سورة المائدة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 119 من المصحف
الآيتان: 65 - 66 {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون}
قوله تعالى: "ولو أن أهل الكتاب" (أن) في موضع رفع، وكذا "ولو أنهم أقاموا التوراة". "آمنوا" صدقوا. "واتقوا" أي الشرك والمعاصي. "لكفرنا عنهم" اللام جواب (لو). وكفرنا غطينا، وقد تقدم. وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما؛ وقد تقدم هذا المعنى في (البقرة) مستوفى. "وما أنزل إليهم من ربهم" أي القرآن. وقيل: كتب أنبيائهم. "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" قال ابن عباس وغيره: يعني المطر والنبات؛ وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب. وقيل: المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولأكلوا أكلا متواصلا؛ وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا؛ ونظير هذه الآية "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" [الطلاق: 2] ، "وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا" [الجن: 16] "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"[الأعراف:96] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال: "لئن شكرتم لأزيدنكم" [إبراهيم: 7] ، ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا - وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبدالله بن سلام - اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما. وقد: أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين، والله أعلم. والاقتصاد الاعتدال في العمل؛ وهو من القصد، والقصد إتيان الشيء؛ تقول: قددته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى. "ساء ما يعملون" أي بئس شيء عملوه؛ كذبوا الرسل، وحرفوا الكذب وأكلوا السحت.
الآية: 67 {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}
قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". قيل: معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله سرا؛ وفي ذلك نزلت: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" [الأنفال: 64] فدلت الآية على رد قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين؛ لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل: "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها. وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم؛ قال ابن عباس: المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته؛ وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه؛ وفي صحيح مسلم من مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب؛ والله تعالى يقول: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه.
قوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" فيه دليل على نبوته؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال: [الله] ؛ فذعرت يد الأعرابي وسقط السيف من يده؛ وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه؛ ذكره المهدوي. وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال: وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث بن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله: "إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" [المائدة: 11] مستوفى، وفي "النساء" أيضا في ذكر صلاة الخوف. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: غزونا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف مصلتا في يده فقال لي: من يمنعك مني - قال - قلت الله ثم قال في الثانية من يمنعك مني - قال - قلت الله قال فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعر فت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية) وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: "والله يعصمك من الناس" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس فلا احتاج إلى من يحرسني].
قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال: [ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة] قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح؛ فقال: [من هذا] ؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما جاء بك] ؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام. وفي غير الصحيح قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال: [من هذا] ؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك؛ فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة آدم وقال: [انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله].
وقرأ أهل المدينة: "رسالته" على الجميع. وأبو عمرو وأهل الكوفة: "رسالته" على التوحيد؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" [إبراهيم: 34]. "إن الله لا يهدي القوم الكافرين" أي لا يرشدهم وقد تقدم. وقيل: أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره "ما على الرسول إلا البلاغ" [المائدة:99] والله أعلم.
الآية: 68 {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين}
قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تُقر أن التوراة حق من عند الله؟ قال: [بلى]. فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها؛ فنزلت الآية؛ أي لستم على شيء من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه السلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما؛ وقال أبو علي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما.
قوله تعالى: "وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا" أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم. والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه. وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى. ومنه قوله تعالى: "كلا إن الإنسان ليطغى" [العلق: 6] أي يتجاوز الحد في الخروج عن الحق.
قوله تعالى: "فلا تأس على القوم الكافرين" أي لا تحزن عليهم. أسي يأسى أسى إذا حزن. قال:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن الحزن؛ لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. وقد مضى هذا المعنى في آخر (آل عمران) مستوفى.
الآية: 69 {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته. "والذين هادوا" معطوف، وكذا "والصابئون" معطوف على المضمر في "هادوا" في قول الكسائي والأخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين؛ إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع في "والصابئون" لأن "إن" ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر؛ و"الذين" هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام. قال الزجاج: وسبيل ما يتبين فيه الإعراب وما لا يتبين فيه الإعراب واحد. وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير؛ والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك. وأنشد سيبويه وهو نظيره:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقال ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقيل: "إن" بمعنى "نعم" فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات:
بكر العواذل في الصباح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنه
قال الأخفش: (إنه) بمعنى (نعم)، وهذه (الهاء) أدخلت للسكت.
