تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 142 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 142

142- تفسير الصفحة رقم142 من المصحف
الآية: 111 {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}
قوله تعالى: "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة" فرأوهم عيانا. "وكلمهم الموتى" بإحيائنا إياهم. "وحشرنا عليهم كل شيء" سألوه من الآيات. "قبلا" مقابلة؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وهي قراءة نافع وابن عامر. وقيل: معاينة، لما آمنوا. وقال محمد بن يزيد: يكون "قبلا" بمعنى ناحية؛ كما نقول: لي قبل فلان مال؛ فقبلا نصب على الظرف. وقرأ الباقون "قبلا" بضم القاف والباء، ومعناه ضمناء؛ فيكون جمع قبيل بمعنى كفيل، نحو رغيف ورغف؛ كما قال: "أو تأتي بالله والملائكة قبيلا" [الإسراء: 92]؛ أي يضمنون ذلك؛ عن الفراء. وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل؛ أي جماعة جماعة، وقال مجاهد، وهو نصب على الحال على القولين. وقال محمد بن يزيد "قبلا" أي مقابلة؛ ومنه "إن كان قميصه قد من قبل" [يوسف: 26]. ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه. ومنه قبل الحيض. حكى أبو زيد: لقيت فلانا قيلا ومقابلة وقبلا وقبلا، كله بمعنى المواجهة؛ فيكون الضم كالكسر في المعنى وتستوي القراءتان؛ قاله مكي. وقرأ الحسن "قبلا" حذف الضمة من الباء لثقلها. وعلى قول الفراء يكون فيه نطق ما لا ينطق، وفي كفالة ما لا يعقل آية عظيمة لهم. وعلى قول الأخفش يكون فيه اجتماع الأجناس الذي ليس بمعهود. والحشر الجمع. "ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله" "أن" في موضع استثناء ليس من الأول؛ أي لكن إن شاء ذلك لهم. وقيل: الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. "ولكن أكثرهم يجهلون" أي يجهلون الحق. وقيل: يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة.
الآية: 112 {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون}
قوله تعالى: "وكذلك جعلنا لكل نبي" يعزي نبيه ويسليه، أي كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك. "عدوا" أي أعداء. ثم نعتهم فقال "شياطين الإنس والجن" حكى سيبويه جعل بمعنى وصف. "عدوا" مفعول أول. "لكل نبي" في موضع المفعول الثاني. "شياطين الإنس والجن" بدل من عدو. ويجوز أن يكون "شياطين" مفعولا أول، "عدوا" مفعولا ثانيا؛ كأنه قيل: جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا. وقرأ الأعمش: "شياطين الجن والإنس" بتقديم الجن. والمعنى واحد. "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه؛ ومنه سمي الذهب زخرفا. وكل شيء حسن مموه فهو زخرف. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. و"غرورا" نصب على المصدر، لأن معنى "يوحي بعضهم إلى بعض" يغرونهم بذلك غرورا. ويجوز أن يكون في موضع الحال. والغرور الباطل. قال النحاس: وروي عن ابن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل "يوحي بعضهم إلى بعض" قال: مع كل جني شيطان، ومع كل إنسي شيطان، فيلقى أحدهما الآخر فيقول: إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله. ويقول الآخر مثل ذلك؛ فهذا وحي بعضهم إلى بعض. وقاله عكرمة والضحاك والسدي والكلبي. قال النحاس: والقول الأول يدل عليه "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم" [الأنعام:121]؛ فهذا يبين معنى ذلك.
قلت: ويدل عليه من صحيح السنة قوله عليه السلام: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن) قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير). روي (فأسلم) برفع الميم ونصبها. فالرفع على معنى فأسلم من شره. والنصب على معنى فأسلم هو. فقال: (ما منكم من أحد) ولم يقل ولا من الشياطين؛ إلا أنه يحتمل أن يكون نبه على أحد الجنسين بالآخر؛ فيكون من باب "سرابيل تقيكم الحر" [النحل: 81] وفيه بعد، والله أعلم. وروى عوف بن مالك عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن)؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: (نعم هم شر من شياطين الجن). وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تنشد:
إن النساء رياحين خلقن لكم وكلكم يشتهي شم الرياحين
فأجابها عمر رضي الله عنه:
إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين
قوله تعالى: "ولو شاء ربك ما فعلوه" أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور. "فذرهم" أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه: ولا يقال وذر ولا ودع، استغنوا عنهما بترك.
قلت: هذا إنما خرج على الأكثر. وفي التنزيل: "وذر الذين" و"ذرهم" و"ما ودعك" [الضحى: 3]. وفي السنة (لينتهن أقوام عن ودعهم الجمعات). وقول: (إذا فعلوا - يريد المعاصي - فقد تودع منهم). قال الزجاج: الواو ثقيلة؛ فلما كان "ترك" ليس فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو. وهذا معنى قول وليس بنصه.
الآية: 113 {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون}
قوله تعالى: "ولتصغى إليه أفئدة" تصغى تميل؛ يقال: صغوت أصغو صغوا وصغوا، وصغيت أصغي، وصغيت بالكسر أيضا. يقال منه: صغي يصغى صغى وصغيا، وأصغيت إليه إصغاء بمعنىً.
قال الشاعر:
ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء
ويقال: أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه. وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض. ومنه صغت النجوم: مالت للغروب. وفي التنزيل: "فقد صغت قلوبكما" [التحريم: 4]. قال أبو زيد: يقال صغوه معك وصغوه، وصغاه معك، أي ميله. وفي الحديث: (فأصغى لها الإناء) يعني للهرة. وأكرموا فلانا في صاغيته، أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده. وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها إلى الرجل كأنها تستمع شيئا حين يشد عليها الرحل. قال ذو الرمة:
تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
واللام في ولتصغى لام كي، والعامل فيها "يوحي" تقديره: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى. وزعم بعضهم أنها لام الأمر، وهو غلط؛ لأنه كان يجب "ولتصغ إليه" بحذف الألف، وإنما هي لام كي. وكذلك "وليرضوه وليقترفوا" إلا أن الحسن قرأ "وليرضوه وليقترفوا" بإسكان اللام، جعلها لام أمر فيه معنى التهديد؛ كما يقال: افعل ما شئت. ومعنى "وليقترفوا ما هم مقترفون" أي وليكتسبوا؛ عن ابن عباس والسدي وابن زيد. يقال: خرج يقترف أهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله. وقرفتني بما ادعيت علي، أي رميتني بالريبة. وقرف القرحة إذا قشر منها. واقترف كذبا. قال رؤبة:
أعيا اقتراف الكذب المقروف تقوى التقي وعفة العفيف
وأصله اقتطاع قطعة من الشيء.
الآية: 114 {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين}
قوله تعالى: "أفغير الله أبتغي حكما" "غير" نصب بـ "أبتغي". "حكما" نصب على البيان، وإن شئت على الحال. والمعنى: أفغير الله أطلب لكم حاكما وهو كفاكم مؤونة المسألة في الآيات بما أنزله إليكم من الكتاب المفصل، أي المبين. ثم قيل: الحكم أبلغ من الحاكم؛ إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق، لأنها صفة تعظيم في مدح. والحاكم صفة جارية على الفعل، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق. "والذين آتيناهم الكتاب" يريد اليهود والنصارى. وقيل: من أسلم منهم كسلمان وصهيب وعبدالله بن سلام. "يعلمون أنه" أي القرآن. "منزل من ربك بالحق" أي أن كل ما فيه من الوعد والوعيد لحق "فلا تكونن من الممترين" أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزل من عند الله. وقال عطاء: الذين آتيناهم الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
الآية: 115 {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم}
قوله تعالى: "وتمت كلمة ربك" قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع. قال ابن عباس: مواعيد ربك، فلا مغير لها. والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما. قال قتادة: الكلمات هي القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. "صدقا وعدلا" أي فيما وعد وحكم، لا راد لقضائه ولا خلف في وعده. وحكى الرماني، عن قتادة. لا مبدل لها فيما حكم به، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غير أهل الكتاب التوراة والإنجيل فإنه لا يعتد بذلك. ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن؛ لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها.
الآية: 116 {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}
قوله تعالى: "وإن تطع أكثر من في الأرض" أي الكفار. "يضلوك عن سبيل الله" أي عن الطريق التي تؤدي إلى ثواب الله. "إن يتبعون إلا الظن" "إن" بمعنى ما، وكذلك "وإن هم إلا يخرصون" أي يحدسون ويقدرون؛ ومنه الخرص، وأصله القطع. قال الشاعر:
ترى قصد المران فينا كأنه تذرع خرصان بأيدي الشواطب
يعني جريدا يقطع طولا ويتخذ منه الخرص. وهو جمع الخرص؛ ومنه خرص يخرص النخل خرصا إذا حزره ليأخذ الخراج منه. فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به؛ إذ لا يقين معه. وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الذاريات" إن شاء الله تعالى.
الآية: 117 {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}
قوله تعالى: "إن ربك هو أعلم" قال بعض الناس: إن "أعلم" هنا بمعنى يعلم؛ وأنشد قول حاتم الطائي:
تحالفت طيء من دوننا حلفا والله أعلم ما كنا لهم خذلا
وقول الخنساء:
الله أعلم أن جفنته تغدو غداة الريح أو تسري
وهذا لا حجة فيه؛ لأنه لا يطابق "هو أعلم بالمهتدين". ولأنه يحتمل أن يكون على أصله. "من يضل عن سبيله" "من" بمعنى أي؛ فهو في محل رفع والرافع له "يضل". وقيل: في محل نصب بأعلم، أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله. وقيل: في محل نصب بنزع الخافض؛ أي بمن يضل. قال بعض البصريين، وهو حسن؛ لقوله: "وهو أعلم بالمهتدين" وقوله في آخر النحل: "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" [النحل: 125]. وقرئ "يضل" وهذا على حذف المفعول، والأول أحسن؛ لأنه قال: "وهو أعلم بالمهتدين". فلو كان من الإضلال لقال وهو أعلم بالهادين.
الآية: 118 {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين}
قوله تعالى: "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه" نزلت بسبب أناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله؟ فنزلت "فكلوا" إلى قوله "وإن أطعتموهم إنكم لمشركون" [الأنعام: 121] خرجه الترمذي وغيره. قال عطاء: هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم. وقوله: "إن كنتم بآياته مؤمنين" أي بأحكامه وأوامره آخذين؛ فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها.