سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 12 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 12
013
011
الآية : 77
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: أو لا يَعْلَـمُونَ أَنّ اللّهَ يَعْلَـمُ مَا يُسِرّونَ ومَا يُعْلِنُونَ أو لا يعلـم هؤلاء اللائمون من الـيهود إخوانهم من أهل ملتهم, علـى كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا, وعلـى إخبـارهم الـمؤمنـين بـما فـي كتبهم من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومبعثه, القائلون لهم: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لـيُحاجوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أن الله عالـم بـما يسرّون فـيخفونه عن الـمؤمنـين فـي خلائهم من كفرهم وتلاومهم بـينهم علـى إظهارهم ما أظهروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللـمؤمنـين به من الإقرار بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وعلـى قـيـلهم لهم آمنا, ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا الـمؤمنـين بـما فتـح الله للـمؤمنـين علـيهم, وقضى لهم علـيهم فـي كتبهم من حقـيقة نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه, وما يعلنون فـيظهرونه لـمـحمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الـمؤمنـين به إذا لقوهم من قـيـلهم لهم: آمنا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به نفـاقا وخداعا لله ولرسوله وللـمؤمنـين. كما:
993ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما يُسِرّونَ من كفرهم وتكذيبهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم إذا خلا بعضهم إلـى بعض, وما يُعْلِنُونَ إذا لقوا أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم قالوا آمنا لـيرضوهم بذلك.
994ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ يعنـي ما أسرّوا من كفرهم بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به, وهم يجدونه مكتوبـا عندهم. وَما يُعْلِنُونَ يعنـي ما أعلنوا حين قالوا للـمؤمنـين آمنا.
الآية : 78
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: ومِنْهُمْ أُمّيون ومن هؤلاء الـيهود الذين قصّ الله قصصهم فـي هذه الاَيات, وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيـمانهم, فقال لهم: أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وهم إذا لقوكم قالوا آمنا. كما:
995ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ يعنـي من الـيهود.
996ـ وحدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
997ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: أناس من يهود.
قال أبو جعفر: يعنـي بـالأميـين: الذين لا يكتبون ولا يقرءون, ومنه قول النبـي صلى الله عليه وسلم: «إِنّا أُمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَـحْسُبُ» يقال منه رجل أميّ بـيّن الأمية. كما:
998ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنـي سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن سفـيان, عن منصور عن إبراهيـم: وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتَابَ قال: منهم من لا يحسن أن يكتب.
999ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: ومِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: أميون لا يقرءون الكتاب من الـيهود.
ورُوي عن ابن عبـاس قول خلاف هذا القول, وهو ما:
1000ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: الأميون قوم لـم يصدّقوا رسولاً أرسله الله, ولا كتابـا أنزله الله, فكتبوا كتابـا بأيديهم, ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم, ثم سماهم أميـين لـجحودهم كتب الله ورسله.
وهذا التأويـل تأويـل علـى خلاف ما يعرف من كلام العرب الـمستفـيض بـينهم, وذلك أن الأميّ عند العرب هو الذي لا يكتب.
قال أبو جعفر: وأرى أنه قـيـل للأمي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلـى أمه, لأن الكتاب كان فـي الرجال دون النساء, فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلـى أمه فـي جهله بـالكتابة دون أبـيه كما ذكرنا عن النبـي صلى الله عليه وسلم من قوله: «إنّا أمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَـحْسُبُ» وكما قال: هُوَ الّذِي بَعَثَ فِـي أُلامّيَـينَ رَسُولاً مِنْهُمْ فإذا كان معنى الأمي فـي كلام العرب ما وصفنا, فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية ما قاله النـخعي من أن معنى قوله: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ: ومنهم من لا يحسن أن يكتب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِـيّ.
يعنـي بقوله: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتَابَ لا يعلـمون ما فـي الكتاب الذي أنزله الله ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم, كالذي:
1001ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِـيّ إنـما هم أمثال البهائم لا يعلـمون شيئا.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتاب يقول: لا يعلـمون الكتاب ولا يدرون ما فـيه.
1002ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لا يَدْرُونَ ما فـيه.
1003ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ قال: لا يدرون بـما فـيه.
1004ـ حدثنا بشر, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لا يعلـمون شيئا, لا يقرءون التوراة لـيست تستظهر إنـما تقرأ هكذا, فإذا لـم يكتب أحدهم لـم يستطع أن يقرأ.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله.
قال أبو جعفر: وإنـما عنى بـالكتاب: التوراة, ولذلك أدخـلت فـيه الألف واللام لأنه قصد به كتاب معروف بعينه. ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون ولا يدرون ما فـي الكتاب الذي عرفتـموه الذي هو عندهم وهم ينتـحلونه ويدعون الإقرار به من أحكام الله وفرائضه وما فـيه من حدوده التـي بـينها فـيه إِلاّ أمانِـيّ فقال بعضهم بـما:
1005ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس إلا أمانـي يقول إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذبـا حدثنـي مـحمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد لا يعلـمون الكتاب إلا أمانـي إلا حدثنـي الـمثنـي قال حدثنا أبو حذيفز قال حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله وقال آخرون بـما حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة الأمانـي يقول يتـمنون علـى الدر البـاطل وما لـيس لهم حدثنـي الـمثنـي قال حدثنا أبو صالـح عن علـي بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قوله لا يعلـمون الكتاب إلا أمانـي يقول إلا أحاديث.
1006ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ قال: أناس من يهود لـم يكونوا يعلـمون من الكتاب شيئا, وكانوا يتكلـمون بـالظنّ بغير ما فـي كتاب الله, ويقولون هو من الكتاب, أمانـيّ يتـمنونها.
1007ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: إلاّ أمانِـيّ يتـمنون علـى الله ما لـيس لهم.
1008ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: إلاّ أمانِـيّ قال: تـمنوا فقالوا: نـحن من أهل الكتاب. ولـيسوا منهم.
وأولـى ما روينا فـي تأويـل قوله: إلاّ أمانِـيّ بـالـحقّ وأشبهه بـالصواب, الذي قاله ابن عبـاس, الذي رواه عنه الضحاك, وقول مـجاهد: إن الأميـين الذين وصفهم الله بـما وصفهم به فـي هذه الآية أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله علـى موسى شيئا, ولكنهم يتـخرّصون الكذب ويتقوّلون الأبـاطيـل كذبـا وزورا. والتـمنـي فـي هذا الـموضع, هو تـخـلق الكذب وتـخرّصه وافتعاله, يقال منه: تـمنـيت كذا: إذا افتعلته وتـخرّصته. ومنه الـخبر الذي رُوي عن عثمان بن عفـان رضي الله عنه: «ما تغنّـيت ولا تـمنـيت». يعنـي بقوله ما تـمنـيت: ما تـخرّصت البـاطل ولا اختلقت الكذب والإفك.
والذي يدلّ علـى صحة ما قلنا فـي ذلك وأنه أولـى بتأويـل قوله: إلاّ أمانِـيّ من غيره من الأقوال, قول الله جل ثناؤه: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتـمنون ما يتـمنون من الأكاذيب ظنّا منهم لا يقـينا. ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لـم يكونوا ظانـين, وكذلك لو كان معناه: يشتهونه لأن الذي يتلوه إذا تدبره علـمه, ولا يستـحقّ الذي يتلو كتابـا قرأه وإن لـم يتدبره بتركه التدبـير أن يقال: هو ظانّ لـما يتلو إلا أن يكون شاكّا فـي نفس ما يتلوه لا يدري أحقّ هو أم بـاطل. ولـم يكن القوم الذين كانوا يتلون التوراة علـى عصر نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم من الـيهود فـيـما بلغنا شاكين فـي التوراة أنها من عند الله. وكذلك الـمتـمنـي الذي هو فـي معنى الـمتشهي غير جائز أن يقال: هو ظانّ فـي تـمنـيه, لأن التـمنـي من الـمتـمنـي إذا تـمنى ما قد وجد عينه, فغير جائز أن يقال: هو شاك فـيـما هو به عالـم لأن العلـم والشك معنـيان ينفـي كل واحد منهما صاحبه لا يجوز اجتـماعهما فـي حيز واحد, والـمتـمنـي فـي حال تـمنـيه موجود غير جائز أن يقال: هو يظنّ تـمنـيه. وإنـما قـيـل: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ والأمانـي من غير نوع الكتاب, كما قال ربنا جل ثناؤه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ إلاّ اتّبـاعَ الظّنّ والظنّ من العلـم بـمعزل, وكما قال: وَما لأِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُـجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ أَلاعْلَـى. وكما قال الشاعر:
لَـيْسَ بَـيْنِـي وَبَـينَ قَـيْسٍ عِتابُغيرَ طَعْنِ الكُلَـى وَضَرْبِ الرّقابِ
وكما قال نابغة بنـي ذبـيان:
حَلَفْتُ يَـمِينا غيرَ ذِي مَثْنَوِيّةٍوَلا عِلْـمَ إلاّ حُسْنَ ظَنّ بِغائِبِ
فـي نظائر لـما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب. ويخرج ب«إلاّ» ما بعدها من معنى ما قبلها, ومن صفته, وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الاَخر ومن غير نوعه, ويسمي ذلك بعض أهل العربـية استثناء منقطعا لانقطاع الكلام الذي يأتـي بعد إلا عن معنى ما قبلها. وإنـما يكون ذلك كذلك فـي كل موضع حسن أن يوضع فـيه مكان «إلا» «لكن», فـيعلـم حينئذ انقطاع معنى الثانـي عن معنى الأول, ألا ترى أنك إذا قلت: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ ثم أردت وضع «لكن» مكان «إلا» وحذف «إلا», وجدت الكلام صحيحا معناه صحته وفـيه «إلا»؟ وذلك إذا قلت: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لكن أمانـي, يعنـي لكنهم يتـمنون, وكذلك قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ إلاّ اتّبـاعَ الظّنّ لكن اتبـاع الظنّ, بـمعنى: لكنهم يتبعون الظنّ, وكذلك جميع هذا النوع من الكلام علـى ما وصفنا.
وقد ذكر عن بعض القرّاء أنه قرأ: «إلاّ أمانِـيَ» مخففة, ومن خفف ذلك وجهه إلـى نـحو جمعهم الـمفتاح مفـاتـح, والقرقور قراقر, وأن ياء الـجمع لـما حذفت خففت الـياء الأصلـية, أعنـي من الأمانـي, كما جمعوا الأثفـية أثافـي مخففة, كما قال زهير بن أبـي سلـمى:
أثَافِـيَ سُفْعا فِـي مُعَرّسِ مِرَجَلٍونُؤْيا كجِذْمِ الـحَوْضِ لَـمْ يَتَثَلّـمِ
وأما من ثقل: أمانِـيّ فشدّد ياءها فإنه وجه ذلك إلـى نـحو جمعهم الـمفتاح مفـاتـيح, والقرقور قراقـير, والزنبور زنابـير, فـاجتـمعت ياء فعالـيـل ولامها وهما جميعا ياءان, فأدغمت إحداهما فـي الأخرى فصارتا ياء واحدة مشددة.
فأما القراءة التـي لا يجوز غيرها عندي لقارىء فـي ذلك فتشديد ياء الأمانـيّ, لإجماع القرّاء علـى أنها القراءة التـي مضى علـى القراءة بها السلف مستفـيض, ذلك بـينهم غير مدفوعة صحته, وشذوذ القارىء بتـخفـيفها عما علـيه الـحجة مـجمعة فـي ذلك وكفـى خطأ علـى قارىء ذلك بتـخفـيفها إجماعا علـى تـخطئته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ.
يعنـي بقوله جل ثناءه: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّون «وما هم» كما قال جل ثناؤه: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَـحْنُ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعنـي بذلك: ما نـحن إلا بشر مثلكم. ومعنى قوله: إلاّ يَظُنّونَ ألا يشكون ولا يعلـمون حقـيقته وصحته, والظنّ فـي هذا الـموضع الشك, فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخطّ ولا يعلـم كتاب الله ولا يدري ما فـيه إلا تـخرّصا وتقوّلاً علـى الله البـاطل ظنا منه أنه مـحقّ فـي تـخرّصه وتقوّله البـاطل. وإنـما وصفهم الله تعالـى ذكره بأنهم فـي تـخرصهم علـى ظنّ أنهم مـحقون وهم مبطلون, لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبـارهم أمورا حسبوها من كتاب الله, ولـم تكن من كتاب الله, فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بـالذي يوقنون به أنه من عند الله مـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم, ويتبعون ما هم فـيه شاكون, وفـي حقـيقته مرتابون مـما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبـارهم عنادا منهم لله ولرسوله, ومخالفة منهم لأمر الله واغترارا منهم بإمهال الله إياهم. وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ قال فـيه الـمتأوّلون من السلف.
1009ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ: إلا يكذبون.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
1010ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ وإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ أي لا يعلـمون ولا يدرون ما فـيه, وهم يجحدون نبوّتك بـالظنّ.
1011ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ قال: يظنون الظنون بغير الـحقّ.
1012ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: يظنون الظنون بغير الـحقّ.
1013ـ حدثت عن عمارة, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
الآية : 79
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَـَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فوَيْـلٌ. فقال بعضهم بـما:
1014ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق عن الضحاك, عن ابن عبـاس فَوَيْـلٌ لَهُمْ يقول: فـالعذاب علـيهم.
وقال آخرون بـما:
1015ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن زياد بن فـياض, قال: سمعت أبـا عياض يقول: الويـل: ما يسيـل من صديد فـي أصل جهنـم.
حدثنا بشر بن أبـان الـحطاب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن زياد بن فـياض, عن أبـي عياض فـي قوله: فَوَيْـلٌ قال: صهريج فـي أصل جهنـم يسيـل فـيه صديدهم.
حدثنا علـيّ بن سهل الرملـي, قال: حدثنا زيد بن أبـي الزرقاء, قال: حدثنا سفـيان بن زياد بن فـياض, عن أبـي عياض, قال: الويـل واد من صديد فـي جهنـم.
1016ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن شقـيق قال: وَيْـلٌ: ما يسيـل من صديد فـي أصل جهنـم.
وقال آخرون بـما:
1017ـ حدثنا به الـمثنى, قال: حدثنا إبراهيـم بن عبد السلام بن صالـح التستري, قال: حدثنا علـيّ بن جرير, عن حماد بن سلـمة بن عبد الـحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفـان, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «الوَيْـلُ جَبَلٌ فِـي النّارِ».
1018ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنـي عمرو بن الـحارث, عن دراج, عن أبـي الهيثم, عن أبـي سعيد, عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: «وَيْـلٌ وَادٍ فـي جَهَنّـمَ يَهْوِي فـيهِ الكافِرُ أرْبَعِينَ خَرِيفـا قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ إلـى قَعْرِهِ».
قال أبو جعفر: فمعنى الآية علـى ما روي عمن ذكرت قوله فـي تأويـل وَيْـلٌ فـالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنـم فـي أسفل الـجحيـم للـيهود الذين يكتبون البـاطل بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِـيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً.
يعنـي بذلك: الذين حرّفوا كتاب الله من يهود بنـي إسرائيـل وكتبوا كتابـا علـى ما تأولوه من تأويلاتهم مخالفـا لـما أنزل الله علـى نبـيه موسى صلى الله عليه وسلم ثم بـاعوه من قوم لا علـم لهم بها ولا بـما فـي التوراة جهال بـما فـي كتب الله لطلب عرض من الدنـيا خسيس فقال الله لهم فويـل لهم مـما كتبت أيديهم وويـل لهم مـما يكسبون. كما حدثنـي موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسبـاط عن السدي فويـل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله لـيشتروا به ثمنا قلـيلاً قال كان ناس من الـيهود كتبوا كتابـا من عندهم يبـيعون من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله لـيأخذوا به ثمنا قلـيلاً.
1019ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: الأميون قوم لـم يصدّقوا رسولاً أرسله الله, ولا كتابـا أنزله الله فكتبوا كتابـا بأيديهم ثم قالو لقوم سفلة جهال هذا من عند الله لـيشتروا به ثمنا قلـيلاً قال عرضا من عروض الدنـيا.
الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية قوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِـيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً قال: عمدوا إلـى ما أنزل الله فـي كتابهم من نعت مـحمد صلى الله عليه وسلم, فحرّفوه عن مواضعه يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنـيا, فقال: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ.
1020ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إبراهيـم بن عبد السلام, قال: حدثنا علـي بن جرير, عن حماد بن سلـمة, عن عبد الـحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفـان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ: «الويـل: جبل فـي النار». وهو الذي أنزل فـي الـيهود لأنهم حرّفوا التوراة, وزادوا فـيها ما يحبون, ومـحوا منها ما يكرهون, ومـحوا اسم مـحمد صلى الله عليه وسلم من التوراة, فلذلك غضب الله علـيهم فرفع بعض التوراة فقال: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ.
1021ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي سعيد بن أبـي أيوب, عن مـحمد بن عجلان, عن زيد بن أسلـم, عن عطاء بن يسار, قال: وَيْـلٌ: واد فـي جهنـم لو سيرت فـيه الـجبـال لانـماعت من شدّة حرّه.
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكُتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ؟ وهل تكون الكتابة بغير الـيد حتـى احتاج الـمخاطب بهذه الـمخاطبة إلـى أن يخبروا عن هؤلاء القوم الذين قصّ الله قصتهم أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟ قـيـل له: إن الكتاب من بنـي آدم وإن كان منهم بـالـيد, فإنه قد يضاف الكتاب إلـى غير كاتبه وغير الـمتولـي رسم خطه, فـيقال: كتب فلان إلـى فلان بكذا, وإن كان الـمتولـي كتابته بـيده غير الـمضاف إلـيه الكتاب, إذا كان الكاتب كتبه بأمر الـمضاف إلـيه الكتاب. فأعلـم ربنا بقوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ عبـاده الـمؤمنـين أن أحبـار الـيهود تلـي كتابة الكذب والفرية علـى الله بأيديهم علـى علـم منهم وعمد للكذب علـى الله ثم تنـحله إلـى أنه من عند الله وفـي كتاب الله تكذّبـا علـى الله وافتراء علـيه. فنفـى جل ثناؤه بقوله: يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ أن يكون ولـي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علـمائهم وأحبـارهم. وذلك نظير قول القائل: بـاعنـي فلان عينه كذا وكذا, فـاشترى فلان نفسه كذا, يراد بإدخال النفس والعين فـي ذلك نفـي اللبس عن سامعه أن يكون الـمتولـي بـيع ذلك وشراءه غير الـموصوف به بأمره, ويوجب حقـيقة الفعل للـمخبر عنه فكذلك قوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ أي فـالعذاب فـي الوادي السائل من صديد أهل النار فـي أسفل جهنـم لهم, يعنـي للذين يكتبون الكتاب الذي وصفنا أمره من يهود بنـي إسرائيـل مـحرّفـا, ثم قالوا: هذا من عند الله ابتغاء عرض من الدنـيا به قلـيـل مـمن يبتاعه منهم. وقوله: مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِم يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك وَوَيْـلٌ لَهُمْ أيضا مِـمّا يَكْسِبُونَ يعنـي مـما يعملون من الـخطايا, ويجترحون من الاَثام, ويكسبون من الـحرام بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم, بخلاف ما أنزل الله, ثم يأكلون ثمنه وقد بـاعوه مـمن بـاعوه منهم علـى أنه من كتاب الله. كما:
1022ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ يعنـي من الـخطيئة.
1023ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: فَوَيْـلٌ لَهُمْ يقول: فـالعذاب علـيهم قال: يقول من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ يقول: مـما يأكلون به من السفلة وغيرهم.
قال أبو جعفر: وأصل الكسب: العمل, فكل عامل عملاً بـمبـاشرة منه لـما عمل ومعاناة بـاحتراف, فهو كاسب لـما عمل, كما قال لبـيد بن ربـيعة:
لِـمُعَفّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شَلْوَهُغُبْسٌ كَواسِبُ لا يُـمَنّ طَعامُها
الآية : 80
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
يعنـي بقوله: وقَالُوا الـيهود, يقول: وقالت الـيهود: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ, يعنـي لن تلاقـي أجسامنا النار, ولن ندخـلها إلا أياما معدودة. وإنـما قـيـل معدودة وإن لـم يكن مبـينا عددها فـي التنزيـل لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام التـي يوقتونها لـمكثهم فـي النار, فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام وسماها معدودة لـما وصفنا.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي مبلغ الأيام الـمعدودة التـي عينها الـيهود القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك. فقال بعضهم بـما:
1024ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً قال ذلك أعداء الله الـيهود, قالوا: لن يدخـلنا الله النار إلا تَـحِلّةَ القسم الأيام التـي أصبنا فـيها العجل أربعين يوما, فإذا انقضت عنا تلك الأيام, انقطع عنا العذاب والقسم.
1025ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً قالوا: أياما معدودة بـما أصبنا فـي العجل.
1026ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: قالت الـيهود: إن الله يدخـلنا النار فنـمكث فـيها أربعين لـيـلة, حتـى إذا أكلت النار خطايانا واسْتَنْقَتْنا, نادى منادٍ: أخرجوا كلّ مختون من ولد بنـي إسرائيـل, فلذلك أمرنا أن نـختتن. قالوا: فلا يدعون منّا فـي النار أحدا إلا أخرجوه.
1027ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: قالت الـيهود: إن ربنا عتب علـينا فـي أمرنا, فأقسم لـيعذّبنا أربعين لـيـلة, ثم يخرجنا. فأكذبهم الله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن قتادة, قال: قالت الـيهود: لن ندخـل النار إلا تـحلّة القسم, عدد الأيام التـي عبدنا فـيها العجل.
1028ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الآية. قال ابن عبـاس: ذكر أن الـيهود وجدوا فـي التوراة مكتوبـا: «إن ما بـين طرفـي جهنـم مسيرة أربعين سنة إلـى أن ينتهوا إلـى شجرة الزقوم نابتة فـي أصل الـجحيـم». وكان ابن عبـاس يقول: إن الـجحيـم سَقَر, وفـيه شجرة الزقّوم, فزعم أعداء الله أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا فـي كتابهم أياما معدودة. وإنـما يعنـي بذلك الـمسير الذي ينتهي إلـى أصل الـجحيـم, فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل فلا عذاب وتذهب جهنـم وتهلك فذلك قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عبـاس: لـما اقتـحموا من بـاب جهنـم ساروا فـي العذاب, حتـى انتهوا إلـى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام الـمعدودة, قال لهم خزّان سقر: زعمتـم أنكم لن تـمسكم النار إلا أياما معدودة, فقد خلا العدد وأنتـم فـي الأبد فأخذ بهم فـي الصّعود فـي جهنـم يرهقون.
1029ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً إلا أربعين لـيـلة.
1030ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا حفص بن عمر, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, قال: خاصمت الـيهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخـل النار إلا أربعين لـيـلة, وسيخـلفنا فـيها قوم آخرون يعنون مـحمدا وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بـيده علـى رءوسهم: «بَلْ أَنْتُـمْ فِـيها خَالِدُونَ لاَ يَخْـلُفُكُمْ فِـيها أحَدٌ» فأنزل الله جل ثناؤه: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, قال: اجتـمعت يهود يوما تـخاصم النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً وسموا أربعين يوما ثم يخـلفنا أو يـلـحقنا فـيها أناس فأشاروا إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَذَبْتُـمْ, بَلْ أنْتُـمْ فِـيها خَالِدُونَ مُخَـلّدُونَ لاَ نَلْـحَقُكُمْ وَلا نَـخْـلُفَكُمْ فِـيها إِنْ شاءَ اللّهُ أبَدا».
1031ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا علـيّ بن معبد, عن أبـي معاوية, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: قالت الـيهود: لا نعذّب فـي النار يوم القـيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العِجْلَ.
1032ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: حدثنـي أبـي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «أَنْشُدُكُمْ بِـاللّهِ وَبِـالتّوْرَاةِ الّتِـي أنْزَلَهَا اللّهُ علـى مُوسَى يَوْمَ طُورِسَيْنَاءَ, مَنْ أَهْلُ النّارِ الّذِينَ أنْزَلَهُمُ اللّهُ فِـي التّوْرَاةِ؟» قالوا: إن ربهم غضب علـيهم غضبة, فنـمكث فـي النار أربعين لـيـلة, ثم نـخرج فتـخـلفوننا فـيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كَذَبْتُـمْ وَاللّهِ لا نَـخْـلَفُكُمْ فِـيها أبَدا». فنزل القرآن تصديقا لقول النبـي صلى الله عليه وسلم, وتكذيبـا لهم: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قُلْ اتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا إلـى قوله: هُمْ فِـيها خالِدُونَ.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
1033ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: كانت يهود يقولون: إنـما مدة الدنـيا سبعة آلاف سنة, وإنـما يعذّب الله الناس يوم القـيامة بكل ألف سنة من أيام الدنـيا يوما واحدا من أيام الاَخرة, وإنها سبعة أيام. فأنزل الله فـي ذلك من قولهم: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الآية.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة ويهود تقول: إنـما مدة الدنـيا سبعة آلاف سنة, وإنـما يعذّب الناس فـي النار بكل ألف سنة من أيام الدنـيا يوما واحدا فـي النار من أيام الاَخرة, فإنـما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ الآية.
1034ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: كانت تقول: إنـما الدنـيا سبعة آلاف سنة, وإنـما نعذّب مكان كل ألف سنة يوما.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله, إلا أنه قال: كانت الـيهود تقول: إنـما الدنـيا, وسائر الـحديث مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً من الدهر, وسموا عدة سبعة آلاف سنة, من كل ألف سنة يوما يهودُ تقول.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا فَلَنْ يُخْـلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أمْ تَقُولُونَ عَلـى اللّهِ مَا لا تَعْلَـمُونَ.
قال أبو جعفر: لـما قالت الـيهود ما قالت من قولها: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً علـى ما قد بـينا من تأويـل ذلك, قال الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لـمعشر الـيهود أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا أخذتـم بـما تقولن من ذلك من الله ميثاقا فـالله لا ينقض ميثاقه ولا يبدل وعده وعقده, أم تقولون علـى الله البـاطل جهلاً وجراءة علـيه؟ كما:
1035ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا أي مَوْثِقا من الله بذلك أنه كما تقولون.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1036ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت الـيهود: لن ندخـل النار إلا تَـحِلّة القسم عدّة الأيام التـي عبدنا فـيها العجل. فقال الله: أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا بهذا الذي تقولونه, ألكم بهذا حجة وبرهان فَلَنْ يَخْـلفَ اللّهُ عَهْدَهُ فهاتوا حجتكم وبرهانكم أمْ تَقُولُونَ عَلـى اللّهِ مَا لا تَعْلَـمُونَ.
1037ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: لـما قالت الـيهود ما قالت, قال الله جل ثناؤه لـمـحمد: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا يقول: أدّخرتـم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتـم لا إلَه إلا الله لـم تشركوا, ولـم تكفروا به؟ فإن كنتـم قلتـموها فـارجوا بها, وإن كنتـم لـم تقولوها فلـم تقولون علـى الله ما لا تعلـمون؟ يقول: لو كنتـم قلتـم لا إلَه إلا الله, ولـم تشركوا به شيئا, ثم متّـم علـى ذلك لكان لكم ذخرا عندي, ولـم أخـلف وعدي لكم أنـي أجازيكم بها.
1038ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي, قال: لـما قالت الـيهود ما قالت, قال الله عز وجل: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا فَلَنْ يُخْـلِفَ اللّه عَهْدَهُ وقال فـي مكان آخر: وَغَرّهُمْ فِـي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. ثم أخبر الـخبر فقال: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً.
وهذه الأقوال التـي رويناها عن ابن عبـاس ومـجاهد وقتادة بنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا لأن مـما أعطاه الله عبـاده من ميثاقه أن من آمن به وأطاع أمره نـجّاه من ناره يوم القـيامة. ومن الإيـمان به الإقرارُ بأن لا إلَه إلا الله, وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به أن من أتـى الله يوم القـيامة بحجة تكون له نـجاة من النار فـينـجيه منها. وكل ذلك وإن اختلفت ألفـاظ قائلـيه, فمتفق الـمعانـي علـى ما قلنا فـيه, والله تعالـى أعلـم.
الآية : 81
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئَتُهُ فَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً تكذيب من الله القائلـين من الـيهود: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً وإخبـار منه لهم أنه يعذّب من أشرك وكفر به وبرسله وأحاطت به ذنوبه فمخـلّدُه فـي النار فإن الـجنة لا يسكنها إلا أهل الإيـمان به وبرسوله, وأهل الطاعة له, والقائمون بحدوده. كما:
1039ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بـمثل ما كفرتـم به حتـى يحيط كفره بـما له من حسنة, فـاولَئِك أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ.
قال: وأما بَلـى فإنها إقرار فـي كل كلام فـي أوله جحد, كما «نعم» إقرار فـي الاستفهام الذي لا جحد فـيه, وأصلها «بل» التـي هي رجوع عن الـجحد الـمـحض فـي قولك: ما قام عمرو بل زيد فزيد فـيها الـياء لـيصلـح علـيها الوقوف, إذ كانت «بل» لا يصلـح علـيها الوقوف, إذْ كانت عطفـا ورجوعا عن الـجحد, ولتكون أعنـي بلـى رجوعا عن الـجحد فقط, وإقرارا بـالفعل الذي بعد الـجحد فدلت الـياء منها علـى معنى الإقرار والإنعام, ودلّ لفظ «بل» عن الرجوع عن الـجحد.
قال: وأما السيئة التـي ذكر الله فـي هذا الـمكان فإنها الشرك بـالله. كما:
1040ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفـيان, قال: حدثنـي عاصم, عن أبـي وائل بَلْـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: الشرك بـالله.
1041ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً شركا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1042ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: أما السيئة فـالشرك.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
1043ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً أما السيئة فهي الذنوب التـي وعد علـيها النار.
1044ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: الشرك.
قال ابن جريج, قال: قال مـجاهد: سَيّئَةً شركا.
1045ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً يعنـي الشرك.
وإنـما قلنا: إن السيئة التـي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته فهو من أهل النار الـمخـلدين فـيها فـي هذا الـموضع, إنـما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض, وإن كان ظاهرها فـي التلاوة عاما, لأن الله قضى علـى أهلها بـالـخـلود فـي النار, والـخـلود فـي النار لأهل الكفر بـالله دون أهل الإيـمان به لتظاهر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيـمان لا يخـلدون فـيها, وأن الـخـلود فـي النار لأهل الكفر بـالله دون أهل الإيـمان به فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: بَلـى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فـاولئِكَ أصحَابُ النارِ هُم فِـيها خالِدُونَ قولَهُ: والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ أُولَئِكَ أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الـخـلود فـي النار من أهل السيئات, غير الذي لهم الـخـلود فـي الـجنة من أهل الإيـمان.
فإن ظنّ ظانّ أن الذين لهم الـخـلود فـي الـجنة من الذين آمنوا هم الذين عملوا الصالـحات دون الذين عملوا السيئات, فإن فـي إخبـار الله أنه مكفر بـاجتنابنا كبـائر ما ننهى عنه سيئاتنا, ومدخـلنا الـمدخـل الكريـم, ما ينبىء عن صحة ما قلنا فـي تأويـل قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً بأن ذلك علـى خاص من السيئات دون عامها.
فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنـما ضمن لنا تكفـير سيئاتنا بـاجتنابنا كبـائر ما ننهى عنه, فما الدلالة علـى أن الكبـائر غير داخـلة فـي قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً؟ قـيـل: لـما صحّ من أن الصغائر غير داخـلة فـيه, وأن الـمعنّى بـالآية خاص دون عام, ثبت وصحّ أن القضاء والـحكم بها غير جائز لأحد علـى أحد إلا علـى من وَقَـفَه الله علـيه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه. وقد ثبت وصحّ أن الله تعالـى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به, بشهادة جميع الأمة, فوجب بذلك القضاء علـى أن أهل الشرك والكفر مـمن عناه الله بـالآية. فأما أهل الكبـائر فإن الأخبـار القاطعة عذر من بلغته قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنـيـين بها, فمن أنكر ذلك مـمن دافع حجة الأخبـار الـمستفـيضة والأنبـاء الـمتظاهرة فـاللازم له ترك قطع الشهادة علـى أهل الكبـائر بـالـخـلود فـي النار بهذه الآية ونظائرها التـي جاءت بعمومهم فـي الوعيد, إذْ كان تأويـل القرآن غير مدرك إلا ببـيان من جَعَلَ اللّهُ إلـيه بـيانَ القرآن, وكانت الآية تأتـي عاما فـي صنف ظاهرها, وهي خاص فـي ذلك الصنف بـاطنها. ويُسئل مدافعوا الـخبر بأن أهل الكبـائر من أهل الاستثناء سؤالنا منكر رجم الزانـي الـمـحصن, وزوال فرض الصلاة عن الـحائض فـي حال الـحيض, فإن السؤال علـيهم نظير السؤال علـى هؤلاء سواء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ اجتـمعت علـيه فمات علـيها قبل الإنابة والتوبة منها. وأصل الإحاطة بـالشيء: الإحداق به بـمنزلة الـحائط الذي تـحاط به الدار فتـحدق به, ومنه قول الله جل ثناؤه: نارا أحاطَ بِهِمْ سُرَادِقُها.
فتأويـل الآية إذا: من أشرك بـالله واقترف ذنوبـا جمة فمات علـيها قبل الإنابة والتوبة, فأولئك أصحاب النار هم فـيها مخـلدون أبدا. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك, قال الـمتأولون. ذكر من قال ذلك:
1046ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي روق, عن الضحاك: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات بذنبه.
1047ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جرير بن نوح, قال: حدثنا الأعمش, عن أبـي رزين, عن الربـيع بن خثـيـم: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات علـيها.
1048ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: أخبرنـي ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: يحيط كفره بـما له من حسنة.
1049ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: ما أوجب الله فـيه النار.
1050ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: أما الـخطيئة فـالكبـيرة الـموجبة.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن قتادة: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الـخطيئة: الكبـائر.
1051ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا وكيع ويحيى بن آدم, عن سلام بن مسكين, قال: سأل رجل الـحسن عن قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فقال: ما ندري ما الـخطيئة يا بنـيّ اتْلُ القرآن, فكل آية وعد الله علـيها النار فهي الـخطيئة.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد فـي قوله: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: كل ذنب مـحيط فهو ما وعد الله علـيه النار.
1052ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي رزين: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات بخطيئته.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا الأعمش, قال: حدثنا مسعود أبو رزين, عن الربـيع بن خثـيـم فـي قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: هو الذي يـموت علـى خطيئته, قبل أن يتوب.
1053ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: قال وكيع: سمعت الأعمش يقول فـي قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ مات بذنوبه.
1054ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الكبـيرة الـموجبة.
1055ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فمات ولـم يتب.
1056ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حسان, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: وأحاطَت بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الشرك, ثم تلا: وَمَنْ جَاءَ بِـالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وجُوهُهُمْ فِـي النّارِ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاولَئِكَ أصحَابُ النّارِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: فأولئك الذين كسبوا السّيئات وأحاطتْ بهم خطيئاتهم أصحاب النار هم فـيها خالدون. ويعنـي بقوله جل ثناؤه: أصحَابُ النّارِ أهل النار وإنـما جعلهم لها أصحابـا لإيثارهم فـي حياتهم الدنـيا ما يوردهموها, ويوردهم سعيرها علـى الأعمال التـي توردهم الـجنة, فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبـابها علـى أسبـاب الـجنة لها أصحابـا, كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته علـى صحبة غيره حتـى يعرف به. هُمْ فِـيها يعنـي فـي النار خالدون, ويعنـي بقوله خالِدُونَ مقـيـمون. كما:
1057ـ حدثنـي مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: هُمْ فِـيها خالِدُونَ: أي خالدون أبدا.
1058ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: هُمْ فِـيها خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا.
الآية : 82
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ويعنـي بقوله: وَالّذِينَ آمَنُوا: أي صدقوا بـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم. ويعنـي بقوله: وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ: أطاعوا الله فأقاموا حدوده, وأدّوا فرائضه, واجتنبوا مـحارمه. ويعنـي بقوله: أُولَئِكَ الذين هم كذلك أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ يعنـي أهلها الذين هم أهلها هم فـيها خالدون, مقـيـمون أبدا. وإنـما هذه الآية والتـي قبلها إخبـار من الله عبـاده عن بقاء النار وبقاء أهلها فـيها, ودوام ما أعدّ فـي كل واحدة منهما لأهلها, تكذيبـا من الله جل ثناؤه القائلـين من يهود بنـي إسرائيـل إن النار لن تـمسهم إلا أياما معدودة, وأنهم صائرون بعد ذلك إلـى الـجنة فأخبرهم بخـلود كفـارهم فـي النار وخـلود مؤمنـيهم فـي الـجنة. كما:
1059ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ أُولَئِكَ أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ أي من آمن بـما كفرتـم به وعمل بـما تركتـم من دينه, فلهم الـجنة خالدين فـيها يخبرهم أن الثواب بـالـخير والشرّ مقـيـم علـى أهله أبدا لا انقطاع له أبدا.
1060ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ مـحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أولئك أصحاب الـجنة هُمْ فِـيها خَالِدُونَ
الآية : 83
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ }
قد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن الـميثاق مفعال, من التوثق بـالـيـمين ونـحوها من الأمور التـي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذا: واذكروا أيضا يا معشر بنـي إسرائيـل إذْ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله. كما:
1061ـ حدثنـي به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ أي ميثاقكم لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ.
قال أبو جعفر: والقراءة مختلفة فـي قراءة قوله: لا تَعْبُدُونَ فبعضهم يقرؤها بـالتاء, وبعضهم يقرؤها بـالـياء, والـمعنى فـي ذلك واحد. وإنـما جازت القراءة بـالـياء والتاء وأن يقال: «لا تعبدون», و«لا يعبدون» وهم غَيَب لأن أخذ الـميثاق بـمعنى الاستـحلاف, فكما تقول: استـحلفت أخاك لـيقومنّ, فتـخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك, وتقول: استـحلفته لتقومنّ, فتـخبر عنه خبرك عن الـمخاطب لأنك قد كنت خاطبته بذلك, فـيكون ذلك صحيحا جائزا, فكذلك قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِـي إِسْرَائِيـلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ و«لا يعبدون». من قرأ ذلك بـالتاء فمعنى الـخطاب إذْ كان الـخطاب قد كان بذلك, ومن قرأ بـالـياء فلأنهم ما كانوا مخاطبـين بذلك فـي وقت الـخبر عنهم. وأما رفع لا تعبدون فبـالتاء التـي فـي تعبدون, ولا ينصب ب«أن» التـي كانت تصلـح أن تدخـل مع: لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ لأنها إذا صلـح دخولها علـى فعل فحذفت ولـم تدخـل كان وجه الكلام فـيه الرفع كما قال جل ثناؤه: قُلْ أفَغَيْرَ اللّهِ تَأمُرُونّـي أعْبُدُ أيّها الـجاهِلُونَ فرفع «أعبدُ» إذ لـم تدخـل فـيها أن بـالألف الدالة علـى معنى الاستقبـال. وكما قال الشاعر:
ألاَ أيّهذَا الزّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَىوأنْ أشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْـلِدِي
فرفع «أحضر» وإن كان يصلـح دخول «أن» فـيها, إذ حذفت بـالألف التـي تأتـي الاستقبـال. وإنـما صلـح حذف «أن» من قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ لدلالة ما ظهر من الكلام علـيها, فـاكتفـى بدلالة الظاهر علـيها منها.
وقد كان بعض نـحويـي البصرة يقول: معنى قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ حكاية, كأنك قلت: استـحلفناهم لا تعبدون, أي قلنا لهم: والله لا تعبدون, وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك قريب معناه من معنى القول الذي قلنا فـي ذلك.
وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ تأوّله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1062ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: أخذ مواثـيقهم أن يخـلصوا له وأن لا يعبدوا غيره.
1063ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاق بنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ الله قال: أخذنا ميثاقهم أن يخـلصوا لله ولا يعبدوا غيره.
1064ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنـي إسْرَائيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ قال: الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي الـمائدة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا.
وقوله جل ثناؤه: وبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا عطف علـى موضع «أن» الـمـحذوفة فـي لا تعبدون إلا الله. فكان معنى الكلام: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بأن لا تعبدوا إلا الله وبـالوالدين إحسانا. فرفع «لا تعبدون» لـما حذف «أن», ثم عطف بـالوالدين علـى موضعها, كما قال الشاعر:
مُعاوِيَ إنّنا بَشَر فأسْجِحْفَلَسْنا بـالـجبـال وَلا الـحَدِيدا
فنصب «الـحديد» علـى العطف به علـى موضع الـجبـال لأنها لو لـم تكن فـيها بـاء خافضة كانت نصبـا, فعطف بـالـحديث علـى معنى الـجبـال لا علـى لفظها, فكذلك ما وصفت من قوله: وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا. وأما الأحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: وَبِـالْوَالِدَيْنِ إذْ كان مفهوما معناه, فكان معنى الكلام لو أظهر الـمـحذوف: وإذ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بأن لا تعبدوا إلا الله, وبأن تـحسنوا إلـى الوالدين إحسانا. فـاكتفـى بقوله: وَبـالْوَالِدَيْنِ من أن يقال: وبأن تـحسنوا إلـى الوالدين إحسانا, إذْ كان مفهوما أن ذلك معناه بـما ظهر من الكلام.
وقد زعم بعض أهل العربـية فـي ذلك أن معناه: وبـالوالدين فأحسنوا إحسانا فجعل «البـاء» التـي فـي «الوالدين» من صلة الإحسان مقدمة علـيه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله, وأحسنوا بـالوالدين إحسانا. فزعموا أن «البـاء» التـي فـي «الوالدين» من صلة الـمـحذوف, أعنـي «أَحْسِنوا», فجعلوا ذلك من كلامين. وإنـما يصرف الكلام إلـى ما ادعوا من ذلك إذا لـم يوجد لاتساق الكلام علـى كلام واحد وجه, فأما وللكلام وجه مفهوم علـى اتساقه علـى كلام واحد فلا وجه لصرفه إلـى كلامين. وأخرى: أن القول فـي ذلك لو كان علـى ما قالوا لقـيـل: «وإلـى الوالدين إحسانا» لأنه إنـما يقال: أحسن فلان إلـى والديه, ولا يقال: أحسن بوالديه, إلاّ علـى استكراه للكلام. ولكن القول فـيه ما قلنا, وهو: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بكذا وبـالوالدين إحسانا, علـى ما بـينا قبل. فـيكون «الإحسان» حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه كما بـينا فـيـما مضى من نظائره.
فإن قال قائل: وما ذلك الإحسان الذي أخذ علـيهم وبـالوالدين الـميثاق؟ قـيـل: نظير ما فرض الله علـى أمتنا لهما من فعل الـمعروف لهما والقول الـجميـل, وخفض جناح الذل رحمة بهما والتـحنن علـيهما, والرأفة بهما والدعاء بـالـخير لهما, وما أشبه ذلك من الأفعال التـي ندب الله عبـاده أن يفعلوا بهما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَذي القُرْبَى وَالـيتَامَى وَالـمسَاكين.
يعنـي بقوله: وَذي القرْبَى وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمة. والقربى مصدر علـى تقدير «فُعْلَـى» من قولك: قربت منـي رحم فلان قرابة وقربى وقربـا بـمعنى واحد. وأما الـيتامى فهم جمع يتـيـم, مثل أسير وأَسارى ويدخـل فـي الـيتامى الذكور منهم والإناث. ومعنى ذلك: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد وبـالوالدين إحسانا وبذي القربى, أن تصلوا رَحِمَه, وتعرفوا حقه, وبـالـيتامى: أن تتعطفوا علـيهم بـالرحمة والرأفة, وبـالـمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التـي ألزمها الله أموالكم. والـمسكين: هو الـمتـخشع الـمتذلل من الفـاقة والـحاجة, وهو «مِفْعيـل» من الـمسكنة, والـمسكنة هي ذلّ الـحاجة والفـاقة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقُولُوا للنّاس حُسُنا.
إن قال قائل: كيف قـيـل: وقُولُوا للنّاس حُسْنا فأخرج الكلام أمرا ولـما يتقدمه أمرٌ, بل الكلام جار من أول الآية مـجرى الـخبر؟ قـيـل: إن الكلام وإن كان قد جرى فـي أول الآية مـجرى الـخبر فإنه مـما يحسن فـي موضعه الـخطاب بـالأمر والنهي, فلو كان مكان: «لا تعبدون إلا الله» «لا تعبدوا إلا الله» علـى وجه النهي من الله لهم عن عبـادة غيره كان حسنا صوابـا وقد ذكر أن ذلك كذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب. وإنـما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءا به لأن أخذ الـميثاق قول, فكان معنى الكلام لو كان مقروءا كذلك: وإذْ قلنا لبنـي إسرائيـل لا تعبدوا إلا الله, كما قال جل ثناؤه فـي موضع آخر: وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ ورَفَعْنا فَوْقَكُمْ الطّورَ خُذُوا ما آتـيْناكُمْ بِقُوّة. فلـما كان حسنا وضع الأمر والنهي فـي موضع: لا تعبدون إلا الله, عطف بقوله: وَقُولُوا للنّاس حُسْنا علـى موضع لا تعبدون, وإن كان مخالفـا كل واحد منهما معناه معنى ما فـيه, لـما وصفنا من جواز وضع الـخطاب بـالأمر والنهي موضع لا تعبدون فكأنه قـيـل: وإذا أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل لا تعبدوا إلا الله, وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البـيان عنه من أن العرب تبتدىء الكلام أحيانا علـى وجه الـخبر عن الغائب فـي موضع الـحكايات لـما أخبرت عنه, ثم تعود إلـى الـخبر علـى وجه الـخطاب, وتبتدىء أحيانا علـى وجه الـخطاب ثم تعود إلـى الإخبـار علـى وجه الـخبر عن الغائب لـما فـي الـحكاية من الـمعنـيـين كما قال الشاعر:
أَسِيئي بنا أوْ أحْسِنـي لا مَلُومَةًلَديْنا وَلا مَقْلِـيّةً إنْ تَقَلّتِ
يعنـي تقلّـيت, وأمّا «الـحسن» فإن القراءة اختلفت فـي قراءته, فقرأته عامة قراءة الكوفة غير عاصم: «وَقُولُوا للنّاس حَسَنا» بفتـح الـحاء والسين. وقرأته عامة قرّاء الـمدينة: حُسْنا بضم الـحاء وتسكين السين. وقد رُوي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: «وَقُولُوا للنّاس حُسْنَى» علـى مثال «فُعْلَـى».
واختلف أهل العربـية فـي فرق ما بـين معنى قوله: حُسْنا, وحَسَنا. فقال بعض البصريـين: هو علـى أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـالـحَسَنِ الـحُسْنِ, وكلاهما لغة, كما يقال: البُخْـل والبَخَـل. وإما أن يكون جعل الـحُسْنَ هو الـحَسَن فـي التشبـيه, وذلك أن الـحُسْنَ مصدر, والـحَسَنُ هو الشيء الـحسن, ويكون ذلك حينئذ كقولك: «إنـما أنت أَكْلٌ وشُرْب», وكما قال الشاعر:
وخَيْـلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْـلٍتَـحِيّةُ بَـيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
فجعل التـحية ضربـا.
وقال آخر: بل «الـحُسْن» هو الاسم العام الـجامع جميع معانـي الـحسن, «والـحَسَن» هو البعض من معانـي الـحُسْن, قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بـالوالدين: وَوَصّيْنا الإنْسانَ بوَالِدَيْهِ حُسْنا يعنـي بذلك أنه وصاه فـيهما بجميع معانـي الـحسن, وأمر فـي سائر الناس ببعض الذي أمره به فـي والديه فقال: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا يعنـي بذلك بعض معانـي الـحُسْن. والذي قاله هذا القائل فـي معنى «الـحُسْن» بضم الـحاء وسكون السين غير بعيد من الصواب, وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما «الـحَسَن» فإنه صفة وقعت لـما وصف به, وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك, فـالصواب من القراءة فـي قوله: «وَقُولُوا للنّاسِ حَسَنا» لأن القوم إنـما أمروا فـي هذا العهد الذي قـيـل لهم: وقولوا للناس بـاستعمال الـحَسَن من القول دون سائر معانـي الـحسن, الذي يكون بغير القول, وذلك نعت لـخاص من معانـي الـحُسْن وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتـح الـحاء والسين, علـى قراءته بضم الـحاء وسكون السين.
وأما الذي قرأ ذلك: «وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنَى» فإنه خالف بقراءته إياه كذلك قراءة أهل الإسلام, وكفـى شاهدا علـى خطأ القراءة بها كذلك خروجها من قراءة أهل الإسلام لو لـم يكن علـى خطئها شاهد غيره, فكيف وهي مع ذلك خارجة من الـمعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلـم بفُعْلـى وأَفْعل إلا بـالألف واللام أو بـالإضافة, لا يقال: جاءنـي أحسن حتـى يقولوا الأحسن, ولا يقال أجمل حتـى يقولوا الأجمل وذلك أن الأفعل والفُعْلَـى لا يكادان يوجدان صفة إلا لـمعهود معروف, كما تقول: بل أخوك الأحسن, وبل أختك الـحسنى, وغير جائز أن يقال: امرأة حُسْنى, ورجل أحسن.
وأما تأويـل القول الـحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بنـي إسرائيـل فـي هذه الآية أن يقولوه للناس, فهو ما:
1065ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا أمرهم أيضا بعد هذا الـخـلق أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بلا إله إلا الله من لـم يقلها ورغب عنها حتـى يقولوها كما قالوها, فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه.
وقال الـحسن أيضا: لـين القول من الأدب الـحسن الـجميـل, والـخـلق الكريـم, وهو مـما ارتضاه الله وأحبه.
1066ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: قولوا للناس معروفـا.
1067ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: صدقا فـي شأن مـحمد صلى الله عليه وسلم.
1068ـ وحدثت عن يزيد بن هارون, قال: سمعت سفـيان الثوري, يقول فـي قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: مروهم بـالـمعروف, وانهوهم عن الـمنكر.
1069ـ حدثنـي هارون بن إدريس الأصم, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي, قال: حدثنا عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان, قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح, عن قول الله جل ثناؤه: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: من لقـيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبـا جعفر, فقال مثل ذلك.
1070ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا القاسم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن أبـي جعفر وعطاء بن أبـي ربـاح فـي قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: للناس كلهم.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن عطاء مثله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأقِـيـمُوا الصّلاةَ.
يعنـي بقوله: وأقِـيـمُو الصّلاةَ أدّوها بحقوقها الواجبة علـيكم فـيها. كما:
1071ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن مسعود, قال: وأقِـيـمُوا الصّلاة هذه, وإقامة الصلاة تـمام الركوع والسجود والتلاوة والـخشوع والإقبـال علـيها فـيها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَآتُوا الزّكاة. قد بـينا فـيـما مضى قبلُ معنى الزكاة وما أصلها. وأما الزكاة التـي كان الله أمر بها بنـي إسرائيـل الذين ذكر أمرهم فـي هذه الآية, فهي ما:
1072ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وآتُوا الزّكاةَ قال: إيتاء الزكاة ما كان الله فرض علـيهم فـي أموالهم من الزكاة, وهي سنّة كانت لهم غير سنة مـحمد صلى الله عليه وسلم كانت زكاة أموالهم قربـانا تهبط إلـيه نار فتـحملها, فكان ذلك تَقَبّله, ومن لـم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل. وكان الذي قُرّب من مكسب لا يحلّ من ظلـم أو غشم, أو أخذ بغير ما أمر الله به وبـينه له.
1073ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَآتُوا الزّكاةَ يعنـي بـالزكاة: طاعة الله والإخلاص.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرِضُونَ. وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بنـي إسرائيـل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه, بعدما أخذ الله ميثاقهم علـى الوفـاء له بأن لا يعبدوا غيره, وأن يحسنوا إلـى الاَبـاء والأمهات, ويَصِلُوا الأرحام, ويتعطفوا علـى الأيتام, ويؤدوا حقوق أهل الـمسكنة إلـيهم, ويأمروا عبـاد الله بـما أمرهم الله به ويحثوهم علـى طاعته, ويقـيـموا الصلاة بحدودها وفرائضها, ويؤتوا زكاة أموالهم. فخالفوا أمره فـي ذلك كله, وتولوا عنه معرضين, إلا من عصمه الله منهم فوفـى لله بعهده وميثاقه. كما:
1074ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك عن ابن عبـاس, قال: لـما فرض الله جل وعزّ علـيهم يعنـي علـى هؤلاء الذين وصف الله أمرهم فـي كتابه من بنـي إسرائيـل هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به, أعرضوا عنه استثقالاً وكراهية, وطلبوا ما خفّ علـيهم إلا قلـيلاً منهم, وهم الذين استثنى الله فقال: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ يقول: أعرضتـم عن طاعتـي إلاّ قَلِـيلاً منكمْ قال: القلـيـل الذين اخترتهم لطاعتـي, وسيحلّ عقابـي بـمن تولّـى وأعرض عنها يقول: تركها استـخفـافـا بها.
1075ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عن عكرمة, عن ابن عبـاس: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرِضُونَ أي تركتـم ذلك كله.
وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: وأنتُـمْ مُعْرِضُونَ الـيهود الذين كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعنى بسائر الآية أسلافهم كأنه ذهب إلـى أن معنى الكلام: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ ثم تولـى سلفكم إلا قلـيلاً منهم, ولكنه جعل خطابـا لبقايا نسلهم علـى ما ذكرناه فـيـما مضى قبل. ثم قال: وأنتـم يا معشر بقاياهم مُعْرضون أيضا عن الـميثاق الذي أخذ علـيكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم.
وقال آخرون: بل قوله: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرضُونَ خطاب لـمن كان بـين ظهرانـي مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل, وذمّ لهم بنقضهم الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي التوراة وتبديـلهم أمر الله وركوبهم معاصيه
013
011
الآية : 77
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: أو لا يَعْلَـمُونَ أَنّ اللّهَ يَعْلَـمُ مَا يُسِرّونَ ومَا يُعْلِنُونَ أو لا يعلـم هؤلاء اللائمون من الـيهود إخوانهم من أهل ملتهم, علـى كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا, وعلـى إخبـارهم الـمؤمنـين بـما فـي كتبهم من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومبعثه, القائلون لهم: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّهُ عَلَـيْكُمْ لـيُحاجوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أن الله عالـم بـما يسرّون فـيخفونه عن الـمؤمنـين فـي خلائهم من كفرهم وتلاومهم بـينهم علـى إظهارهم ما أظهروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللـمؤمنـين به من الإقرار بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وعلـى قـيـلهم لهم آمنا, ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا الـمؤمنـين بـما فتـح الله للـمؤمنـين علـيهم, وقضى لهم علـيهم فـي كتبهم من حقـيقة نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه, وما يعلنون فـيظهرونه لـمـحمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الـمؤمنـين به إذا لقوهم من قـيـلهم لهم: آمنا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به نفـاقا وخداعا لله ولرسوله وللـمؤمنـين. كما:
993ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما يُسِرّونَ من كفرهم وتكذيبهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم إذا خلا بعضهم إلـى بعض, وما يُعْلِنُونَ إذا لقوا أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم قالوا آمنا لـيرضوهم بذلك.
994ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ يعنـي ما أسرّوا من كفرهم بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به, وهم يجدونه مكتوبـا عندهم. وَما يُعْلِنُونَ يعنـي ما أعلنوا حين قالوا للـمؤمنـين آمنا.
الآية : 78
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: ومِنْهُمْ أُمّيون ومن هؤلاء الـيهود الذين قصّ الله قصصهم فـي هذه الاَيات, وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيـمانهم, فقال لهم: أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وهم إذا لقوكم قالوا آمنا. كما:
995ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ يعنـي من الـيهود.
996ـ وحدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
997ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: أناس من يهود.
قال أبو جعفر: يعنـي بـالأميـين: الذين لا يكتبون ولا يقرءون, ومنه قول النبـي صلى الله عليه وسلم: «إِنّا أُمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَـحْسُبُ» يقال منه رجل أميّ بـيّن الأمية. كما:
998ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنـي سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن سفـيان, عن منصور عن إبراهيـم: وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتَابَ قال: منهم من لا يحسن أن يكتب.
999ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: ومِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: أميون لا يقرءون الكتاب من الـيهود.
ورُوي عن ابن عبـاس قول خلاف هذا القول, وهو ما:
1000ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: الأميون قوم لـم يصدّقوا رسولاً أرسله الله, ولا كتابـا أنزله الله, فكتبوا كتابـا بأيديهم, ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم, ثم سماهم أميـين لـجحودهم كتب الله ورسله.
وهذا التأويـل تأويـل علـى خلاف ما يعرف من كلام العرب الـمستفـيض بـينهم, وذلك أن الأميّ عند العرب هو الذي لا يكتب.
قال أبو جعفر: وأرى أنه قـيـل للأمي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلـى أمه, لأن الكتاب كان فـي الرجال دون النساء, فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلـى أمه فـي جهله بـالكتابة دون أبـيه كما ذكرنا عن النبـي صلى الله عليه وسلم من قوله: «إنّا أمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَـحْسُبُ» وكما قال: هُوَ الّذِي بَعَثَ فِـي أُلامّيَـينَ رَسُولاً مِنْهُمْ فإذا كان معنى الأمي فـي كلام العرب ما وصفنا, فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية ما قاله النـخعي من أن معنى قوله: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ: ومنهم من لا يحسن أن يكتب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِـيّ.
يعنـي بقوله: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتَابَ لا يعلـمون ما فـي الكتاب الذي أنزله الله ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم, كالذي:
1001ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِـيّ إنـما هم أمثال البهائم لا يعلـمون شيئا.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتاب يقول: لا يعلـمون الكتاب ولا يدرون ما فـيه.
1002ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لا يَدْرُونَ ما فـيه.
1003ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ قال: لا يدرون بـما فـيه.
1004ـ حدثنا بشر, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لا يعلـمون شيئا, لا يقرءون التوراة لـيست تستظهر إنـما تقرأ هكذا, فإذا لـم يكتب أحدهم لـم يستطع أن يقرأ.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله.
قال أبو جعفر: وإنـما عنى بـالكتاب: التوراة, ولذلك أدخـلت فـيه الألف واللام لأنه قصد به كتاب معروف بعينه. ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون ولا يدرون ما فـي الكتاب الذي عرفتـموه الذي هو عندهم وهم ينتـحلونه ويدعون الإقرار به من أحكام الله وفرائضه وما فـيه من حدوده التـي بـينها فـيه إِلاّ أمانِـيّ فقال بعضهم بـما:
1005ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس إلا أمانـي يقول إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذبـا حدثنـي مـحمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد لا يعلـمون الكتاب إلا أمانـي إلا حدثنـي الـمثنـي قال حدثنا أبو حذيفز قال حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله وقال آخرون بـما حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة الأمانـي يقول يتـمنون علـى الدر البـاطل وما لـيس لهم حدثنـي الـمثنـي قال حدثنا أبو صالـح عن علـي بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قوله لا يعلـمون الكتاب إلا أمانـي يقول إلا أحاديث.
1006ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ قال: أناس من يهود لـم يكونوا يعلـمون من الكتاب شيئا, وكانوا يتكلـمون بـالظنّ بغير ما فـي كتاب الله, ويقولون هو من الكتاب, أمانـيّ يتـمنونها.
1007ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: إلاّ أمانِـيّ يتـمنون علـى الله ما لـيس لهم.
1008ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: إلاّ أمانِـيّ قال: تـمنوا فقالوا: نـحن من أهل الكتاب. ولـيسوا منهم.
وأولـى ما روينا فـي تأويـل قوله: إلاّ أمانِـيّ بـالـحقّ وأشبهه بـالصواب, الذي قاله ابن عبـاس, الذي رواه عنه الضحاك, وقول مـجاهد: إن الأميـين الذين وصفهم الله بـما وصفهم به فـي هذه الآية أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله علـى موسى شيئا, ولكنهم يتـخرّصون الكذب ويتقوّلون الأبـاطيـل كذبـا وزورا. والتـمنـي فـي هذا الـموضع, هو تـخـلق الكذب وتـخرّصه وافتعاله, يقال منه: تـمنـيت كذا: إذا افتعلته وتـخرّصته. ومنه الـخبر الذي رُوي عن عثمان بن عفـان رضي الله عنه: «ما تغنّـيت ولا تـمنـيت». يعنـي بقوله ما تـمنـيت: ما تـخرّصت البـاطل ولا اختلقت الكذب والإفك.
والذي يدلّ علـى صحة ما قلنا فـي ذلك وأنه أولـى بتأويـل قوله: إلاّ أمانِـيّ من غيره من الأقوال, قول الله جل ثناؤه: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتـمنون ما يتـمنون من الأكاذيب ظنّا منهم لا يقـينا. ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لـم يكونوا ظانـين, وكذلك لو كان معناه: يشتهونه لأن الذي يتلوه إذا تدبره علـمه, ولا يستـحقّ الذي يتلو كتابـا قرأه وإن لـم يتدبره بتركه التدبـير أن يقال: هو ظانّ لـما يتلو إلا أن يكون شاكّا فـي نفس ما يتلوه لا يدري أحقّ هو أم بـاطل. ولـم يكن القوم الذين كانوا يتلون التوراة علـى عصر نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم من الـيهود فـيـما بلغنا شاكين فـي التوراة أنها من عند الله. وكذلك الـمتـمنـي الذي هو فـي معنى الـمتشهي غير جائز أن يقال: هو ظانّ فـي تـمنـيه, لأن التـمنـي من الـمتـمنـي إذا تـمنى ما قد وجد عينه, فغير جائز أن يقال: هو شاك فـيـما هو به عالـم لأن العلـم والشك معنـيان ينفـي كل واحد منهما صاحبه لا يجوز اجتـماعهما فـي حيز واحد, والـمتـمنـي فـي حال تـمنـيه موجود غير جائز أن يقال: هو يظنّ تـمنـيه. وإنـما قـيـل: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ والأمانـي من غير نوع الكتاب, كما قال ربنا جل ثناؤه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ إلاّ اتّبـاعَ الظّنّ والظنّ من العلـم بـمعزل, وكما قال: وَما لأِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُـجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ أَلاعْلَـى. وكما قال الشاعر:
لَـيْسَ بَـيْنِـي وَبَـينَ قَـيْسٍ عِتابُغيرَ طَعْنِ الكُلَـى وَضَرْبِ الرّقابِ
وكما قال نابغة بنـي ذبـيان:
حَلَفْتُ يَـمِينا غيرَ ذِي مَثْنَوِيّةٍوَلا عِلْـمَ إلاّ حُسْنَ ظَنّ بِغائِبِ
فـي نظائر لـما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب. ويخرج ب«إلاّ» ما بعدها من معنى ما قبلها, ومن صفته, وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الاَخر ومن غير نوعه, ويسمي ذلك بعض أهل العربـية استثناء منقطعا لانقطاع الكلام الذي يأتـي بعد إلا عن معنى ما قبلها. وإنـما يكون ذلك كذلك فـي كل موضع حسن أن يوضع فـيه مكان «إلا» «لكن», فـيعلـم حينئذ انقطاع معنى الثانـي عن معنى الأول, ألا ترى أنك إذا قلت: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ ثم أردت وضع «لكن» مكان «إلا» وحذف «إلا», وجدت الكلام صحيحا معناه صحته وفـيه «إلا»؟ وذلك إذا قلت: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لكن أمانـي, يعنـي لكنهم يتـمنون, وكذلك قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ إلاّ اتّبـاعَ الظّنّ لكن اتبـاع الظنّ, بـمعنى: لكنهم يتبعون الظنّ, وكذلك جميع هذا النوع من الكلام علـى ما وصفنا.
وقد ذكر عن بعض القرّاء أنه قرأ: «إلاّ أمانِـيَ» مخففة, ومن خفف ذلك وجهه إلـى نـحو جمعهم الـمفتاح مفـاتـح, والقرقور قراقر, وأن ياء الـجمع لـما حذفت خففت الـياء الأصلـية, أعنـي من الأمانـي, كما جمعوا الأثفـية أثافـي مخففة, كما قال زهير بن أبـي سلـمى:
أثَافِـيَ سُفْعا فِـي مُعَرّسِ مِرَجَلٍونُؤْيا كجِذْمِ الـحَوْضِ لَـمْ يَتَثَلّـمِ
وأما من ثقل: أمانِـيّ فشدّد ياءها فإنه وجه ذلك إلـى نـحو جمعهم الـمفتاح مفـاتـيح, والقرقور قراقـير, والزنبور زنابـير, فـاجتـمعت ياء فعالـيـل ولامها وهما جميعا ياءان, فأدغمت إحداهما فـي الأخرى فصارتا ياء واحدة مشددة.
فأما القراءة التـي لا يجوز غيرها عندي لقارىء فـي ذلك فتشديد ياء الأمانـيّ, لإجماع القرّاء علـى أنها القراءة التـي مضى علـى القراءة بها السلف مستفـيض, ذلك بـينهم غير مدفوعة صحته, وشذوذ القارىء بتـخفـيفها عما علـيه الـحجة مـجمعة فـي ذلك وكفـى خطأ علـى قارىء ذلك بتـخفـيفها إجماعا علـى تـخطئته.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ.
يعنـي بقوله جل ثناءه: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّون «وما هم» كما قال جل ثناؤه: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَـحْنُ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعنـي بذلك: ما نـحن إلا بشر مثلكم. ومعنى قوله: إلاّ يَظُنّونَ ألا يشكون ولا يعلـمون حقـيقته وصحته, والظنّ فـي هذا الـموضع الشك, فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخطّ ولا يعلـم كتاب الله ولا يدري ما فـيه إلا تـخرّصا وتقوّلاً علـى الله البـاطل ظنا منه أنه مـحقّ فـي تـخرّصه وتقوّله البـاطل. وإنـما وصفهم الله تعالـى ذكره بأنهم فـي تـخرصهم علـى ظنّ أنهم مـحقون وهم مبطلون, لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبـارهم أمورا حسبوها من كتاب الله, ولـم تكن من كتاب الله, فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بـالذي يوقنون به أنه من عند الله مـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم, ويتبعون ما هم فـيه شاكون, وفـي حقـيقته مرتابون مـما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبـارهم عنادا منهم لله ولرسوله, ومخالفة منهم لأمر الله واغترارا منهم بإمهال الله إياهم. وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ قال فـيه الـمتأوّلون من السلف.
1009ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ: إلا يكذبون.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
1010ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ وإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ أي لا يعلـمون ولا يدرون ما فـيه, وهم يجحدون نبوّتك بـالظنّ.
1011ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ قال: يظنون الظنون بغير الـحقّ.
1012ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: يظنون الظنون بغير الـحقّ.
1013ـ حدثت عن عمارة, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
الآية : 79
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَـَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فوَيْـلٌ. فقال بعضهم بـما:
1014ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق عن الضحاك, عن ابن عبـاس فَوَيْـلٌ لَهُمْ يقول: فـالعذاب علـيهم.
وقال آخرون بـما:
1015ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن زياد بن فـياض, قال: سمعت أبـا عياض يقول: الويـل: ما يسيـل من صديد فـي أصل جهنـم.
حدثنا بشر بن أبـان الـحطاب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن زياد بن فـياض, عن أبـي عياض فـي قوله: فَوَيْـلٌ قال: صهريج فـي أصل جهنـم يسيـل فـيه صديدهم.
حدثنا علـيّ بن سهل الرملـي, قال: حدثنا زيد بن أبـي الزرقاء, قال: حدثنا سفـيان بن زياد بن فـياض, عن أبـي عياض, قال: الويـل واد من صديد فـي جهنـم.
1016ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن شقـيق قال: وَيْـلٌ: ما يسيـل من صديد فـي أصل جهنـم.
وقال آخرون بـما:
1017ـ حدثنا به الـمثنى, قال: حدثنا إبراهيـم بن عبد السلام بن صالـح التستري, قال: حدثنا علـيّ بن جرير, عن حماد بن سلـمة بن عبد الـحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفـان, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «الوَيْـلُ جَبَلٌ فِـي النّارِ».
1018ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثنـي عمرو بن الـحارث, عن دراج, عن أبـي الهيثم, عن أبـي سعيد, عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: «وَيْـلٌ وَادٍ فـي جَهَنّـمَ يَهْوِي فـيهِ الكافِرُ أرْبَعِينَ خَرِيفـا قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ إلـى قَعْرِهِ».
قال أبو جعفر: فمعنى الآية علـى ما روي عمن ذكرت قوله فـي تأويـل وَيْـلٌ فـالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنـم فـي أسفل الـجحيـم للـيهود الذين يكتبون البـاطل بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِـيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً.
يعنـي بذلك: الذين حرّفوا كتاب الله من يهود بنـي إسرائيـل وكتبوا كتابـا علـى ما تأولوه من تأويلاتهم مخالفـا لـما أنزل الله علـى نبـيه موسى صلى الله عليه وسلم ثم بـاعوه من قوم لا علـم لهم بها ولا بـما فـي التوراة جهال بـما فـي كتب الله لطلب عرض من الدنـيا خسيس فقال الله لهم فويـل لهم مـما كتبت أيديهم وويـل لهم مـما يكسبون. كما حدثنـي موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسبـاط عن السدي فويـل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله لـيشتروا به ثمنا قلـيلاً قال كان ناس من الـيهود كتبوا كتابـا من عندهم يبـيعون من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله لـيأخذوا به ثمنا قلـيلاً.
1019ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: الأميون قوم لـم يصدّقوا رسولاً أرسله الله, ولا كتابـا أنزله الله فكتبوا كتابـا بأيديهم ثم قالو لقوم سفلة جهال هذا من عند الله لـيشتروا به ثمنا قلـيلاً قال عرضا من عروض الدنـيا.
الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية قوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِـيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً قال: عمدوا إلـى ما أنزل الله فـي كتابهم من نعت مـحمد صلى الله عليه وسلم, فحرّفوه عن مواضعه يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنـيا, فقال: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ.
1020ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إبراهيـم بن عبد السلام, قال: حدثنا علـي بن جرير, عن حماد بن سلـمة, عن عبد الـحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفـان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ: «الويـل: جبل فـي النار». وهو الذي أنزل فـي الـيهود لأنهم حرّفوا التوراة, وزادوا فـيها ما يحبون, ومـحوا منها ما يكرهون, ومـحوا اسم مـحمد صلى الله عليه وسلم من التوراة, فلذلك غضب الله علـيهم فرفع بعض التوراة فقال: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ.
1021ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي سعيد بن أبـي أيوب, عن مـحمد بن عجلان, عن زيد بن أسلـم, عن عطاء بن يسار, قال: وَيْـلٌ: واد فـي جهنـم لو سيرت فـيه الـجبـال لانـماعت من شدّة حرّه.
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكُتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ؟ وهل تكون الكتابة بغير الـيد حتـى احتاج الـمخاطب بهذه الـمخاطبة إلـى أن يخبروا عن هؤلاء القوم الذين قصّ الله قصتهم أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟ قـيـل له: إن الكتاب من بنـي آدم وإن كان منهم بـالـيد, فإنه قد يضاف الكتاب إلـى غير كاتبه وغير الـمتولـي رسم خطه, فـيقال: كتب فلان إلـى فلان بكذا, وإن كان الـمتولـي كتابته بـيده غير الـمضاف إلـيه الكتاب, إذا كان الكاتب كتبه بأمر الـمضاف إلـيه الكتاب. فأعلـم ربنا بقوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ عبـاده الـمؤمنـين أن أحبـار الـيهود تلـي كتابة الكذب والفرية علـى الله بأيديهم علـى علـم منهم وعمد للكذب علـى الله ثم تنـحله إلـى أنه من عند الله وفـي كتاب الله تكذّبـا علـى الله وافتراء علـيه. فنفـى جل ثناؤه بقوله: يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ أن يكون ولـي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علـمائهم وأحبـارهم. وذلك نظير قول القائل: بـاعنـي فلان عينه كذا وكذا, فـاشترى فلان نفسه كذا, يراد بإدخال النفس والعين فـي ذلك نفـي اللبس عن سامعه أن يكون الـمتولـي بـيع ذلك وشراءه غير الـموصوف به بأمره, ويوجب حقـيقة الفعل للـمخبر عنه فكذلك قوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ أي فـالعذاب فـي الوادي السائل من صديد أهل النار فـي أسفل جهنـم لهم, يعنـي للذين يكتبون الكتاب الذي وصفنا أمره من يهود بنـي إسرائيـل مـحرّفـا, ثم قالوا: هذا من عند الله ابتغاء عرض من الدنـيا به قلـيـل مـمن يبتاعه منهم. وقوله: مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِم يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك وَوَيْـلٌ لَهُمْ أيضا مِـمّا يَكْسِبُونَ يعنـي مـما يعملون من الـخطايا, ويجترحون من الاَثام, ويكسبون من الـحرام بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم, بخلاف ما أنزل الله, ثم يأكلون ثمنه وقد بـاعوه مـمن بـاعوه منهم علـى أنه من كتاب الله. كما:
1022ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ يعنـي من الـخطيئة.
1023ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: فَوَيْـلٌ لَهُمْ يقول: فـالعذاب علـيهم قال: يقول من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ يقول: مـما يأكلون به من السفلة وغيرهم.
قال أبو جعفر: وأصل الكسب: العمل, فكل عامل عملاً بـمبـاشرة منه لـما عمل ومعاناة بـاحتراف, فهو كاسب لـما عمل, كما قال لبـيد بن ربـيعة:
لِـمُعَفّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شَلْوَهُغُبْسٌ كَواسِبُ لا يُـمَنّ طَعامُها
الآية : 80
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
يعنـي بقوله: وقَالُوا الـيهود, يقول: وقالت الـيهود: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ, يعنـي لن تلاقـي أجسامنا النار, ولن ندخـلها إلا أياما معدودة. وإنـما قـيـل معدودة وإن لـم يكن مبـينا عددها فـي التنزيـل لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام التـي يوقتونها لـمكثهم فـي النار, فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام وسماها معدودة لـما وصفنا.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي مبلغ الأيام الـمعدودة التـي عينها الـيهود القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك. فقال بعضهم بـما:
1024ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً قال ذلك أعداء الله الـيهود, قالوا: لن يدخـلنا الله النار إلا تَـحِلّةَ القسم الأيام التـي أصبنا فـيها العجل أربعين يوما, فإذا انقضت عنا تلك الأيام, انقطع عنا العذاب والقسم.
1025ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً قالوا: أياما معدودة بـما أصبنا فـي العجل.
1026ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: قالت الـيهود: إن الله يدخـلنا النار فنـمكث فـيها أربعين لـيـلة, حتـى إذا أكلت النار خطايانا واسْتَنْقَتْنا, نادى منادٍ: أخرجوا كلّ مختون من ولد بنـي إسرائيـل, فلذلك أمرنا أن نـختتن. قالوا: فلا يدعون منّا فـي النار أحدا إلا أخرجوه.
1027ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: قالت الـيهود: إن ربنا عتب علـينا فـي أمرنا, فأقسم لـيعذّبنا أربعين لـيـلة, ثم يخرجنا. فأكذبهم الله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن قتادة, قال: قالت الـيهود: لن ندخـل النار إلا تـحلّة القسم, عدد الأيام التـي عبدنا فـيها العجل.
1028ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الآية. قال ابن عبـاس: ذكر أن الـيهود وجدوا فـي التوراة مكتوبـا: «إن ما بـين طرفـي جهنـم مسيرة أربعين سنة إلـى أن ينتهوا إلـى شجرة الزقوم نابتة فـي أصل الـجحيـم». وكان ابن عبـاس يقول: إن الـجحيـم سَقَر, وفـيه شجرة الزقّوم, فزعم أعداء الله أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا فـي كتابهم أياما معدودة. وإنـما يعنـي بذلك الـمسير الذي ينتهي إلـى أصل الـجحيـم, فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل فلا عذاب وتذهب جهنـم وتهلك فذلك قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عبـاس: لـما اقتـحموا من بـاب جهنـم ساروا فـي العذاب, حتـى انتهوا إلـى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام الـمعدودة, قال لهم خزّان سقر: زعمتـم أنكم لن تـمسكم النار إلا أياما معدودة, فقد خلا العدد وأنتـم فـي الأبد فأخذ بهم فـي الصّعود فـي جهنـم يرهقون.
1029ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً إلا أربعين لـيـلة.
1030ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا حفص بن عمر, عن الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, قال: خاصمت الـيهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخـل النار إلا أربعين لـيـلة, وسيخـلفنا فـيها قوم آخرون يعنون مـحمدا وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بـيده علـى رءوسهم: «بَلْ أَنْتُـمْ فِـيها خَالِدُونَ لاَ يَخْـلُفُكُمْ فِـيها أحَدٌ» فأنزل الله جل ثناؤه: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي الـحكم بن أبـان, عن عكرمة, قال: اجتـمعت يهود يوما تـخاصم النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً وسموا أربعين يوما ثم يخـلفنا أو يـلـحقنا فـيها أناس فأشاروا إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَذَبْتُـمْ, بَلْ أنْتُـمْ فِـيها خَالِدُونَ مُخَـلّدُونَ لاَ نَلْـحَقُكُمْ وَلا نَـخْـلُفَكُمْ فِـيها إِنْ شاءَ اللّهُ أبَدا».
1031ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا علـيّ بن معبد, عن أبـي معاوية, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: قالت الـيهود: لا نعذّب فـي النار يوم القـيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العِجْلَ.
1032ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: حدثنـي أبـي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «أَنْشُدُكُمْ بِـاللّهِ وَبِـالتّوْرَاةِ الّتِـي أنْزَلَهَا اللّهُ علـى مُوسَى يَوْمَ طُورِسَيْنَاءَ, مَنْ أَهْلُ النّارِ الّذِينَ أنْزَلَهُمُ اللّهُ فِـي التّوْرَاةِ؟» قالوا: إن ربهم غضب علـيهم غضبة, فنـمكث فـي النار أربعين لـيـلة, ثم نـخرج فتـخـلفوننا فـيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كَذَبْتُـمْ وَاللّهِ لا نَـخْـلَفُكُمْ فِـيها أبَدا». فنزل القرآن تصديقا لقول النبـي صلى الله عليه وسلم, وتكذيبـا لهم: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قُلْ اتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا إلـى قوله: هُمْ فِـيها خالِدُونَ.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
1033ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: كانت يهود يقولون: إنـما مدة الدنـيا سبعة آلاف سنة, وإنـما يعذّب الله الناس يوم القـيامة بكل ألف سنة من أيام الدنـيا يوما واحدا من أيام الاَخرة, وإنها سبعة أيام. فأنزل الله فـي ذلك من قولهم: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الآية.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة ويهود تقول: إنـما مدة الدنـيا سبعة آلاف سنة, وإنـما يعذّب الناس فـي النار بكل ألف سنة من أيام الدنـيا يوما واحدا فـي النار من أيام الاَخرة, فإنـما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ الآية.
1034ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: كانت تقول: إنـما الدنـيا سبعة آلاف سنة, وإنـما نعذّب مكان كل ألف سنة يوما.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله, إلا أنه قال: كانت الـيهود تقول: إنـما الدنـيا, وسائر الـحديث مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً من الدهر, وسموا عدة سبعة آلاف سنة, من كل ألف سنة يوما يهودُ تقول.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا فَلَنْ يُخْـلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أمْ تَقُولُونَ عَلـى اللّهِ مَا لا تَعْلَـمُونَ.
قال أبو جعفر: لـما قالت الـيهود ما قالت من قولها: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً علـى ما قد بـينا من تأويـل ذلك, قال الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لـمعشر الـيهود أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا أخذتـم بـما تقولن من ذلك من الله ميثاقا فـالله لا ينقض ميثاقه ولا يبدل وعده وعقده, أم تقولون علـى الله البـاطل جهلاً وجراءة علـيه؟ كما:
1035ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا أي مَوْثِقا من الله بذلك أنه كما تقولون.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1036ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت الـيهود: لن ندخـل النار إلا تَـحِلّة القسم عدّة الأيام التـي عبدنا فـيها العجل. فقال الله: أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا بهذا الذي تقولونه, ألكم بهذا حجة وبرهان فَلَنْ يَخْـلفَ اللّهُ عَهْدَهُ فهاتوا حجتكم وبرهانكم أمْ تَقُولُونَ عَلـى اللّهِ مَا لا تَعْلَـمُونَ.
1037ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, قال: لـما قالت الـيهود ما قالت, قال الله جل ثناؤه لـمـحمد: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا يقول: أدّخرتـم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتـم لا إلَه إلا الله لـم تشركوا, ولـم تكفروا به؟ فإن كنتـم قلتـموها فـارجوا بها, وإن كنتـم لـم تقولوها فلـم تقولون علـى الله ما لا تعلـمون؟ يقول: لو كنتـم قلتـم لا إلَه إلا الله, ولـم تشركوا به شيئا, ثم متّـم علـى ذلك لكان لكم ذخرا عندي, ولـم أخـلف وعدي لكم أنـي أجازيكم بها.
1038ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط عن السدي, قال: لـما قالت الـيهود ما قالت, قال الله عز وجل: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا فَلَنْ يُخْـلِفَ اللّه عَهْدَهُ وقال فـي مكان آخر: وَغَرّهُمْ فِـي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. ثم أخبر الـخبر فقال: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً.
وهذه الأقوال التـي رويناها عن ابن عبـاس ومـجاهد وقتادة بنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا لأن مـما أعطاه الله عبـاده من ميثاقه أن من آمن به وأطاع أمره نـجّاه من ناره يوم القـيامة. ومن الإيـمان به الإقرارُ بأن لا إلَه إلا الله, وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به أن من أتـى الله يوم القـيامة بحجة تكون له نـجاة من النار فـينـجيه منها. وكل ذلك وإن اختلفت ألفـاظ قائلـيه, فمتفق الـمعانـي علـى ما قلنا فـيه, والله تعالـى أعلـم.
الآية : 81
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئَتُهُ فَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً تكذيب من الله القائلـين من الـيهود: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً وإخبـار منه لهم أنه يعذّب من أشرك وكفر به وبرسله وأحاطت به ذنوبه فمخـلّدُه فـي النار فإن الـجنة لا يسكنها إلا أهل الإيـمان به وبرسوله, وأهل الطاعة له, والقائمون بحدوده. كما:
1039ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بـمثل ما كفرتـم به حتـى يحيط كفره بـما له من حسنة, فـاولَئِك أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ.
قال: وأما بَلـى فإنها إقرار فـي كل كلام فـي أوله جحد, كما «نعم» إقرار فـي الاستفهام الذي لا جحد فـيه, وأصلها «بل» التـي هي رجوع عن الـجحد الـمـحض فـي قولك: ما قام عمرو بل زيد فزيد فـيها الـياء لـيصلـح علـيها الوقوف, إذ كانت «بل» لا يصلـح علـيها الوقوف, إذْ كانت عطفـا ورجوعا عن الـجحد, ولتكون أعنـي بلـى رجوعا عن الـجحد فقط, وإقرارا بـالفعل الذي بعد الـجحد فدلت الـياء منها علـى معنى الإقرار والإنعام, ودلّ لفظ «بل» عن الرجوع عن الـجحد.
قال: وأما السيئة التـي ذكر الله فـي هذا الـمكان فإنها الشرك بـالله. كما:
1040ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفـيان, قال: حدثنـي عاصم, عن أبـي وائل بَلْـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: الشرك بـالله.
1041ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً شركا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1042ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: أما السيئة فـالشرك.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
1043ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً أما السيئة فهي الذنوب التـي وعد علـيها النار.
1044ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: الشرك.
قال ابن جريج, قال: قال مـجاهد: سَيّئَةً شركا.
1045ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً يعنـي الشرك.
وإنـما قلنا: إن السيئة التـي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته فهو من أهل النار الـمخـلدين فـيها فـي هذا الـموضع, إنـما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض, وإن كان ظاهرها فـي التلاوة عاما, لأن الله قضى علـى أهلها بـالـخـلود فـي النار, والـخـلود فـي النار لأهل الكفر بـالله دون أهل الإيـمان به لتظاهر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيـمان لا يخـلدون فـيها, وأن الـخـلود فـي النار لأهل الكفر بـالله دون أهل الإيـمان به فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: بَلـى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فـاولئِكَ أصحَابُ النارِ هُم فِـيها خالِدُونَ قولَهُ: والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ أُولَئِكَ أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الـخـلود فـي النار من أهل السيئات, غير الذي لهم الـخـلود فـي الـجنة من أهل الإيـمان.
فإن ظنّ ظانّ أن الذين لهم الـخـلود فـي الـجنة من الذين آمنوا هم الذين عملوا الصالـحات دون الذين عملوا السيئات, فإن فـي إخبـار الله أنه مكفر بـاجتنابنا كبـائر ما ننهى عنه سيئاتنا, ومدخـلنا الـمدخـل الكريـم, ما ينبىء عن صحة ما قلنا فـي تأويـل قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً بأن ذلك علـى خاص من السيئات دون عامها.
فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنـما ضمن لنا تكفـير سيئاتنا بـاجتنابنا كبـائر ما ننهى عنه, فما الدلالة علـى أن الكبـائر غير داخـلة فـي قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً؟ قـيـل: لـما صحّ من أن الصغائر غير داخـلة فـيه, وأن الـمعنّى بـالآية خاص دون عام, ثبت وصحّ أن القضاء والـحكم بها غير جائز لأحد علـى أحد إلا علـى من وَقَـفَه الله علـيه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه. وقد ثبت وصحّ أن الله تعالـى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به, بشهادة جميع الأمة, فوجب بذلك القضاء علـى أن أهل الشرك والكفر مـمن عناه الله بـالآية. فأما أهل الكبـائر فإن الأخبـار القاطعة عذر من بلغته قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنـيـين بها, فمن أنكر ذلك مـمن دافع حجة الأخبـار الـمستفـيضة والأنبـاء الـمتظاهرة فـاللازم له ترك قطع الشهادة علـى أهل الكبـائر بـالـخـلود فـي النار بهذه الآية ونظائرها التـي جاءت بعمومهم فـي الوعيد, إذْ كان تأويـل القرآن غير مدرك إلا ببـيان من جَعَلَ اللّهُ إلـيه بـيانَ القرآن, وكانت الآية تأتـي عاما فـي صنف ظاهرها, وهي خاص فـي ذلك الصنف بـاطنها. ويُسئل مدافعوا الـخبر بأن أهل الكبـائر من أهل الاستثناء سؤالنا منكر رجم الزانـي الـمـحصن, وزوال فرض الصلاة عن الـحائض فـي حال الـحيض, فإن السؤال علـيهم نظير السؤال علـى هؤلاء سواء.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ اجتـمعت علـيه فمات علـيها قبل الإنابة والتوبة منها. وأصل الإحاطة بـالشيء: الإحداق به بـمنزلة الـحائط الذي تـحاط به الدار فتـحدق به, ومنه قول الله جل ثناؤه: نارا أحاطَ بِهِمْ سُرَادِقُها.
فتأويـل الآية إذا: من أشرك بـالله واقترف ذنوبـا جمة فمات علـيها قبل الإنابة والتوبة, فأولئك أصحاب النار هم فـيها مخـلدون أبدا. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك, قال الـمتأولون. ذكر من قال ذلك:
1046ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي روق, عن الضحاك: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات بذنبه.
1047ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جرير بن نوح, قال: حدثنا الأعمش, عن أبـي رزين, عن الربـيع بن خثـيـم: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات علـيها.
1048ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: أخبرنـي ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: يحيط كفره بـما له من حسنة.
1049ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: ما أوجب الله فـيه النار.
1050ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: أما الـخطيئة فـالكبـيرة الـموجبة.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن قتادة: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الـخطيئة: الكبـائر.
1051ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا وكيع ويحيى بن آدم, عن سلام بن مسكين, قال: سأل رجل الـحسن عن قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فقال: ما ندري ما الـخطيئة يا بنـيّ اتْلُ القرآن, فكل آية وعد الله علـيها النار فهي الـخطيئة.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد فـي قوله: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: كل ذنب مـحيط فهو ما وعد الله علـيه النار.
1052ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي رزين: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات بخطيئته.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو نعيـم, قال: حدثنا الأعمش, قال: حدثنا مسعود أبو رزين, عن الربـيع بن خثـيـم فـي قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: هو الذي يـموت علـى خطيئته, قبل أن يتوب.
1053ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: قال وكيع: سمعت الأعمش يقول فـي قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ مات بذنوبه.
1054ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الكبـيرة الـموجبة.
1055ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فمات ولـم يتب.
1056ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حسان, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: وأحاطَت بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الشرك, ثم تلا: وَمَنْ جَاءَ بِـالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وجُوهُهُمْ فِـي النّارِ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاولَئِكَ أصحَابُ النّارِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: فأولئك الذين كسبوا السّيئات وأحاطتْ بهم خطيئاتهم أصحاب النار هم فـيها خالدون. ويعنـي بقوله جل ثناؤه: أصحَابُ النّارِ أهل النار وإنـما جعلهم لها أصحابـا لإيثارهم فـي حياتهم الدنـيا ما يوردهموها, ويوردهم سعيرها علـى الأعمال التـي توردهم الـجنة, فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبـابها علـى أسبـاب الـجنة لها أصحابـا, كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته علـى صحبة غيره حتـى يعرف به. هُمْ فِـيها يعنـي فـي النار خالدون, ويعنـي بقوله خالِدُونَ مقـيـمون. كما:
1057ـ حدثنـي مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: هُمْ فِـيها خالِدُونَ: أي خالدون أبدا.
1058ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: هُمْ فِـيها خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا.
الآية : 82
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ويعنـي بقوله: وَالّذِينَ آمَنُوا: أي صدقوا بـما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم. ويعنـي بقوله: وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ: أطاعوا الله فأقاموا حدوده, وأدّوا فرائضه, واجتنبوا مـحارمه. ويعنـي بقوله: أُولَئِكَ الذين هم كذلك أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ يعنـي أهلها الذين هم أهلها هم فـيها خالدون, مقـيـمون أبدا. وإنـما هذه الآية والتـي قبلها إخبـار من الله عبـاده عن بقاء النار وبقاء أهلها فـيها, ودوام ما أعدّ فـي كل واحدة منهما لأهلها, تكذيبـا من الله جل ثناؤه القائلـين من يهود بنـي إسرائيـل إن النار لن تـمسهم إلا أياما معدودة, وأنهم صائرون بعد ذلك إلـى الـجنة فأخبرهم بخـلود كفـارهم فـي النار وخـلود مؤمنـيهم فـي الـجنة. كما:
1059ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ أُولَئِكَ أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ أي من آمن بـما كفرتـم به وعمل بـما تركتـم من دينه, فلهم الـجنة خالدين فـيها يخبرهم أن الثواب بـالـخير والشرّ مقـيـم علـى أهله أبدا لا انقطاع له أبدا.
1060ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ مـحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أولئك أصحاب الـجنة هُمْ فِـيها خَالِدُونَ
الآية : 83
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ }
قد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن الـميثاق مفعال, من التوثق بـالـيـمين ونـحوها من الأمور التـي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذا: واذكروا أيضا يا معشر بنـي إسرائيـل إذْ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله. كما:
1061ـ حدثنـي به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ أي ميثاقكم لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ.
قال أبو جعفر: والقراءة مختلفة فـي قراءة قوله: لا تَعْبُدُونَ فبعضهم يقرؤها بـالتاء, وبعضهم يقرؤها بـالـياء, والـمعنى فـي ذلك واحد. وإنـما جازت القراءة بـالـياء والتاء وأن يقال: «لا تعبدون», و«لا يعبدون» وهم غَيَب لأن أخذ الـميثاق بـمعنى الاستـحلاف, فكما تقول: استـحلفت أخاك لـيقومنّ, فتـخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك, وتقول: استـحلفته لتقومنّ, فتـخبر عنه خبرك عن الـمخاطب لأنك قد كنت خاطبته بذلك, فـيكون ذلك صحيحا جائزا, فكذلك قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِـي إِسْرَائِيـلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ و«لا يعبدون». من قرأ ذلك بـالتاء فمعنى الـخطاب إذْ كان الـخطاب قد كان بذلك, ومن قرأ بـالـياء فلأنهم ما كانوا مخاطبـين بذلك فـي وقت الـخبر عنهم. وأما رفع لا تعبدون فبـالتاء التـي فـي تعبدون, ولا ينصب ب«أن» التـي كانت تصلـح أن تدخـل مع: لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ لأنها إذا صلـح دخولها علـى فعل فحذفت ولـم تدخـل كان وجه الكلام فـيه الرفع كما قال جل ثناؤه: قُلْ أفَغَيْرَ اللّهِ تَأمُرُونّـي أعْبُدُ أيّها الـجاهِلُونَ فرفع «أعبدُ» إذ لـم تدخـل فـيها أن بـالألف الدالة علـى معنى الاستقبـال. وكما قال الشاعر:
ألاَ أيّهذَا الزّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَىوأنْ أشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْـلِدِي
فرفع «أحضر» وإن كان يصلـح دخول «أن» فـيها, إذ حذفت بـالألف التـي تأتـي الاستقبـال. وإنـما صلـح حذف «أن» من قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ لدلالة ما ظهر من الكلام علـيها, فـاكتفـى بدلالة الظاهر علـيها منها.
وقد كان بعض نـحويـي البصرة يقول: معنى قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ حكاية, كأنك قلت: استـحلفناهم لا تعبدون, أي قلنا لهم: والله لا تعبدون, وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك قريب معناه من معنى القول الذي قلنا فـي ذلك.
وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ تأوّله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1062ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: أخذ مواثـيقهم أن يخـلصوا له وأن لا يعبدوا غيره.
1063ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاق بنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ الله قال: أخذنا ميثاقهم أن يخـلصوا لله ولا يعبدوا غيره.
1064ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنـي إسْرَائيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ قال: الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي الـمائدة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا.
