تفسير الطبري تفسير الصفحة 119 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 119
120
118
 الآية : 65
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتّقَوْاْ لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ }..
يقول تعالـى ذكره: ولَوْ أنّ أهْلَ الكِتابِ وهم الـيهود والنصارى, آمَنُوا بـالله وبرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم فصدّقوه واتبعوه وما أنزل علـيه. وَاتّقَوْا ما نهاهم الله عنه فـاجتنبوه. لَكَفّرْنا عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ يقول: مـحونا عنهم ذنوبهم, فغطينا علـيها ولـم نفضحهم بها. ولأَدْخَـلْناهُمْ جَنّاتِ النّعِيـمِ يقول: ولأدخـلناهم بساتـين ينعمون فـيها فـي الاَخرة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9643ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلَوْ أنّ أهْلَ الكِتابِ آمَنوا واتّقَوْا يقول: آمنوا بـما أنزل الله, واتقوا ما حرّم الله. لَكَفّرْنا عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ.
الآية : 66
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمّةٌ مّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }..
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْـجِيـلَ ولو أنهم عملوا بـما فـي التوراة والإنـجيـل, وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ يقول: وعملوا بـما أنزل إلـيهم من ربهم من الفرقان الذي جاءهم به مـحمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: وكيف يقـيـمون التوراة والإنـجيـل وما أنزل إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم, مع اختلاف هذه الكتب ونسخ بعضها بعضا؟ قـيـل: وإن كانت كذلك فـي بعض أحكامها وشرائعها, فهي متفقة فـي الأمر بـالإيـمان برسل الله والتصديق بـما جاءت به من عند الله فمعنى إقامتهم التوراة والإنـجيـل وما أنزل إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم تصديقهم بـما فـيها والعمل بـما هي متفقة فـيه وكلّ واحد منها فـي الـخبر الذي فرض العمل به.
وأما معنى قوله: لاَءَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ فإنه يعنـي: لأنزل الله علـيهم من السماء قطرها, فأنبتت لهم به الأرض حبها ونبـاتها فأخرج ثمارها.
وأما قوله: وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ فإنه يعنـي تعالـى ذكره: لأكلوا من بركة ما تـحت أقدامهم من الأرض, وذلك ما تـخرجه الأرض من حبها ونبـاتها وثمارها, وسائر ما يؤكل مـما تـخرجه الأرض.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9644ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْـجِيـلَ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعنـي: لأرسل السماء علـيهم مدرارا. وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ: تـخرج الأرض بركتها.
9645ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْـجِيـلَ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ يقول: إذا لأعطتهم السماء بركتها والأرض نبـاتها.
9646ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْـجِيـلَ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ يقول: لو عملوا بـما أنزل إلـيهم مـما جاءهم به مـحمد صلى الله عليه وسلم, لأنزلنا علـيهم الـمطر فأنبت الثمر.
9647ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْـجِيـلَ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ أما إقامتهم التوراة: فـالعمل بها, وأما ما أنزل إلـيهم من ربهم: فمـحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل علـيه. يقول: لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ أما من فوقهم: فأرسلت علـيهم مطرا, وأما من تـحت أرجلهم, يقول: لأنبتّ لهم من الأرض من رزقـي ما يغنـيهم.
9648ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قوله: لاَءَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ قال: بركات السماء والأرض. قال ابن جريج: لأكلوا من فوقهم الـمطر, ومن تـحت أرجلهم من نبـات الأرض.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ يقول: لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء, ومِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ يقول: من الأرض.
وكان بعضهم يقول: إنـما أريد بقوله: لاَءَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَـحْتِ أرْجُلِهِمْ التوسعة, كما يقول القائل: هو فـي خير من فَرْقه إلـى قدمه. وتأويـل أهل التأويـل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول, وكفـى بذلك شهيدا علـى فساده.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِـيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: مِنْهُمْ أُمّةٌ: منهم جماعة. مُقْتَصِدَةٌ يقول: مقتصدة فـي القول فـي عيسى ابن مريـم قائلة فـيه الـحقّ إنه رسول الله وكلـمته ألقاها إلـى مريـم وروح منه, لا غالـية قائلة إنه ابن الله, تعالـى عما قالوا من ذلك ولا مقصرة قائلة هو لغير رشدة. وكَثِـيرٌ مِنْهُمْ يعنـي من بنـي إسرائيـل من أهل الكتاب, الـيهود والنصارى. ساءَ ما يَعْمَلُونَ يقول: كثـير منهم سيىء عملهم, وذلك أنهم يكفرون بـالله, فتكذّب النصارى بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وتزعم أن الـمسيح ابن الله, وتكذّب الـيهود بعيسى وبـمـحمد صلـى الله علـيهما, فقال الله تعالـى فـيهم ذامّا لهم: ساءَ ما يَعْمَلُونَ فـي ذلك من فعلهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9649ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وهم مسلـمة أهل الكتاب وَكَثِـيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ.
9650ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, قال: حدثنا عبد الله بن كثـير, أنه سمع مـجاهدا يقول: تفرّقت بنو إسرائيـل فرقا, فقالت فرقة: عيسى هو ابن الله, وقالت فرقة: هو الله, وقالت فرقة: هو عبد الله وروحه وهي الـمقتصدة, وهي مسلـمة أهل الكتاب.
9651ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال الله: مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ: يقول: علـى كتابه وأمره. ثم ذمّ أكثر القوم, فقال: وَكَثِـيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ.
9652ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يقول: مؤمنة.
9653ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِـيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ قال: الـمقتصدة أهل طاعة الله. قال: وهؤلاء أهل الكتاب.
9654ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, فـي قوله: مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِـيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ قال: فهذه الأمة الـمقتصدة الذين لا هم فسقوا فـي الدين ولا هم غلوْا. قال: والغلوّ: الرغبة, والفسق: التقصير عنه.
الآية : 67
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَـَأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }..
وهذا أمر من الله تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, بإبلاغ هؤلاء الـيهود والنصارى من أهل الكتابـين الذين قصّ الله تعالـى قصصهم فـي هذه السورة وذكر فـيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم علـى ربهم وتوثبهم علـى أنبـيائهم وتبديـلهم كتابه وتـحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر الـمشركين غيرهم, ما أنزل علـيه فـيهم من معايبهم والإزراء علـيهم والتقصير بهم والتهجين لهم, وما أمرهم به ونهاهم عنه, وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه فـي نفسه مكروه, ما قام فـيهم بأمر الله, ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه, وأن لا يتقـى أحدا فـي ذات الله, فإن الله تعالـى كافـيه كلّ أحد من خـلقه, ودافعٌ عنه مكروه كل من يتقـي مكروهه. وأعلـمه تعالـى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مـما أنزل إلـيه إلـيهم, فهو فـي تركه تبلـيغ ذلك وإن قلّ ما لـم يبلغ منه, فهو فـي عظيـم ما ركب بذلك من الذنب بـمنزلته لو لـم يبلغ من تنزيـله شيئا.
وبـما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9655ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَـمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ يعنـي: إن كتـمت آية مـما أنزل علـيك من ربك, لـم تبلغ رسالتـي.
9656ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ... الاَية, أخبر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفـيه الناس ويعصمه منهم, وأمره بـالبلاغ. ذكِر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قـيـل له: لو احتـجبت فقال: «واللّهِ لأُبْدِيَنّ عَقِبـي للنّاسِ ما صَاحَبْتُهُمْ».
9657ـ حدثنـي الـحارث بن مـحمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان الثوريّ, عن رجل, عن مـجاهد, قال: لـما نزلت: بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ قال: «إنّـما أنا وَاحِدٌ, كَيْفَ أصْنَعُ؟ تَـجْتَـمِعُ علـيّ الناسُ» فنزلت: وَإنْ لَـمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ... الاَية.
9658ـ حدثنا هناد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن ثعلبة, عن جعفر, عن سعيد بن جبـير, قال: لـمّا نزلت: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَـمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ واللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَـحْرُسُونِـي إنّ رَبـيّ قَدْ عَصَمَنِـي».
9659ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن عُلَـية, عن الـجريري, عن عبد الله بن شقـيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه, فلـما نزلت: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ خرج فقال: «يا أيّها النّاسُ الْـحَقُوا بِـمَلاحِقِكُمْ, فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِـي مِنَ النّاسِ».
9660ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن عاصم بن مـحمد, عن مـحمد بن كعب القرظي, قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يتـحارسه أصحابه, فأنزل الله: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَـمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رَسالَتَهُ... إلـى آخرها.
9661ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم, قال: حدثنا الـحارث بن عبـيدة أبو قدامة الإيادي, قال: حدثنا سعيد الـجريري, عن عبد الله بن شقـيق, عن عائشة, قالت: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يُحرس, حتـى نزلت هذه الاَية: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ قالت: فأخرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة, فقال: «أيّها النّاسُ انْصَرِفُوا, فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِـي».
9662ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم, عن القرظي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحرس حتـى أنزل الله: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ.
واختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية, فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابـيّ كان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكفـاه الله إياه. ذكر من قال ذلك:
9663ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي وغيره, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظلـيـلة, فـيقـيـل تـحتها, فأتاه أعرابـي, فـاخترط سيفه ثم قال: من يـمنعك منـي؟ قال: «الله». فرعدت يد الأعرابـي, وسقط السيف منه. قال: وضرب برأسه الشجرة حتـى انتثر دماغه, فأنزل الله: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ.
وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشا, فأومن من ذلك. ذكر من قال ذلك:
9664ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يهاب قريشا, فلـما نزلت: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ استلقـى ثم قال: «مَنْ شاءَ فَلْـيَخْذُلْنِـي» مرّتـين أو ثلاثا.
9665ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن أبـي خالد, عن عامر, عن مسروق, قال: قالت عائشة: من حدّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتـم شيئا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: «يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ... الاَية.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن الـمغيرة, عن الشعبـيّ, قال: قالت عائشة: من قال إن مـحمدا صلى الله عليه وسلم كتـم فقد كذب وأعظم الفرية علـى الله, قال الله: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ... الاَية.
حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا داود بن أبـي هند, عن الشعبـيّ, عن مسروق, قال: قال عائشة: من زعم أن مـحمدا صلى الله عليه وسلم كتـم شيئا من كتاب الله فقد أعظم علـى الله الفرية, والله يقول: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّك... الاَية.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي اللـيث, قال: ثنـي خالد, عن سعيد بن أبـي هلال, عن مـحمد بن الـحميـم, عن مسروق بن الأجدع, قال: دخـلت علـى عائشة يوما, فسمعتها تقول: لقد أعظم الفرية من قال: إن مـحمدا كتـم شيئا من الوحي, والله يقول: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ.
ويعنـي بقوله: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ: يـمنعك من أن ينالوك بسوء, وأصله من عصام القربة, وهو ما توكأ به من سير وخيط, ومنه قول الشاعر:
وَقُلْتُ عَلَـيْكُمْ مالِكا إنّ مالِكاسيَعْصِمُكْم إنْ كانَ فِـي النّاسِ عاصِمُ
يعنـي: يـمنعكم. وأما قوله: إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ فإنه يعنـي: إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبـيـل الـحقّ وجار عن قصد السبـيـل وجحد ما جئته به من عند الله, ولـم ينته إلـى أمر الله وطاعته فـيـما فرض علـيه وأوجبه.
الآية : 68
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ يَـَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىَ شَيْءٍ حَتّىَ تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُمْ مّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }..
وهذا أمر من الله تعالـى ذكره نبـيه صلى الله عليه وسلم بـابلاغ الـيهود والنصارى الذين كانوا بـين ظهرانـيْ مهاجره, يقول تعالـى ذكره له: قل يا مـحمد لهؤلاء الـيهود والنصارى: يا أَهْلَ الكِتابِ التوراة والإنـجيـل, لستـم علـى شيء مـما تدّعون أنكم علـيه مـما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم معشر الـيهود, ولا مـما جاءكم به عيسى معشر النصارى, حتـى تقـيـموا التوراة والإنـجيـل وما أنزل إلـيكم من ربكم ما جاءكم به مـحمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان, فتعملوا بذلك كله وتؤمنوا بـما فـيه من الإيـمان بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه, وتقرّوا بأن كلّ ذلك من عند الله, فلا تكذبوا بشيء منه ولا تفرّقوا بـين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض, فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه, لأن كتب الله يصدّق بعضها بعضا, فمن كذّب ببعضها فقد كذّب بجميعها. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك جاء الأثر:
9666ـ حدثنا هناد بن السريّ وأبو كريب, قالا: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـي زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة, وسلام بن مِشْكم, ومالك بن الصيف, ورافع بن حريـملة, فقالوا: يا مـحمد ألست تزعم أنك علـى ملة إبراهيـم ودينه, وتؤمن بـما عندنا من التوراة, وتشهد أنها من الله حقّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلـى, ولَكِنّكُمْ أحْدَثْتُـمْ وجَحَدْتُـمْ ما فِـيها مِـمّا أُخِذَ عَلَـيْكُمْ مِنَ الـمِيثاقِ, وكَتَـمْتُـمْ مِنْها ما أمِرْتُـمْ أنْ تُبَـيّنُوهُ للنّاسِ, وأنا بَرِيءٌ مِنْ أحْداثِكُمْ» قالُوا: فإنّا نَأْخُذُ بـما فـي أيدينا, فإنا علـى الـحقّ والهدى, ولا نؤمن بك ولا نتبعك. فأنزل الله: قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لَسْتُـمْ علـى شَيْءٍ حتـى تِقِـيـمُوا التّوْرَاةَ, والإنْـجِيـلِ وَما أُنْزِلَ إلَـيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ... إلـى: فَلا تَأْسَ علـى القَوْمِ الكافِرِينَ.
9667ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لَسْتُـمْ علـى شَيْءٍ حتـى تُقِـيـمُوا التّوْرَاةَ والإنْـجِيـلَ وَما أُنْزِلَ إلَـيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ قال: فقد صرنا من أهل الكتاب التوراة للـيهود والإنـجيـل للنصارى. وما أنزل إلـيكم من ربكم, وما أنزل إلـينا من ربنا. أي لستـم علـى شيء حتـى تقـيـموا حتـى تعملوا بـما فـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ولَـيزِيدَنّ كَثِـيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا فَلا تَأْسَ علـى القَوْمِ الكافِرِينَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ولَـيزِيدَنّ كَثِـيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا: وأقسم لـيزيدنّ كثـيرا من هؤلاء الـيهود والنصارى الذين قصّ قصصهم فـي هذه الاَيات الكتابُ الذي أنزلته إلـيك يا مـحمد طغيانا, يقول: تـجاوزا وغلوّا فـي التكذيب لك علـى ما كانوا علـيه لك من ذلك قبل نزول الفرقان, كُفْرا يقول: وجحودا لنبوّتك. وقد أتـينا علـى البـيان عن معنى الطغيان فـيـما مضى قبل.
وأما قوله: فَلا تَأْسَ علـى القَوْمِ الكافِرِينَ يعنـي: يقول فَلا تَأْس فلا تـحزن, يقال: أسِيَ فلان علـى كذا: إذا حزن يأسَى أسًى, ومنه قول الراجز:
(وانْـخَـلَبتْ عَيْناهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى )
يقول تعالـى ذكره لنبـيه: لا تـحزن يا مـحمد علـى تكذيب هؤلاء الكفـار من الـيهود والنصارى من بنـي إسرائي لك, فإن مثل ذلك منهم عادة وخـلق فـي أنبـيائهم, فكيف فـيك؟.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
9668ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَلَـيزِيدَنّ كَثِـيرا مِنْهُمْ أُنْزِلَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا قال: الفرقان. يقول: فلا تـحزن.
9669ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: فَلا تَأْسَ علـى القَوْمِ الكافِرِينَ قاال: لا تـحزن.
الآية : 69
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: إن الذين صدّقوا الله ورسوله, وهم أهل الإسلام, والّذين هَادُوا وهم الـيهود والصابئون. وقد بـينا أمرهم. والنّصَارى مَنْ آمَنَ بـاللّه والـيَوْمِ الاَخِرِ فصدّق بـالبعث بعد الـمـمات, وعمل من العمل صالـحا لـمعاده, فلا خَوْفٌ علـيهم فـيـما قدّموا علـيه من أهوال القـيامة, ولا هُمْ يَحْزَنُونَ علـى ما خـلفوا وراءهم من الدنـيا وعيشها بعد معاينتهم ما أمرمهم الله به من جزيـل ثوابه. وقد بـينا وجه الإعراب فـيه فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته.
الآية : 70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: أقسم لقد أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل علـى الإخلاص وتوحيدنا, والعمل بـما أمرناهم به, والانتهاء عما نهيناهم عنه وأرسلنا إلـيهم بذلك رسلاً, ووعدناهم علـى ألسن رسلنا إلـيهم علـى العمل بطاعتنا الـجزيـل من الثواب, وأوعدناهم علـى العمل بـمعصيتنا الشديد من العقاب, كلـما جاءهم رسول لنا بـما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق مـحبتهم كذبوا منهم فريقا ويقتلون منهم فريقا, نقضا لـميثاقنا الذي أخذناه علـيهم, وجراءة علـينا وعلـى خلاف أمرنا