تفسير الطبري تفسير الصفحة 14 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 14
015
013
 الآية : 89
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّق لِـمَا مَعَهُمْ: ولـما جاء الـيهود من بنـي إسرائيـل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم, كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ يعنـي بـالكتاب: القرآن الذي أنزله الله علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم, مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ يعنـي مصدّق للذي معهم من الكتب التـي أنزلها الله من قبل القرآن. كما:
1121ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ وهو القرآن الذي أنزل علـى مـحمد مصدق لـما معهم من التوراة والإنـجيـل.
1122ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّق لِـمَا مَعَهُمْ وهو القرآن الذي أنزل علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم مصدق لـما معهم من التوراة والإنـجيـل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا أي وكان هؤلاء الـيهود الذين لـما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لـما معهم من الكتب التـي أنزلها الله قبل الفرقان, كفروا به يستفتـحون بـمـحمد صلى الله عليه وسلم ومعنى الاستفتاح: الاستنصار يستنصرون الله به علـى مشركي العرب من قبل مبعثه أي من قبل أن يبعث. كما:
1123ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري, عن أشياخ منهم قالوا: فـينا والله وفـيهم يعنـي فـي الأنصار وفـي الـيهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة, يعنـي: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا قالوا: كنا قد علوناهم دهرا فـي الـجاهلـية, ونـحن أهل الشرك, وهم أهل الكتاب, فكانوا يقولون: إن نبـيّا الاَن مبعثه قد أظل زمانه, يقتلكم قَتْلَ عادٍ وإرَم فلـما بعث الله تعالـى ذكره رسوله من قريش واتبعناه كفروا به. يقول الله: فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.
1124ـ حدثنا بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة مولـى ابن عبـاس, عن ابن عبـاس: أن يهود كانوا يستفتـحون علـى الأوس والـخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلـما بعثه الله من العرب, كفروا به, وجحدوا ما كانوا يقولون فـيه, فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بنـي سلـمة: يا معشر يهود, اتقوا الله وأسلـموا فقد كنتـم تستفتـحون علـينا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم ونـحن أهل شِرْك, وتـخبروننا أنه مبعوث, وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أخو بنـي النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه, وما هو بـالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله جل ثناؤه فـي ذلك من قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ عَلَـى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ علـى الكافِرِينَ.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت, قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, مثله.
1125ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا يقول: يستنصرون بخروج مـحمد صلى الله عليه وسلم علـى مشركي العرب يعنـي بذلك أهل الكتاب فلـما بعث الله مـحمدا صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه.
1126ـ وحدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنـي عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن علـيّ الأزدي فـي قول الله: وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا قال: الـيهود, كانوا يقولون: اللهمّ ابعث لنا هذا النبـيّ يحكم بـيننا وبـين الناس يَسْتَفْتِـحُونَ يستنصرون به علـى الناس.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, علـى عن الأزدي وهو البـارقـي فـي قول الله جل ثناؤه: وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ فذكر مثله.
1127ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا كانت الـيهود تستفتـح بـمـحمد صلى الله عليه وسلم علـى كفـار العرب من قبل, وقالوا: اللهمّ ابعث هذا النبـيّ الذي نـجده فـي التوراة يعذّبهم ويقتلهم فلـما بعث الله مـحمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم كفروا به حسدا للعرب, وهم يعلـمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة فَلَـمّا جَاءَهُمْ مَا عرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.
1128ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, قال: كانت الـيهود تستنصر بـمـحمد صلى الله عليه وسلم علـى مشركي العرب, يقولون: اللهمّ ابعث هذا النبـيّ الذي نـجده مكتوبـا عندنا حتـى يعذّب الـمشركين ويقتلهم فلـما بعث الله مـحمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب, وهم يعلـمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله: فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ علـى الكافِرِينَ.
1129ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: ولـمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ قال: كانت العرب تـمرّ بـالـيهود فـيؤذونهم, وكانوا يجدون مـحمدا صلى الله عليه وسلم فـي التوراة, ويسألون الله أن يبعثه فـيقاتلوا معه العرب فلـما جاءهم مـحمد كفروا به حين لـم يكن من بنـي إسرائيـل.
1130ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: وَكَانُوا مِنْ قَبْل يَسْتَفْتِـحُونَ عَلـى الّذِينَ كَفَرُوا قال: كانوا يستفتـحون علـى كفـار العرب بخروج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ويرجون أن يكون منهم. فلـما خرج ورأوه لـيس منهم كفروا, وقد عرفوا أنه الـحقّ وأنه النبـيّ. قال: فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ علـى الكافِرِينَ.
قال: حدثنا ابن جريج, وقال مـجاهد: يستفتـحون بـمـحمد صلى الله عليه وسلم تقول أنه يخرج, فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا وكان من غيرهم, كَفَرُوا بِهِ.
1131ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: وقال ابن عبـاس: كانوا يستفتـحون علـى كفـار العرب.
1132ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنـي الـحمانـي, قال: حدثنـي شريك, عن أبـي الـحجاب, عن مسلـم البطين, عن سعيد بن جبـير قوله: فَلَـمّا جاءهُمْ مَا عرَفُوا كَفَرُوا بِهِ قال: هم الـيهود عرفوا مـحمدا أنه نبـيّ, وكفروا به.
1133ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا قال: كانوا يستظهرون يقولون نـحن نعين مـحمدا علـيهم, ولـيسوا كذلك يكذبون.
1134ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألت ابن زيد عن قول الله عزّ وجل: وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرفُوا كَفَرُوا بِهِ قال: كانت يهود يستفتـحون علـى كفـار العرب يقولون: أما والله لو قد جاء النبـيّ الذي بشر به موسى وعيسى أحمد لكان لنا علـيكم. وكانوا يظنون أنه منهم والعرب حولهم, وكانوا يستفتـحون علـيهم به ويستنصرون به فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وحسدوه. وقرأ قول الله جل ثناؤه: كُفّـارا حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَـيّنَ لَهُمُ الـحَقّ قال: قد تبـين لهم أنه رسول, فمن هنالك نفع الله الأوس والـخزرج بـما كانوا يسمعون منهم أن نبـيّا خارج.
فإن قال لنا قائل: فأين جواب قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدق لِـمَا مَعَهُمْ؟ قـيـل: قد اختلف أهل العربـية فـي جوابه, فقال بعضهم: هو مـما تُرك جوابه استغناء بـمعرفة الـمخاطبـين به بـمعناه وبـما قد ذكر من أمثاله فـي سائر القرآن. وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام, فتأتـي بأشياء لها أجوبة فتـحذف أجوبتها لاستغناء سامعيها بـمعرفتهم بـمعناها عن ذكر الأجوبة, كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ أَنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الـجِبَـالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوّ كُلّـمَ بِهِ الـمَوْتَـى بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَمِعيا فترك جوابه. والـمعنى: «ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الـجبـال لسُيّرت بهذا القرآن» استغناءً بعلـم السامعين بـمعناه. قالوا: فكذلك قوله: وَلَـمّا جَاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ.
وقال آخرون: جواب قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتاب مِنْ عِنْدِ اللّهِ فـي «الفـاء» التـي فـي قوله: فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وجواب الـجزاءين فـي «كفروا به» كقولك: لـما قمت فلـما جئتنا أحسنت, بـمعنى: لـما جئتنا إذْ قمتَ أحسنتَ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلَعنَةُ اللّهِ علـى الكافِرِينَ.
قد دللنا فـيـما مضى علـى معنى اللعنة وعلـى معنى الكفر, بـما فـيه الكفـاية. فمعنى الآية: فخزي الله وإبعاده علـى الـجاحدين ما قد عرفوا من الـحقّ علـيهم لله ولأنبـيائه الـمنكرين, لـما قد ثبت عندهم صحته من نبوة مـحمد صلى الله عليه وسلم. ففـي إخبـار الله عزّ وجل عن الـيهود بـما أخبر الله عنهم بقوله: فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ البـيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بـمـحمد صلى الله عليه وسلم بعد قـيام الـحجة بنبوّته علـيهم وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إلـيهم.
الآية : 90
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ }
ومعنى قوله جل ثناؤه: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ ساء ما اشتروا به أنفسهم. وأصل «بِئْسَ»: «بَئِسَ» من البؤس, سكنت همزتها ثم نقلت حركتها إلـى البـاء, كما قـيـل فـي ظَلِلْت: ظِلْتُ, وكما قـيـل للكَبِد: كِبْدٌ, فنقلت حركة البـاء إلـى الكاف لـما سكنت البـاء. وقد يحتـمل أن تكون «بِئْس» وإن كان أصلها «بَئِسَ» من لغة الذين ينقلون حركة العين من فعل إلـى الفـاء إذا كانت عين الفعل أحد حروف الـحلق الستة, كما قالوا من «لَعِبَ» «لِعْبَ», ومن «سَئِمَ» «سِئْمَ», وذلك فـيـما يقال لغة فـاشية فـي تـميـم, ثم جعلت دالّة علـى الذمّ والتوبـيخ ووصلت ب«ما».
واختلف أهل العربـية فـي معنى «ما» التـي مع «بئسما», فقال بعض نـحويـي البصرة: هي وحدها اسم, و«أن يكفروا» تفسير له, نـحو: نعم رجلاً زيد. و«أن ينزل الله» بدل من «أنزل الله».
وقال بعض نـحويـي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا, ف«ما» اسم بئس, و«أن يكفروا» الاسم الثانـي. وزعم أن «أن ينزل الله من فضله» إن شئت جعلت «أن» فـي موضع رفع, وإن شئت فـي موضع خفض. أما الرفع: فبئس الشيء هذا أن فعلوه وأما الـخفض: فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بـما أنزل الله بغيا. قال: وقوله: لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ أنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَـيْهِمْ كمثل ذلك. والعرب تـجعل «ما» وحدها فـي هذا البـاب بـمنزلة الاسم التام كقوله: فَنعِمّا هِيَ و«بئسما أنت». واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرّجّاز:
لا تَعْجِلا فِـي السّيْرِ وادْلُوَاهَالَبِئْسَما بُطْءٌ وَلا نَرعاها
قال أبو جعفر: والعرب تقول: لبئسما تزويج ولا مهر, فـيجعلون «ما» وحدها اسما بغير صلة. وقائل هذه الـمقالة لا يجيز أن يكون الذي يـلـي «بئس» معرفة موَقّتة وخبره معرفة موقّتة. وقد زعم أن «بئسما» بـمنزلة: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم, فقد صارت «ما» بصلتها اسما موقتا لأن «اشتروا» فعل ماض من صلة «ما» فـي قول قائل هذه الـمقالة, وإذا وصلت بـماض من الفعل كانت معرفة موقتة معلومة فـيصير تأويـل الكلام حينئذٍ: «بئس شراؤهم كفرهم», وذلك عنده غير جائز, فقد تبـين فساد هذا القول. وكان آخر منهم يزعم أن «أن» فـي موضع خفض إن شئت, ورفع إن شئت, فأما الـخفض فأن تردّه علـى الهاء التـي فـي «به» علـى التكرير علـى كلامين, كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بـالكفر. وأما الرفع فأن يكون مكرّرا علـى موضع «ما» التـي تلـي «بئس». قال: ولا يجوز أن يكون رفعا علـى قولك: بئس الرجلُ عبدُ الله.
وقال بعضهم: «بئسما» شيء واحد يرافع ما بعده كما حكي عن العرب: «بئسما تزويج ولا مهر» فرافع تزويج «بئسما», كما يقال: «بئسما زيد, وبئسما عمرو», فـيكون «بئسما» رفعا بـما عاد علـيها من الهاء, كأنك قلت: بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم, وتكون «أن» مترجمة عن «بئسما».
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من جعل «بئسما» مرفوعا بـالراجع من الهاء فـي قوله: اشْتَرَوا بِهِ كما رفعوا ذلك بعبد الله, إذ قالوا: بئسما عبد الله, وجعل «أن يكفروا» مترجمة عن «بئسما», فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: بئس الشي بـاع الـيهود به أنفسم كفرهم بـما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله. وتكون «أن» التـي فـي قوله: «أن ينزل الله», فـي موضع نصب لأنه يعنـي به أن يكفروا بـما أنزل الله من أجل أن ينزل الله من فضله علـى من يشاء من عبـاده وموضعه أن جر. وكان بعض أهل العربـية من الكوفـيـين يزعم أن «أن» فـي موضع خفض بنـية البـاء. وإنـما اخترنا فـيها النصب لتـمام الـخبر قبلها, ولا خافض معها يخفضها, والـحرف الـخافض لا يخفض مضمرا. وأما قوله: اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ فإنه يعنـي به بـاعوا أنفسهم. كما:
1135ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ يقول: بـاعوا أنفسهم أن يكفروا بـما أنزل الله بغيا.
1136ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مـجاهد: بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ يهود شروا الـحق بـالبـاطل وكتـمان ما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم بأن يبـينوه. والعرب تقول: شَريته بـمعنى بعته, واشتروا فـي هذا الـموضع «افتعلوا» من شريت. وكلام العرب فـيـما بلغنا أن يقولوا: شَرَيْت بـمعنى بعت, واشتريت بـمعنى ابتعت. وقـيـل إنـما سمي الشاري شاريا لأنه بـاع نفسه ودنـياه بآخرته. ومن ذلك قول يزيد بن مفرّغ الـحميري:
وَشَرَيْتُ بُرْدا لَـيْتَنِـيمِنْ قَبْلُ بُرْدٍ كُنْتُ هامَهْ
ومنه قول الـمسيّب بن عَلَس:
يُعْطَى بِها ثَمَنا فَـيَـمْنَعُهاويَقُولُ صَاحِبُهَا ألا تَشْرِي
يعنـي به: بعت بردا. وربـما استعمل «اشتريت» بـمعنى «بعت», و«شريت» فـي معنى «ابتعت», والكلام الـمستفـيض فـيهم هو ما وصفت.
وأما معنى قوله: بَغْيا فإنه يعنـي به: تعدّيا وحسدا. كما:
1137ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد بن قتادة: بَغْيا قال: أي حسدا, وهم الـيهود.
1138ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: بَغْيا قال: بغوا علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه, وقالوا: إنـما كانت الرسل من بنـي إسرائيـل, فما بـال هذا من بنـي إسماعيـل فحسدوه أن ينزل الله من فضله علـى من يشاء من عبـاده.
1139ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: بَغْيا يعنـي حسدا أن ينزل الله من فضله علـى من يشاء من عبـاده, وهم الـيهود كفروا بـما أنزل علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء بـاعوا به أنفسهم الكفر بـالذي أنزل الله فـي كتابه علـى موسى من نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم والأمر بتصديقه واتبـاعه, مِنْ أجل أن أنزل الله من فضله, وفضلُه حكمته وآياته ونبوّته علـى من يشاء من عبـاده يعنـي به علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا لـمـحمد صلى الله عليه وسلم, من أجل أنه كان من ولد إسماعيـل, ولـم يكن من بنـي إسرائيـل.
فإن قال قائل: وكيف بـاعت الـيهود أنفسها بـالكفر فقـيـل: بئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ أنْ يَكْفُرُوا بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ؟ وهل يشترى بـالكفر شيء؟ قـيـل: إن معنى الشراء والبـيع عند العرب: هو إزالة مالك ملكه إلـى غيره بعوض يعتاضه منه, ثم تستعمل العرب ذلك فـي كل معتاض من عمله عوضا شرّا أو خيرا, فتقول: نِعْمَ ما بـاع به فلان نفسه, وبئس ما بـاع به فلان نفسه, بـمعنى: نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه علـيها خيرا أو شرّا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لـما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بـمـحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها, خاطبهم الله والعرب بـالذي يعرفونه فـي كلامهم فقال: بئسما اشتروا به أنفسهم يعنـي بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم, وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بـالله فـي تكذيبهم مـحمدا, إذْ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعدّ لهم لو كانوا آمنوا بـالله وما أنزل علـى أنبـيائه بـالنار, وما أعدّ لهم بكفرهم بذلك. وهذه الآية وما أخبر الله فـيها عن حسد الـيهود مـحمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب, من أجل أن الله جعل النبوّة والـحكمة فـيهم دون الـيهود من بنـي إسرائيـل, حتـى دعاهم ذلك إلـى الكفر به مع علـمهم بصدقه, وأنه نبـيّ لله مبعوث ورسول مرسل نظيرة الآية الأخرى فـي سورة النساء, وذلك قوله: ألـم تَرَ الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِـالـجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ للذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِـيلاً أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَنْ يَـلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَـجِدَ لَهُ نَصِيرا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الـمُلْكِ فإذا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقـيرا أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ علـى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَـيْنا آلَ إبْرَاهِيـمَ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وآتَـيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيـما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أنْ يُنَزّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ علـى مَنْ يَشاءُ منْ عِبـادِهِ.
قد ذكرنا تأويـل ذلك وبـيّنا معناه, ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فـيه.
1140ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري, عن أشياخ منهم قوله: بَغْيا أنْ يُنَزّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ علـى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ أي أن الله تعالـى جعله فـي غيرهم.
1141ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: هم الـيهود, ولـما بعث الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم, كفروا به حسدا للعرب, وهم يعلـمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة.
1142ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, مثله.
1143ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
1144ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: قالوا: إنـما كانت الرسل من بنـي إسرائيـل, فما بـال هذا من بنـي إسماعيـل.
1145ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن علـيّ الأزدي قال: نزلت فـي الـيهود.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَبـاءوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ.
يعنـي بقوله: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ فرجعت الـيهود من بنـي إسرائيـل بعد الذي كانوا علـيه من الاستنصار بـمـحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به, وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبـيّ مبعوث مرتدين علـى أعقابهم حين بعثه الله نبـيّا مرسلاً, فبـاءوا بغضب من الله استـحقّوه منه بكفرهم بـمـحمد حين بعث, وجحودهم نبوّته, وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته فـي كتابهم عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب عَلـى غَضَبٍ سالف كان من الله علـيهم قبل ذلك سابق غضبه الثانـي لكفرهم الذي كان قبل ذلك بعيسى ابن مريـم, أو لعبـادتهم العجل, أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت يستـحقون بها الغضب من الله. كما:
1146ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: حدثنـي ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, فـيـما أروي عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ فـالغضب علـى الغضب غضبه علـيهم فـيـما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم, وغضب بكفرهم بهذا النبـيّ الذي أحدث الله إلـيهم.
1147ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفـيان عن أبـي بكير, عن عكرمة: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ قال: كُفْرٌ بعيسى وكفرٌ بـمـحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي بكير, عن عكرمة: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ قال: كفرهم بعيسى ومـحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن أبـي بكير, عن عكرمة مثله.
1148ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبـي, قال: الناس يوم القـيامة علـى أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بـمـحمد صلـى الله علـيهما فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بـمـحمد صلى الله عليه وسلم فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بـمـحمد, فبـاء بغضب علـى غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب, فمات بكفره قبل مـحمد صلى الله عليه وسلم فبـاء بغضب.
1149ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ غضب الله علـيهم بكفرهم بـالإنـجيـل وبعيسى, وغضب علـيهم بكفرهم بـالقرآن وبـمـحمد صلى الله عليه وسلم.
1150ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فبَـاءُوا بِغَضَبٍ الـيهود بـما كان من تبديـلهم التوراة قبل خروج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, عَلَـى غَضَبٍ جحودهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم وكفرهم بـما جاء به.
1151ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: فَبَـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ يقول: غضب الله علـيهم بكفرهم بـالإنـجيـل وعيسى, ثم غضبه علـيهم بكفرهم بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـالقرآن.
1152ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَبـاءُوا بِغَضَبً علـى غَضَبٍ أما الغضب الأول: فهو حين غضب الله علـيهم فـي العجل, وأما الغضب الثانـي: فغضب علـيهم حين كفروا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم.
1153ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج وعطاء وعبـيد بن عمير قوله: فَبَـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ قال: غضب الله علـيهم فـيـما كانوا فـيه من قبل خروج النبـيّ صلى الله عليه وسلم من تبديـلهم وكفرهم, ثم غضب علـيهم فـي مـحمد صلى الله عليه وسلم إذ خرج فكفروا به.
قال أبو جعفر: وقد بـينا معنى الغضب من الله علـى من غضب علـيه من خـلقه واختلاف الـمختلفـين فـي صفته فـيـما مضى من كتابنا هذا بـما أغنى عن إعادته, والله تعالـى أعلـم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وللْكافِرِينَ عَذَابَ مُهِين.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وللْكافِرِينَ عَذَاب مُهِين: وللـجاحدين نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم عذاب من الله إما فـي الاَخرة, وإما فـي الدنـيا والاَخرة مهين هو الـمذلّ صاحبه الـمخزي الـملبسه هوانا وذلة.
فإن قال قائل: أيّ عذاب هو غير مهين صاحبه فـيكون للكافرين الـمهين منه؟ قـيـل: إن الـمهين هو الذي قد بـينا أنه الـمورث صاحبه ذلّةً وهوانا الذي يخـلد فـيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلـى عزّ وكرامة أبدا, وهو الذي خصّ الله به أهل الكفر به وبرسله وأما الذي هو غير مهين صاحبه: فهو ما كان تـمـحيصا لصاحبه, وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام يسرق ما يجب علـيه به القطع فتُقطع يده, والزانـي منهم يزنـي فـيقام علـيه الـحدّ, وما أشبه ذلك من العذاب, والنكال الذي جعله الله كفـارات للذنوب التـي عذّب بها أهلها, وكأهل الكبـائر من أهل الإسلام الذين يعذّبون فـي الاَخرة بـمقادير أجرامهم التـي ارتكبوها لـيـمـحّصوا من ذنوبهم ثم يدخـلون الـجنة. فإن كل ذلك وإن كان عذابـا فغير مهين من عذّب به, إذ كان تعذيب الله إياه به لـيـمـحصه من آثامه ثم يورده معدن العزّ والكرامة ويخـلده فـي نعيـم الـجنان.
الآية : 91
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ وإذا قـيـل للـيهود من بنـي إسرائيـل للذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمِنُوا أي صدّقوا, بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ يعنـي بـما أنزل الله من القرآن علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم. قالُوا نُؤْمِنُ أي نصدّق, بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا يعنـي بـالتوراة التـي أنزلها الله علـى موسى.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ ويجحدون بـما وراءه, يعنـي بـما وراء التوراة.
قال أبو جعفر: وتأويـل «وراءه» فـي هذا الـموضع «سوى» كما يقال للرجل الـمتكلـم بـالـحسن: ما وراء هذا الكلام شيء, يراد به لـيس عند الـمتكلـم به شيء سوى ذلك الكلام فكذلك معنى قوله: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ أي بـما سوى التوراة وبـما بعده من كتب الله التـي أنزلها إلـى رسله. كما:
1154ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَيَكُفُرُونَ بِـمَا وراءَهُ يقول: بـما بعده.
1155ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ أي بـما بعده, يعنـي بـما بعد التوراة.
1156ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ يقول: بـما بعده.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَهُوَ الـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا مَعَهُمْ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وهُوَ الـحَقّ مُصدّقا أي ما وراء الكتاب الذي أنزل علـيهم من الكتب التـي أنزلها الله إلـى أنبـيائه الـحق. وإنـما يعنـي بذلك تعالـى ذكره القرآن الذي أنزله إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم. كما:
1157ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ آمِنُوا بِـمَا أنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ وهو القرآن. يقول الله جل ثناؤه: وَهُوَ الـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا مَعَهُمْ. وإنـما قال جل ثناؤه: مُصَدّقا لِـمَا مَعَهُمْ لأن كتب الله يصدّق بعضها بعضا ففـي الإنـجيـل والقرآن من الأمر بـاتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم والإيـمان به وبـما جاء به, مثل الذي من ذلك فـي توراة موسى علـيه السلام فلذلك قال جل ثناؤه للـيهود إذ خبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله علـى موسى صلوات الله علـيه من الكتب التـي أنزلها إلـى أنبـيائه: إنّهُ الـحَقّ مُصَدّقا للكتاب الذي معهم, يعنـي أنه له موافق فـيـما الـيهود به مكذّبون.
قال: وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بـالتوراة علـى مثل الذي هم علـيه من التكذيب بـالإنـجيـل والفرقان, عنادا لله وخلافـا لأمره وبغيا علـى رسله صلوات الله علـيهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ لـمَ تَقْتُلُونَ أنبـياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ.
يعنـي جل ذكره بقوله: قُلْ فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِـيَاءَ اللّهِ: قل يا مـحمد لـيهود بنـي إسرائيـل الذين إذا قلت لهم: آمِنُوا بِـما أنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا لِـمَ تَقْتُلُونَ إن كنتـم يا معشر الـيهود مؤمنـين بـما أنزل الله علـيكم أنْبِـياءهُ وقد حرّم الله فـي الكتاب الذي أنزل علـيكم قتلهم, بل أمركم فـيه بـاتبـاعهم وطاعتهم وتصديقهم. وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم فـي قولهم: نُؤمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا وتعيـير لهم. كما:
1158ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: قال الله تعالـى ذكره وهو يعيرهم, يعنـي الـيهود: فلـم تَقْتُلُون أنبـياء الله من قبل إن كنتـم مؤمنـين.
فآن قال قائل: وكيف قـيـل لهم: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـياء اللّهِ مِنْ قَبْلُ فـابتدأ الـخبر علـى لفظ الـمستقبل, ثم أخبر أنه قد مضى؟ قـيـل: إن أهل العربـية مختلفون فـي تأويـل ذلك, فقال بعض البصريـين: معنى ذلك: فلـم قتلتـم أنبـياء الله من قبل؟ كما قال جل ثناؤه: وَاتّبعُوا ما تَتْلُو الشّياطِين أي ما تلت, وكما قال الشاعر:
ولقَدْ أمُرّ علـى اللّئِيـمِ يسُبّنِـيفمَضَيْتُ عَنْهُ وقُلْتُ لا يَعْنِـينِـي
يريد بقوله: «ولقد أمرّ»: ولقد مررت. واستدلّ علـى أن ذلك كذلك بقوله: «فمضيت عنه», ولـم يقل: «فأمضي عنه». وزعم أن «فعل ويفعل» قد تشترك فـي معنى واحد, واستشهد علـى ذلك بقول الشاعر:
وإنّـي لاَتِـيكُمْ تَشَكّرَ ما مَضَىمِنَ الأمرِ واسْتِـيجابَ ما كانَ فِـي غَدِ
يعنـي بذلك: ما يكون فـي غد. وبقول الـحطيئة:
شَهِدَ الـخَطَيْئَةُ يَوْمَ يَـلْقَـى رَبّهُأنّ الوَلِـيدَ أحَقّ بـالعُذْرِ
يعنـي: يشهد. وكما قال الاَخر:
فَمَا أُضْحي وَلا أمْسَيْتُ إلاّأرَانِـي مِنْكُمُ فـي كَوّفـانٍ
فقال: أضحي, ثم قال: ولا أمسيت.
وقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: إنـما قـيـل: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ فخاطبهم بـالـمستقبل من الفعل ومعناه الـماضي, كما يعنف الرجلُ الرجل علـى ما سلف منه من فعل, فـيقول له: ويحك لـم تكذب ولـم تبغّض نفسك إلـى الناس؟ كما قال الشاعر:
إذَا ما انْتَسَبْنا لَـمْ تَلِدنِـي لَئِيـمَةٌولَـمْ تَـجْدِي مِنْ أَنْ تُقِرّي بِهِ بُدّا
فـالـجزاء للـمستقبل, والولادة كلها قد مضت وذلك أن الـمعنى معروف, فجاز ذلك.
قال: ومثله فـي الكلام إذا نظرت فـي سيرة عمر لـم تـجده يسيء, الـمعنى: لـم تـجده أساء, فلـما كان أمر عمر لا يشكّ فـي مضيه لـم يقع فـي الوهم أنه مستقبل, فلذلك صلـحت من قبل مع قوله: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـيَاءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ.
قال: ولـيس الذين خوطبوا بـالقتل هم القتلة, إنـما قتلَ الأنبـياءَ أسلافُهم الذين مضوا, فتلوهم علـى ذلك ورضوا فنسب القتل إلـيهم.
والصواب فـيه من القول عندنا أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل, بـما خاطبهم فـي سورة البقرة وغيرها من سائر السور, بـما سلف من إحسانه إلـى أسلافهم, وبـما سلف من كفران أسلافهم نعمه, وارتكابهم معاصيه, واجترائهم علـيه وعلـى أنبـيائه, وأضاف ذلك إلـى الـمخاطبـين به نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا وكذا, وفعلتـم بنا يوم كذا كذا وكذا, علـى نـحو ما قد بـيناه فـي غير موضع من كتابنا هذا يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك فـي قوله: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إذ كان قد خرج علـى لفظ الـخبر عن الـمخاطبـين به خبرا من الله تعالـى ذكره عن فعل السالفـين منهم علـى نـحو الذي بـينا, جاز أن يقال من قبل إذْ كان معناه: قل فلـم يقتل أسلافكم أنبـياء الله من قبل؟ وكان معلوما بأن قوله: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إنـما هو خبر عن فعل سلفهم. وتأويـل قوله: مِنْ قَبْلُ أي من قبل الـيوم.
أما قوله: إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ فإنه يعنـي إن كنتـم مؤمنـين بـما أنزل الله علـيكم كما زعمتـم. وإنـما عَنَى بذلك الـيهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم, إن كانوا وكنتـم كما تزعمون أيها الـيهود مؤمنـين. وإنـما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبـياءه عند قولهم حين قـيـل لهم: آمِنُوا بِـمَا أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا لأنهم كانوا لأوائلهم الذين تولوا قتل أنبـياء الله مع قـيـلهم: نُؤْمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنا متولّـين, وبفعلهم راضين, فقال لهم: إن كنتـم كما تزعمون مؤمنـين بـما أنزل علـيكم, فلـم تتولون قتله أنبـياء الله؟ أي ترضون أفعالهم.
الآية : 92
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسَى بـالبَـيّناتِ أي جاءكم بـالبـينات الدالّة علـى صدقه وحقـية نبوّته كالعصا التـي تـحوّلت ثعبـانا مبـينا, ويده التـي أخرجها بـيضاء للناظرين, وفَلْق البحر, ومصير أرضه له طريقا يبسا, والـجراد والقمّل والضفـادع, وسائر الاَيات التـي بـينت صدقه وحقـية نبوّته. وإنـما سماها الله بـينات لتبـينها للناظرين إلـيها أنها معجزة لا يقدر علـى أن يأتـي بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له, وإنـما هي جمع بـيّنة مثل طيبة وطيبـات.
قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم يا معشر يهود بنـي إسرائيـل موسى بـالاَيات البـينات علـى أمره وصدقه وحقـية نبوّته. وقوله: ثُمّ اتّـخَذْتُـم العجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُـمْ ظالِـمُونَ يقول جل ثناؤه لهم: ثم اتـخذتـم العجل من بعد موسى إلها, فـالهاء التـي فـي قوله: «من بعده» من ذكر موسى. وإنـما قال: «من بعد موسى», لأنهم اتـخذوا العجل من بعد أن فـارقهم موسى ماضيا إلـى ربه لـموعده, علـى ما قد بـيّنا فـيـما مضى من كتابنا هذا. وقد يجوز أن تكون «الهاء» التـي فـي «بعده» إلـى ذكر الـمـجيء, فـيكون تأويـل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بـالبـينات ثم اتـخذتـم العجل من بعد مـجيء البـينات وأنتـم ظالـمون, كما تقول: جئتنـي فكرهته يعنـي كرهت مـجيئك.
وأما قوله: وأنْتُـمْ ظالِـمُوهَ فإنه يعنـي بذلك أنكم فعلتـم ما فعلتـم من عبـادة العجل, ولـيس ذلك لكم وعبدتـم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه لأن العبـادة لا تنبغي لغير الله. وهذا توبـيخ من الله للـيهود, وتعيـير منه لهم, وإخبـار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا من اتـخاذ العجل إلها وهو لا يـملك لهم ضرّا ولا نفعا, بعد الذي علـموا أن ربهم هو الربّ الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال ما أجراه علـى يدي موسى صلوات الله علـيه من الأمول التـي لا يقدر علـيها أحد من خـلق الله, ولـم يقدر علـيها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتبـاعه, وقرب عهدهم بـما عاينوا من عجائب حكم الله فهم إلـى تكذيب مـحمد صلى الله عليه وسلم وجحوده ما فـي كتبهم التـي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته مع بعد ما بـينهم وبـين عهد موسى من الـمدة أسرع, وإلـى التكذيب بـما جاءهم به موسى من ذلك أقرب.
الآية : 93
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ: واذكروا إذ أخذنا عهودكم بأن خذوا ما آتـيناكم من التوراة التـي أنزلتها إلـيكم أن تعملوا بـما فـيها من أمري, وتنتهوا عما نهيتكم فـيها بجدّ منكم فـي ذلك ونشاط, فأعطَيْتُـمْ علـى العمل بذلك ميثاقكم, إذْ رفعنا فوقكم الـجبل. أما قوله: وَاسْمَعُوا فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به, وتقبلوه بـالطاعة كقول الرجل للرجل يأمره بـالأمر: سمعت وأطعت, يعنـي بذلك: سمعت قولك وأطعت أمرك. كما قال الراجز:
السّمْعُ والطّاعَةُ والتّسْلِـيـمُخَيْرٌ وأعْفَـى لِبَنِـي تَـمِيـمْ
يعنـي بقوله السمع: قبول ما يسمع والطاعة لـما يؤمر. فكذلك معنى قوله: وَاسْمَعُوا اقبلوا ما سمعتـم واعملوا به.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتـيناكم بقوّة, واعملوا بـما سمعتـم, وأطيعوا الله, ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك.
وأما قوله: قالُوا سَمِعْنا فإن الكلام خرج مخرج الـخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بـالـخطاب, فإن ذلك كما وصفنا من أن ابتداء الكلام إذا كان حكاية فـالعرب تـخاطب فـيه ثم تعود فـيه إلـى الـخبر عن الغائب وتـخبر عن الغائب ثم تـخاطب كما بـينا ذلك فـيـما مضى قبل. فكذلك ذلك فـي هذه الآية لأن قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ بـمعنى: قلنا لكم فأجبتـمونا. وأما قوله: قالُوا سَمِعْنا فإنه خبر من الله عن الـيهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بـما فـي التوراة وأن يطيعوا الله فـيـما يسمعون منها أنهم قالوا حين قـيـل لهم ذلك: سمعنا قولك وعصينا أمرك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهُمُ العِجْلَ بكُفْرِهِمْ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: وأشربوا فـي قلوبهم حبّ العجل. ذكر من قال ذلك:
1159ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: حدثنا معمر, عن قتادة: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهمُ العِجْلَ قال: أشربوا حبه حتـى خـلص ذلك إلـى قلوبهم.
1160ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ قال: أشربوا حبّ العجل بكفرهم.
1161ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر عن أبـيه, عن الربـيع: وَأُشْرِبُوا فـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ قال: أشربوا حبّ العجل فـي قلوبهم.
وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الـماء الذي ذُرّي فـيه سحالة العجل. ذكر من قال ذلك.
1162ـ حدثنـي موسى بن هارون. قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: لـما رجع موسى إلـى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفـين علـيه فذبحه, ثم حَرَقَه بـالـمبرد, ثم ذراه فـي الـيـمّ, فلـم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فـيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا منه, فمن كان يحبه خرج علـى شاربه الذهب فذلك حين يقول الله عزّ وجل: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ.
1163ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج, قال: لـما سُحِل فألقـي فـي الـيـمّ استقبلوا جرية الـماء, فشربوا حتـى ملئوا بطونهم, فأورث ذلك من فعله منهم جُبْنا.
قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ تأويـل من قال: وأشربوا فـي قلوبهم حبّ العجل لأن الـماء لا يقال منه: أشرب فلان فـي قلبه, وإنـما يقال ذلك فـي حبّ الشيء, فـيقال منه: أشرب قلب فلان حبّ كذا, بـمعنى سقـي ذلك حتـى غلب علـيه وخالط قلبه كما قال زهير:
فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبّ داخِـلٍوالـحُبّ يُشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَاءُ
قال: ولكنه ترك ذكر الـحبّ اكتفـاءً بفهم السامع لـمعنى الكلام, إذ كان معلوما أن العجل لا يشرب القلب, وأن الذي يشرب القلب منه حبه, كما قال جل ثناؤه: وَاسألْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتـي كانَتْ حاضرَةَ البَحْرِ وَاسْألِ القَرْيَةَ الّتِـي كُنّا فِـيهَا وَالْعِيرَ الّتِـي أقْبَلْنَا فِـيهَا, وكما قال الشاعر:
ألا إنّنـي سُقّـيتُ أسودَ حالِكاأَلاَ بَجَلـي مِنَ الشّرَابِ أَلا بَجَلْ
يعنـي بذلك سَمّا أسود, فـاكتفـى بذكر أسود عن ذكر السم لـمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله: «سُقـيت أسود», ويروى:
ألا إنّنـي سُقِـيتُ أسْوَدَ سالـخا
وقد تقول العرب: إذا سرّك أن تنظر إلـى السخاء فـانظر إلـى هَرِم أو إلـى حاتـم, فتـجتزىء بذكر الاسم من ذكر فعله إذا كان معروفـا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفـات. ومنه قول الشاعر:
يَقُولُونَ جاهِدْ يا جَمِيـلُ بِغَزْوَةٍوَإنّ جِهادا طَيّءٌ وَقِتالُهَا
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ بِئْسَما يأْمُرُكُمْ بِهِ إيـمانُكُمْ إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ.
يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لـيهود بنـي إسرائيـل: بئس الشيء يأمركم به إيـمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبـياء الله ورسله, والتكذيب بكتبه, وجحود ما جاء من عنده. ومعنى إيـمانهم تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدّقون من كتاب الله, إذ قـيـل لهم: آمنوا بـما أنزل الله, فقالوا: نؤمن بـما أنزل علـينا.
وقوله: إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ أي إن كنتـم مصدقـين كما زعمتـم بـما أنزل الله علـيكم. وإنـما كذّبهم الله بذلك لأن التوراة تنهي عن ذلك كله وتأمر بخلافه, فأخبرهم أن تصديقهم بـالتوراة إن كان يأمرهم بذلك فبئس الأمر تأمر به. وإنـما ذلك نفـي من الله تعالـى ذكره عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مـما يكرهه الله من أفعالهم, وأن يكون التصديق بها يدلّ علـى شيء من مخالفة أمر الله, وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم, والذي يحملهم علـيه البغيُ والعدوانُ