وقوله جل ثناؤه: وبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا عطف علـى موضع «أن» الـمـحذوفة فـي لا تعبدون إلا الله. فكان معنى الكلام: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بأن لا تعبدوا إلا الله وبـالوالدين إحسانا. فرفع «لا تعبدون» لـما حذف «أن», ثم عطف بـالوالدين علـى موضعها, كما قال الشاعر:
مُعاوِيَ إنّنا بَشَر فأسْجِحْفَلَسْنا بـالـجبـال وَلا الـحَدِيدا
فنصب «الـحديد» علـى العطف به علـى موضع الـجبـال لأنها لو لـم تكن فـيها بـاء خافضة كانت نصبـا, فعطف بـالـحديث علـى معنى الـجبـال لا علـى لفظها, فكذلك ما وصفت من قوله: وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا. وأما الأحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: وَبِـالْوَالِدَيْنِ إذْ كان مفهوما معناه, فكان معنى الكلام لو أظهر الـمـحذوف: وإذ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بأن لا تعبدوا إلا الله, وبأن تـحسنوا إلـى الوالدين إحسانا. فـاكتفـى بقوله: وَبـالْوَالِدَيْنِ من أن يقال: وبأن تـحسنوا إلـى الوالدين إحسانا, إذْ كان مفهوما أن ذلك معناه بـما ظهر من الكلام.
وقد زعم بعض أهل العربـية فـي ذلك أن معناه: وبـالوالدين فأحسنوا إحسانا فجعل «البـاء» التـي فـي «الوالدين» من صلة الإحسان مقدمة علـيه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله, وأحسنوا بـالوالدين إحسانا. فزعموا أن «البـاء» التـي فـي «الوالدين» من صلة الـمـحذوف, أعنـي «أَحْسِنوا», فجعلوا ذلك من كلامين. وإنـما يصرف الكلام إلـى ما ادعوا من ذلك إذا لـم يوجد لاتساق الكلام علـى كلام واحد وجه, فأما وللكلام وجه مفهوم علـى اتساقه علـى كلام واحد فلا وجه لصرفه إلـى كلامين. وأخرى: أن القول فـي ذلك لو كان علـى ما قالوا لقـيـل: «وإلـى الوالدين إحسانا» لأنه إنـما يقال: أحسن فلان إلـى والديه, ولا يقال: أحسن بوالديه, إلاّ علـى استكراه للكلام. ولكن القول فـيه ما قلنا, وهو: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بكذا وبـالوالدين إحسانا, علـى ما بـينا قبل. فـيكون «الإحسان» حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه كما بـينا فـيـما مضى من نظائره.
فإن قال قائل: وما ذلك الإحسان الذي أخذ علـيهم وبـالوالدين الـميثاق؟ قـيـل: نظير ما فرض الله علـى أمتنا لهما من فعل الـمعروف لهما والقول الـجميـل, وخفض جناح الذل رحمة بهما والتـحنن علـيهما, والرأفة بهما والدعاء بـالـخير لهما, وما أشبه ذلك من الأفعال التـي ندب الله عبـاده أن يفعلوا بهما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَذي القُرْبَى وَالـيتَامَى وَالـمسَاكين.
يعنـي بقوله: وَذي القرْبَى وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمة. والقربى مصدر علـى تقدير «فُعْلَـى» من قولك: قربت منـي رحم فلان قرابة وقربى وقربـا بـمعنى واحد. وأما الـيتامى فهم جمع يتـيـم, مثل أسير وأَسارى ويدخـل فـي الـيتامى الذكور منهم والإناث. ومعنى ذلك: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد وبـالوالدين إحسانا وبذي القربى, أن تصلوا رَحِمَه, وتعرفوا حقه, وبـالـيتامى: أن تتعطفوا علـيهم بـالرحمة والرأفة, وبـالـمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التـي ألزمها الله أموالكم. والـمسكين: هو الـمتـخشع الـمتذلل من الفـاقة والـحاجة, وهو «مِفْعيـل» من الـمسكنة, والـمسكنة هي ذلّ الـحاجة والفـاقة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقُولُوا للنّاس حُسُنا.
إن قال قائل: كيف قـيـل: وقُولُوا للنّاس حُسْنا فأخرج الكلام أمرا ولـما يتقدمه أمرٌ, بل الكلام جار من أول الآية مـجرى الـخبر؟ قـيـل: إن الكلام وإن كان قد جرى فـي أول الآية مـجرى الـخبر فإنه مـما يحسن فـي موضعه الـخطاب بـالأمر والنهي, فلو كان مكان: «لا تعبدون إلا الله» «لا تعبدوا إلا الله» علـى وجه النهي من الله لهم عن عبـادة غيره كان حسنا صوابـا وقد ذكر أن ذلك كذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب. وإنـما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءا به لأن أخذ الـميثاق قول, فكان معنى الكلام لو كان مقروءا كذلك: وإذْ قلنا لبنـي إسرائيـل لا تعبدوا إلا الله, كما قال جل ثناؤه فـي موضع آخر: وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ ورَفَعْنا فَوْقَكُمْ الطّورَ خُذُوا ما آتـيْناكُمْ بِقُوّة. فلـما كان حسنا وضع الأمر والنهي فـي موضع: لا تعبدون إلا الله, عطف بقوله: وَقُولُوا للنّاس حُسْنا علـى موضع لا تعبدون, وإن كان مخالفـا كل واحد منهما معناه معنى ما فـيه, لـما وصفنا من جواز وضع الـخطاب بـالأمر والنهي موضع لا تعبدون فكأنه قـيـل: وإذا أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل لا تعبدوا إلا الله, وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البـيان عنه من أن العرب تبتدىء الكلام أحيانا علـى وجه الـخبر عن الغائب فـي موضع الـحكايات لـما أخبرت عنه, ثم تعود إلـى الـخبر علـى وجه الـخطاب, وتبتدىء أحيانا علـى وجه الـخطاب ثم تعود إلـى الإخبـار علـى وجه الـخبر عن الغائب لـما فـي الـحكاية من الـمعنـيـين كما قال الشاعر:
أَسِيئي بنا أوْ أحْسِنـي لا مَلُومَةًلَديْنا وَلا مَقْلِـيّةً إنْ تَقَلّتِ
يعنـي تقلّـيت, وأمّا «الـحسن» فإن القراءة اختلفت فـي قراءته, فقرأته عامة قراءة الكوفة غير عاصم: «وَقُولُوا للنّاس حَسَنا» بفتـح الـحاء والسين. وقرأته عامة قرّاء الـمدينة: حُسْنا بضم الـحاء وتسكين السين. وقد رُوي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: «وَقُولُوا للنّاس حُسْنَى» علـى مثال «فُعْلَـى».
واختلف أهل العربـية فـي فرق ما بـين معنى قوله: حُسْنا, وحَسَنا. فقال بعض البصريـين: هو علـى أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـالـحَسَنِ الـحُسْنِ, وكلاهما لغة, كما يقال: البُخْـل والبَخَـل. وإما أن يكون جعل الـحُسْنَ هو الـحَسَن فـي التشبـيه, وذلك أن الـحُسْنَ مصدر, والـحَسَنُ هو الشيء الـحسن, ويكون ذلك حينئذ كقولك: «إنـما أنت أَكْلٌ وشُرْب», وكما قال الشاعر:
وخَيْـلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْـلٍتَـحِيّةُ بَـيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
فجعل التـحية ضربـا.
وقال آخر: بل «الـحُسْن» هو الاسم العام الـجامع جميع معانـي الـحسن, «والـحَسَن» هو البعض من معانـي الـحُسْن, قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بـالوالدين: وَوَصّيْنا الإنْسانَ بوَالِدَيْهِ حُسْنا يعنـي بذلك أنه وصاه فـيهما بجميع معانـي الـحسن, وأمر فـي سائر الناس ببعض الذي أمره به فـي والديه فقال: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا يعنـي بذلك بعض معانـي الـحُسْن. والذي قاله هذا القائل فـي معنى «الـحُسْن» بضم الـحاء وسكون السين غير بعيد من الصواب, وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما «الـحَسَن» فإنه صفة وقعت لـما وصف به, وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك, فـالصواب من القراءة فـي قوله: «وَقُولُوا للنّاسِ حَسَنا» لأن القوم إنـما أمروا فـي هذا العهد الذي قـيـل لهم: وقولوا للناس بـاستعمال الـحَسَن من القول دون سائر معانـي الـحسن, الذي يكون بغير القول, وذلك نعت لـخاص من معانـي الـحُسْن وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتـح الـحاء والسين, علـى قراءته بضم الـحاء وسكون السين.
وأما الذي قرأ ذلك: «وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنَى» فإنه خالف بقراءته إياه كذلك قراءة أهل الإسلام, وكفـى شاهدا علـى خطأ القراءة بها كذلك خروجها من قراءة أهل الإسلام لو لـم يكن علـى خطئها شاهد غيره, فكيف وهي مع ذلك خارجة من الـمعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلـم بفُعْلـى وأَفْعل إلا بـالألف واللام أو بـالإضافة, لا يقال: جاءنـي أحسن حتـى يقولوا الأحسن, ولا يقال أجمل حتـى يقولوا الأجمل وذلك أن الأفعل والفُعْلَـى لا يكادان يوجدان صفة إلا لـمعهود معروف, كما تقول: بل أخوك الأحسن, وبل أختك الـحسنى, وغير جائز أن يقال: امرأة حُسْنى, ورجل أحسن.
وأما تأويـل القول الـحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بنـي إسرائيـل فـي هذه الآية أن يقولوه للناس, فهو ما:
1065ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا أمرهم أيضا بعد هذا الـخـلق أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بلا إله إلا الله من لـم يقلها ورغب عنها حتـى يقولوها كما قالوها, فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه.
وقال الـحسن أيضا: لـين القول من الأدب الـحسن الـجميـل, والـخـلق الكريـم, وهو مـما ارتضاه الله وأحبه.
1066ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: قولوا للناس معروفـا.
1067ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: صدقا فـي شأن مـحمد صلى الله عليه وسلم.
1068ـ وحدثت عن يزيد بن هارون, قال: سمعت سفـيان الثوري, يقول فـي قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: مروهم بـالـمعروف, وانهوهم عن الـمنكر.
1069ـ حدثنـي هارون بن إدريس الأصم, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي, قال: حدثنا عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان, قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح, عن قول الله جل ثناؤه: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: من لقـيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبـا جعفر, فقال مثل ذلك.
1070ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا القاسم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن أبـي جعفر وعطاء بن أبـي ربـاح فـي قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: للناس كلهم.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن عطاء مثله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأقِـيـمُوا الصّلاةَ.
يعنـي بقوله: وأقِـيـمُو الصّلاةَ أدّوها بحقوقها الواجبة علـيكم فـيها. كما:
1071ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن مسعود, قال: وأقِـيـمُوا الصّلاة هذه, وإقامة الصلاة تـمام الركوع والسجود والتلاوة والـخشوع والإقبـال علـيها فـيها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَآتُوا الزّكاة. قد بـينا فـيـما مضى قبلُ معنى الزكاة وما أصلها. وأما الزكاة التـي كان الله أمر بها بنـي إسرائيـل الذين ذكر أمرهم فـي هذه الآية, فهي ما:
1072ـ حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وآتُوا الزّكاةَ قال: إيتاء الزكاة ما كان الله فرض علـيهم فـي أموالهم من الزكاة, وهي سنّة كانت لهم غير سنة مـحمد صلى الله عليه وسلم كانت زكاة أموالهم قربـانا تهبط إلـيه نار فتـحملها, فكان ذلك تَقَبّله, ومن لـم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل. وكان الذي قُرّب من مكسب لا يحلّ من ظلـم أو غشم, أو أخذ بغير ما أمر الله به وبـينه له.
1073ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: وَآتُوا الزّكاةَ يعنـي بـالزكاة: طاعة الله والإخلاص.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرِضُونَ. وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بنـي إسرائيـل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه, بعدما أخذ الله ميثاقهم علـى الوفـاء له بأن لا يعبدوا غيره, وأن يحسنوا إلـى الاَبـاء والأمهات, ويَصِلُوا الأرحام, ويتعطفوا علـى الأيتام, ويؤدوا حقوق أهل الـمسكنة إلـيهم, ويأمروا عبـاد الله بـما أمرهم الله به ويحثوهم علـى طاعته, ويقـيـموا الصلاة بحدودها وفرائضها, ويؤتوا زكاة أموالهم. فخالفوا أمره فـي ذلك كله, وتولوا عنه معرضين, إلا من عصمه الله منهم فوفـى لله بعهده وميثاقه. كما:
1074ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك عن ابن عبـاس, قال: لـما فرض الله جل وعزّ علـيهم يعنـي علـى هؤلاء الذين وصف الله أمرهم فـي كتابه من بنـي إسرائيـل هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به, أعرضوا عنه استثقالاً وكراهية, وطلبوا ما خفّ علـيهم إلا قلـيلاً منهم, وهم الذين استثنى الله فقال: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ يقول: أعرضتـم عن طاعتـي إلاّ قَلِـيلاً منكمْ قال: القلـيـل الذين اخترتهم لطاعتـي, وسيحلّ عقابـي بـمن تولّـى وأعرض عنها يقول: تركها استـخفـافـا بها.
1075ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عن عكرمة, عن ابن عبـاس: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرِضُونَ أي تركتـم ذلك كله.
وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: وأنتُـمْ مُعْرِضُونَ الـيهود الذين كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعنى بسائر الآية أسلافهم كأنه ذهب إلـى أن معنى الكلام: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ ثم تولـى سلفكم إلا قلـيلاً منهم, ولكنه جعل خطابـا لبقايا نسلهم علـى ما ذكرناه فـيـما مضى قبل. ثم قال: وأنتـم يا معشر بقاياهم مُعْرضون أيضا عن الـميثاق الذي أخذ علـيكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم.
وقال آخرون: بل قوله: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرضُونَ خطاب لـمن كان بـين ظهرانـي مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل, وذمّ لهم بنقضهم الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي التوراة وتبديـلهم أمر الله وركوبهم معاصيه
الصفحة رقم 12 من المصحف تحميل و استماع mp3