تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 150 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 150

150- تفسير الصفحة رقم150 من المصحف
الآية: 158 {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون}
قوله تعالى: "هل ينظرون" معناه أقمت عليهم الحجة وأنزلت عليهم الكتاب فلم يؤمنوا، فماذا ينتظرون. "إلا أن تأتيهم الملائكة" أي عند الموت لقبض أرواحهم. "أو يأتي ربك" قال ابن عباس والضحاك: أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره، وقد يذكر المضاف إليه والمراد به المضاف؛ كقوله تعالى: "واسأل القرية" [يوسف: 82] يعني أهل القرية. وقول: "وأشربوا في قلوبهم العجل" [البقرة: 93] أي حب العجل. كذلك هنا: يأتي أمر ربك، أي عقوبة ربك وعذاب ربك. ويقال: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. "أو يأتي بعض آيات ربك" قيل: هو طلوع الشمس من مغربها. بين بهذا أنهم يمهلون في الدنيا فإذا ظهرت الساعة فلا إمهال. وقيل: إتيان الله تعالى مجيئه لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة؛ كما قال تعالى: "وجاء ربك والملك صفا صفا" [الفجر: 22]. وليس مجيئه تعالى حركة ولا انتقالا ولا زوالا؛ لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا. والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: يجيء وينزل ويأتي. ولا يكيفون؛ لأنه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [الشورى: 11]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض). وعن صفوان بن عسال المرادي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بالمغرب باب مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه). أخرجه الدارقطني والدارمي والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال سفيان: قبل الشام، خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض. (مفتوحا) يعني للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه. قال: حديث حسن صحيح.
قلت: وكذب بهذا كله الخوارج والمعتزلة كما تقدم. وروى ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب فقال: أيها الناس، إن الرجم حق فلا تخدعن عنه، وإن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه قد رجم، وأن أبا بكر قد رجم، وأنا قد رجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا. ذكر أبو عمر. وذكر الثعلبي في حديث فيه طول عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: أن الشمس تحبس عن الناس - حين تكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد، ويفشو المنكر فلا ينهى عنه - مقدار ليلة تحت العرش، كلما سجدت واستأذنت ربها تعالى من ابن تطلع لم يجيء لها جواب حتى يوافيها القمر فيسجد معها، ويستأذن من أين يطلع فلا يجاء إليهما جواب حتى يحبسا مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر؛ فلا يعرف طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين فإذا تم لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله تعالى إليهما جبريل عليه السلام فيقول: (إن الرب سبحانه وتعالى يأمر كما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور) فيطلعان من مغاربهما أسودين، لا ضوء للشمس ولا نور للقمر، مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله تعالى: "وجمع الشمس والقمر" [القيامة: 9] وقوله: "إذا الشمس كورت" [التكوير: 1] فيرتفعان كذلك مثل البعيرين المقرونين؛ فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرة السماء وهي منصفها جاءهما جبريل عليه السلام فأخذ بقرونهما وردهما إلى المغرب، فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة ثم يرد المصراعين، ثم يلتئم ما بينهما فيصير كأنه لم يكن بينهما صدع. فإذا أغلق باب التوبة لم تقبل لعبد بعد ذلك توبة، ولم تنفعه بعد ذلك حسنة يعملها؛ إلا من كان قبل ذلك محسنا فإنه يجري عليه ما كان عليه قبل ذلك اليوم؛ فذلك قوله تعالى: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا". ثم إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان.
قال العلماء: وإنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوعها من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن؛ فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم؛ فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته، كما لا تقبل توبة من حضره الموت. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي تبلغ روحه رأس حلقه، وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة أو مقعده من النار؛ فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله. وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش؛ لأن علمه بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبوعده قد صار ضرورة. فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان، ولا يتحدثوا عنه إلا قليلا، فيصير الخبر عنه خاصا وينقطع التواتر عنه؛ فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه. والله أعلم. وفي صحيح مسلم عن عبدالله قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا). وفيه عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن أسفل منه، فأطلع إلينا فقال: "ما تذكرون)؟ قلنا: الساعة. قال: (إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات. خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس). قال شعبة: وحدثني عبدالعزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة مثل ذلك، لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أحدهما في العاشرة: ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: وريح تلقي الناس في البحر.
قلت: وهذا حديث متقن في ترتيب العلامات. وقد وقع بعضها وهي الخسوفات على ما ذكر أبو الفرج الجوزي من وقوعها بعراق العجم والمغرب. وهلك، بسببها خلق كثير؛ ذكره في كتاب فهوم الآثار وغيره. ويأتي ذكر الدابة في "النمل". ويأجوج ومأجوج في "الكهف". ويقال: إن الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاما فعاما. وقيل: إن الحكم في طلوع الشمس من مغربها أن إبراهيم عليه السلام قال لنمروذ: "فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر" [البقرة: 258] وأن الملحدة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون: هو غير كائن؛ فيطلعها الله تعالى يوما من المغرب ليري المنكرين قدرته أن الشمس في ملكه، إن شاء أطلعها من المشرق وإن شاء أطلعها من المغرب. وعلى هذا يحتمل أن يكون رد التوبة والإيمان على من آمن وتاب من المنكرين لذلك المكذبين لخبر النبي صلى الله عليه وسلم بطلوعها، فأما المصدقون لذلك فإنه تقبل توبتهم وينفعهم إيمانهم قبل ذلك. وروي عن عبدالله بن عباس أنه قال: لا يقبل من كافر عمل ولا توبة إذا أسلم حين يراها، إلا من كان صغيرا يومئذ؛ فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل ذلك منه. ومن كان مؤمنا مذنبا فتاب من الذنب قبل منه. وروي عن عمران بن حصين أنه قال: إنما لم تقبل توبته وقت طلوع الشمس حين تكون صيحة فيهلك فيها كثير من الناس؛ فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته؛ ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره. وقال عبدالله بن عمر: يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتى يغرسوا النحل. والله بغيبه أعلم. وقرأ ابن عمر وابن الزبير "يوم تأتي" بالتاء؛ مثل "تلقطه بعض السيارة". وذهبت بعض أصابعه. وقال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
قال المبرد: التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل. وقرأ ابن سيرين "لا تنفع" بالتاء. قال أبو حاتم: يذكرون أن هذا غلط من ابن سيرين. قال النحاس: في هذا شيء دقيق من النحو ذكره سيبويه، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها؛ وأنشد سيبويه:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
قال المهدوي: وكثيرا ما يؤنثون فعل المضاف المذكر إذا كانت إضافته إلى مؤنث، وكان المضاف بعض المضاف إليه منه أو به؛ وعليه قول ذي الرمة: مشين.... البيت فأنث المر لإضافته إلى الرياح وهي مؤنثة، إذ كان المر من الرياح. قال النحاس: وفيه قول آخر وهو أن يؤنث الإيمان لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث؛ مثل "فمن جاءه موعظة من ربه" [البقرة: 275] وكما قال:
فقد عذرتنا في صحابته العذر
ففي أحد الأقوال أنث العذر لأنه بمعنى المعذرة. "قل انتظروا إنا منتظرون" بكم العذاب.
الآية: 159 {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}
قوله تعالى: "إن الذين فرقوا دينهم" قرأه حمزة والكسائي "فارقوا" بالألف، وهي قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ من المفارقة والفراق. على معنى أنهم تركوا دينهم وخرجوا عنه. وكان علي يقول: والله ما فرقوه ولكن فارقوه. وقرأ الباقون بالتشديد؛ إلا النخعي فإنه قرأ "فرقوا" مخففا؛ أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض. والمراد اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك. وقد وصفوا بالتفرق؛ قال الله تعالى: "وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة" [البينة: 4]. وقال: "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله" [النساء: 150]. وقيل: عنى المشركين، عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة. وقيل: الآية عامة في جميع الكفار. وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر الله عز وجل به فقد فرق دينه. وروي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية "إن الذين فرقوا دينهم" هم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة. وروي بقية بن الوليد حدثنا شعبة بن الحجاج حدثنا مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا إنما هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وأنا بريء منهم وهم منا برآء). وروى ليث بن أبي سليم عن طاوس عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "إن الذين فارقوا دينهم". "وكانوا شيعا" فرقا وأحزابا. وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع. "لست منهم في شيء" فأوجب براءته منهم؛ وهو كقوله عليه السلام: (من غشنا فليس منا) أي نحن برآء منه. وقال الشاعر:
إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني
أي أنا أبرأ منك. وموضع "في شيء" نصب على الحال من المضمر الذي في الخبر؛ قاله أبو علي. وقال الفراء هو على حذف مضاف، المعنى لست من عقابهم في شيء، وإنما عليك الإنذار.
قوله تعالى: "إنما أمرهم إلى الله" تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم.
الآية: 160 {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}
قوله تعالى: "من جاء بالحسنة" ابتداء، وهو شرط، والجواب "فله عشر أمثالها" أي فله عشر حسنات أمثالها؛ فحذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها؛ جمع مثل وحكى سيبويه: عندي عشرة نسابات، أي عندي عشرة رجال نسابات. وقال أبو علي: حسن التأنيث في "عشر أمثالها" لما كان الأمثال مضافا إلى مؤنث، والإضافة إلى المؤنث إذا كان إياه في المعنى يحسن فيه ذلك؛ نحو "تلقطه بعض السيارة". وذهبت بعض أصابعه. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش "فله عشر أمثالها". والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، أي له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له. ويجوز أن يكون له مثل، ويضاعف المثل فيصير عشرة. والحسنة هنا: الإيمان. أي من جاء بشهادة أن لا إله إلا الله فله بكل عمل عمله في الدنيا من الخير عشرة أمثاله من الثواب. "ومن جاء بالسيئة" يعني الشرك "فلا يجزى إلا مثلها" وهو الخلود في النار؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة؛ فذلك قوله تعالى: "جزاء وفاقا" [النبأ: 26] يعني جزاء وافق العمل. وأما الحسنة فبخلاف ذلك؛ لنص الله تعالى على ذلك. وفي الخبر (الحسنة بعشر أمثالها وأزيد والسيئة واحدة وأغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره). وروى الأعمش عن أبي صالح قال: الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك. "وهم لا يظلمون" أي لا ينقص ثواب أعمالهم. وقد مضى في "البقرة" بيان هذه الآية، وأنها مخالفة للإنفاق في سبيل الله؛ ولهذا قال بعض العلماء: العشر لسائر الحسنات؛ والسبعمائة للنفقة في سبيل الله، والخاص والعام فيه سواء. وقال بعضهم: يكون للعوام عشرة وللخواص سبعمائة وأكثر إلى ما لا يحصى؛ وهذا يحتاج إلى توقيف. والأول أصح؛ لحديث خريم بن فاتك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (وأما حسنة بعشر فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها وأما حسنة بسبعمائة فالنفقة في سبيل الله).
الآية: 161 {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}
قوله تعالى: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم" لما بين تعالى أن الكفار تفرقوا بين أن الله هداه إلى الدين المستقيم وهو دين إبراهيم "دينا" نصب على الحال؛ عن قطرب. وقيل: نصب بـ "هداني" عن الأخفش. قال غيره: انتصب حملا على المعنى؛ لأن معنى هداني عرفني دينا. ويجوز أن يكون بد لا من الصراط، أي هداني صراطا مستقيما دينا. وقيل: منصوب بإضمار فعل؛ فكأنه قال: اتبعوا دينا، واعرفوا دينا. "قيما" قرأه الكوفيون وابن عامر بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء، مصدر كالشبع فوصف به. والباقون بفتح القاف وكسر الياء وشدها، وهما لغتان. وأصل الياء الواو "قيوم" ثم أدغمت الواو في الياء كميت. ومعناه دينا مستقيما لاعوج فيه "ملة إبراهيم" بدل "حنيفا" قال الزجاج: هو حال من إبراهيم. وقال علي بن سليمان: هو نصب بإضمار أعني.
الآية: 162 - 163 {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}
قوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي" قيل: المراد بههنا صلاة الليل. وقيل: صلاة العيد. والنسك جمع نسيكة، وهي الذبيحة، وكذلك قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم. والمعنى: ذبحي في الحج والعمرة. وقال الحسن: نسكي ديني. وقال الزجاج: عبادتي؛ ومنه الناسك الذي يتقرب إلى الله بالعبادة. وقال قوم: النسك في هذه الآية جميع أعمال البر والطاعات؛ من قولك نسك فلان فهو ناسك، إذا تعبد. "ومحياي" أي ما أعمله في حياتي "ومماتي" أي ما أوصي به بعد وفاتي "لله رب العالمين" أي أفرده بالتقرب بها إليه. وقيل: "ومحياي ومماتي لله" أي حياتي وموتي له. وقرأ الحسن: "نُسْكي" بإسكان السين. وأهل المدينة "ومحياي" بسكون الياء في الإدراج. والعامة بفتحها؛ لأنه يجتمع ساكنان. قال النحاس: لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن قبله ألفا، والألف المدة التي فيها تقوم مقام الحركة. وأجاز يونس آضربان زيدا، وإنما منع النحويون هذا لأنه جمع بين ساكنين وليس في الثاني إدغام، ومن قرأ بقراءة أهل المدينة وأراد أن يسلم من اللحن وقف على "محياي" فيكون غير لاحن عند جميع النحويين. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري "ومحيي" بتشديد الياء الثانية من غير ألف؛ وهي لغة عليا مضر يقولون: قفي وعصي. وأنشد أهل اللغة:
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم
قال الكيا الطبري: قوله تعالى: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم" إلى قوله: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" استدل به الشافعي على افتتاح الصلاة بهذا الذكر؛ فإن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل في كتابه، ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين - إلى قوله - وأنا من المسلمين).
قلت: روي مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك. تباركت وتعاليت. أستغفرك وأتوب إليك. الحديث. وأخرجه الدارقطني وقال في آخره: بلغنا عن النضر بن شميل وكان من العلماء باللغة وغيرها قال: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (والشر ليس إليك) الشر ليس مما يتقرب به إليك. قال مالك: ليس التوجيه في الصلاة بواجب على الناس، والواجب عليهم التكبير ثم القراءة. قال ابن القاسم: لم ير مالك هذا الذي يقوله الناس قبل القراءة: سبحانك اللهم وبحمدك. وفي مختصر ما ليس في المختصر: أن مالكا كان يقوله في خاصة نفسه؛ لصحة الحديث به، وكان لا يراه للناس مخافة أن يعتقدوا وجوبه. قال أبو الفرج الجوزي: وكنت أصلى وراء شيخنا أبي بكر الدينوري الفقيه في زمان الصبا، فرآني مرة أفعل هذا فقال: يا بني، إن الفقهاء قد اختلفوا في وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ولم يختلفوا أن الافتتاح سنه، فاشتغل بالواجب ودع السنن. والحجة لمالك قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي علمه الصلاة: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ) ولم يقل له سبح كما يقول أبو حنيفة، ولا قل وجهت وجهي، كما يقول الشافعي. وقال لأبي: (كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة)؟ قال: قلت الله أكبر، الحمد لله رب العالمين. فلم يذكر توجيها ولا تسبيحا. فإن قيل: فإن عليا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله.
قلنا: يحتمل أن يكون قاله قبل التكبير ثم كبر، وذلك حسن عندنا. فإن قيل: فقد روى النسائي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم يقول: (إن صلاتي ونسكي) الحديث قلنا: هذا نحمله على النافلة في صلاة الليل؛ كما جاء في كتاب النسائي عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة بالليل قال: (سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك). أو في النافلة مطلقا؛ فإن النافلة أخف من الفرض؛ لأنه يجوز أن يصليها قائما وقاعدا وراكبا، وإلى القبلة وغيرها في السفر، فأمرها أيسر. وقد روى النسائي عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعا قال: (الله أكبر. وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك). ثم يقرأ. وهذا نص في التطوع لا في الواجب. وإن صح أن ذلك كان في الفريضة بعد التكبير، فيحمل على الجواز والاستحباب، وأما المسنون فالقراءة بعد التكبير، والله بحقائق الأمور عليم. ثم إذا قال فلا يقل: "وأنا أول المسلمين" إذ ليس أحدهم بأولهم إلا محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: أو ليس إبراهيم والنبيون قبله؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة: الأول: أنه أول الخلق أجمع معنى؛ كما في حديث أبي هريرة من قوله عليه السلام: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة). وفي حديث حذيفة (نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق). الثاني: أنه أولهم لكونه مقدما في الخلق عليهم؛ قال الله تعالى: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" [الأحزاب: 7]. قال قتادة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث). فلذلك وقع ذكره هنا مقدما قبل نوح وغيره. الثالث: أول المسلمين من أهل ملته؛ قال ابن العربي، وهو قول قتادة وغيره. واختلفت الروايات في "أول" ففي بعضها ثبوتها وفي بعضها لا، على ما ذكرنا. وروى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك في أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ثم قولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). قال عمران: يا رسول الله، هذا لك ولأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: (بل للمسلمين عامة).
الآية: 164 {قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}
قوله تعالى: "قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء" أي مالكه. روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك؛ فنزلت الآية. وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ. و"غير" نصب بـ "أبغي" و"ربا" تمييز.
قوله تعالى: "ولا تكسب كل نفس إلا عليها" أي لا ينفعني في ابتغاء رب غير الله كونكم على ذلك؛ إلا تكسب كل نفس إلا عليها؛ أي لا يؤخذ بما أتت من المعصية، وركبت من الخطيئة سواها.
وقد استدل بعض العلماء من المخالفين بهذه الآية على أن بيع الفضولي لا يصح، وهو قول الشافعي. وقال علماؤنا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا، بدليل قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" على ما يأتي. وبيع الفضولي عندنا موقوف على إجازة المالك، فإن أجازه جاز. هذا عروة البارقي قد باع للنبي صلى الله عليه وسلم واشترى وتصرف بغير أمره، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبه قال أبو حنيفة. وروى البخاري والدارقطني عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني دينارا وقال: (أي عروة ايت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار) فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما - أو قال أقودهما - فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعته إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة الأخرى وبدينار، فقلت: يا رسول الله، هذه الشاة وهذا ديناركم. قال: (كيف صنعت)؟ فحدثته الحديث. قال: (اللهم بارك له في صفقة يمينه). قال: فلقد رأيتني أقف في كناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي. لفظ الدارقطني. قال أبو عمر: وهو حديث جيد، وفيه صحة ثبوت النبي صلى الله عليه وسلم للشاتين، ولو لا ذلك ما أخذ منه الدينار ولا أمضى له البيع.
وفيه دليل على جواز الوكالة، ولا خلاف فيها بين العلماء. فإذا قال الموكل لو كيله: اشتر كذا؛ فاشترى زيادة على ما وكل به فهل يلزم ذلك الأمر أم لا؟. كرجل قال لرجل: أشتر بهذا الدرهم رطل لحم، صفته كذا؛ فاشترى له أربعة أرطال من تلك الصفة بذلك الدرهم. فالذي عليه مالك وأصحابه أن الجميع يلزمه إذا وافق الصفة ومن جنسها؛ لأنه محسن. وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: الزيادة للمشتري. وهذا الحديث حجة عليه.
قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها. وأصل الوزر الثقل؛ ومنه قوله تعالى: "ووضعنا عنك وزرك" [الشرح: 2]. وهو هنا الذنب؛ كما قال تعالى: "وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم" [الأنعام: 31]. قال الأخفش: يقال وزر يوزر، ووزر يزر، ووزر يوزر وزرا. ويجوز إزرا، كما يقال: إسادة. والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم؛ ذكره ابن عباس. وقيل: إنها نزلت ردا على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وبابنه وبجريرة حليفه.
قلت: ويحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها؛ فأما التي في الدنيا فقد يؤاخذ فيها بعضهم بجرم بعض، لا سيما إذا لم ينه الطائعون العاصين، كما تقدم في حديث أبي بكر في قوله: "عليكم أنفسكم" [المائدة: 105]. وقوله تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" [الأنفال: 25]. "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [الرعد: 11]. وقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخنث). قال العلماء: معناه أولاد الزنى. والخبث (بفتح الباء) اسم للزنى. فأوجب الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ على العاقلة حتى لا يطل دم الحر المسلم تعظيما للدماء. وأجمع أهل العلم على ذلك من غير خلاف بينهم في ذلك؛ فدل على ما قلناه. وقد يحتمل أن يكون هذا في الدنيا، في ألا يؤاخذ زيد بفعل عمرو، وأن كل مباشر لجريمة فعليه مغبتها. وروى أبو داود عن أبي رمثة قال؛ انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي: (ابنك هذا)؟ قال: أي ورب الكعبة. قال: (حقا). قال: أشهد به. قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكا من ثبت شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي. ثم قال: (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه). وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولا تزر وازرة وزر أخرى". ولا يعارض ما قلناه أولا بقوله: "وليحملن أثقالهم" وأثقالا مع أثقالهم" [العنكبوت: 13]؛ فإن هذا مبين في الآية الأخرى قوله: "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم" [النحل: 25]. فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل شيء، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الآية: 165 {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}
قوله تعالى: "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" "خلائف" جمع خليفة، ككرائم جمع كريمة. وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة. أي جعلكم خلفا للأمم الماضية والقرون السالفة. قال الشماخ:
تصيبهم وتخطئني المنايا وأخلف في ربوع عن ربوع
"ورفع بعضكم فوق بعض" في الخلق. الرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم. "درجات" نصب بإسقاط الخافض، أي إلى درجات. "ليبلوكم" نصب بلام كي. والابتلاء الاختبار؛ أي ليظهر منكم ما يكون غايته التواب والعقاب. ولم يزل بعلمه غنيا؛ فأبتلي الموسر بالغني وطلب منه الشكر، وأبتلي المعسر بالفقر وطلب منه الصبر. ويقال: "ليبلوكم" أي بعضكم ببعض. كما قال: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" [الفرقان: 20] على ما يأتي بيانه. ثم خوفهم فقال: "إن ربك سريع العقاب" لمن عصاه. "وإنه لغفور رحيم" لمن أطاعه. وقال: "سريع العقاب" مع وصفه سبحانه بالإمهال، ومع أن عقاب النار في الآخرة؛ لأن كل آت قريب؛ فهو سريع على هذا. كما قال تعالى: "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب" [النحل: 77]. وقال "يرونه بعيدا. ونراه قريبا" [المعارج: 6،7]. ويكون أيضا سريع العقاب لمن استحقه في دار الدنيا؛ فيكون تحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة. والله أعلم.