تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 12 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 12

12- تفسير الصفحة رقم12 من المصحف
قوله تعالى: "أفلا تعقلون" قيل: هو من قول الأحبار للأتباع. وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال، ثم وبخهم توبيخا يتلى فقال: "أولا يعلمون" الآية. فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع. وقرأ الجمهور "يعلمون" بالياء، وابن محيصن بالتاء، خطابا للمؤمنين. والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه الجحد به.
الآية: 78 {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون}
قوله تعالى: "ومنهم أميون" أي من اليهود. وقيل: من اليهود والمنافقين أميون، أي من لا يكتب ولا يقرأ، واحدهم أمي، منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، ومنه قوله عليه السلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) الحديث. وقد قيل لهم إنهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب، عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب. عكرمة والضحاك: هم نصارى العرب. وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين. علي رضي الله عنه: هم المجوس. قلت: والقول الأول أظهر، والله اعلم.
قوله تعالى: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني" "إلا" ههنا بمعنى لكن، فهو استثناء منقطع، كقوله تعالى: "وما لهم به من علم إلا اتباع الظن" [النساء: 157]. وقال النابغة:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج "إلا أماني" خفيفة الياء، حذفوا إحدى الياءين استخفافا. قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد، فلك فيه التشديد والتخفيف، مثل أثافي وأغاني وأماني، ونحوه. وقال الأخفش: هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفاتيح ومفاتح، وهي ياء الجمع. قال النحاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال الشاعر:
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
والأماني جمع أمنية وهي التلاوة، وأصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية، ومنه قوله تعالى: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" [الحج: 52] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقال كعب بن مالك:
تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل
والأماني أيضا الأكاذيب، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت. وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته؟ أي افتعلته. وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد "أماني" في الآية. والأماني أيضا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه. قال قتادة: "إلا أماني" يعني انهم يتمنون على الله ما ليس لهم. وقيل: الأماني التقدير، يقال: منى له أي قدر، قال الجوهري، وحكاه ابن بحر، وأنشد قول الشاعر:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني
أي يقدر لك المقدر.
قوله تعالى: "وإن هم" "إن" بمعنى ما النافية، كما قال تعالى: "إن الكافرون إلا في غرور" [الملك: 20]. قوله تعالى: "إلا يظنون" يكذبون ويحدثون، لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرؤون به. قال أبو بكر الأنباري: وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا، وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله عز وجل "وإن هم إلا يظنون" أراد إلا يكذبون.
الآية: 79 {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}
قوله تعالى: "فويل" "فويل" اختلف في الويل ما هو، فروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار. وروى أبو سعيد الخدري أن الويل واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا. وروى سفيان وعطاء بن يسار: أن الويل في هذه الآية واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وقيل: صهريج في جهنم. وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جهنم. وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب. وقال الخليل: الويل شدة الشر. الأصمعي: الويل تفجع وترحم. سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلكة. ابن عرفة: الويل الحزن: يقال: تويل الرجل إذا دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه، ومنه قوله: "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم" [البقرة: 79]. وقيل: أصله الهلكة، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى: "يا ويلتنا مال هذا الكتاب" [الكهف: 49]. وهي الويل والويلة، وهما الهلكة، والجمع الويلات، قال:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
وقال أيضا:
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وارتفع "ويل" بالابتداء، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء. قال الأخفش: ويجوز النصب على إضمار فعل، أي ألزمهم الله ويلا. وقال الفراء: الأصل في الويل "وي" أي حزن، كما تقول: ويل لفلان، أي حزن له، فوصلته العرب باللام وقدروها منه فأعربوها. والأحسن فيه إذا فصل عن الإضافة الرفع، لأنه يقتضي الوقوع. ويصح النصب على معنى الدعاء، كما ذكرنا.
قال الخليل: ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويل وويب، وكله يتقارب في المعنى. وقد فرق بينها قوم، وهي مصادر لم تنطلق العرب منها بفعل. قال الجرمي: ومما ينتصب انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه، فإذا أدخلت اللام رفعت فقلت: ويل له، وويح له.
قوله تعالى: "للذين يكتبون الكتاب" الكتابة معروفة. وأول من كتب بالقلم وخط به إدريس عليه السلام، وجاء ذلك في حديث أبي ذر، خرجه الآجري وغيره. وقد قيل: إن آدم عليه السلام أعطي الخط فصار وراثة في ولده.
قوله تعالى: "بأيديهم" تأكيد، فإنه قد علم أن الكتب لا يكون إلا باليد، فهو مثل قوله: "ولا طائر يطير بجناحيه" [الأنعام: 38]، وقوله: "يقولون بأفواههم "[آل عمران: 167]. وقيل: فائدة "بأيديهم" بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم، فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله وإن كان رأيا له وقال ابن السراج: "بأيديهم" كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم.
في هذه الآية والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع، فكل من بدل وغير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ولا يجوز فيه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الأليم، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لما قد علم ما يكون في آخر الزمان فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) الحديث، وسيأتي. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيضلوا به الناس، وقد وقع ما حذره وشاع، وكثر وذاع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: نعت الله تعالى أحبارهم بأنهم يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق: "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم" [البقرة: 79] الآية. وذلك أنه لما درس الأمر فيهم، وساءت رعية علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم هذا من عند الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: لا يضرنا ذنب، فنحن أحباؤه وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك! وإنما كان في التوراة "يا أحباري ويا أبناء رسلي" فغيروه وكتبوا "يا أحبائي ويا أبنائي" فأنزل الله تكذيبهم: "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم" [المائدة: 18]. فقالت: لن يعذبنا الله، وإن عذبنا فأربعين يوما مقدار أيام العجل، فأنزل الله تعالى: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا" [البقرة: 80] قال ابن مقسم: يعني توحيدا، بدليل قوله تعالى: "إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا" [مريم: 87] يعني لا إله إلا الله "فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون" [البقرة: 80] ثم أكذبهم فقال: "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون". [البقرة: 81 - 82]. فبين تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والإيمان، لا بما قالوه.
قوله تعالى: "ليشتروا به ثمنا قليلا" وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة، إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ربعة أسمر، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء رياسة ومكاسب، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم، فمن ثم غيروا.
قوله تعالى: "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" قيل من المآكل. وقيل من المعاصي. وكرر الويل تغليظا لفعلهم.
الآية: 80 {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون}
قوله تعالى: "وقالوا" يعني اليهود. "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" اختلف، في سبب نزولها، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: (من أهل النار). قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم. فقال: (كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم) فنزلت هذه الآية، قال ابن زيد. وقال عكرمة عن ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، وإنما هي سبعة أيام، فأنزل الله الآية، وهذا قول مجاهد. وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم. ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعن ابن عباس: زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم. وقالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن اليهود قالت إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، فأكذبهم الله، كما تقدم.
في هذه الآية رد على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله عليه السلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، قالوا: لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ولا يقال فيه أيام، وإنما يقال أيام من الثلاثة إلى العشرة، قال الله تعالى: "فصيام ثلاثة أيام في الحج" [البقرة. 196]، "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام" [هود: 65]، "سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما" [هود: 7].
فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: "أياما معدودات" يعني جميع الشهر، وقال: "لن تمسنا النار إلا أياما معدودات" [آل عمران: 24] يعني أربعين يوما. وأيضا فإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك، وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد، ولعله أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع، فخرج عليه، والله اعلم.
قوله تعالى: "قل أتخذتم" تقدم القول في "اتخذ" فلا معنى لإعادته.
قوله تعالى: "عند الله عهدا" أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار! أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم. قوله تعالى: "فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع.
الآية: 81 {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}
قوله تعالى: "بلى" أي ليس الأمر كما ذكرتم. قال سيبويه: ليس "بلى" و"نعم" اسمين. وإنما هما حرفان مثل "بل" وغيره، وهي رد لقولهم: إن تمسنا النار. وقال الكوفيون: أصلها بل التي للإضراب عن الأول، زيدت عليها الياء ليحسن الوقف، وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام. فـ "بل" تدل على رد الجحد، والياء تدل على الإيجاب لما بعد. قالوا: ولو قال قائل: ألم تأخذ دينارا؟ فقلت: نعم، لكان المعنى لا، لم آخذ، لأنك حققت النفي وما بعده. فإذا قلت: بلى، صار المعنى قد أخذت. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الآخر: نعم، كان ذلك تصديقا، لأن لا شيء له عليه، ولو قال: بلى، كان ردا لقوله، وتقديره: بلى لي عليك. وفي التنزيل "ألست بربكم قالوا بلى" [الأعراف: 172] ولو قالوا نعم لكفروا.
قوله تعالى: "سيئة" السيئة الشرك. قال ابن جريج قلت لعطاء: "من كسب سيئة"؟ قال: الشرك، وتلا "ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار". وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة.
لما قال تعالى: "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته" دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" [فصلت: 30]، وقوله عليه السلام لسفيان بن عبدالله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: (قل آمنت بالله ثم استقم). رواه مسلم. وقد مضى القول في هذا المعنى وما للعلماء فيه عند قوله تعالى لآدم وحواء: "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" [البقرة: 35]. وقرأ نافع "خطيئاته" بالجمع، الباقون بالإفراد، والمعنى الكثرة، مثل قوله تعالى: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها".
الآية: 82 {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}
فسرت هذه الآية في موضع قبل هذا.
الآية: 83 {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون}
قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل" تقدم الكلام في بيان هذه الألفاظ. واختلف في الميثاق هنا، فقال مكي: هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم.
قوله تعالى: "لا تعبدون إلا الله" وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه. "لا تعبدون" قال سيبويه: "لا تعبدون" متعلق بقسم، والمعنى وإذ استخلفناهم والله لا تعبدون، وأجازه المبرد والكسائي والفراء. وقرأ أبي وابن مسعود "لا تعبدوا" على النهي، ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال: "وقوموا، وقولوا، وأقيموا، وآتوا". وقيل: هو في موضع الحال، أي أخذنا ميثاقهم موحدين، أو غير معاندين، قاله قطرب والمبرد أيضا. وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي "يعبدون" بالياء من أسفل. وقال الفراء والزجاج وجماعة: المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله، وبأن يحسنوا للوالدين، وبألا يسفكوا الدماء، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما، كقوله تعالى: "أفغير الله تأمروني". قال المبرد: هذا خطأ، لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا، تقول: وبلد قطعت، أي رب بلد.
قلت: ليس هذا بخطأ، بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد سيبويه:
ألا أيها ذا الزاجري أحْضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بالنصب والرفع، فالنصب على إضمار أن، والرفع على حذفها.
قوله تعالى: "وبالوالدين إحسانا" أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا. وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني - وهو التربية - من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: "أن اشكر لي ولوالديك" [لقمان: 14]. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما، على ما يأتي بيانه مفصلا في "الإسراء" إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "وذي القربى" عطف ذي القربى على الوالدين. والقربى: بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم. وسيأتي بيان هذا مفصلا في سورة "القتال" إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "واليتامى" اليتامى عطف أيضا، وهو جمع يتيم، مثل ندمى جمع نديم. واليتم في بني آدم بفقد الأب، وفي البهائم بفقد الأم. وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم، والأول المعروف. وأصله الانفراد، يقال: صبي يتيم، أي منفرد من أبيه. وبيت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر. ودرة يتيمة: ليس لها نظير. وقيل: أصله الإبطاء، فسمي به اليتيم، لأن البر يبطئ عنه. ويقال: يتم ييتم يتما، مثل عظم يعظم. ويتم ييتم يتْما ويتَما، مثل سمع يسمع، ذكر الوجهين الفراء. وقد أيتمه الله. ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله، على ما يأتي بيانه في "النساء". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة). وأشار مالك بالسبابة والوسطى، رواه أبو هريرة وأخرجه مسلم. وخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل قال حدثنا الأسود بن عبدالرحمن عن هِصّان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان). وخرج أيضا من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه - قالوا: وما كريمتاه؟ قال: - عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن أو يمتن غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر) فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال: يا رسول الله أو اثنتين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو اثنتين). فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال: هذا والله من غرائب الحديث وغرره.
السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة، لأنهم كانوا يسبون بها، فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة، لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد. وتسمى أيضا بالسباحة، جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره، ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت. وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبدالله بن مقسم الطائفي قال حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه. فقوله عليه السلام: (أنا وهو كهاتين في الجنة)، وقوله في الحديث الآخر: (أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا) وأشار بأصابعه الثلاث، فإنما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق فقال: نحشر هكذا ونحن مشرفون وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة. فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة. وهذا معنى بعيد، لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة، ومنازل مختلفة.
قوله تعالى: "والمساكين" "المساكين" عطف أيضا أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم. وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء. روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال - وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر). قال ابن المنذر: وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.
قوله تعالى: "وقولوا للناس حسنا" "حسنا" نصب على المصدر على المعنى، لأن المعنى ليحسن قولكم. وقيل: التقدير وقولوا للناس قولا ذا حسن، فهو مصدر لا على المعنى. وقرأ حمزة والكسائي "حسنا" بفتح الحاء والسين. قال الأخفش: هما بمعنى واحد، مثل البُخل والبَخل، والرشد والرشد. وحكى الأخفش: "حسنى" بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: "وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو الفضلى والكبرى والحسنى، هذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر "حسنا" بضمتين، مثل "الحلم". قال ابن عباس: المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها. ابن جريج: قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيروا نعته. سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به. وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: "فقولا له قولا لينا" [طه: 44]. فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: "وقولوا للناس حسنا". فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟؟. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: (لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء). وقيل: أراد بالناس محمدا صلى الله عليه وسلم، كقوله: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" [النساء: 54]. فكأنه قال: قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم حسنا. وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله: "وقولوا للناس حسنا" منسوخ بآية السيف. وحكاه أبو نصر عبدالرحيم عن ابن عباس. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الابتداء ثم نسختها آية السيف. قال ابن عطية: وهذا يدل على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، والله اعلم.
قوله تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" تقدم القول فيه. والخطاب لبني إسرائيل. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يتقبل، ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا يحتاج إلى نقل، كما ثبت ذلك في الغنائم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص.
قوله تعالى: "ثم توليتم" الخطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم، كما قال: "شنشنة أعرفها من أخزم". "إلا قليلا منكم" كعبدالله بن سلام وأصحابه. و"قليلا" نصب على الاستثناء، والمستثنى عند سيبويه منصوب، لأنه مشبه بالمفعول. وقال محمد بن يزيد: هو مفعول على الحقيقة، المعنى استثنيت قليلا. "وأنتم معرضون" ابتداء وخبر. والإعراض والتولي بمعنى واحد، مخالف بينهما في اللفظ. وقيل: التولي فيه بالجسم، والإعراض بالقلب. قال المهدوي: "وأنتم معرضون" حال، لأن التولي فيه دلالة على الإعراض.