الآية: 70 {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون}
قوله تعالى: "لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا" قد تقدم في (البقرة) معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به. والمعنى في هذه الآية لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود. وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله: "أوفوا بالعقود" [المائدة: 1]. "كلما جاءهم" أي اليهود "رسول بما لا تهوى أنفسهم" لا يوافق هواهم "فريقا كذبوا وفريقا يقتلون" أي كذبوا فريقا وقتلوا فريقا؛ فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء. وإنما قال: "يقتلون" لمراعاة رأس الآية. وقيل: أراد فريقا كذبوا، وفريقا قتلوا، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر. وقيل: فريقا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و"يقتلون" نعت لفريق. والله أعلم.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 119
119- تفسير الصفحة رقم119 من المصحفالآيتان: 65 - 66 {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون}
قوله تعالى: "ولو أن أهل الكتاب" (أن) في موضع رفع، وكذا "ولو أنهم أقاموا التوراة". "آمنوا" صدقوا. "واتقوا" أي الشرك والمعاصي. "لكفرنا عنهم" اللام جواب (لو). وكفرنا غطينا، وقد تقدم. وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما؛ وقد تقدم هذا المعنى في (البقرة) مستوفى. "وما أنزل إليهم من ربهم" أي القرآن. وقيل: كتب أنبيائهم. "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" قال ابن عباس وغيره: يعني المطر والنبات؛ وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب. وقيل: المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولأكلوا أكلا متواصلا؛ وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا؛ ونظير هذه الآية "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" [الطلاق: 2] ، "وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا" [الجن: 16] "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"[الأعراف:96] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال: "لئن شكرتم لأزيدنكم" [إبراهيم: 7] ، ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا - وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبدالله بن سلام - اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما. وقد: أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين، والله أعلم. والاقتصاد الاعتدال في العمل؛ وهو من القصد، والقصد إتيان الشيء؛ تقول: قددته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى. "ساء ما يعملون" أي بئس شيء عملوه؛ كذبوا الرسل، وحرفوا الكذب وأكلوا السحت.
الآية: 67 {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}
قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". قيل: معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله سرا؛ وفي ذلك نزلت: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" [الأنفال: 64] فدلت الآية على رد قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين؛ لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل: "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها. وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم؛ قال ابن عباس: المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته؛ وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه؛ وفي صحيح مسلم من مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب؛ والله تعالى يقول: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه.
قوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" فيه دليل على نبوته؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال: [الله] ؛ فذعرت يد الأعرابي وسقط السيف من يده؛ وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه؛ ذكره المهدوي. وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال: وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث بن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله: "إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" [المائدة: 11] مستوفى، وفي "النساء" أيضا في ذكر صلاة الخوف. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: غزونا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف مصلتا في يده فقال لي: من يمنعك مني - قال - قلت الله ثم قال في الثانية من يمنعك مني - قال - قلت الله قال فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعر فت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية) وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: "والله يعصمك من الناس" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس فلا احتاج إلى من يحرسني].
قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال: [ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة] قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح؛ فقال: [من هذا] ؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما جاء بك] ؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام. وفي غير الصحيح قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال: [من هذا] ؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك؛ فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة آدم وقال: [انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله].
وقرأ أهل المدينة: "رسالته" على الجميع. وأبو عمرو وأهل الكوفة: "رسالته" على التوحيد؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" [إبراهيم: 34]. "إن الله لا يهدي القوم الكافرين" أي لا يرشدهم وقد تقدم. وقيل: أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره "ما على الرسول إلا البلاغ" [المائدة:99] والله أعلم.
الآية: 68 {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين}
قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تُقر أن التوراة حق من عند الله؟ قال: [بلى]. فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها؛ فنزلت الآية؛ أي لستم على شيء من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه السلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما؛ وقال أبو علي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما.
قوله تعالى: "وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا" أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم. والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه. وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى. ومنه قوله تعالى: "كلا إن الإنسان ليطغى" [العلق: 6] أي يتجاوز الحد في الخروج عن الحق.
قوله تعالى: "فلا تأس على القوم الكافرين" أي لا تحزن عليهم. أسي يأسى أسى إذا حزن. قال:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن الحزن؛ لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. وقد مضى هذا المعنى في آخر (آل عمران) مستوفى.
الآية: 69 {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته. "والذين هادوا" معطوف، وكذا "والصابئون" معطوف على المضمر في "هادوا" في قول الكسائي والأخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين؛ إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع في "والصابئون" لأن "إن" ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر؛ و"الذين" هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام. قال الزجاج: وسبيل ما يتبين فيه الإعراب وما لا يتبين فيه الإعراب واحد. وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير؛ والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك. وأنشد سيبويه وهو نظيره:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقال ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقيل: "إن" بمعنى "نعم" فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات:
بكر العواذل في الصباح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنه
قال الأخفش: (إنه) بمعنى (نعم)، وهذه (الهاء) أدخلت للسكت.
الآية: 70 {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون}
قوله تعالى: "لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا" قد تقدم في (البقرة) معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به. والمعنى في هذه الآية لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود. وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله: "أوفوا بالعقود" [المائدة: 1]. "كلما جاءهم" أي اليهود "رسول بما لا تهوى أنفسهم" لا يوافق هواهم "فريقا كذبوا وفريقا يقتلون" أي كذبوا فريقا وقتلوا فريقا؛ فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء. وإنما قال: "يقتلون" لمراعاة رأس الآية. وقيل: أراد فريقا كذبوا، وفريقا قتلوا، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر. وقيل: فريقا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و"يقتلون" نعت لفريق. والله أعلم.
الصفحة رقم 119 من المصحف تحميل و استماع mp3