرَ مُتَبَرّجاتٍ بِزِينَةٍ قال: وضع الـخمار, قال: التـي لا ترجو نكاحا, التـي قد بلغت أن لا يكون لها فـي الرجال حاجة ولا للرجال فـيها حاجة فإذا بلغن ذلك وضعن الـخمار غير متبرّجات بزينة. ثم قال: وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ كان أبـي يقول هذا كله.
19864ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفـيان, عن علقمة بن مَرْثَد, عن ذرّ, عن أبـي وائل, عن عبد الله, فـي قوله: فَلَـيْسَ عَلَـيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ قال: الـجلبـاب أو الرداء. شكّ سفـيان.
19865ـ قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن مالك بن الـحارث, عن عبد الرحمن بن يزيد, عن عبد الله: لَـيْسَ عَلَـيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ قال: الرداء.
19866ـ حدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعودي, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن جدّه, عن الأعمش, عن مالك بن الـحارث, عن عبد الرحمن بن يزيد, قال: قال عبد الله فـي هذه الآية: فَلَـيْسَ عَلَـيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ قال: هي الـمِلْـحَفة.
19867ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, قال: سمعت أبـا وائل قال: سمعت عبد الله يقول فـي هذه الآية: فَلَـيْسَ عَلَـيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ قال: الـجلبـاب.
حدثنا يحيى بن سعيد, عن شعبة, قال: أخبرنـي الـحَكَم, عن أبـي وائل, عن عبد الله, مثله.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثّوري, عن الأعمش, عن مالك بن الـحارث, عن عبد الرحمن بن يزيد, عن ابن مسعود, فـي قوله: أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ قال: هو الرداء.
19868ـ قال الـحسن, قال: عبد الرزاق, قال الثوريّ: وأخبرنـي أبو حصين وسالـم الأفطس, عن سعيد بن جُبـير, قال: هو الرداء.
19869ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبـيّ: أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ قال: تضع الـجلبـاب الـمرأة التـي قد عجزت ولـم تزوّج. قال الشعبـيّ: فإن أُبـيّ بن كعب يقرأ: «أنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِـيابِهِنّ».
19870ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, قال: قلت لابن أبـي نـجيح, قوله: فَلَـيْسَ عَلَـيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ قال: الـجلبـاب. قال يعقوب, قال أبو يونس: قلت له: عن مـجاهد؟ قال: نعم, فـي الدار والـحجرة.
19871ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فَلَـيْسَ عَلَـيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِـيابَهُنّ قال: جلابـيبهنّ.
وقوله: غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ يقول: لـيس علـيهنّ جناح فـي وضع أرديتهنّ إذا لـم يُرِدن بوضع ذلك عنهنّ أن يبدين ما علـيهنّ من الزينة للرجال. والتبرّج: هو أن تظهر الـمرأة من مـحاسنها ما ينبغي لها أن تستره.
وقوله: وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ يقول: وإن تعففن عن وضع جلابـيبهنّ وأرديتهنّ, فـيـلبسنها, خير لهنّ من أن يضعنها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19872ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ قال: أن يـلبسن جلابـيبنّ.
19873ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مُغِيرة, عن الشعبـيّ: وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيرٌ لَهُنّ قال: ترك ذلك, يعنـي ترك وضع الثـياب.
19874ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ والاستعفـاف: لبس الـخِمار علـى رأسها, كان أبـي يقول هذا كله.
وَاللّهُ سَمِيعٌ ما تنطقون بألسنتكم. عَلِـيـمٌ بـما تضمره صدوركم, فـاتقوه أن تنطقوا بألسنتكم ما قد نهاكم عن أن تنطقوا بها, أو تضمروا فـي صدوركم ما قد كرهه لكم, فتستوجبوا بذلك منه عقوبة.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ تَحِيّةً مّنْ عِندِ اللّهِ مُبَارَكَةً طَيّبَةً كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ }.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي هذه الآية فـي الـمعنى الذي أنزلت فـيه, فقال بعضهم: أنزلت هذه الآية ترخيصا للـمسلـمين فـي الأكل مع العُمْيان والعُرْجان والـمرضى وأهل الزّمانة من طعامهم, من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم, خشية أن يكونوا قد أتَوْا بأكلهم معهم من طعامهم شيئا مـما نهاهم الله عنه بقوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنَكُمْ بـالبـاطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِـجارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنكمْ. ذكر من قال ذلك:
19875ـ حدثنـي علـيّ, قال: ثنـي عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتِكُمْ... إلـى قوله: أوْ أشْتاتا وذلك لَـمّا أنزل الله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنَكُمْ بـالبـاطلِ فقال الـمسلـمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بـيننا بـالبـاطل, والطعام من أفضل الأموال, فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد. فكفّ الناس عن ذلك, فأنزل الله بعد ذلك: لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ... إلـى قوله: أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ.
