تفسير الطبري تفسير الصفحة 142 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 142
143
141
 الآية : 111
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلّمَهُمُ الْمَوْتَىَ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً مّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوَاْ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, ايئس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام. القائلين لك: لئن جئتنا بآية لنؤمننّ لك, فإننا لو نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ حتى يروها عيانا وكَلّمَهُمُ المَوْتَى بإحيائنا إياهم, حجة لك ودلالة على نبوّتك, وأخبروهم أنك محقّ فيما تقول, وأن ما جئتهم به حقّ من عند الله, وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ فجعلناهم لك قُبُلاً ما آمنوا ولا صدّقوك, ولا اتبعوك إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ذلك لمن شاء منهم. وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك, يحسبون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم, متى شاءوا آمنوا ومتى شاءوا كفروا. وليس ذلك كذلك, ذلك بيدي, لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته, ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته.
وقيل: إن ذلك نزل في المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله, من مشركي قريش. ذكر من قال ذلك:
10774ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: نزلت في المستهزئين الذين سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم الاَية, فقال: قل يا محمد إنما الاَيات عند الله, وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. ونزل فيهم: وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً.
وقال آخرون: إنما قيل: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يراد به أهل الشقاء, وقيل: إلاّ أنْ يَشَاءَ الله فاستثنى ذلك من قوله: لِيُؤْمِنُوا يراد به أهل الإيمان والسعادة. ذكر من قال ذلك:
10775ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا وهم أهل الشقاء. ثم قال: إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس, لأن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: ما كانُوا لِيُؤْمِنوا القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنّ بِها. وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الاَية كانوا هم المستهزئين الذين قال ابن جريج: إنهم عنوا بهذه الاَية ولكن لا دلالة في ظاهر التنزيل على ذلك ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك. والخبر من الله خارج مخرج العموم, فالقول بأن ذلك عُني به أهل الشقاء منهم أولى لما وصفنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً فقرأته قرّاء أهل المدينة: «قِبَلاً» بكسر القاف وفتح الباء, بمعنى معاينة, من قول القائل: لقيته قبَلاً: أي معاينة ومجاهرة. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً بضم القاف والباء.
وإذا قرىء كذلك كان له من التأويل ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون القُبُل: جمع قَبِيل كالرّغُف التي هي جمع رغيف, والقُضُب التي هي جمع قضيب, ويكون القُبُل: الضمناء والكفلاء وإذا كان ذلك معناه, كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كلّ شيء كفلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدُهم على إيمانهم بالله إن آمنوا أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم, ما آمنوا إلا أن يشاء الله.
والوجه الاَخر: أن يكون «القُبُل» بمعنى المقابلة والمواجهة, من قول القائل: أتيتك قُبُلاً لا دُبُرا, إذا أتاه من قَبِل وجهه.
والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كلّ شيء قبيلة قبيلة, صنفا صنفا, وجماعة جماعة. فيكون القُبُل حينئذٍ جمع قَبيل الذي هو جمع قبيلة, فيكون القُبل جمع الجمع. وبكلّ ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال: معنى ذلك: معاينة.
10776ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً يقول: معاينة.
10777ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً حتى يعاينوا ذلك معاينة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ.
ذكر من قال: معنى ذلك: قبيلة قبيلة صنفا صنفا.
10778ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن يزيد, من قرأ: قُبُلاً معناه: قبيلاً قبيلاً.
10779ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد: قُبُلاً أفواجا, قبيلاً قبيلاً.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أحمد بن يونس, عن أبي خيثمة, قال: حدثنا أبان بن تغلب, قال: ثني طلحة أن مجاهدا قرأ في الأنعام: كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً قال: قبائل, قبيلاً قبيلاً وقبيلاً. ذكر من قال: معناه: مقابلة.
10780ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَلَوْ أنّنا نَزّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً يقول: لو استقبلهم ذلك كله, لَمْ يُؤْمِنُوا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ.
