تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 142 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 142

141

قوله: 111- " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " أي لا يؤمنون ولو نزلنا إليهم الملائكة كما اقترحوهم بقولهم: "لولا أنزل عليه ملك" "وكلمهم الموتى" الذين يعرفونهم بعد إحيائنا لهم، فقالوا لهم: إن هذا النبي صادق مرسل من عند الله فآمنوا به لم يؤمنوا "وحشرنا عليهم كل شيء" مما سألوه من الآيات "قبلاً" أي كفلاً وضمناً بما جئناهم به من الآيات البينات. هذا على قراءة من قرأ "قبلاً" بضم القاف وهم الجمهور. وقرأ نافع وابن عامر "قبلاً" بكسرها: أي مقابلة. وقال محمد بن يزيد المبرد: قبلاً بمعنى ناحية كما تقول لي: قبل فلان مال، فقبلاً نصب على الظرف، وعلى المعنى الأول ورد قوله تعالى: "أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً" أي يضمنون كذا قال الفراء. وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل: أي جماعة جماعة. وحكى أبو زيد لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً كله واحد بمعنى المواجهة، فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان. والحشر: الجمع "ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله" إيمانهم، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والاستثناء مفرغ "ولكن أكثرهم يجهلون" جهلاً يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب.
قوله: 112- "وكذلك جعلنا لكل نبي" هذا الكلام لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع ما حصل معه من الحزن بعدم إيمانهم: أي مثل هذا الجعل "جعلنا لكل نبي عدواً" والمعنى: كما ابتليناك بهؤلاء فقد ابتلينا الأنبياء من قبلك بقوم من الكفار، فجعلنا لكل واحد منهم عدواً من كفار زمنهم، و "شياطين الإنس والجن" بدل من عدواً، وقيل: هو المفعول الثاني لجعلنا. وقرأ الأعمش الجن والإنس بتقديم الجن، والمراد بالشياطين المردة من الفريقين، والإضافة بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل الإنس والجن الشياطين، وجملة "يوحي بعضهم إلى بعض" في محل نصب على الحال: أي حال كونه يوسوس بعضهم لبعض، وقيل: إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدو، وسمي وحياً لأنه إنما يكون خفية بينهم، وجعل تمويههم زخرف القول لتزيينهم إياه، والزخرف: المزين، وزخارف الماء طرائقه، و "غروراً" منتصب على المصدر، لأن معنى يوحي بعضهم إلى بعض يغرونهم بذلك غروراً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً له، والغرور: الباطل. قوله: "ولو شاء ربك ما فعلوه" الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقاً من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله: أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدم ذكره ما فعلوه وأوقعوه، وقيل: ما فعلوا الإيحاء المدلول عليه بالفعل "فذرهم" أي اتركهم، وهذا الأمر للتهديد للكفار كقوله: "ذرني ومن خلقت وحيداً" "وما يفترون" إن كانت ما مصدرية بالتقدير: اتركهم وافتراءهم، وإن كانت موصولة فالتقدير: اتركهم والذي يفترونه.
قوله: 113- " ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة " اللام في لتصغي لام كي، فتكون علة كقوله "يوحي" والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغي، وقيل: هو متعلق بمحذوف يقدر متأخراً: أي لتصغي "جعلنا لكل نبي عدواً" وقيل: إن اللام للأمر وهو غلط، فإنها لو كانت لام الأمر جزم الفعل، والإصغاء: الميل، يقال: صغوت أصغو صغواً، وصغيت أصغي: ويقال: صغيت بالكسر، ويقال: أصغيت الإناء: إذا أملته ليجتمع ما فيه، وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض، ويقال: صغت النجوم: إذا مالت للغروب، وأصغت الناقة: إذا أمالت رأسها، ومنه قول ذي الرمة: تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها وثبت والضمير في إليه لزخرف القول، أو لما ذكر سابقاً من زخرف القول وغيره: أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم " ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة " من الكفار "وليرضوه" لأنفسهم بعد الإصغاء إليه "وليقترفوا ما هم مقترفون" من الآثام، والاقتراف: الاكتساب، يقال: خرج ليقترف لأهله: أي ليكتسب لهم، وقارف فلان هذا الأمر: إذا واقعه، وقرفه: إذا رماه بالريبة، واقترف: كذب، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء. وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: نزلت "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" في قريش "وما يشعركم" يا أيها المسلمون "أنها إذا جاءت لا يؤمنون". وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: "كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أي شيء تحبون أن آتيكم به؟، قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً، قال:فإن فعلت تصدقوني؟، قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل فقال له: إن شئت أصبح ذهباً فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال: بل يتوب تائبهم، فأنزل الله: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" إلى قوله: "يجهلون"". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً" قال: معاينة "ما كانوا ليؤمنوا" أي أهل الشقاء "إلا أن يشاء الله" أي أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة "وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً" أي فعاينوا ذلك معاينة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: أفواجاً قبيلاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن" قال: إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجن، فيقول هذا لهذا: أضلله بكذا وأضلله بكذا، فهو "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً". وقال ابن عباس: الجن هم الجان وليسوا شياطين، والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس والجن يموتون، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود قال: الكهنة هم شياطين الإنس. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يوحي بعضهم إلى بعض" قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، فإن الله يقول: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: من الإنس شياطين ومن الجن شياطين يوحي بعضهم إلى بعض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس زخرف القول قال: يحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم. وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال: يا نبي الله وهل للإنس شياطين؟ قال: نعم، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً". وأخرج أحمد وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس " ولتصغى " لتميل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عنه " ولتصغى " تزيغ "وليقترفوا" يكتسبوا.
قوله: 114- "أفغير الله" الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على فعل مقدر، والكلام هو على إرادة القول، والتقدير: قل لهم يا محمد كيف أضل وأبتغي غير الله حكماً؟ و غير مفعول لأبتغي مقدم عليه، و حكماً المفعول الثاني أو العكس. ويجوز أن ينتصب حكماً على الحال، والحكم أبلغ من الحاكم كما تقرر في مثل هذه الصفة المشتقة. أمره الله سبحانه وتعالى أن ينكر عليهم ما طلبوه منه من أن يجعل بينه وبينهم حكماً فيما اختلفوا فيه، وإن الله هو الحكم العدل بينه وبينهم، وجملة "وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً" في محل نصب على الحال: أي كيف أطلب حكماً غير الله وهو الذي أنزل عليكم القرآن مفصلاً مبيناً واضحاً مستوفياً لكل قضية على التفصيل، ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أهل الكتاب وإن أظهروا الجحود والمكابرة، فإنهم يعلمون أن القرآن منزل من عند الله بما دلتهم عليه كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل من أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء، و "بالحق" متعلق بمحذوف وقع حالاً: أي متلبساً بالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ثم نهاه عن أن يكون من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل من عند الله بالحق أو نهاه عن مطلق الامتراء ويكون ذلك تعريضاً لأمته عن أن يمتري أحد منهم، أو الخطاب لكل من يصلح له: أي فلا يكونن أحد من الناس من الممترين ولا يقدح في ذلك كون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خطابه خطاب لأمته.
قوله: 115- " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ". قرأ أهل الكوفة كلمة بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع، والمراد بالكلمات العبارات أو متعلقاتها من الوعد والوعيد. والمعنى: أن الله قد أتم وعده ووعيده، فظهر الحق وانطمس الباطل، وقيل: المراد بالكلمة أو الكلمات القرآن، و "صدقاً وعدلاً" منتصبان على التمييز أو الحال أو على أنهما نعت مصدر محذوف: أي تمام صدق وعدل "لا مبدل لكلماته" لا خلف فيها ولا مغير لما حكم به، والجملة المنفية في محل نصب على الحال أو مستأنفة "وهو السميع" لكل مسموع "العليم" بكل معلوم.
قوله: 116- "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله" أخبره الله سبحانه بأنه إذا رام طاعة أكثر من في الأرض أضلوه، لأن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين، ومنهم الطائفة التي تزال على الحق ولا يضرها خلاف من يخالفها، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد بالأكثر الكفار، وقيل: المراد بالأرض مكة: أي أكثر أهل مكة، ثم علل ذلك سبحانه بقوله: "إن يتبعون إلا الظن" أي ما يتبعون إلا الظن الذي لا أصل له، وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة وأنها تقربهم إلى الله "وإن هم إلا يخرصون" أي وما هم إلا يخرصون: أي يحدسون ويقدرون، وأصل الخرص القطع، ومنه خرص النخل يخرص: إذا حزره ليأخذ منه الزكاة، فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين منه، وإذا كان هذا حال أكثر من في الأرض فالعلم الحقيقي هو عند الله، فاتبع ما أمرك به ودع عنك طاعة غيره.
117- "إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" وهو العالم بمن يضل عن سبيله ومن يهتدي إليه. قال بعض أهل العلم: إن "أعلم" في الموضعين بمعنى يعلم، قال ومنه قول حاتم الطائي: فحالفت طي من دوننا حلفاً والله أعلم ما كنا لهم خولا والوجه في هذا التأويل أن أفعل التفضيل لا ينصب الاسم الظاهر، فتكون من منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائباً عنه، وقيل: إن أفعل التفضيل على بابه والنصب بفعل مقدر، وقيل: إنها منصوبة بأفعل التفضيل أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله، وقيل: في محل نصب بنزع الخافض: أي بمن يضل قاله بعض البصريين، وقيل: في محل جر إضافة أفعل التفضيل إليها. وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "مفصلاً" قال: مبيناً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "صدقاً وعدلاً" قل: صدقاً فيما وعد، وعدلاً فيما حكم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نصر السجزي في الإنابة عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "لا مبدل لكلماته" قال: لا تبديل لشيء قاله في الدنيا والآخرة لقوله: "ما يبدل القول لدي". وأخرج ابن مردويه وابن النجار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " قال: لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي اليمان عامر بن عبد الله قال:" دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة، ولكل قوم صنم يعبدونه، فجعل يأتيها صنماً صنما ويطعن في صدر الصنم بعصاً ثم يعقره، فكلما طعن صنماً أتبعه ضرباً بالقوس حتى يكسروه ويطرحوه خارجاً من المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم "".
لما تقدم ذكر ما يصنعه الكفار في الأنعام من تلك السنن الجاهلية أمر الله المسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقيل: إنها نزلت في سبب خاص وسيأتي، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله حل إن كان مما أباح الله أكله. وقال عطاء: في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح وكل مطعوم، والشرط في "إن كنتم بآياته مؤمنين" للتهييج والإلهاب: أي بأحكامه من الأوامر والنواهي التي من جملتها الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه.