ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين
قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله: نزلت في المنافقين عبد الله بن أُبَي بن سلول، ومعتب بن قشير، وجَدّ بن قيس وأصحابهم حيث أظهروا كلمة الإسلام ليَسْلَمُوا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واعتقدوا خلافها، وأكثرهم من اليهود.والناس: جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي، كما قال الله تعالى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [115-طه]، وقيل: لظهوره من قولهم آنست أي أبصرت، وقيل: لأنه يستأنس به.وباليوم الآخر: أي بيوم القيامة.قال الله تعالى: وما هم بمؤمنين:: أي يخالفون الله.
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
وإذا لقوا الذين آمنوا: يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصارقالوا آمنا كإيمانكموإذا خلوا رجعوا، ويجوز أن يكون من الخلوة.إلى بمعنى الباء أي بشياطينهم، وقيل: (إلى) بمعنى مع؛ كما قال الله تعالى: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [2-النساء] أي مع أموالكم.شياطينهم: أي رؤسائهم وكهنتهم.قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وهم خمسة نفر من اليهود كعب بن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء بالشام".ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له.والشيطان: المتمرد العاتي من الجن والإنس، ومن كل شيء وأصله البعد، يقال: بئر شطون أي: بعيدة العمق، سمي الشيطان شيطانا لامتداده في الشر وبعده عن الخير .وقال مجاهد: "إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين".قالوا إنا معكم: أي على دينكم.إنما نحن مستهزئون: بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما نظهر من الإسلام .قرأ أبو جعفر (مستهزون) و(يستهزون) وقل (استهزوا) و(ليطفوا) و(ليواطوا) و(يستنبونك) و(خاطين) و(خاطون) و(متكن) و(متكون) (فمالون) و(المنشون) بترك الهمزة فيهن.
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون
وإذا لقوا الذين آمنوا قال ابن عباس والحسن وقتادة: "يعني منافقي اليهود الذين آمنوا بألسنتهم إذا لقوا المؤمنين المخلصين".قالوا آمنا كإيمانكم.وإذا خلا رجع.بعضهم إلى بعض - كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود - لأمرهم على ذلك.قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم بما قص الله عليكم في كتابكم: أن محمداً حق وقوله صدق. والفتاح: القاضي.وقال الكسائي: "بما بينه الله لكم من العلم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته".وقال الواقدي: "بما أنزل الله عليكم، ونظيره: لفتحنا عليهم بركات من السماء [44-الأنعام] أي أنزلنا".وقال أبو عبيدة: "بما من الله عليكم وأعطاكم".ليحاجوكم به ليخاصموكم، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يحتجوا بقولكم عليكم فيقولوا قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثم لا تتبعونه!! وذلك أنهم قالوا لأهل المدينة حين شاورهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم: آمنوا به فإنه حق، ثم قال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم لتكون لهم الحجة عليكم.عند ربكم في الدنيا والآخرة، وقيل: إنهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم الله به على الجنايات فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به عند ربكم، ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله.وقال مجاهد: "هو قول يهود بني قريظة قال بعضهم لبعض حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يا إخوان القردة والخنازير، فقالوا: من أخبرمحمد بهذا؟ ما خرج هذا إلا منكم".أفلا تعقلون.
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا يعني مكة، وقيل: الحرم.بلداً آمناً أي ذا أمن يأمن فيه أهله.وارزق أهله من الثمرات إنما دعا بذلك لأنه كان بواد غير ذي زرع، وفي القصص أن الطائف كانت من مداين الشام بأردن فلما دعا إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه السلام حتى قلعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعاً ثم وضعها موضعها الذي هي الآن فيه، فمنها أكثر ثمرات مكة.من آمن منهم بالله واليوم الآخر دعاء للمؤمنين خاصة.قال الله تعالى.ومن كفر فأمتعه قليلاً قرأ ابن عامر فأمتعه خفيفاً بضم الهمزة والباقون مشدداً ومعناهما واحد قليلاً أي سأرزق الكافر أيضاً قليلاً إلى منتهى أجله، وذلك أن الله تعالى وعد الرزق للخلق كافة مؤمنهم وكافرهم،وإنما قيده بالقلة لأن متاع الدنيا قليل.ثم أضطره أي ألجئه في الآخرة.إلى عذاب النار وبئس المصير أي المرجع يصير إليه، قال مجاهد: "وجد عند المقام كتاب فيه: أن الله ذو بكة صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر، وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، مبارك لها في اللحم والماء".
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا يعني القرآن.وما أنزل إلى إبراهيم وهو عشر صحف.وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط يعني أولاد يعقوب وهم اثنا عشر سبطاً وواحدهم سبط سموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة وسبط الرجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين رضي الله عنهما سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب من بني إسماعيل والشعوب من العجم، وكان في الأسباط أنبياء، ولذلك قال: وما أنزل إليهم وقيل هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء.وما أوتي موسى يعني التوراة.وعيسى يعني الإنجيل.وما أوتي أعطي.النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم أي نؤمن بالكل لا نفرق بين أحد منهم، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.ونحن له مسلمونأخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن بشار أنا عثمان بن عمر أنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله.. الآية".
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب
قوله تعالى ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) مبينات مفصلات ، سميت محكمات من الإحكام ، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها ( هن أم الكتاب ) أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام وإنما قال : ( هن أم الكتاب ) ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد وقيل: معناه كل آية منهن أم الكتاب كما قال : " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " ( 50 - المؤمنون ) أي كل واحد منهما آية ( وأخر ) جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر ، مثل : عمر وزفر ( متشابهات ) فإن قيل كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكما في مواضع أخر؟ . فقال : " الر كتاب أحكمت آياته " ( 1 - هود ) وجعله كله متشابها [ في موضع آخر ] فقال : " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها " ( 23 - الزمر) .قيل: حيث جعل الكل محكما ، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحق والصدق وفي الحسن وجعل هاهنا بعضه محكما وبعضه متشابهاواختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " ( 151 ) ونظيرها في بني إسرائيل " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " ( 23 - الإسراء ) الآيات وعنه أنه قال : المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور .وقال مجاهد وعكرمة : المحكم ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضا في الحق ويصدق بعضه بعضا ، كقوله تعالى : " وما يضل به إلا الفاسقين " ( 26 - البقرة ) " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " ( 100 - يونس) .وقال قتادة والضحاك والسدي : المحكم الناسخ الذي يعمل به ، والمتشابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ، وقيل: المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لا سبيل لأحد إلى علمه ، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة وفناء الدنيا .وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد والمتشابه ما احتمل أوجهاوقيل: المحكم ما يعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلها لائحة لا تشتبه ، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل وقال بعضهم : المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيرهقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية [ باذان ] المتشابه حروف التهجي في أوائل السور ، وذلك أن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حيي : بلغنا أنه أنزل عليك ( الم ) فننشدك الله أنزلت عليك؟ قال : " نعم " قال : فإن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك ، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها؟ قال : " نعم ( المص ) " قال : فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة ، قال : فهل غيرها؟ قال : " نعم ( الر ) " . قال : هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنزل الله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) .( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي ميل عن الحق وقيل شك ( فيتبعون ما تشابه منه ) واختلفوا في المعني بهذه الآية . قال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام ، وقالوا له : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : " بلى " قالوا : حسبنا ، فأنزل الله هذه الآية .وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجها بحساب الجمل وقال ابن جريج : هم المنافقون وقال الحسن : هم الخوارج ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم ، وقيل: هم جميع المبتدعة .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن مسلمة ، أنا يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنهما قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) - إلى قوله ( أولو الألباب ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " .قوله تعالى : ( ابتغاء الفتنة ) طلب الشرك قاله الربيع والسدي ، وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم ( وابتغاء تأويله ) تفسيره وعلمه ، دليله قوله تعالى " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " ( 78 - الكهف ) وقيل: ابتغاؤه عاقبته ، وهو طلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل ، دليله قوله تعالى " ذلك خير وأحسن تأويلا " ( 35 - الإسراء ) أي عاقبة .قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله والراسخون واو العطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم ( يقولون آمنا به ) وهذا قول مجاهد والربيع ، وعلى هذا يكون قوله " يقولون " حالا معناه : والراسخون في العلم قائلين آمنا به ، هذا كقوله تعالى : " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى " ( 7 - الحشر ) ثم قال : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم " ( 8 - الحشر ) إلى أن قال : " والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم " ( 9 - الحشر ) ثم قال " والذين جاءوا من بعدهم " ( 10 - الحشر ) وهذا عطف على ما سبق ، ثم قال : " يقولون ربنا اغفر لنا " ( 10 - الحشر ) يعني هم مع استحقاقهم الفيء يقولون ربنا اغفر لنا ، أي قائلين على الحال .وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم ، وروي عن مجاهد : أنا ممن يعلم تأويلهوذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله " والراسخون " واو الاستئناف ، وتم الكلام عند قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ورواية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحدا من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها ، والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به وفي المحكم بالإيمان به والعمل ، ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، وفي حرف أبي : ويقول الراسخون في العلم آمنا بهوقال عمر بن عبد العزيز : في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا وهذا قول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية .قوله تعالى ( والراسخون في العلم ) أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك ، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته يقال : رسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسخا ورسوخا وقيل: الراسخون في العلم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى " لكن الراسخون في العلم منهم " ( 162 - النساء ) يعني ( المدارسين ) علم التوراة وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم المتبع له وقيل: الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسهوقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي : بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به ، أي بالمتشابه ( كل من عند ربنا ) المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم ( وما يذكر ) وما يتعظ بما في القرآن ( إلا أولو الألباب ) ذوو العقول
الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار
الذين يقولون ) إن شئت جعلت محل الذين خفضا ردا على قوله ( للذين اتقوا ) وإن شئت جعلته رفعا على الابتداء ، ويحتمل أن يكون نصبا تقديره أعني الذين يقولون ( ربنا إننا آمنا ) صدقنا ( فاغفر لنا ذنوبنا ) استرها علينا وتجاوز عنا ( وقنا عذاب النار )
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون
قوله تعالى : ( فلما أحس عيسى منهم الكفر ) أي وجد ، قاله الفراء ، وقال أبو عبيدة : عرف ، وقال مقاتل : رأى ( منهم الكفر ) وأرادوا قتله استنصر عليهم و ( قال من أنصاري إلى الله ) قال السدي : كان سبب ذلك أن عيسى عليه السلام لما بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو إسرائيل وأخرجوه ، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض ، فنزل في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما ، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوما مهتما حزينا فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم : ما شأن زوجك أراه كئيبا ، قالت : لا تسأليني ، قالت : أخبريني لعل الله يفرج كربته ، قالت : إن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما أن يطعمه وجنوده ويسقيهم الخمر فإن لم يفعل عاقبه ، واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة ، قالت : فقولي له لا يهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفى ذلك ، فقالت مريم لعيسى عليه السلام في ذلك ، فقال عيسى : إن فعلت ذلك وقع شر ، قالت : فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا ، قال عيسى عليه السلام فقولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك ، فدعا الله تعالى عيسى عليه السلام ، فتحول ماء القدور مرقا ولحما وماء الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال : من أين هذا الخمر قال : من أرض كذا ، قال [ الملك ] فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هي من أرض أخرى ، فلما خلط على الملك واشتد عليه قال : فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، وإنه دعا الله فجعل الماء خمرا وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام ، وكان أحب الخلق إليه ، فقال : إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا [ ليستجاب له ] حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش وقع شر ، فقال الملك : لا أبالي أليس أراه قال عيسى : إن أحييته تتركوني وأمي نذهب حيث نشاء ، قال : نعم فدعا الله فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح ، وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكل أبوه فاقتتلوا فذهب عيسى وأمه فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك ، فقال : ما تصنعون؟ فقالوا : نصطاد السمك قال : أفلا تمشون حتى نصطاد الناس ، قالوا : ومن أنت قال : أنا عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله من أنصاري إلى الله؟ فآمنوا به وانطلقوا معه .قوله تعالى : ( من أنصاري إلى الله ) قال السدي وابن جريج : مع الله تعالى تقول العرب : الذود إلى الذود إبل أي مع الذود وكما قال الله تعالى : " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " ( 2 - النساء ) أي مع أموالكم وقال الحسن وأبو عبيدة : إلى بمعنى في أي من أعواني في الله أي في ذات الله وسبيله ، وقيل إلى في موضعه معناه من يضم نصرته إلى نصرة الله لي واختلفوا في الحواريين قال مجاهد والسدي : كانوا صيادين يصطادون السمك سموا حواريين لبياض ثيابهم ، وقيل: كانوا ملاحين وقال الحسن : كانوا قصارين سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي يبيضونها وقال عطاء : سلمت مريم عيسى عليه السلام إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين ، وكانوا قصارين وصباغين فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر ، فقال لعيسى : إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب الناس مختلفة الألوان ، وقد أعلمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغا منها وقت قدومي ، وخرج فطبخ عيسى جبا واحدا على لون واحد وأدخل جميع الثياب وقال : كوني بإذن الله على ما أريد منك ، فقدم الحواري والثياب كلها في الجب ، فقال : ما فعلت؟ فقال : فرغت منها ، قال : أين هي؟ قال : في الجب ، قال : كلها ، قال : نعم قال : لقد أفسدت تلك الثياب فقال : قم فانظر ، فأخرج عيسى ثوبا أحمر ، وثوبا أصفر ، وثوبا أخضر ، إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها ، فجعل الحواري يتعجب فعلم أن ذلك من الله ، فقال للناس : تعالوا فانظروا فآمن به هو وأصحابه فهم الحواريون ، وقال الضحاك : سموا حواريين لصفاء [ قلوبهم ] وقال ابن المبارك : سموا به لما عليهم من أثر العبادة ونورها ، وأصل الحور عند العرب شدة البياض ، يقال : رجل أحور وامرأة حوراء أي شديدة بياض العين ، وقال الكلبي وعكرمة : الحواريون هم الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى عليه السلام ، وكانوا اثني عشر رجلا قال روح بن القاسم : سألت قتادة عن الحواريين قال : هم الذين يصلح لهم الخلافة ، وعنه أنه قال : الحواريون هم الوزراء ، وقال الحسن : الحواريون الأنصار ، والحواري الناصر ، والحواري في كلام العرب خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحميدي ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا محمد بن المنكدر ، قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير " .قال سفيان الحواري الناصر ، قال معمر : قال قتادة : إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين( قال الحواريون نحن أنصار الله ) أعوان دين الله ورسوله ( آمنا بالله واشهد ) يا عيسى ( بأنا مسلمون ) .
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
( ربنا آمنا بما أنزلت ) من كتابك ( واتبعنا الرسول ) عيسى ( فاكتبنا مع الشاهدين ) الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق وقال عطاء : مع النبيين لأن كل نبي شاهد أمتهقال ابن عباس رضي الله عنهما مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالبلاغ
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
قوله تعالى : ( قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) ذكر الملل والأديان واضطراب الناس فيها ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : ( آمنا بالله ) الآية .