19876ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ... الآية, كان أهل الـمدينة قبل أن يُبعث النبـيّ صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم فـي طعامهم أعمى ولا مريض, فقال بعضهم: إنـما كان بهم التقذّر والتقزّز. وقال بعضهم: الـمريض لا يستوفـي الطعام كما يستوفـي الصحيح, والأعرج الـمنـحبس لا يستطيع الـمزاحمة علـى الطعام, والأعمى لا يبصر طيب الطعام. فأنزل الله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ حَرَجٌ فـي مؤالكة الـمريض والأعمى والأعرج.
فمعنى الكلام علـى تأويـل هؤلاء: لـيس علـيكم أيها الناس فـي الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه, ولا فـي الأعرج حرج, ولا فـي الـمريض حرج, ولا فـي أنفسكم, أن تأكلوا من بـيوتكم. فوجّهوا معنى «علـى» فـي هذا الـموضع إلـى معنى «فـي».
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا لأهل الزمانة فـي الأكل من بـيوت من سمى الله فـي هذه الآية لأن قوما كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لـم يكن عندهم فـي بـيوتهم ما يطعمونهم, ذهبوا بهم إلـى بـيوت آبـائهم وأمهاتهم أو بعض من سمّى الله فـي هذه الآية, فكان أهل الزمانة يتـخوّفون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير ملكه. ذكر من قال ذلك:
19874حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتِكُمْ أوْ بُـيُوتِ آبـائِكُمْ قال: كان رجال زَمْنَى قال ابن عمرو فـي حديثه: عُمْيان وعُرْجان. وقال الـحارث: عُمْيٌ عُرْج أولوا حاجة, يستتبعهم رجال إلـى بـيوتهم, فإن لـم يجدوا طعاما ذهبوا بهم إلـى بوت آبـائهم ومن عدد منهم من البـيوت, فكره ذلك الـمستتبعون, فأنزل الله فـي ذلك: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ, وأحلّ لهم الطعام حيث وجدوه.
19877ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: كان الرجل يذهب بـالأعمى والـمريض والأعرج إلـى بـيت أبـيه, أو إلـى بـيت أخيه, أو عمه, أو خاله, أو خالته, فكان الزّمنـي يتـحرّجون من ذلك, يقولون: إنـما يذهبون بنا إلـى بـيوت غيرهم, فنزلت هذه الآية رُخْصة لهم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, نـحو حديث ابن عمرو, عن أبـي عاصم.
وقال آخرون: بل نزلت ترخيصا لأهل الزمانة الذين وصفهم الله فـي هذه الآية أن يأكلوا من بـيوت من خَـلّفهم فـي بـيوته من الغزاة. ذكر من قال ذلك:
19878ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, قال: قلت للزهريّ, فـي قوله: لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ ما بـال الأعمى ذكر ها هنا والأعرج والـمريض؟ فقال: أخبرنـي عُبـيد الله بن عبد الله أن الـمسلـمين كانوا إذا غَزَوا خَـلّفوا زَمْناهم, وكانوا يدفعون إلـيهم مفـاتـيح أبوابهم, يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مـما فـي بـيوتنا وكانوا يتـحرّجون من ذلك, يقولون: لا ندخـلها وهي غُيّب. فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.
