تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 150 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 150

149

قرأ حمزة والكسائي 159- " فرقوا دينهم " وهي قراءة علي بن أبي طالب: أي تركوا دينهم وخرجوا عنه. وقرأ الباقون "فرقوا" بالتشديد إلا النخعي فإنه قرأ بالتخفيف. والمعنى: أنهم جعلوا دينهم متفرقاً فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه، قيل: المراد بهم اليهود والنصارى. وقد ورد في معنى هذا، في اليهود قوله تعالى: "وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة"، وقيل: المراد بهم المشركون عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة، وقيل: الآية عامة في جميع الكفار وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله، وهذا هو الصواب لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام، ومعنى شيعاً فرقاً وأحزاباً، فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً، ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق "لست منهم في شيء" أي لست من تفرقهم، أو من السؤال عن سبب تفرقهم والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به إنما عليك البلاغ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" أي نحن برآء منه، وموضع "في شيء" نصب على الحال. قال الفراء: هو على حذف مضاف: أي لست من عقابهم في شيء، وإنما عليك الإنذار، ثم سلاه الله تعالى بقوله: "إنما أمرهم إلى الله" فهو مجاز لهم بما يقتضيه مشيئته والحصر، بإنما هو في حكم التعليل لما قبله والتأكيد له "ثم" هو يوم القيامة "ينبئهم" أي يخبرهم بما ينزله بهم من المجازاة " بما كانوا يعملون " ـه من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم، وهذه الآية من جملة ما هو منسوخ بآية السيف.
قوله: 160- "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" لما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم بأن من جاء بحسنة واحدة من الحسنات فله من الجزاء عشر حسنات، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. قال أبو علي الفارسي: حسن التأنيث في عشر أمثالها لما كان الأمثال مضافاً إلى مؤنث، نحو ذهبت بعض أصابعه. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش "فله عشر أمثالها" برفعهما. وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة، وهذا التضعيف هو أقل ما يستحقه عامل الحسنة. وقد وردت الزيادة على هذا عموماً وخصوصاً، ففي القرآن كقوله: "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل". وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى ألوف مؤلفة. وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير فليرجع إليهما "ومن جاء بالسيئة" من الأعمال السيئة "فلا يجزى إلا مثلها" من دون زيادة عليها على قدرها في الخفة والعظم، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد تقديره من العقوبات كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرحة بأن من عمل كذا فعليه كذا، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب فعلينا أن نقول: يجازيه الله بمثله وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به، وهذا إن لم يتب، أما إذا تاب أو غلبت حسناته سيئاته أو تغمده الله برحمته وتفضل عليه بمغفرته فلا مجازاة، وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بهذا تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب، "وهم" أي من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة "لا يظلمون" بنقص ثواب حسنات المحسنين ولا بزيادة عقوبات المسيئين. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، فلما بعث محمد أنزل عليه "إن الذين فرقوا دينهم" الآية. وأخرج النحاس عنه في ناسخه "إن الذين فرقوا دينهم" قال: اليهود والنصارى تركوا الإسلام والدين الذي أمروا به "وكانوا شيعاً" فرقاً أحزاباً مختلفة "لست منهم في شيء" نزلت بمكة ثم نسخها "قاتلوا المشركين"-. وأخرج أبو الشيخ عنه "وكانوا شيعاً" قال: مللاً شتى. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله: "إن الذين فرقوا دينهم" الآية قال: هم في هذه الأمة. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، وفي إسناده عبد بن كثير، وهو متروك الحديث ولم يرفعه غيره، ومن عداه وقفوه على أبي هريرة. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة في الآية قال: هم الحرورية وقد رواه ابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه عن أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعاً ولا يصح رفعه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن شاهين وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وأبو نصر السجزي في الإبانة والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذا الأمة ليست لهم توبة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وهم مني برآء". قال ابن كثير: هو غريب ولا يصح رفعه. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" قال رجل من المسلمين: يا رسول الله لا إله إلا لله حسنة؟ قال: نعم أفضل الحسنات، وهذا مرسل ولا ندري كيف إسناده إلى سعيد؟. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود "من جاء بالحسنة". قال: لا إله إلا الله. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس مثله. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة مثله أيضاً. وقد قدمنا الإشارة إلى أنها قد ثبتت الأحاديث الصحيحة بمضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فلا نطيل بذكرها، ووردت أحاديث كثيرة في الزيادة على هذا المقدار، وفضل الله واسع، وعطاؤه جم.
لما بين سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقاً وتحزبوا أحزاباً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: 161- "إنني هداني ربي" أي أرشدني بما أوحاه إلي "إلى صراط مستقيم" وهو ملة إبراهيم عليه السلام، و "ديناً" منتصب على الحال كما قال قطرب، أو على أنه مفعول هداني كما قال الأخفش، وقيل: منتصف بفعل يدل عليه هداني، لأن معناه عرفني: أي عرفني ديناً، وقيل: إنه بدل من محل إلى صراط، لأن معناه هداني صراطاً مستقيماً كقوله تعالى: "ويهديكم صراطاً مستقيماً" وقيل: منصوب بإضمار فعل، كأنه قيل: اتبعوا ديناً. قوله: "قيماً" قرأه الكوفيون وابن عامر بكسر القاف، والتخفيف وفتح الياء. وقرأه الباقون بفتح القاف وكسر الياء المشددة، وهما لغتان: ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه، وهو صفة لديناً وصف به مع كونه مصدراً مبالغة، وانتصاب "ملة إبراهيم" على أنها عطف بيان لديناً، ويجوز نصبها بتقدير أعني، و "حنيفاً" منتصب على أنه حال من إبراهيم، قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان: هو منصوب بإضمار أعني. والحنيف المائل إلى الحق، وقد تقدم تحقيقه "وما كان من المشركين" في محل نصب معطوف على حنيفاً، أو جملة معترضة مقررة لما قبلها.
قوله: 162- "قل إن صلاتي" أمره الله سبحانه أن يقول لهم بهذه المقالة عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة، قيل: ووجه ذلك أن ما تضمنه القول الأول إشارة إلى أصول الدين، وهذا إلى فروعها. والمراد بالصلاة جنسها فيدخل فيه جميع أنواعها، وقيل: المراد بها هنا صلاة الليل، وقيل: صلاة العيد. والنسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم: أي ذبيحتي في الحج والعمرة. وقال الحسن: ديني. وقال الزجاج: عبادتي من قولهم: نسك فلان هو ناسك: إذا تعبد، وبه قال جماعة من أهل العلم "ومحياي ومماتي" أي ما أعمله في حياتي ومماتي من أعمال الخير، ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات، وقيل: نفس الحياة ونفس الموت "لله" قرأ الحسن نسكي بسكون السين. وقرأ الباقون بضمها. وقرأ أهل المدينة "محياي" بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها لئلا يجتمع ساكنان. قال النحاس: لم يجزه، أي السكون أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن المدة التي في الألف تقوم مقام الحركة. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري محيى من غير ألف وهي لغة عليا مضر، ومنه قول الشاعر: سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع "لله رب العالمين" أي خالصاً له لا شريك له فيه.
والإشارة 163- "بذلك" إلى ما أفاده " لله رب العالمين * لا شريك له " من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده. قوله: "وأنا أول المسلمين" أي أول مسلمي أمته، وقيل: أول المسلمين أجمعين، لأنه وإن كان متأخراً في الرسالة فهو أولهم في الخلق، ومنه قوله تعالى: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" الآية، والأول أولى. قال ابن جرير الطبري: استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه، ثم ذكر حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين" إلى قوله: "وأنا أول المسلمين" قلت: هذا هو في صحيح مسلم مطولاً، وهو أحد التوجهات الواردة، ولكنه مقيد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة، وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم ويرشد إليه هو: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" إلى آخره، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بما لا يحتاج إلى زيادة عليه هنا. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "إن صلاتي" قال: يعني المفروضة "ونسكي" يعني الحج. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير "ونسكي" قال: ذبيحتي. وأخرجا أيضاً عن قتادة "إن صلاتي ونسكي" قال: حجي وذبيحتي. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ونسكي" قال: ذبيحتي في الحج والعمرة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ونسكي" قال: ضحيتي. وفي قوله: "وأنا أول المسلمين" قال: من هذه الأمة. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته، وقولي إن صلاتي إلى وأنا أول المسلمين، قلت يا رسول الله: هذا لك ولأهل بيتك خاصة، فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟ قال:لا بل للمسلمين عامة".
الاستفهام في "أغير الله أبغي رباً" للإنكار وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غير الله: أي كيف أبغي غير الله رباً مستقلاً وأترك عبادة الله أو شريكاً لله فأعبدهما معاً، والحال أنه رب كل شيء، والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له مخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضر، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره، وغير منصوب بالفعل الذي بعده، ورباً تمييز أو مفعول ثان على جعل الفعل ناصباً لمفعولين قوله: "ولا تكسب كل نفس إلا عليها" أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها، فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها، وهو مثل قوله تعالى: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" وقوله: " لتجزى كل نفس بما تسعى ". قوله: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" أصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى: "ووضعنا عنك وزرك" وهو هنا الذنب "وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم". قال الأخفش: يقال: وزر يوزر، ووزر يزر وزراً، ويجوز إزراً، وفيه رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه، والواحد من القبيلة بذنب الآخر. وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة وكذلك التي قبلها لقوله تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" ومثله قول زينب بنت جحش:" يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث"، والأولى حمل الآية على ظاهرها: أعني العموم وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك، فيكون في حكم المخصص بهذا العموم ويقر في موضعه ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى: "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم" فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى: "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم" "ثم إلى ربكم مرجعكم" يوم القيامة "فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" في الدنيا، وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين.
قوله: 165- "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" خلائف جمع خليفة: أي جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السالفة، قال الشماخ: أصيبهم وتخطئني المنايـــا وأخلف في ربوع عن ربوع أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضاً، أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه "ورفع بعضكم فوق بعض درجات" في الخلق والرزق والقوة والفضل والعلم، ودرجات منصوب بنزع الخافض: أي إلى درجات " ليبلوكم في ما آتاكم " أي ليختبركم فيما آتاكم من تلك الأمور، أو ليبتلي بعضكم ببعض كقوله تعالى: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" ثم خوفهم فقال: "إن ربك سريع العقاب" فإنه وإن كان في الآخرة فكل آت قريب كما قال: "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب" ثم رغب من يستحق الترغيب من المسلمين فقال: "وإنه لغفور رحيم" أي كثير الغفران والرحمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا تزر وازرة" قال: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" قال: أهلك القرون الأولى فاستخلفنا فيها بعدهم "ورفع بعضكم فوق بعض درجات" قال: في الرزق.