كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
قوله تعالى ( كان الناس أمة واحدة ) على دين واحد قال مجاهد : أراد آدم وحده كان أمة واحدة قال سمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل وأبو البشر ثم خلق الله تعالى حواء ونشر منهما الناس فانتشروا وكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا ( فبعث الله النبيين ) قال الحسن وعطاء : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر أمثال البهائم فبعث الله نوحا وغيره من النبيين . وقال قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله إليهم نوحا فكان أول نبي بعث ثم بعث بعده النبيين .وقال الكلبي : هم أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح .وروي عن ابن عباس قال : كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفارا كلهم فبعث الله إبراهيم وغيره من النبيين وقيل: كان العرب على دين إبراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي . وروي عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : كان الناس حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أمة واحدة مسلمين كلهم ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم ثم اختلفوا بعد آدم نظيره في سورة يونس " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين " ( 19 - يونس ) وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكورون في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون نبيا ) ( مبشرين ) بالثواب من آمن وأطاع ) ( ومنذرين ) محذرين بالعقاب من كفر وعصى ( وأنزل معهم الكتاب ) أي الكتب تقديره وأنزل مع كل واحد منهم الكتاب ) ( بالحق ) بالعدل والصدق ( ليحكم بين الناس ) قرأ أبو جعفر ) ( ليحكم ) بضم الياء وفتح الكاف هاهنا وفي أول آل عمران وفي النور موضعين لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة إنما ) ( الحكم ) به وقراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف أي ليحكم الكتاب ذكره على سعة الكلام كقوله تعالى " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " ( 29 - الجاثية ) . وقيل معناه ليحكم كل نبي بكتابه ( فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه ) أي في الكتاب ( إلا الذين أوتوه ) أي أعطوا الكتاب ( من بعد ما جاءتهم البينات ) يعني أحكام التوراة والإنجيل قال الفراء : ولاختلافهم معنيان :أحدهما : كفر بعضهم بكتاب بعض قال الله تعالى : " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " ( 150 - النساء ) والآخر : تحريفهم كتاب الله قال الله تعالى : " يحرفون الكلم عن مواضعه " ( 46 - النساء ) وقيل الآية راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب ( من بعد ما جاءتهم البينات ) صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم ) ( بغيا ) ظلما وحسدا ( بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه ) أي لما اختلفوا فيه ( من الحق بإذنه ) بعلمه وإرادته فيهم . قال ابن زيد في هذه الآية : اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس فهدانا الله إلى الكعبة واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأيام فأخذت اليهود السبت والنصارى الأحد فهدانا الله للجمعة واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان نصرانيا فهدانا الله للحق من ذلك واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية وجعلته النصارى إلها وهدانا الله للحق فيه ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .
من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام
قوله تعالى : ( هدى للناس ) هاديا لمن تبعه ولم يثنه لأنه مصدر ( وأنزل الفرقان ) المفرق بين الحق والباطل ، وقال السدي : في الآية تقديم وتأخير تقديرها وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناسقوله تعالى ( إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام )
ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدىهدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم
قوله تعالى ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) هذا متصل بالأول من قول اليهود بعضهم لبعض ( ولا تؤمنوا ) أي لا تصدقوا ( إلا لمن تبع دينكم ) وافق ملتكم واللام في " لمن " صلة ، أي لا تصدقوا إلا من تبع دينكم اليهودية كقوله تعالى : " قل عسى أن يكون ردف لكم " ( 72 - النحل ) أي : ردفكم ( قل إن الهدى هدى الله ) هذا خبر من الله عز وجل أن البيان بيانه ثم اختلفوا : فمنهم من قال : كلام معترض بين كلامين ، وما بعده متصل بالكلام الأول ، إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض ، ومعناه : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب والحكمة والآيات من المن والسلوى وفلق البحر وغيرها من الكرامات ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم وهذا معنى قول مجاهد .وقيل: إن اليهود قالت لسفلتهم ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) من العلم أي : لئلا يؤتى أحد ، و " لا " فيه مضمرة ، كقوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا ( النساء - 176 ) أي : لئلا تضلوا ، يقول : لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم في العلم ، ولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا : عرفتم أن ديننا حق ، وهذا معنى قول ابن جريج .وقرأ الحسن والأعمش ( إن يؤتى ) بكسر الألف ، فيكون قول اليهود تاما عند قوله : ( إلا لمن تبع دينكم ) وما بعده من قول الله تعالى يقول : قل يا محمد ( إن الهدى هدى الله أن يؤتى ) أن بمعنى الجحد ، أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ( أو يحاجوكم عند ربكم ) يعني : إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا : نحن أفضل منكم ، فقوله عز وجل ( عند ربكم ) أي عند فضل ربكم بكم ذلك ، وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن والكلبي ومقاتل . وقال الفراء : ويجوز أن يكون أو بمعنى حتى كما يقال : تعلق به أو يعطيك حقك أي حتى يعطيك حقك ، ومعنى الآية : ما أعطي أحد مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكموقرأ ابن كثير ( آن يؤتى ) بالمد على الاستفهام وحينئذ يكون فيه اختصار تقديره : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونه ولا تؤمنون به؟ هذا قول قتادة والربيع وقالا هذا من قول الله تعالى يقول : قل لهم يا محمد ( إن الهدى هدى الله ) بأن أنزل كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا حسدتموه وكفرتم به( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) قوله أو يحاجوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين وتكون " أو " بمعنى أن لأنهما حرفا شرط وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر أي وإن يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم فقل يا محمد : إن الهدى هدى الله ونحن عليه ، ويجوز أن يكون الجميع خطابا للمؤمنين ، ويكون نظم الآية : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين حسدوكم فقل ( إن الفضل بيد الله ) وإن حاجوكم ( قل إن الهدى هدى الله )ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله ( لعلهم يرجعون ) وقوله تعالى : ( ولا تؤمنوا ) كلام الله يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم ، يقول لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم ، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم في دينكم عند ربكم أو يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله ، و ( إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) فتكون الآية كلها خطاب الله للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا .
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين
قوله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ) سبب [ نزول هذه الآية ] أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم ، وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين )( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ) وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس .واختلف العلماء في قوله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق [ السماء ] والأرض ، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي .وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض ، روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة أن يطوفوا به ، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثاله وقدره ، فبنوا واسمه الضراح ، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام ، وكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم ، قالت الملائكة : بر حجك يا آدم حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض ، وقيل: هو أول بيت مبارك وضع [ في الأرض ] هدى للناس ، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب ، قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة وقيل: أول بيت وضع للناس يحج إليه . وقيل: أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه : أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني المساجد .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، أنا الأعمش ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي ، عن أبيه ، قال سمعت أبا ذر يقول : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال : " المسجد الحرام ، قلت ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى قلت : كم كان بينهما؟ قال : أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فإن الفضل فيه " .قوله تعالى : ( للذي ببكة ) قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سبد رأسه وسمده وضربة لازب ولازم ، وقال الآخرون : بكة موضع البيت ومكة اسم البلد كله .وقيل: بكة موضع البيت والمطاف ، سميت بكة : لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضا ، ويصلي بعضهم بين يدي بعض ويمر بعضهم بين يدي بعض .وقال عبد الله بن الزبير : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله .وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها من قول العرب : مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها .( مباركا ) نصب على الحال أي : ذا بركة ( وهدى للعالمين ) لأنه قبلة المؤمنين
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا
قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) اختلفوا فيهما فقال عكرمة : هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله ، وقال أبو عبيدة : هما كل معبود يعبد من دون الله . قال الله تعالى " أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ( النحل - 36 ) ، وقال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان . وهو قول الشعبي ومجاهد . وقيل: الجبت : الأوثان ، والطاغوت : شياطين الأوثان . ولكل صنم شيطان ، يعبر عنه ، فيغتر به الناس . وقال محمد بن سيرين ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الساحر . وقال سعيد بن جبير وأبو العالية : الجبت : الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت : الكاهن . وروي عن عكرمة : الجبت بلسان الحبشة : شيطان .وقال الضحاك : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف . دليله قوله تعالى : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ( النساء - 60 ) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق أنا معمر عن عوف العبدي عن حيان عن قطن بن قبيصة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " .وقيل: الجبت كل ما حرم الله ، والطاغوت كل ما يطغي الإنسان .( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) قال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا ذلك ، فذلك قوله تعالى : ( يؤمنون بالجبت والطاغوت )ثم قال كعب لأهل مكة : ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا .ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى طريقة ، نحن أم محمد؟قال كعب : اعرضوا علي دينكم .فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث .فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد فأنزل الله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) يعني : كعبا وأصحابه ( يؤمنون بالجبت والطاغوت ) يعني : الصنمين ( ويقولون للذين كفروا ) أبي سفيان وأصحابه ( هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ( سبيلا ) دينا .
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا
قوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول ) نزلت في طعمة بن أبيرق وذلك أنه لما ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة ، فهرب إلى مكة وارتد عن الدين ، فقال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول ) أي : يخالفه ، ( من بعد ما تبين له الهدى ) التوحيد والحدود ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) [ أي : غير طريق المؤمنين ( نوله ما تولى ) أي : نكله في الآخرة ] إلى ما تولى في الدنيا ، ( ونصله جهنم وساءت مصيرا )روي أن طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن علاط ، فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع أن يدخل ولا أن يخرج حتى أصبح ، فأخذ ليقتل ، فقال بعضهم : دعوه فإنه قد لجأ إليكم فتركوه فأخرجوه من مكة ، فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام ، فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب ، فطلبوه وأخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه ، فصار قبره تلك الحجارة ، وقيل: إنه ركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ ، فألقي في البحر ، وقيل: إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنما إلى أن مات فأنزل الله تعالى فيه :
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
قوله عز وجل : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ) أي : أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ( سورة البقرة ، 131 ) ، وكما قال : وله أسلم من في السماوات والأرض ( سورة آل عمران ، 83 ) ، وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ( سورة المائدة 48 ) .وقال الحسن والسدي : أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ، ذكر بلفظ الجمع كما قال : " إن إبراهيم كان أمة قانتا " ( سورة النحل 120 ) .وقوله تعالى : ( للذين هادوا ) فيه تقديم وتأخير ، تقديره : فيها هدى ونور للذين هادوا . ثم قال : يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون ، وقيل: هو على موضعه ، ومعناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، كما قال : " وإن أسأتم فلها " ( سورة الإسراء 7 ) أي : فعليها ، وقال : " أولئك لهم اللعنة " ( سورة الرعد ، 25 ) أي : عليهم ، وقيل: فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارا .( والربانيون والأحبار ) يعني العلماء : واحدهم حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، والكسر أفصح ، وهو العالم المحكم للشيء ، قال الكسائي وأبو عبيد : هو من الحبر الذي يكتب به وقال قطرب هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال بفتح الحاء وكسرها ، وفي الحديث " يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره " أي : حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين ، فسمي العالم حبرا لما عليه من جمال العلم وبهائه ، وقيل: الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود ، وقيل: كلاهما من اليهود .قوله عز وجل : ( بما استحفظوا من كتاب الله ) أي : استودعوا من كتاب الله ، ( وكانوا عليه شهداء ) أنه كذلك .( فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال قتادة والضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة . روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين ، وقيل: هي على الناس كلهم .وقال ابن عباس وطاوس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، بل إذا فعله فهو به كافر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر .قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال عكرمة معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق .وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات ، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه ، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ، ثم لم يحكم بجميع ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء : هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدا ، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا .
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين
قوله تعالى : ( وقفينا على آثارهم ) أي : على آثار النبيين الذين أسلموا ، ( بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه ) أي : في الإنجيل ، ( هدى ونور ومصدقا ) يعني الإنجيل ، ( لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين )
وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين
( وإن كان كبر عليك إعراضهم ) أي : عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص ، وكانوا إذ سألوا آية أحب أن يريهم الله تعالى ذلك طمعا في إيمانهم ، فقال الله عز وجل : ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا ) تطلب وتتخد نفقا سربا ( وفي الأرض ) ومنه نافقاء اليربوع ، وهو أحد جحريه فيذهب فيه ، ( أو سلما ) أي : درجا ومصعدا ، ( في السماء ) فتصعد فيه ، ( فتأتيهم بآية ) فافعل ، ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) فآمنوا كلهم ، ( فلا تكونن من الجاهلين ) أي : بهذا الحرف ، وهو قوله : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) وأن من يكفر لسابق علم الله فيه .