وقال آخرون: بل عُنـي بقوله: لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلـى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلـى الـمَرِيضِ حَرَجٌ فـي التـخـلف عن الـجهاد فـي سبـيـل الله. قالوا: وقوله: وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلوا مِنْ بُـيُوتِكُمْ كلام منقطع عما قبله. ذكر من قال ذلك:
19879ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلـى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلـى الـمَرِيضِ حَرَجٌ قال: هذا فـي الـجهاد فـي سبل الله. وفـي قوله: وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتِكُمْ... إلـى قوله: أوْ صَدِيقِكُمْ قال: هذا شيء قد انقطع, إنـما كان هذا فـي الأوّل, لـم يكن لهم أبواب وكانت الستور مُرْخاة, فربـما دخـل الرجل البـيت ولـيس فـيه أحد, فربـما وجد الطعام وهو جائع, فسوّغه الله أن يأكله. قال: وقد ذهب ذلك الـيوم البـيوت الـيوم فـيـما أهلها, وإذا أخرجوا أغلقوها فقد ذهب ذلك.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا للـمسلـمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة فـي مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك. ذكر من قال ذلك:
19880ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن قـيس بن مسلـم, عن مِقْسم, فـي قوله: لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ قال: كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج, فنزلت: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا.
واختلفوا أيضا فـي معنى قوله: أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ فقال بعضهم: عُنـي بذلك وكيـلُ الرجل وَقـيّـمُه, أنه لا بأس علـيه أن يأكل من ثمر ضيعته, ونـحو ذلك. ذكر من قال ذلك:
19881ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ وهو الرجل يوكّل الرجل بضيعته, فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتـمر ويشربَ اللبن.
وقال آخرون: بل عُنِـي بذلك: منزل الرجل نفسه أنه لا بأس علـيه أن يأكل. ذكر من قال ذلك:
19882ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, يقول: قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ يعنـي: بـيت أحدهم, فإنه يـملكه, والعبـيد منهم مـما ملكوا.
19883ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتادة, فـي قوله: أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ مـما تـحبون يا ابن آدم.
19884ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قال: أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ قال: خزائن لأنفسهم, لـيست لغيرهم.
وأشبه الأقوال التـي ذكرنا فـي تأويـل قوله: لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ... إلـى قوله: أوْ صَدِيقكُمْ القول الذي ذكرنا عن الزهريّ عن عبـيد الله بن عبد الله, وذلك أن أظهر معانـي قوله: لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلـى الأعْرَجِ حَرَجٌ: أنه لا حرج علـى هؤلاء الذين سُمّوا فـي هذه الآية أن يأكلوا من بـيوت من ذكره الله فـيها, علـى ما أبـاح لهم من الأكل منها. فإذ كان ذلك أظهر معانـيه, فتوجيه معناه إلـى الأغلب الأعرف من معانـيه أولـى من توجيهه إلـى الأنكر منها. فإذ كان ذلك كذلك, كان ما خالف من التأويـل قول من قال: معناه: لـيس فـي الأعمى والأعرج حرج, أولـى بـالصواب. وكذلك أيضا الأغلب من تأويـل قوله: وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتكُمْ أنه بـمعنى: ولا علـيكم أيها الناس. ثم جمع هؤلاء والزّمْنَى الذين ذكرهم قبل فـي الـخطاب, فقال: أن تأكلوا من بـيوت أنفسكم. وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بـين خبر الغائب والـمخاطب, غلّبت الـمخاطب فقالت: أنت وأخوك قمتـما, وأنت وزيد جلستـما, ولا تقول: أنت وأخوك جلسا, وكذلك قوله: وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ والـخبر عن الأعمى والأعرج والـمريض, غلّب الـمخاطب, فقال: أن تأكلوا, ولـم يقل: أن يأكلوا.