10781ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً قال: حشروا إليهم جميعا, فقابلوهم وواجهوهم.
10782ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن يزيد, قرأ عيسى: قُبُلاً ومعناه: عيانا.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا, قراءة من قرأ: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً بضمّ القاف والباء لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجه التي بينا من المعاني, وأن معنى القِبَلِ داخل فيه, وغير داخل في القِبَلِ معاني القُبُل. وأما قوله: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ فإن معناه: وجمعنا عليهم, وسقنا إليهم.
الآية : 112
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسلّيه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله, وحاثّا له على الصبر على ما نال فيه: وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا يقول: وكما ابتليناك يا محمد بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطين يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ ليصدّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربك كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسل, بأن جعلنا لهم أعداء من قومهم يؤذونهم بالجدال والخصومات, يقول: فهذا الذي امتحنتك به لم تخصص به من بينهم وحدك, بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم, فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم يقول: فاصبر أنت كما صبر أولو العزم من الرسل. وأما شياطين الإنس والجنّ فإنهم مردتهم. وقد بيّنا الفعل الذي منه بني هذا الاسم بما أغنى عن إعادته. ونصب العدوّ والشياطين بقوله: جَعَلْنا.
وأما قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا فإنه يعني: أنه يُلقي الملقي منهم القول الذي زيّنه وحسنه بالباطل إلى صاحبه, ليغترّ به من سمعه فيضل عن سبيل الله.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ فقال بعضهم: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس, وشياطين الجنّ التي مع الجنّ وليس للإنس شياطين. ذكر من قال ذلك:
10783ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ ما فَعَلُوهُ أما شياطين الإنس: فالشياطين التي تضلّ الإنس, وشياطين الجنّ الذين يضلون الجنّ يلتقيان فيقول كلّ واحد منهما: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا, وأضللت أنت صاحبك بكذا وكذا, فيُعلم بعضُهم بعضا.
10784ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة: شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ قال: ليس في الإنس شياطين ولكن شياطين الجنّ يوحون إلى شياطين الإنس, وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجنّ.
10785ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيل, عن السديّ, في قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرَفَ القَوْلِ غُرُورا قال: للإنسان شيطان, وللجنيّ شيطان, فيَلْقَى شيطان الإنس شيطان الجنّ, فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
قال أبو جعفر: جعل عكرمة والسديّ في تأويلهما هذا الذي ذكرت عنهما عدوّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا أولاد إبليس دون أولاد آدم ودون الجنّ, وجعل الموصوفين بأن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورا, وَلَدَ إبليس, وأن مَنْ مع ابن آدم من ولد إبليس يوحي إلى من مع الجنّ من ولده زخرف القول غرورا. وليس لهذا التأويل وجه مفهوم, لأن الله جعل إبليس وولده أعداء ابن آدم, فكلّ ولده لكلّ ولده عدوّ. وقد خصّ الله في هذه الاَية الخبر عن الأنبياء أنه جعل لهم من الشياطين أعداء, فلو كان معنيّا بذلك الشياطين الذين ذكرهم السديّ, الذين هم ولد إبليس, لم يكن لخصوص الأنبياء بالخبر عنهم أنه جعل لهم الشياطين أعداءً وجهٌ. وقد جعل من ذلك لأعدى أعدائه مثل الذي جعل لهم, ولكن ذلك كالذي قلنا من أنه معنيّ به أنه جعل مردة الإنس والجنّ لكلّ نبيّ عدوّا يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك, جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
10786ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد, عن حميد بن هلال, قال: ثني رجل من أهل دمشق, عن عوف بن مالك, عن أبي ذرّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذرّ, هَلْ تَعَوّذْتَ باللّهِ مِنْ شَرّ شَياطِينِ الإنْسِ والجِنّ؟» قال: قلت: يا رسول الله, هل للإنس من شياطين؟ قال: «نَعَمْ».
10787ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة, عن ابن عائذ, عن أبي ذرّ, أنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس, قال: فقال: «يا أبا ذَرّ, هَلْ صَلّيْتَ؟» قال: قلت: لا يا رسول الله قال: «قُمْ فارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» قال: ثم جئت فجلست إليه, فقال: «يا أبا ذَر هَلْ تَعَوّذْتَ بالله مِنْ شَرّ شَياطِين الإنْس والجِنّ؟» قال: قلت: يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال: «نَعَمْ, شَرّ مِنْ شَياطِين الجِنّ».
10788ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: بلغني أن أبا ذرّ قام يوما يصلي, فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تَعَوّذْ يا أبا ذَرّ مِنْ شَياطِين الإنْس والجِنّ» فقال: يا رسول الله: أوَ إنّ من الإنس شياطين؟ قال: «نعم».
وقال آخرون في ذلك بنحو الذي قلنا من ذلك إنه إخبار من الله أنّ شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض. ذكر من قال ذلك:
10789ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: شَياطِينَ الإنْس والجِنّ قال: من الجنّ شياطين, ومن الإنس شياطين يوحي بعضهم إلى بعض. قال قتادة: بلغني أن أبا ذرّ كان يوما يصلي, فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تَعَوّذْ يا أبا ذَرّ مِنْ شَياطِين الإنْسِ والجِنّ» فقال: يا نبيّ الله, أو إنّ من الإنس شياطين؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ».
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ... الاَية, ذكر لنا أبا ذرّ قام ذات يوم يصلي, فقال له نبي الله: «تَعَوّذْ بالله مِنْ شَياطِينَ الجِنّ والإنْس» فقال: يا نبيّ الله أو للإنس شياطين كشياطين الجنّ؟ قال: «نَعَمْ, أوَ كَذَبْتُ عَلَيْهِ؟».
10790ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسن, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد: وكذلكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدوّا شَياطِينَ الإنْس والجِنّ فقال: كفار الجنّ شياطين يوحون إلى شياطين الإنس كفار الإنس زخرف القول غرورا.
وأما قوله: زخْرفَ القَوْل غُرورا فإنه المزين بالباطل كما وصفت قبل, يقال منه: زخرف كلامه وشهادته إذا حسن ذلك بالباطل ووشّاه. كما:
10791ـ حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة, قوله: زخْرفَ القَوْل غُرورا قال: تزيين الباطل بالألسنة.
10792ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أما الزخرف, فزخرفوه: زيّنوهُ.
10793ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: زُخْرفَ القَوْل غُرُورا قال: تزيين الباطل بالألسنة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
10794ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: زُخْرَفَ القَوْل غُرُورا يقول: حسّن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم.
10795ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: زُخْرُفَ القَوْل غُرُورا قال: الزخرف: المزيّن, حيث زيّن لهم هذا الغرور, كما زين إبليس لاَدم ما جاءه به وقاسمه إنه لمن الناصحين. وقرأ: وَقَيّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيّنُوا لَهُمْ قال: ذلك الزخرف.
وأما الغرور: فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصده عن الصواب إلى الخطأ ومن الحقّ إلى الباطل. وهو مصدر من قول القائل: غررت فلانا بكذا وكذا, فأنا أغرّه غرورا وغرّا. كالذي:
10796ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: غُرُورا قال: يغرّون به الناس والجنّ.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
يقول تعالى ذكره: ولو شئت يا محمد أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداء من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم, فعلت ذلك ولكني لم أشأ ذلك لأبتلي بعضهم ببعض فيستحقّ كلّ فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق. فَذَرْهُمْ يقول: فدعهم, يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجنّ, وَما يَفْتَرُونَ يعني: وما يختلفون من إفك وزور, يقول له صلى الله عليه وسلم: اصْبر عَلَيْهِمْ فإنّي مِنْ وَرَاءِ عِقابِهِمْ على افْتِرَائِهِمْ على اللّهِ وَاخْتِلاقِهِمْ عَلَيْهِ الكَذِبَ والزّورَ.
الآية : 113
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِتَصْغَىَ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مّقْتَرِفُونَ }.
يقول تعالى ذكره وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا وَلِتَصْغَى إلَيْهِ يقول جلّ ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيّن من القول بالباطل, ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء, فيفتنوهم عن دينهم وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِين لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالاَخرة. وهو من صغوتَ تَصْغَى وتَصْغُو, والتنزيل جاء بتَصْغَى صَغْوا وصُغُوّا, وبعض العرب يقول صَغَيْت بالياء حُكي عن بعض بني أسد: صَغَيْتُ إلى حديثه, فأنا أصْغَى صُغِيّا بالياء, وذلك إذا ملت, يقال: صَغْوي معك: إذا كان هواك معه وميلك, مثل قولهم: ضِلَعي معك, ويقال: أصغيت الإناء: إذا أملته ليجتمع ما فيه ومنه قول الشاعر:
تَرَى السّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلّ مُحْكَمَةٍزَيْغٌ وَفِيهِ إلى التّشْبِيهِ إصْغاءُ
ويقال للقمر إذا مال للغيوب: صَغَا وأصْغَى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10797ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ يقول: تزيغ إليه أفئدة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس, في قوله: وَلِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ قال: لتميل.
10798ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ يقول: تميل إليه قلوب الكفار ويحبونه ويرضون به.
10799ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ قال: ولتصغى: وليهووا ذلك وليرضوه, قال: يقول الرجل للمرأة: صَغَيْتُ إليها: هوِيتها.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلَيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرفُونَ.
يقول تعالى ذكره: وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون. حُكي عن العرب سماعا منها: خرج يقترف لأهله, بمعنى يكسب لهم, ومنه قيل: قارف فلان هذا الأمر: إذا واقعه وعمله. وكان بعضهم يقول: هو التهمة والادّعاء, يقال للرجل: أنت قرفتني: أي اتهمتني, ويقال: بئسما اقترفت لنفسك. وقال رؤبة:
أعْيا اقْتِرَافُ الكَذِبِ المَقْرُوفِتَقْوَى التّقِيّ وَعِفّةَ العَفِيفِ
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: وَلِيَقْتَرِفُوا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10800ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ وليكتسبوا ما هم مكتسبون.
10801ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ قال: ليعملوا ما هم عاملون.
10802ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ قال: ليعملوا ما هم عاملون.
الآية : 114
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الّذِيَ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلاً وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام, القائلين لك كفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهك: إن الله قد حكم عليّ بذكر آلهتكم بما يكون صدّا عن عبادتها, أفَغَيْرَ اللّهِ أبْتَغي حَكَما أي قل: فليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه, لأنه لا حكم أعدل منه ولا قائل أصدق منه. وهُوَ أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصّلاً يعني: القرآن مفصلاً, يعني مبينا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم. وقد بينا معنى التفصيل فيما مضى قبل.
القول في تأويل قوله تعالى: والّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنّهُ مُنَزّلٌ مِنْ رَبكَ بالحَقّ فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ.
يقول تعالى ذكره: إن أنكر هؤلاء العادلون بالله الأوثان من قومك توحيدَ الله, وأشركوا معه الأنداد, وجحدوا ما أنزلته إليك, وأنكروا أن يكون حقّا, وكذّبوا به. فالذين آتيناهم الكتاب وهو التوراة والإنجيل من بني إسرائيل, يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مِنْ رَبّكَ يعني: القرآن وما فيه بالحَقّ يقول: فصلاً بين أهل الحقّ والباطل, يدلّ على صدق الصادق في علم الله, وكذب الكاذب المفتري عليه. فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ يقول: فلا تكوننّ يا محمد من الشاكين في حقية الأنباء التي جاءتك من الله في هذا الكتاب وغير ذلك مما تضمنه لأن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحقّ. وقد بينا فيما مضى ما وجه قوله: فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ بِمَا أغْنَى عن إعادته مع الرواية المروية فيه. وقد:
10803ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قوله: فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ يقول: لا تكوننّ في شكّ مما قصصنا عليك.
الآية : 115
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: وكملت كلمة ربك, يعني القرآن. سماه كلمة كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر: هذه كلمة فلان. صِدْقا وَعَدْلاً يقول: كملت كلمة ربك من الصدق والعدل والصدق والعدل نصبا على التفسير للكلمة, كما يقال: عندي عشرون درهما. لا مُبَدّلَ لِكَلَماتِهِ يقول: لا مغّير لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه. وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه: يُرِيدُونَ أنْ يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ قُلْ لَنْ تَتّبِعُونا كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ فكانت إرادتهم تبديل كلام الله مسألتهم نبيّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه, وقولهم له ولمن معه من المؤمنين: ذَرُونا نَتّبِعْكُمْ بعد الخبر الذي كان الله أخبرهم تعالى ذكره في كتابه بقوله: فإنْ رَجَعَكَ اللّهُ إلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فاسْتأذَنُوكَ للْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّا... الاَية, فحاولوا تبديل كلام الله وخبره بأنهم لن يخرجوا مع نبيّ الله في غزاة, ولن يقاتلوا معه عدوّا بقولهم لهم: ذَرُونا نَتّبِعْكُمْ فقال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يريدون أن يبدّلوا بمسألتهم إياهم ذلك كلام الله وخبره قُلْ لَنْ تَتّبِعُونا كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْل. فكذلك معنى قوله: لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِهِ إنما هو: لا مغير لما أخبر عنه من خبر أنه كائن فيبطل مجيئه وكونه ووقوعه, على ما أخبر جلّ ثناؤه لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها وذلك أن اليهود والنصارى لا شكّ أنهم أهل كتب الله التي أنزلها على أنبيائه, وقد أخبر جلّ ثناؤه أنهم يحرّفون غير الذي أخبر أنه لا مبدّل له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10804ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّك صِدْقا وَعَدْلاً لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِهِ يقول: صدقا وعدلاً فيما حكم.
وأما قوله: وَهُوَ السّمِيعُ العَلِيمُ فإن معناه: والله السميع لما يقول هؤلاء العادلون بالله, المقسمون بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها, وغير ذلك من كلام خلقه, العليم بما تَئُول إليه أيمانهم من برّ وصدق وكذب وحنث وغير ذلك من أمور عباده.
الآية : 116
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تطع هؤلاء العادلين بالله الأنداد يا محمد فيما دعوك إليه من أكل ما ذبحوا لاَلهتهم, وأهلّوا به لغير ربهم وأشكالهَم من أهل الزيغ والضلال, فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن دين الله ومحجة الحقّ والصواب فيصدّوك عن ذلك. وإنما قال الله لنبيه: وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ فِي الأرْض من بني آدم, لأنهم كانوا حينئذٍ كفارا ضلالاً, فقال له جلّ ثناؤه: لا تطعهم فيما دعوك إليه, فإنك إن تطعهم ضللت ضلالهم وكنت مثلهم لأنهم لا يدعونك إلى الهدى وقد أخطئوه. ثم أخبر جلّ ثناؤه عن حال الذين نهى نبيه عن طاعتهم فيما دعوه إليه في أنفسهم, فقال: إنْ يَتّبِعُونَ إلاّ الظّنّ فأخبر جلّ ثناؤه أنهم من أمرهم على ظنّ عند أنفسهم, وحسبان على صحة عزم عليه وإن كان خطأ في الحقيقة. وَإنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ يقول: ما هم إلا متخرّصون يظنون ويوقعون حزرا لا يقين علم, يقال منه: خَرَصَ يَخْرُصُ خَرْصا وخِرْصا: أي كذب وتخرّص بظنّ وتخرّص بكذب, وخرصتُ النخل أخْرُصُه, وخَرِصتْ إبلك: أصابها البرد والجوع.
الآية : 117
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن ربك الذي نهاك أن تطيع هؤلاء العادلين بالله الأوثان, لئلا يضلوك عن سبيله, هو أعلم منك ومن جميع خلقه, أيّ خلقه يضلّ عن سبيله بزخرف القول الذي يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض, فيصدّوا عن طاعته واتباع ما أمر به. وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ يقول: وهو أعلم أيضا منك ومنهم بمن كان على استقامة وسداد, لا يخفى عليه منهم أحد. يقول: واتبع يا محمد ما أمرتك به, وانته عما نهيتك عنه من طاعة من نهيتك عن طاعته, فإني أعلم بالهادي والمضلّ من خلقي منك.
واختلف أهل العربية في موضع «مَنْ» في قوله: إنّ رَبّكَ هُوَ أعْلَمُ مَنْ يَضلّ. فقال بعض نحويي البصرة: موضعه خفض بنية الباء, قال: ومعنى الكلام: إن ربك هو أعلم بمن يضلّ. وقال بعض نحويي الكوفة: موضعه رفع, لأنه بمعنى أيّ, والرافع له «يضلّ».
والصواب من القول في ذلك: أنه رفع ب «يضلّ» وهو في معنى أيّ. وغير معلوم في كلام العرب اسم مخفوض بغير خافض فيكون هذا له نظيرا. وقد زعم بعضهم أن قوله: أعْلَمُ في هذا الموضع بمعنى «يعلم», واستشهد لقيله ببيت حاتم الطائي:
فحالَفَتْ طَيّىءٌ مِنْ دونِنا حِلِفاواللّهُ أعلمُ ما كُنا لَهُمْ خُذُلا
وبقول الخنساء:
القَوْمُ أعْلَمُ أنّ جَفْنَتَهُتَغْدُو غَداةَ الرّيحِ أوْ تَسْرِي
وهذا الذي قاله قائل هذا التأويل وإن كان جائزا في كلام العرب, فليس قول الله تعالى: إنّ رَبّكَ هُوَ أعْلَمُ مَنْ يَضِلّ عَنْ سَبِيلِهِ منه وذلك أنه عطف عليه بقوله: وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ فأبان بدخول الباء في «المهتدين» أن أعلم ليس بمعنى يعلم, لأن ذلك إذ كان بمعنى يفعل لم يوصل بالباء, كما لا يقال هو يعلم بزيد, بمعنى يعلم زيدا.
الآية : 118
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين به وبآياته, فكلوا أيها المؤمنون مما ذكيتم من ذبائحكم وذبحتموه الذبح الذي بينت لكم أنه تحلّ به الذبيحة لكم, وذلك ما ذبحه المؤمنون بي من أهل دينكم دين الحقّ, أو ذبحه من دان بتوحيدي من أهل الكتاب, دون ما ذبحه أهل الأوثان ومن لا كتاب له من المجوس. إنْ كُنْتُمْ بآياتِهِ مُؤْمِنِينَ يقول: إن كنتم بحجج الله التي أتتكم وإعلامه بإحلال ما أحللت لكم وتحريم ما حرّمت عليكم من المطاعم والمآكل مصدّقين, ودعوا عنكم زخرف ما توحيه الشياطين بعضها إلى بعض من زخرف القول لكم وتلبيس دينكم عليكم غرورا. وكان عطاء يقول في ذلك ما:
10805ـ حدثنا به محمد بن بشار ومحمد بن المثنى, قالا: حدثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: قوله: فَكُلُوا مِمّا ذُكرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح, وكلّ شيء يدلّ على ذكره يأمر به