تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 14 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 14

14- تفسير الصفحة رقم14 من المصحف
 الآية: 89 {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}
قوله تعالى: "ولما جاءهم" يعني اليهود. قوله تعالى: "كتاب من عند الله" يعني القرآن. قوله تعالى: "مصدق" نعت لكتاب، ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال، وكذلك هو في مصحف أبي بالنصب فيما روي. قوله تعالى: "لما معهم" يعني التوراة والإنجيل يخبرهم بما فيهما.
قوله تعالى: "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" أي يستنصرون. والاستفتاح الاستنصار. استفتحت: استنصرت. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم. ومنه "فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده" [المائدة: 52]. والنصر: فتح شيء مغلق، فهو يرجع إلى قولهم فتحت الباب. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). وروى النسائي أيضا عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم". قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود، فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا، فأنزل الله تعالى: "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" أي بك يا محمد، إلى قوله: "فلعنة الله على الكافرين".
قوله تعالى: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" "ولما جاءهم" جواب "لما" الفاء وما بعدها في قوله "فلما جاءهم ما عرفوا" في قول الفراء، وجواب "لما" الثانية "كفروا". وقال الأخفش سعيد: جواب "لما" محذوف لعلم السامع، وقاله الزجاج. وقال المبرد: جواب "لما" في قوله: "كفروا"، وأعيدت "لما" الثانية لطول الكلام. ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيدا له.
الآية: 90 {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين}
قوله تعالى: "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله" بئس في كلام العرب مستوفية للذم، كما أن "نعم" مستوفية للمدح. وفي كل واحدة منها أربع لغات: بِئْس بَئْس بَئِس بِئِس. نِعْم نَعْم نَعِم نِعِم. ومذهب سيبويه أن "ما" فاعلة بئس، ولا تدخل إلا على أسماء الأجناس والنكرات. وكذا نِعم، فتقول نعم الرجل زيد، ونعم رجلا زيد، فإذا كان معها اسم بغير ألف ولام فهو نصب أبدا، فإذا كان فيه ألف ولام فهو رفع أبدا، ونصب رجل على التمييز. وفي نعم مضمر على شريطة التفسير، وزيد مرفوع على وجهين: على خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل من الممدوح؟ قلت هو زيد، والآخر على الابتداء وما قبله خبره. وأجاز أبو علي أن تليها "ما" موصولة وغير موصولة من حيث كانت مبهمة تقع على الكثرة ولا تخص واحدا بعينه، والتقدير عند سيبويه: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا. فـ "أن يكفروا" في موضع رفع بالابتداء وخبره فيما قبله، كقولك: بئس الرجل زيد، و"ما" على هذا القول موصولة. وقال الأخفش: "ما" في موضع نصب على التمييز، كقولك: بئس رجلا زيد، فالتقدير بئس شيئا أن يكفروا. فـ "اشتروا به أنفسهم" على هذا القول صفة "ما". وقال الفراء: "بئسما" بجملته شيء واحد ركب كحبذا. وفي هذا القول اعتراض، لأنه يبقى فعل بلا فاعل. وقال الكسائي: "ما" و"اشتروا" بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود، فإن نعم وبئس لا يدخلان على اسم معين معرف، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير. قال النحاس: وأبين هذه الأقوال قول الأخفش وسيبويه. قال الفراء والكسائي: "أن يكفروا" إن شئت كانت "أن" في موضع خفض ردا على الهاء في به. قال الفراء: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله. فاشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع، والمعنى: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالإيمان.
قوله تعالى: "بغيا" معناه حسدا، قال قتادة والسدي، وهو مفعول من أجله، وهو على الحقيقة مصدر. الأصمعي: وهو مأخوذ من قولهم: قد بغى الجرح إذا فسد. وقيل: أصله الطلب، ولذلك سميت الزانية بغيا. قوله تعالى: "أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده" في موضع نصب، أي لأن ينزل، أي لأجل إنزال الله الفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن "أن ينزل" مخففا، وكذلك سائر ما في القرآن، إلا "وما ننزله" [الحجر: 21]، وفي "الأنعام" "على أن ينزل آية". [الأنعام: 37].
قوله تعالى: "فباؤوا" أي رجعوا، وأكثر ما يقال في الشر، وقد تقدم. قوله تعالى: "بغضب على غضب" تقدم معنى غضب الله عليهم، وهو عقابه، فقيل: الغضب الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس. وقال عكرمة: لأنهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد، يعني اليهود. وروى سعيد عن قتادة: الأول لكفرهم بالإنجيل، والثاني لكفرهم بالقرآن. وقال قوم: المراد التأبيد وشدة الحال عليهم، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين. قوله تعالى: "وللكافرين عذاب مهين" مأخوذ من الهوان، وهو ما اقتضى الخلود في النار دائما بخلاف خلود العصاة من المسلمين، فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير، كرجم الزاني وقطع يد السارق، على ما يأتي بيانه في سورة "النساء" من حديث أبي سعيد الخدري إن شاء الله تعالى.
الآية: 91 {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين}
قوله تعالى: "وإذا قيل لهم آمنوا" أي صدقوا. "بما أنزل الله" يعني القرآن. "قالوا نؤمن" أي نصدق. "بما أنزل علينا" يعني التوراة. "ويكفرون بما وراءه" أي بما سواه، عن الفراء. وقتادة: بما بعده، وهو قول أبي عبيدة، والمعنى واحد. قال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام. وهي من الأضداد، قال الله تعالى: "وكان وراءهم ملك" أي أمامهم، وتصغيرها وريئه (بالهاء) وهي شاذة. وانتصب "وراءه" على الظرف. قال الأخفش: يقال لقيته من وراء، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما وهو غير متمكن، كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء
قلت: ومنه قول إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة: (إنما كنت خليلا من وراء وراء). والوراء: ولد الولد أيضا.
قوله تعالى: "وهو الحق" ابتداء وخبر. "مصدقا" حال مؤكدة عند سيبويه. "لما معهم" ما في موضع خفض باللام، و"معهم" صلتها، و"معهم" نصب بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا.
قوله تعالى: "قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل" رد من الله تعالى عليهم في قولهم إنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم وتوبيخ، المعنى: فكيف قتلتم وقد نهيتم عن ذلك! فالخطاب لمن حضر محمدا صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم. وإنما توجه الخطاب لأبنائهم، لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، كما قال: "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء" [المائدة: 81] فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم. وقيل: لأنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم. وجاء "تقتلون" بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله: "من قبل". وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل، والمستقبل بمعنى الماضي، قال الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر
شهد بمعنى يشهد.
قوله تعالى: "إن كنتم مؤمنين" أي إن كنتم معتقدين الإيمان فلم رضيتم بقتل الأنبياء! وقيل: "إن" بمعنى ما، وأصل "لم" لما، حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أن يوقف عليه، لأنه إن وقف عليه بلا هاء كان لحنا، وإن وقف عليه بالهاء زيد في السواد.
الآية: 92 {ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون}
قوله تعالى: "ولقد جاءكم موسى بالبينات" اللام لام القسم. والبينات قوله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" [الإسراء: 101] وهي العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع، وفلق البحر. وقيل: البينات التوراة، وما فيها من الدلالات.
قوله تعالى: "ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون" توبيخ، و"ثم" أبلغ من الواو في التقريع، أي بعد النظر في الآيات والإتيان بها اتخذتم. وهذا يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآية، وذلك أعظم لجرمهم.
الآية: 93 {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين}
قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا" تقدم الكلام في هذا. ومعنى "واسمعوا" أطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعلموا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب. قال:
دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول
أي يقبل، وقال الراجز:
والسمع والطاعة والتسليم خير وأعفى لبني تميم
قوله تعالى: "قالوا سمعنا وعصينا" اختلف هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول فيكون مجازا، كما قال:
امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني
وهذا احتجاج عليهم في قولهم: "نؤمن بما أنزل علينا".
قوله تعالى: "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" أي حب العجل والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم. وفي الحديث: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء...) الحديث، خرجه مسلم. يقال أشرب قلبه حب كذا، قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل والحب تشربه فؤادك داء
وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها. وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة، وكان عتب عليها في بعض الأمر فطلقها وكان محبا لها:
تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو أن إنسانا يطير
وقال السدي وابن جريج: إن موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه. وروي أنه ما شربه أحد إلا جن، حكاه القشيري.
قلت: أما تذريته في البحر فقد دل عليه قوله تعالى: "ثم لننسفنه في اليم نسفا" [طه: 97]، وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشفاه فيرده قوله تعالى: "واشربوا في قلوبهم العجل" والله تعالى اعلم.
قوله تعالى: "قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين" وقد تقدم ذكره. "إيمانكم" أي إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: نؤمن بما أنزل علينا. وقيل: إن هذا الكلام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمر أن يوبخهم، أي قل لهم يا محمد: بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم.