تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 150 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 150

150 : تفسير الصفحة رقم 150 من القرآن الكريم

** هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيَ إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُوَاْ إِنّا مُنتَظِرُونَ
يقول تعالى متوعداً للكافرين به والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك} وذلك كائن يوم القيامة {أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانه} وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئاً من أشراط الساعة كما قال البخاري في تفسير هذه الاَية حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها»فذلك حين {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل}.
حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها» وفي لفظ «فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل» ثم قرأ هذه الاَية. هكذا روي هذا الحديث من هذين الوجهين ومن الوجه الأول أخرجه بقية الجماعة في كتبهم إلا الترمذي من طرق عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة عن أبي زرعة بن جرير عن أبي هريرة به.
وأمّا الطريق الثاني فرواه عن إسحاق غير منسوب وقيل هو ابن منصور الكوسج وقيل إسحاق بن نصر واللهأعلم, وقد رواه مسلم عن محمد بن رافع الجنديسابوري كلاهما عن عبد الرزاق به, وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة كما انفرد مسلم بروايته من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة به. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا ابن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً, طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض» ورواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم سلمان عن أبي هريرة به وعنده والدخان, ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب عن وكيع ورواه هو أيضاً والترمذي من غير وجه عن فضيل بن غزوان به, ورواه إسحاق بن عبد الله القروي عن مالك بن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, ولكن لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه لضعف القروي ـ والله أعلم.
وقال ابن جرير حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا شعيب بن الليث عن أبيه عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلهم وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل» الاَية, ورواه ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة به ورواه وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة به, أخرج هذه الطرق كلها الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره, وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قبل منه» لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
(حديث آخر) عن أبي ذر الغفاري في الصحيحين وغيرهما من طرق عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت ؟» قلت: لا أدري قال: «إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث جئت وذلك حين {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل}.
(حديث آخر) عن حذيفة بن أسيد بن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه, قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها, والدخان والدابة, وخروج يأجوج ومأجوج, وخروج عيسى ابن مريم, وخروج الدجال, وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب, ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث فرات القزاز عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد به وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, قال الثوري عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ما آية طلوع الشمس من مغربها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين فينتبه الذين كانوا يصلون فيها فيعملون كما كانوا يعملون قبلها والنجوم لا ترى قد غابت مكانها ثم يرقدون ثم يقومون فيصلون ثم يرقدون ثم يقومون فيطل عليهم جنوبهم حتى يتطاول عليهم الليل فيفزع الناس ولا يصبحون فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها فإذا رآها الناس آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم» رواه ابن مردويه, وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه ـ والله أعلم ـ.
(حديث آخر) عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه وأرضاه. قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {يوم يأتي يعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانه} قال: «طلوع الشمس من مغربها» ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن أبيه به وقال غريب, ورواه بعضهم ولم يرفعه, وفي حديث طالوت بن عباد عن فضال بن جبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أول الاَيات طلوع الشمس من مغربها» وفي حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله فتح باباً قبل المغرب عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» رواه الترمذي وصححه النسائي وابن ماجه في حديث طويل.
(حديث آخر) عن عبد الله بن أبي أوفى قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم, حدثنا أحمد بن حازم حدثنا ضرار بن صرد, حدثنا ابن فضيل عن سليمان بن يزيد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالي من لياليكم هذه فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام فبينما هم كذلك إذ صاح الناس بعضهم في بعض فقالوا ما هذا فيفزعون إلى المساجد فإذا هم بالشمس قد طلعت حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت وطلعت من مطلعها ـ قال حينئذ ـ لا ينفع نفساً إيمانها» هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس هو في شيء من الكتب الستة.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمرو. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير قال: جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة فسمعوه وهو يحدث عن الاَيات يقول إن أولها الدجال قال فانصرفوا إلى عبد الله بن عمرو فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الاَيات فقال: لم يقل مروان شيئاً حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن أول الاَيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحى فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها» ثم قال عبد الله وكان يقرأ الكتب وأظن أولها خروجاً طلوع الشمس من مغربها وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش وسجدت واستأذنت في الرجوع فأذن لها في الرجوع حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها فعلت كما كانت تفعل, أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فلم يرد عليها شيء ثم استأذنت في الرجوع فلا يرد عليها شيء حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب وعرفت أنه إذا أذن لها في الرجوع لم تدرك المشرق قالت: رب ما أبعد المشرق من لي بالناس, حتى إذا صار الأفق كأنه طوق استأذنت في الرجوع فيقال لها: من مكانك فاطلعي فطلعت على الناس من مغربها, ثم تلا عبد الله هذه الاَية {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل} الاَية, وأخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننيهما من حديث أبي حيان التيمي واسمه يحيى بن سعيد بن حيان بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير به.
(حديث آخر عنه) قال الطبراني حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي, حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجداً ينادي ويجهر إلهي مرني أن أسجد لمن شئت ـ قال ـ فيجتمع إليه زبانيته فيقولون كلهم ما هذا التضرع فيقول: إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم وهذا الوقت المعلوم ـ قال ـ ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا ـ قال ـ فأول خطوة تضعها بأنطاكيا فتأتي إبليس فتلطمه» هذا حديث غريب جداً وسنده ضعيف ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك فأما رفعه فمنكر, والله أعلم.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين. قال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل» هذا الحديث حسن الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, والله أعلم.
(حديث آخر) عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين حدثني أبو عبيدة عن ابن مسعود أنه كان يقول ما ذكر من الاَيات فقد مضى غير أربع. طلوع الشمس من مغربها, والدجال, ودابة الأرض, وخروج يأجوج ومأجوج. قال وكان يقول الاَية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ألم تر أن الله يقول {يوم يأتي بعض آيات ربك} الاَية كلها يعني طلوع الشمس من مغربها. حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه عن ابن عباس مرفوعاً فذكر حديثاً طويلاً غريباً منكراً رفعه, وفيه أن الشمس والقمر يطلعان يومئذ من المغرب مقرونين وإذا انتصفا السماء رجعا ثم عادا إلى ما كانا عليه وهو حديث غريب جداً بل منكر بل موضوع إن ادعي أنه مرفوع, فأما وقفه على ابن عباس أو وهب بن منبه وهو الأشبه فغير مدفوع, والله أعلم.
وقال سفيان عن منصور عن عامر عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا خرج أول الاَيات طرحت وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال رواه ابن جرير رحمه الله تعالى, فقوله تعالى: {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل} أي إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لا يقبل منه فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة وعليه يحمل قوله تعالى: {أو كسبت في إيمانها خير} أي ولا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملاً به قبل ذلك. وقوله تعالى: {قل انتظروا إنا منتظرون} تهديد شديد للكافرين ووعيد أكيد لمن سوف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك وإنما كان هذا الحكم عند طلوع الشمس من مغربها لاقتراب الساعة وظهور أشراطها كما قال {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} وقوله تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسن} الاَية.

** إِنّ الّذِينَ فَرّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي نزلت هذه الاَية في اليهود والنصارى وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيع} وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} الاَية, وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمر السكوني حدثنا بقية بن الوليد كتب إلي عباد بن كثير حدثنا ليث عن طاوس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الاَية {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة. لكن هذا إسناد لا يصح فإن عباد بن كثير متروك الحديث ولم يختلق هذا الحديث ولكنه وهم في رفعه فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث وهو ابن أبي سليم عن طاوس عن أبي هريرة في الاَية أنه قال: نزلت في هذه الأمة.
وقال أبو غالب عن أبي أمامة في قوله {وكانوا شيع} قال هم الخوارج وروي عنه مرفوعاً ولا يصح. وقال شعبة عن مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها «{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيع} ـ قال ـ هم أصحاب البدع» وهذا رواه ابن مردويه وهو غريب أيضاًولا يصح رفعه, والظاهر أن الاَية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق فمن اختلف فيه {وكانوا شيع} أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه وهذه الاَية كقوله تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك} الاَية.
وفي الحديث «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» فهذا هو الصراط المستقيم وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له والتمسك بشريعة الرسول المتأخر وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء والرسل برآء منها كما قال الله تعالى {لست منهم في شيء} وقوله تعالى {إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} كقوله تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة} الاَية ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فقال تعالى.

** مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
وهذه الاَية الكريمة مفصلة لما أجمل في الاَية الأخرى وهي قوله {من جاء بالحسنة فله خير منه} وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الاَية كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا الجعد أبو عثمان عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى «إن ربكم عز وجل رحيم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عز وجل ولا يهلك على الله إلا هالك» ورواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث الجعد أبي عثمان به.
وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز جل: من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة, ومن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً ومن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية به, وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش به, ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به, وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان حدثنا حماد, حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة» واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام تارة يتركها لله فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى وهذا عمل ونية ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح فإنما تركها من جرائي أي من أجلي, وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها فهذا لا له ولا عليه لأنه لم ينو خيراً ولا فعل شراً, وتارة يتركها عجزاً وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها, فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه».
وقال الإمام أبو يعلى الموصلي: حدثنا مجاهد بن موسى, حدثنا علي وحدثنا الحسن بن الصباح وابن خيثمة, قالا: حدثنا إسحاق بن سليمان كلاهما عن موسى بن عبيدة عن أبي بكر بن عبيد الله بن أنس عن جده أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من هم بحسنة كتب الله له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً, ومن هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة, فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله تعالى إنما تركها من مخافتي», هذا لفظ حديث مجاهد يعني ابن موسى, وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا شيبان بن عبد الرحمن, عن الركين بن الربيع عن أبيه عن عمه فلان بن عميلة, عن خريم بن فاتك الأسدي, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الناس أربعة والأعمال ستة, فالناس موسع له في الدنيا والاَخرة وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الاَخرة, ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الاَخرة وشقي في الدنيا والاَخرة, والأعمال موجبتان ومثل بمثل وعشرة أضعاف وسبعمائة ضعف, فالموجبتان من مات مسلماً مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً وجبت له الجنة, ومن مات كافراً وجبت له النار, ومن هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة, ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه, ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أمثالها, ومن أنفق نفقة في سبيل الله عز وجل كانت بسبعمائة ضعف» ورواه الترمذي والنسائي من حديث الركين بن الربيع عن أبيه عن بشير بن عميلة عن خريم بن فاتك به ببعضه, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «يحضر الجمعة ثلاثة نفر, رجل حضرها بلغو فهو حظه منها, ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه, ورجل حضرها بإنصات وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهي كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام», وذلك لأن الله عز وجل يقول {من جاء بالحسنة فله عشر أمثاله} وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هشام بن مرثد, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام, وذلك لأن الله تعالى قال {من جاء بالحسنة فله عشر أمثاله}» وعن أبي ذر رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله» رواه الإمام أحمد وهذا لفظه والنسائي وابن ماجه والترمذي, وزاد «فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه {من جاء بالحسنة فله عشر أمثاله} اليوم بعشرة أيام» ثم قال هذا حديث حسن وقال ابن مسعود {من جاء بالحسنة فله عشر أمثاله} من جاء بلا إله إلا الله, ومن جاء بالسيئة يقول بالشرك, وهكذا جاء عن جماعة من السلف رضي الله عنهم أجميعن, وقد ورد فيه حديث مرفوع الله أعلم بصحته, لكني لم أروه من وجه يثبت, والأحاديث والاَثار في هذا كثيرة جداً وفيما ذكر كفاية إن شاء الله وبه الثقة.

** قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ
يقول تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف {ديناً قيم} أي قائماً ثابتاً {ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} كقوله {ومن يرغب من ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} وقوله {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم} وقوله {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم, وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الاَخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} وليس يلزم من كونه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية, أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها لأنه عليه السلام قام بها قياماً عظيماً وأكملت له إكمالاً تاماً لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال, ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق, وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه السلام.
وقد قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص, حدثنا أحمد بن عصام, حدثنا أبو داود الطيالسي, حدثنا شعبة أنبأنا سلمة بن كهيل, سمعت ذر بن عبد الله الهمداني يحدث عن ابن أبزى عن أبيه, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال «أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن إسحاق, عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأديان أحب إلى الله تعالى ؟ قال «الحنيفية السمحة» وقال أحمد أيضاً: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبه, لأنظر إلى زفن الحبشة حتى كنت التي مللت فانصرفت عنه. قال عبد الرحمن عن أبيه قال: قال لي عروة إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة, إني أرسلت بحنيفية سمحة», أصل الحديث مخرج في الصحيحين والزيادة لها شواهد من طرق عدة, وقد استقصيت طرقها في شرح البخاري ولله الحمد والمنة, وقوله تعالى {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك, فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له, وهذا كقوله تعالى {فصل لربك وانحر} أي أخلص له صلاتك وذبحك, فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها, فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى, قال مجاهد في قوله {إن صلاتي ونسكي} النسك الذبح في الحج والعمرة, وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير {ونسكي} قال ذبحي, وكذا قال السدي والضحاك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف, حدثنا أحمد بن خالد الذهبي, حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله قال: ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد النحر بكبشين وقال حين ذبحهما «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين» وقوله عز وجل {وأنا أول المسلمين} قال قتادة: أي من هذه الأمة, وهو كما قال فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام, وأصله عبادة الله وحده لا شريك له كما قال {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقد أخبرنا تعالى عن نوح أنه قال لقومه {فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين} وقال تعالى {ومن يرغب من ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الاَخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وقال يوسف عليه السلام {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والاَخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} وقال موسى {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين} وقال تعالى {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار} الاَية, وقال تعالى {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون} فأخبر تعالى أنه بعث رسله بالإسلام, ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضاً, إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا تنسخ أبد الاَبدين, ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة, ولهذا قال عليه السلام «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» فإن أولاد العلات هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى, فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات, كما أن إخوة الأخياف عكس هذا بنو الأم الواحدة من آباء شتى, والإخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة. والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد, حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشون, حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي, عن الأعرج, عن عبيد الله بن أبي رافع, عن علي رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر استفتح ثم قال: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين, إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين», «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت, أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً لا يغفر الذنوب إلا أنت, واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت, واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت, تباركت وتعاليت, أستغفرك وأتوب إليك» ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد وقد رواه مسلم في صحيحه.

** قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ مّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
يقول تعالى {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه {أغير الله أبغي رب} أي أطلب رباً سواه, {وهو رب كل شيء} يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري, أي لا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الاَية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له, وهذا المعنى يقرن بالاَخر كثيراً في القرآن كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا له {إياك نعبد وإياك نستعين}, وقوله {فاعبده وتوكل عليه} وقوله {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلن} وقوله {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيل}, وأشباه ذلك من الاَيات.
وقوله تعالى {ولا تكسب كل نفس إلا عليها, ولا تزر وازرة وزر أخرى}, إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله, أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله تعالى كما قال {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} وقوله تعالى {فلا يخاف ظلماً ولا هضم} قال علماء التفسير: أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره, ولا يهضم بأن ينقص من حسناته وقال تعالى {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين} معناه كل نفس مرتهنة بعملها السيء, إلا أصحاب اليمين فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كما قال في سورة الطور {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء}, أي ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال, بل في أصل الإيمان, وما ألتناهم أي أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئاً حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة, بل رفعهم تعالى إلى منزلة الاَباء ببركة أعمالهم بفضله ومنته, ثم قال {كل امرى بما كسب رهين} أي من شر, وقوله {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} أي اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه فستعرضون ونعرض عليه, وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا, كقوله {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم}.

** وَهُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنّ رَبّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ
يقول تعالى {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} أي جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل, وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف. قاله ابن زيد وغيره, كقوله تعالى {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} وكقوله تعالى {ويجعلكم خلفاء الأرض} وقوله {إني جاعل في الأرض خليفة} وقوله {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} وقوله {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوىء والمناظر والأشكال والألوان, وله الحكمة في ذلك, كقوله تعالى {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخري} وقوله {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيل}.
وقوله تعالى {ليبلوكم فيما آتاكم} أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به, ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره, والفقير في فقره ويسأله عن صبره. وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون, فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء». وقوله تعالى {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع, فيمن عصاه وخالف رسله {وإنه لغفور رحيم} لمن والاه واتبع رسله فيما جاؤوا به من خبر وطلب. وقال محمد بن إسحاق: ليرحم العباد على ما فيهم, رواه ابن أبي حاتم, وكثيراً ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين, كقوله {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم * وإن ربك لشديد العقاب} وقوله {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} إلى غير ذلك من الاَيات المشتملة على الترغيب والترهيب, فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه, وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها, وتارة بهما لينجع في كل بحسبه, جعلنا الله ممن أطاعوا فيما أمر, وترك ما عنه نهى وزجر, وصدقه فيما أخبر, إنه قريب مجيب سميع الدعاء جواد كريم وهاب.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد, ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة, خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها وعند الله تسعة وتسعون» ورواه الترمذي عن قتيبة عن عبد العزيز الدراوردي عن العلاء به, وقال: حسن, ورواه مسلم, عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعلي بن حجر, ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر, عن العلاء وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي» وعنه أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً, فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» رواه مسلم ـ آخر تفسير سورة الأنعام, ولله الحمد والمنة.