تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 12 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 12

011

76- "وإذا لقوا الذين آمنوا" يعني أن المنافقين إذا لقوا الذين آمنوا "قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض" أي إذا خلا الذين لم ينافقوا بالمنافقين قالوا لهم عاتبين عليهم "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" أي حكم عليكم من العذاب، وذلك أن أناساً من اليهود أسلموا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، وقيل: إن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة من صفة محمد، وقد تقدم معنى خلا. والفتح عند العرب: القضاء والحكم، والفتاح: القاضي بلغة اليمن، والفتح: النصر، ومن ذلك قوله تعالى: " يستفتحون على الذين كفروا " وقوله: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح" ومن الأول: " ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم " أي الحاكمين، ويكون الفتح بمعنى الفرق بين الشيئين، والمحاجبة: إبراز الحجة، أي لا تخبروهم بما حكم الله به عليكم من العذاب فيكون ذلك حجة لهم عليكم فيقولون: نحن أكرم على الله منكم وأحق بالخير منه. والحجة، الكلام المستقيم، وحاججت فلاناً فحججته أي غلبته بالحجة. "أفلا تعقلون" ما فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم.
ثم وبخهم الله سبحانه 77- " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " من جميع أنواع الإسرار وأنواع الإعلان، ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان. وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ثم قال الله لنبيه ومن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله" وليس قوله يسمعون التوراة كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم" الآية: قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما سمعوه ووعوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم" الآية، قال:الذين يحرفونه والذين يكتبونه هم العلماء منهم، والذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم هؤلاء كلهم يهود. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "يسمعون كلام الله" قال: هي التورات حرفوها. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله:" وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا" أي بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه إليكم خاصة "وإذا خلا بعضهم إلى بعض" قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فقد كنتم تستفتحون به عليهم، وكان منهم "ليحاجوكم به عند ربكم" أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ علكم الميثاق باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كان ينتظر ونجد في كتابنا اجحدوه ولا تقروا به. وأخرج ابن جرير عنه أن هذه الآية في المنافقين من اليهود وقوله: "بما فتح الله عليكم" يعني بما أكرمكم به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب لتقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم. وقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن، فكان اليهود يظهرون الإيمان فيدخلون ويرجعون إلى قومهم بالأخبار، وكان المؤمنون يقولون لهم: أليس قد قال الله في التورات كذا وكذا؟ فيقولون: نعم، فإذا رجعوا إلى قومهم "قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" الآية" وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن سبب نزول الآية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لقوم قريظة تحت حصونهم فقال: يا إخوان القردة والخنازير ويا عبدة الطاغوت، فقالوا: من أخبر هذا الأمر محمداً؟ ما خرج هذا الأمر إلا منكم "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم"" أي بما حكم الله ليكون لهم حجة عليكم. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة أن السبب في نزول الآية:" أن امرأة من اليهود أصابت فاحشة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبتغون منه الحكم رجاء الرخصة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالمهم وهو ابن صوريا فقال له: احكم، قال: فجبوه، والتجبية: يحملونه على حمار ويجعلون وجهه إلى ذنب الحمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ابحكم الله حكمت؟ قال: لا، ولكن نساءنا كن حساناً فأسرع فيهن رجالنا فغيرنا الحكم، وفيه نزل"وإذا خلا بعضهم إلى بعض"الآية". وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا" قال: هم اليهود وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم "وإذا خلا بعضهم إلى بعض" نهى بعضهم بعضاً أن يحدثوا بما فتح الله عليهم وبين لهم في كتابه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوته وقالوا: إنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا بذلك عليكم عند ربكم " أفلا تعقلون * أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " قال: ما يعلنون من أمرهم وكلامهم إذا لقوا الذين آمنوا، وما يسرون إذا خلا بعضهم إلى بعض من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوباً عندهم. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " يعني من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكذبهم، وما يعلنون حين قالوا للمؤمنين آمنا، وقد قال بمثل هذا جماعة من السلف.
قوله: 78- "ومنهم" أي من اليهود. والأمي منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن القراءة للمكتوب، ومنه حديث "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم: أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب، وقيل هم المجوس، وقيل: غير ذلك والراجح الول. ومعنى: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني" أنه لا علم لم به إلا ما هم عليه من الأماني التي يتمنونها ويعللون بها أنفسهم. والأماني جمع أمنية وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم مغفوراً لهم بما يدعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة، أو بما لهم من السلف الصالح في اعتقادهم، وقيل: الأماني الأكاذيب كما سيأتي عن ابن عباس. ومنه قول عثمان بن عفان: ما تمنيت منذ أسلمت: أي ما كذبت، حكاه عنه القرطبي في تفسيره، وقيل الأماني: التلاوة، ومنه قوله تعالى: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" أي إذا تلا أقى الشيطان في تلاوته، أي لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر، ومنه قول كعب بن مالك: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليلة تمنى داود الزبور على رسل وقيل الأماني: التقدير. قال الجوهري: يقال مني له: أي قدر، ومنه قول الشاعر: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني أي يقدر لك المقدر. قال في الكشاف: والاشتقاق من منى إذا قدر، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه وكذلك المختلق والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا انتهى. وإن في قوله: "وإن هم إلا يظنون" نافية: أي ما هم والظن هو التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم كذا في القاموس، أي ما هم إلا يترددون بغير جزم ولا يقين، وقيل: الظن هنا بمعنى الكذب، وقيل: هو مجرد الحدس. لما ذكر الله سبحانه أهل العلم منهم بأنهم غير عاملين بل يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلمون على الأماني ويعتمدون على الظن الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره ولا يظفرون بسواه.
والويل: الهلاك. وقال الفراء: الأصل في الويل وي: أي حزن كما تقول وي لفلان: أي حزن له، فوصلته العرب باللام، قال الخليل: ولم نسمع على بنائه إلا ويح، وويس، وويه، وويك، وويب، وكله متقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم وهي مصادر لم ينطق العرب بأفعالها، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأنه فيه معنى الدعاء. والكتابة معروفة، والمراد: أنهم يكتبون الكتاب المحرف ولا يبينون ولا ينكرونه على فاعله. وقوله: 79- "بأيديهم" تأكيد لأن الكتابة لا تكون إلا باليد فهو مثل قوله: "ولا طائر يطير بجناحيه" وقوله: "يقولون بأفواههم" وقال ابن سراج: هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم. وفيه أنه قد دل على أنه من تلقائهم قوله: "يكتبون الكتاب" فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك. والاشتراء: الاستبدال، وقد تقدم الكلام عليه، ووصفه بالقلة لكونه فانياً لا ثواب فيه، أو لكونه حراماً لا تحل به البركة، فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف ولا بالكتابة لذلك المحرف حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله، لينالوا بهذه المعاصي المتكررة هذا الغرض النزير والعوض الحقير. وقوله: "مما يكسبون" قيل: من الرشا ونحوها، وقيل: من المعاصي، وكرر الويل تغليظاً عليهم وتعظيماً لفعلهم وهتكاً لأستارهم.
80- "وقالوا" أي اليهود "لن تمسنا النار" الآية. وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي بيانه. والمراد بقوله: "قل أتخذتم عند الله عهداً" الإنكار عليهم لما صدر منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها لم تمسهم النار إلا أياماً معدودة: أي لم يتقدم لكم مع الله عهد بهذا، ولا أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه الدعوى حتى يتعين الوفاء بذلك وعدم إخلاف العهد: أي إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون. قال في الكشاف، وأم إما أن تكون معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير لأن العلم واقع بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة انتهى، وهذا توبيخ لهم شديد. قال الرازي في تفسيره: العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد، وإنما سمى خبره سبحانه عهداً لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة.
وقوله: 81- "بلى" إثبات بعد النفي: أي بلى تمسكم لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه أياماً معدودة. والسيئة المراد بها الجنس هنا، ومثله قوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها"، "من يعمل سوءاً يجز به" ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به، قيل: هي الشرك وقيل: الكبيرة. وتفسيرها بالشرك أولى لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قرأ نافع خطياته بالجمع، وقرأ الباقون بالإفراد، وقد تقدم تفسير الخلود. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب" قال: لا يدرون ما فيه " وإن هم إلا يظنون " قال: وهم يجحدون نبوتك بالظن. وأخرج ابن جرير عنه قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله فكتبوا كتاباً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله. وقد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله. وأخرج ابن جرير عن النخعي قال: منهم من لا يحسن أن يكتب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا أماني" قال: الأحاديث. وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب. وكذا روى مثله عبد بن حميد عن مجاهد، وزاد "وإن هم إلا يظنون" قال: إلا يكذبون. وأخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فويل للذين يكتبون الكتاب" قال: نزلت في أهل الكتاب. وأخرج أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وصححه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره". وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعاً قال: "الويل جبل في النار". وأخرج البزار وابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً أنه حجر في النار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فويل للذين يكتبون الكتاب" قال: هم أحبار اليهود، وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة أكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه، فلما وجدوه في التوراة محوه حسداً وبغياً، فأتاهم نفر من قريش فقالوا: تجدون في التوراة نبياً أمياً؟ فقالوا: نعم نجده طويلاً أزرق سبط الشعر، فأنكرت قريش وقالوا: ليس هذا منا، وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "ثمناً قليلاً" قال: عرضاً من عرض الدنيا "فويل لهم" قال: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب "وويل لهم مما يكسبون" يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم. وقد ذكر صاحب الدر المنثور آثاراً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية، ولا دلالة فيها على ذلك، ثم ذكر آثاراً عن جماعة منهم أنهم جوزوا ذلك ولم يكرهوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والواحدي عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك "وقالوا لن تمسنا النار" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا: لن نعذب أهل النار إلا قدر أربعين، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار فساروا فيها حتى انتهوا إلى سقر، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة، فقال لهم خزنة النار: يا أعداء الله زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة، فقد انقضى العدد وبقي الأبد، فيؤخذون في الصعود يرهقون على وجوههم. وأخرج ابن جرير عنه أن اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال:" اجتمعت يهود يوماً فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات أربعين يوماً. ثم يخلفنا فيها ناس وأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد يديه على رأسه: كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها إن شاء الله أبداً ففيهم نزلت هذه الآية "وقالوا: لن تمسنا النار"". وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد والبخاري والدارمي والنسائي من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل اليهود في خيبر: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسأوا والله لا نخلفكم فيها أبداً". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "قل أتخذتم عند الله عهداً" أي موثقاً من الله بذلك أنه كما تقولون. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه فسر العهد هنا بأنهم قالوا: لا إله إلا الله، لم يشركوا به ولم يكفروا. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "أم تقولون على الله ما لا تعلمون" قال: قال القوم: الكذب والباطل، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بلى من كسب سيئة" قال: الشرك. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة وقتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: " وأحاطت به خطيئته " قال: أحاط به شركه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "بلى من كسب سيئة" أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط كفره بما له من حسنة "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
82- " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي من آمن بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: " وأحاطت به خطيئته " قال: هي الكبيرة الموجبة لأهلها النار. وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن أنه قال: كل ما وعد الله عليه النار فهو الخطيئة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن الربيع بن خيثم قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب وأخرج مثله ابن جرير عن الأعمش.
قد تقدم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل. وقال مكي: إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو ما أخذه الله عليهم في حياتهم على ألسن أنبيائهم، وهو قوله: 83- "لا تعبدون إلا الله" وعبادة الله إثبات توحيده وتصديق رسله والعمل بما أنزل في كتبه. قال سيبويه: إن قوله: "لا تعبدون إلا الله" هو جواب قسم، والمعنى، استحلفناهم والله لا تعبدون إلا الله، وقيل: هو إخبار في معنى الأمر، ويدل على قراءة أبي وابن مسعود لا تعبدوا على النهي ويدل عليه أيضاً ما عطف عليه من قوله: "وقولوا" "وأقيموا" "وآتوا" وقال قطرب والمبرد: إن قوله: "لا تعبدون" جملة حالية: أي أخذنا ميثاقهم موحدين أو غير معاندين. قال القرطبي: وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي يعبدون بالياء التحتية. وقال الفراء والزجاج وجماعة: إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن لا تعبدوا إلا الله وبأن تحسنوا بالوالدين، وبأن لا تسفكوا الدماء: ثم حذف أن فارتفع الفعل لزوالها. قال المبرد: هذا خطأ، لأ كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهراً. وقال القرطبي: ليس بخطأ بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي بالنصب لقوله: أحضر وبالرفع. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما وامتثال أمرها، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق. والقربى: مصدر كالرجعى والعقبى، هم القرابة- والإحسان بهم: صلتهم والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة وبقدر ما تبلغ إليه القدرة. واليتامى جمع يتيم، واليتيم في بني آدم من فقد أبوه. وفي سائر الحيوانات: من فقدت أمه. وأصله الانفراد- يقال: صبي يتيم: أي منفرد من أبيه والمساكين جمع مسكين، وهو من أسكنته الحاجة وذللته، وهو أشد فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وكثير من أهل الفقه. وروي عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين. وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها. ومعنى قوله: "وقولوا للناس حسناً" أي قولوا لهم قولاً حسناً فهو صفة مصدر محذوف، وهو مصدر كبشرى، وقرأ حمزة والكسائي حسناً بفتح الحاء والسين. وكذلك قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود. قال الأخفش: هما بمعنى واحد، مثل البخل والبخل، والرشد والرشد وحكى الأخفش أيضاً حسنى بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام نحو الفضلى والكبرى والحسنى وهذا قول سيبويه. وقرأ عيسى بن عمر حسناً بضمتين: والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر. وقد قيل: إن ذلك هو كلمة التوحيد، وقيل: الصدق، وقيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيل: غير ذلك. وقوله: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" قد تقدم تفسيره، وهو خطاب لبني إسرائيل، فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها، والزكاة التي كانوا يخرجونها. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يقبل، ولا تنزل على ما لا يقبل. وقوله: "ثم توليتم" قيل: الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم مثل سلفهم في ذلك، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب. وقوله: "إلا قليلاً" منصوب على الاستثناء، ومنهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله: "وأنتم معرضون" في موضع كالنصب على الحال، والإعراض والتولي بمعنى واحد، وقيل: التولي بالجسم، والإعراض بالقلب.