فإن قال قائل: فهذا الأكل من بـيوتهم قد علـمناه كان لهم حلالاً إذ كان ملكا لهم, أَوَ كانَ أيضا حلالاً لهم الأكل من مال غيرهم؟ قـيـل له: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما توهمّتَ ولكنه كما ذكرناه عن عبـيد الله بن عبد الله, أنهم كانوا إذا غابوا فـي مغازيهم وتـخـلف أهل الزمانة منهم, دفع الغازي مفتاح مسكنه إلـى الـمتـخـلف منهم, فأطلق له فـي الأكل مـما يخـلف فـي منزله من الطعام, فكان الـمتـخـلفون يتـخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب, فأعلـمه الله أنه لا حرج علـيه فـي الأكل منه وأذِن لهم فـي أكله. فإذ كان ذلك كذلك تبـين أن لا معنى لقول من قال: إنـما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة الـمستتبع أكل طعام غير الـمستتبع لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك: لقـيـل: لـيس علـيكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم, أو من طعام آبـاء من دعاكم, ولـم يقل: أن تأكلوا من بـيوتكم أو بـيوت آبـائكم. وكذلك لا وجه لقول من قال: معنى ذلك: لـيس علـى الأعمى حرج فـي التـخـلف عن الـجهاد فـي سبـيـل الله, لأن قوله: أنْ تأْكُلوا خبر «لـيس», و«أنْ» فـي موضع نصب علـى أنها خبر لها, فهي متعلقة ب«لـيس», فمعلوم بذلك أن معنى الكلام: لـيس علـى الأعمى حرج أن يأكل من بـيته, ولا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج علـيه فـي التـخـلف عن الـجهاد. فإذ كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا, تبـين أن معنى الكلام: لا ضِيقَ علـى الأعمى, ولا علـى الأعرج, ولا علـى الـمريض, ولا علـيكم أيها الناس, أن تأكلوا من بـيوت أنفسكم أو من بـيوت آبـائكم أو من بـيوت أمهاتكم أو من بـيوت إخوانكم أو من بـيوت أخواتكم أو من بـيوت أعمامكم أو من بـيوت عماتكم أو من بـيوت أخوالكم أو من بـيوت خالاتكم أو من البـيوت التـي ملكتـم مَفـاتـحها أو من بـيوت صديقكم, إذا أذنوا لكم فـي ذلك, عند مغيبهم ومشهدهم. والـمفـاتـح: الـخزائن, واحدها: «مَفْتـح» إذا أريد به الـمصدر, وإذا كان من الـمفـاتـيح التـي يفتـح بها, فهي مِفْتـح ومفـاتـح وهي ها هنا علـى التأويـل الذي اخترناه جمع مِفْتـح الذي يفتـح به. وكان قَتاة يتأوّل فـي قوله: أوْ صَدِيقِكُمْ, ما:
19885ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر, عن قَتادة: أوْ صَدِيقِكُمْ فلو أكلْت من بـيت صديقك من غير أمره, لـم يكن بذلك بأس. قال معمر: قلت لقتادة: أَوَلاَ أشربُ من هذا الـحُبّ؟ قال: أنت لـي صديق.
وأما قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: كان الغنـيّ من الناس يتـخوّف أن يأكل مع الفقـير, فرخّصَ لهم فـي الأكل معهم. ذكر من قال ذلك:
19886ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الـخراسانـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا قال: كان الغنـيّ يدخـل علـى الفقـير من ذوي قرابته وصديقه, فـيدعُوَه إلـى طعامه لـيأكل معه, فـيقول: والله إنـي لأجنـح أن آكل معك والـجنـح: الـحرج وأنا غنـيّ وأنت فقـير فأُمروا أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا.
وقال آخرون: بل عُنـي بذلك حيّ من أحياء العرب, كانوا لا يأكل أحدهم وحده ولا يأكل إلا مع غيره, فأذِن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده ومن شاء منهم مع غيره. ذكر من قال ذلك:
19887ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: كانوا يأنفون ويتـحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتـى يكون معه غيره, فرخص الله لهم, فقال: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا.
19888ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: كانت بنوِ كنانة يستـحى الرجل منهم أن يأكل وحده, حتـى نزلت هذه الآية.
19889ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول: كانوا لا يأكلون إلا جميعا, ولا يأكلون متفرّقـين, وكان ذلك فـيهم دينا فأنزل الله: لـيس علـيكم حرج فـي مؤاكلة الـمريض والأعمى, ولـيس علـيكم حرج أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا.
19890ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا قال: كان من العرب من لا يأكل أبدا جميعا ومنهم من لا يأكل إلا جميعا, فقال الله ذلك.
19891ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, حدثنا نزلت: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا فـي حيّ من فـي العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده, كان يحمله بعض يوم حتـى يجد من يأكله معه. قال: وأحسب أنه ذكر أنهم من كِنانة.
وقال آخرون: بل عُنِـي بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم, فرخّصَ لهم فـي أن يأكلوا كيف شاءوا. ذكر من قال ذلك:
19892ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص, عن عمران بن سلـيـمان, عن أبـي صالـح وعكرمة, قالا: كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتـى يأكل الضيف معهم, فرُخّص لهم, قال الله: لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعا أوْ أشْتاتا.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله وضع الـحَرَج عن الـمسلـمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا, أو أشتاتا متفرّقـين إذا أرادوا. وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتـخوّف من الأغنـياء الأكل مع الفقـير, وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يَطْعَمون وُحْدانا, وبسبب غير ذلك ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر, ولا دلالة فـي ظاهر التنزيـل علـى حقـيقة شيء منه. والصواب التسلـيـم لـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل, والتوقـف فـيـما لـم يكن علـى صحته دلـيـل.
وقوله: فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـموا عَلـى أنْفُسِكُمْ تَـحِيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ اختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فقال بعضهم: معناه: فإذا دخـلتـم أيها الناس بـيوت أنفسكم, فسلـموا علـى أهلـيكم وعيالكم. ذكر من قال ذلك:
19893ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهريّ وقتادة فـي قوله: فسَلّـموا عَلـى أنْفُسِكُمْ قالا: بـيتك, إذا دخـلته فقل: سلام علـيكم.
19894ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسكُمْ قال: سَلّـمْ علـى أهلك قال ابن جُرَيج: وسُئل عن عطاء بن أبـي ربـاح: أحقّ علـى الرجل إذا دخـل علـى أهله أن يسلـم علـيهم؟ قال: نعم. وقالها عمرو بن دينار. وتَلَوا: فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفِسكُمْ تَـحِيّةً مِنْ عِنْد اللّهِ مُبـارَكَةً طَيّبَةً قال عطاء بن أبـي ربـاح ذلك غير مرّة.
19895ـ قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: أخبرنـي أبو الزّبـير, قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخـلت علـى أهلك فسلـم علـيهم تَـحيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ مُبـارَكَةً طَيّبَةً. قال: ما رأيته إلا يوجبه. قال ابن جُرَيج, وأخبرنـي زياد, عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخـل أحدكم بـيته فلـيسلـم.
19896ـ قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قلت لعطاء: إذا خرجت أواجب السلام؟ هل أسلـم علـيهم؟ فإنـما قال: إذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا؟ قال: ما أعلـمه واجبـا ولا آثِرُ عن أحد وجوبه, ولكن أحبّ إلـيّ, وما أدعه إلا ناسيا. قال ابن جُرَيج, وقال عمرو بن دينار: لا, قال: قلت لعطاء: فإن لـم يكن فـي البـيت أحد؟ قال: سلّـمْ قل: السلام علـى النبـيّ ورحمة الله وبركاته, السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين, السلام علـى أهل البـيت ورحمة الله. قلت له: قولك هذا إذا دخـلت بـيتا لـيس فـيه أحد عمن تَأْثِره؟ قال: سمعته ولـم يؤثر لـي عن أحد. قال ابن جُرَيج, وأخبرنـي عَطَاءٌ الـخُراسانـيّ, عن ابن عبـاس, قال: السلام علـينا من ربنا, وقال عمرو بن دينار: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.
19897ـ حدثنا أحمد بن عبد الرحيـم, قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة, قال: حدثنا صدقة, عن زُهَير, عن ابن جُرَيج, عن أبـي الزبـير, عن جابر بن عبد الله, قال: إذا دخـلت علـى أهلك فسلـم علـيهم, تـحية من عند الله مبـاركة طيبة. قال: ما رأيته إلاّ يوجبه.
حدثنا مـحمد بن عبـاد الرازي, قال: حدثنا حجاج بن مـحمد الأعور, قال: قال لـي ابن جُرَيج, أخبرنـي أبو الزبـير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: فذكر مثله.
19898ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ يقول: سلـموا علـى أهالـيكم إذا دخـلتـم بـيوتكم, وعلـى غير أهالـيكم, فسلـموا إذا دخـلتـم بـيوتهم.
وقال آخرون: بل معناه: فإذا دخـلتـم الـمساجد فسلّـموا علـى أهلها. ذكر من قال ذلك:
19899ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا عبد الله بن الـمبـارك, عن معمر, عن عمرو بن دينار, عن ابن عبـاس: إذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ قال: هي الـمساجد, يقول: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.
19900ـ قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن إبراهيـم, فـي قوله: فَإِذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ قال: إذا دخـلت الـمسجد فقل: السلام علـى رسول الله وإذا دخـلت بـيتا لـيس فـيه أحد, فقل: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين وإذا دخـلت بـيتك فقل: السلام علـيكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا دخـلتـم بـيوتا من بـيوت الـمسلـمين فـيها ناس منكم, فلـيسلـم بعضكم علـى بعض. ذكر من قال ذلك:
19901ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله: فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ أي لـيسلـم بعضكم علـى بعض, كقوله: وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ.
19902ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ قال: إذا دخـل الـمسلّـم سُلّـم علـيه, كمثل قوله: لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إنـما هو: لا تقتل أخاك الـمسلـم. وقوله: ثُمّ أنْتُـمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ قال: يقتل بعضكم بعضا, قُريظة والنّضِير.
وقال آخرون: معناه: فإذا دخـلتـم بـيوتا لـيس فـيها أحد, فسلـموا علـى أنفسكم. ذكر من قال ذلك:
19903ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن أبـي مالك, قال: إذا دخـلت بـيتا لـيس فـيه أحد, فقل: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين وإذا دخـلت بـيتا فـيه ناس من الـمسلـمين وغير الـمسلـمين, فقل مثل ذلك.
19904ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي سِنان, عن ماهان, قال: إذا دخـلتـم بـيوتا فسلـموا علـى أنفسكم, قال: تقولوا: السلام علـينا من ربنا.
19905ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: أخبرنا شعبة عن منصور, قال شعبة: وسألته عن هذه الآية: فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ تَـحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ قال: قال إبراهيـم: إذا دخـلت بـيتا لـيس فـيه أحد, فقل: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.
19906ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث, عن بكير بن الأشجّ, عن نافع: أن عبد الله كان إذا دخـل بـيتا لـيس فـيه أحد, قال: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.
19907ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, قال: حدثنا منصور, عن إبراهيـم: فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسكُمْ قال: إذا دخـلت بـيتا فـيه يهود فقل: السلام علـيكم وإن لـم يكن فـيه أحد فقل: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال معناه: فإذا دخـلتـم بـيوتا من بـيوت الـمسلـمين, فلـيسلـم بعضكم علـى بعض.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال: فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا ولـم يخصُصْ من ذلك بـيتا دون بـيت, وقال: فَسَلّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ يعنـي: بعضكم علـى بعض. فكان معلوما إذ لـم يخصص ذلك علـى بعض البـيوت دون بعض, أنه معنىّ به جميعها, مساجدها وغير مساجدها. ومعنى قوله: فَسَلّـموا عَلـى أنْفُسِكُمْ نظير قوله: وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ. وقوله: تَـحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ ونصب تـحية, بـمعنى: تُـحيّون أنفسكم تـحية من عند الله السلام تـحية, فكأنه قال: فلـيحيّ بعضكم بعضا تـحية من عند الله. وقد كان بعض أهل العربـية يقول: إنـما نصبت بـمعنى: أَمَرَكم بها تفعلونها تَـحيّة منه, ووصف جلّ ثناؤه هذه التـحية الـمبـاركة الطيبة لـما فـيها من الأجر الـجزيـل والثواب العظيـم.
وقوله: كَذلكَ يُبَـيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ يقول تعالـى ذكره: هكذا يفصل الله لكم معالـم دينكم فـيبـينها لكم, كما فصل لكم فـي هذه الآية ما أحلّ لكم فـيها, وعرّفكم سبـيـل الدخول علـى من تدخـلون علـيه. لَعَلّكُم تَعْقِلَونَ يقول: لكي تفقَهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه