سورة الأعراف | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 152 من المصحف
الآية: 12 {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}
قوله تعالى: "قال ما منعك" "ما" في موضع رفع بالابتداء؛ أي أي شيء منعك. وهذا سؤال توبيخ. "ألا تسجد" في موضع نصب، أي من أن تسجد. و"لا" زائدة. وفي ص "ما منعك أن تسجد" [ص: 75] وقال الشاعر:
أبى جوده لا البخل فاستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود نائله
أراد أبى جوده البخل، فزاد "لا". وقيل: ليست بزائدة؛ فان المنع فيه طرف من القول والدعاء، فكأنه قال: من قال لك ألا تسجد؟ أو من دعاك إلى ألا تسجد؟ كما تقول: قد قلت لك ألا تفعل كذا. وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد. قال العلماء: الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد؛ وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك. وكان أمره من قبل خلق آدم؛ يقول الله تعالى: "إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" [ص: 71، 72]. فكأنه دخله أمر عظيم من قوله "فقعوا له ساجدين". فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفا لمن وقع له؛ فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت. فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجدا، وبقي هو قائما بين أظهرهم؛ فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره. فقال الله تعالى: "ما منعك ألا تسجد" أي ما منعك من الانقياد لأمري؛ فأخرج سر ضميره فقال: "أنا خير منه".
قوله تعالى: "إذ أمرتك" يدل على ما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة؛ لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة: "اسجدوا لآدم" وهذا بين.
قوله تعالى: "قال أنا خير منه" أي منعني من السجود فضلي عليه؛ فهذا من إبليس جواب على المعنى. كما تقول: لمن هذه الدار؟ فيقول المخاطب: مالكها زيد. فليس هذا عين الجواب، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب. "خلقتني من نار وخلقته من طين" فرأى أن النار أشرف من الطين؛ لعلوها وصعودها وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس. فمن قاس الدين برأيه قرنه مع إبليس. قال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق. فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة: أحدها: أن من جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر. وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب. وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار؛ فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء؛ قال القفال. الثاني: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا. الثالث: أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه؛ وليس التراب سببا للعذاب. الرابع: أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
قلت: ومحتمل قولا خامسا وهو أن التراب مسجد وطهور؛ كما جاء في صحيح الحديث. والنار تخويف وعذاب؛ كما قال تعالى: "ذلك يخوف الله به عباده" [الزمر: 16]. وقال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وهو أول من قاس برأيه. والقياس في مخالفة النص مردود.
واختلف الناس في القياس إلى قائل به، وراد له؛ فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون، وجمهور من بعدهم، وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا، وهو الصحيح. وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين البصري إلى وجوب التعبد به عقلا. وذهب النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا؛ ورده بعض أهل الظاهر. والأول الصحيح. قال البخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس. وقد ترجم على هذا (باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمها ليفهم السائل). وترجم بعد هذا (باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها). وقال الطبري: الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس؛ فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة. وقال أبو بكر: أقيلوني بيعتي. فقال علي: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ فقاس الإمامة على الصلاة. وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال: والله لا أفرق بين ما جمع الله. وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى؛ فحده حد القاذف. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه: الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، أعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى. الحديث بطوله ذكره الدارقطني. وقد قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما في حديث الوباء، حين رجع عمر من سرغ: نفر من قدر الله؟ فقال عمر: نعم! نفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم قال له عمر: أرأيت... فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار، وحسبك. وأما الآثار وأي القرآن في هذا المعنى فكثير. وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يرجع إليه المجتهدون، ويفزع إليه العلماء العاملون، فيستنبطون به الأحكام. وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها. وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة؛ لأن ذلك ظن ونزغ من الشيطان؛ قال الله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" [الإسراء: 36]. وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم. وتتميم هذا الباب في كتب الأصول.
الآية: 13 {قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين}
قوله تعالى: "قال فاهبط منها" أي من السماء. "فما يكون لك أن تتكبر فيها" لأن أهلها الملائكة المتواضعون. "فاخرج إنك من الصاغرين" أي من الأذلين. ودل هذا أن من عصى مولاه فهو ذليل. وقال أبو روق والبجلي: "فاهبط منها" أي من صورتك التي أنت فيها؛ لأنه افتخر بأنه من النار فشوهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه. وقيل: "فاهبط منها" أي انتقل من الأرض إلى جزائر البحار؛ كما يقال: هبطنا أرض كذا أي انتقلنا إليها من مكان آخر، فكأنه أخرج من الأرض إلى جزائر البحار فسلطانه فيها، فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها. والقول الأول أظهر. وقد تقدم في "البقرة".
الآيتان: 14 - 15 {قال أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين}
سأل النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب. طلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده؛ فقال الله تعالى: "إنك من المنظرين". قال ابن عباس والسدي وغيرها: أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين؛ فأبى الله ذلك عليه. وقال: "إلى يوم يبعثون" ولم يتقدم من يبعث؛ لأن القصة في آدم وذريته، فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون.
الآيتان: 16 - 17 {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}
قوله تعالى: "قال فبما أغويتني" الإغواء إيقاع الغي في القلب؛ أي فبما أوقعت في قلبي من الغي والعناد والاستكبار. وهذا لأن كفر إبليس ليس كفر جهل؛ بل هو كفر عناد واستكبار. قيل: معنى الكلام القسم، أي فبإغوائك إياي لأقعدن لهم على صراطك، أو في صراطك؛ فحذف. دليل على هذا القول قوله في (ص): "فبعزتك لأغوينهم أجمعين" [ص: 82] فكأن إبليس أعظم قدر إغواء الله إياه لما فيه من التسليط على العباد، فأقسم به إعظاما لقدره عنده. وقيل: الباء بمعنى اللام، كأنه قال: فلإغوائك إياي. وقيل: هي بمعنى مع، والمعنى فمع إغوائك إياي. وقيل: هو استفهام، كأنه سأل بأي شيء أغواه؟. وكان ينبغي على هذا أن يكون: فبم أغويتني؟. وقيل: المعنى فبما أهلكتني بلعنك إياي. والإغواء الإهلاك، قال الله تعالى: "فسوف يلقون غيا" [مريم: 59] أي هلاكا. وقيل: فبما أضللتني. والإغواء: الإضلال والإبعاد؛ قال ابن عباس. وقيل: خيبتني من رحمتك؛ ومنه قول الشاعر:
ومن يغو لا يعدم عل الغي لائما
أي من يخب. وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوي غيا إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه. وهو أحد معاني قوله تعالى: "وعصى آدم ربه فغوى" [طه: 121] أي فسد عيشه في الجنة. ويقال: غوي الفصيل إذا لم يدر لبن أمه.
مذهب أهل السنة أي أن الله تعالى أضله وخلق فيه الكفر؛ ولذلك نسب الإغواء في هذا إلى الله تعالى. وهو الحقيقة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى. وخالف الإمامية والقدرية وغيرهما شيخهم إبليس الذي طاوعوه في كل ما زينه لهم، ولم يطاوعوه في هذه المسألة ويقولون: أخطأ إبليس، وهو أهل للخطأ حيث نسب الغواية إلى ربه، تعالى الله عن ذلك. فيقال لهم: وإبليس وإن كان أهلا للخطأ فما تصنعون في نبي مكرم معصوم، وهو ونوح عليه السلام حيث قال لقومه: "ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون" [هود: 34] وقد روي أن طاوسا جاءه رجل في المسجد الحرام، وكان متهما بالقدر، وكان من الفقهاء الكبار؛ فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام؟ فقيل لطاوس: تقول هذا لرجل فقيه! فقال: إبليس أفقه منه، يقول إبليس: رب بما أغويتني. ويقول هذا: أنا أغوي نفسي.
قوله تعالى: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" أي بالصد عنه، وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك، أو يضلوا كما ضل، أو يخيبوا كما خيب؛ حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة في "أغويتني". والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة. و"صراطك" منصوب على حذف "على" أو "في" من قوله: "صراطك المستقيم"؛ كما حكى سيبويه "ضرب زيد الظهر والبطن". وأنشد:
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
ومن أحسن ما قيل في تأويل "ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم" أي لأصدنهم عن الحق، وأرغبنهم في الدنيا، وأشككهم في الآخرة. وهذا غاية في الضلالة. كما قال: "ولأضلنهم" [النساء: 119] حسب ما تقدم. وروى سفيان عن منصور عن الحكم بن عتيبة: "من بين أيديهم" من دنياهم. "ومن خلفهم" من آخرتهم. "وعن أيمانهم" يعني حسناتهم. "وعن شمائلهم" يعني سيئاتهم. قال النحاس: وهذا قول حسن وشرحه: أن معنى "ثم لآتينهم من بين أيديهم" من دنياهم، حتى يكذبوا بما فيها من الآيات وأخبار الأمم السالفة "ومن خلفهم" من آخرتهم حتى يكذبوا بها. "وعن أيمانهم" من حسناتهم وأمور دينهم. ويدل على هذا قوله: "إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين" [الصافات: 28] "وعن شمائلهم" يعني سيئاتهم، أي يتبعون الشهوات؛ لأنه يزينها لهم. "ولا تجد أكثرهم شاكرين" أي موحدين طائعين مظهرين الشكر.
الآية: 18 {قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}
قوله تعالى: "قال اخرج منها" أي من الجنة. "مذؤوما مدحورا". "مذؤوما" أي مذموما. والذأم: العيب، بتخفيف الميم. قال ابن زيد: مذؤوما ومذموما سواء؛ يقال: ذأمته وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرأ الأعمش "مذوما". والمعنى واحد؛ إلا أنه خفف الهمزة. وقال مجاهد: المذؤوم المنفي. والمعنيان متقاربان. والمدحور: المبعد المطرود؛ عن مجاهد وغيره. وأصله الدفع. "لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين" اللام لام القسم، والجواب "لأملأن جهنم". وقيل: "لمن تبعك" لام توكيد. "لأملأن" لام قسم. والدليل على هذا أنه يجوز في غير القراءة حذف اللام الأولى، ولا يجوز حذف الثانية. وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة؛ أي من تبعك عذبته. ولو قلت: من تبعك أعذبه لم يجز؛ إلا أن تريد لأعذبه. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عياش "لمن تبعك منهم" بكسر اللام. وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره - والله أعلم - من أجل من تبعك. كما يقال: أكرمت فلانا لك. وقد يكون المعنى: الدحر لمن تبعك. ومعنى "منكم أجمعين" أي منكم ومن بني آدم؛ لأن ذكرهم قد جرى إذ قال: "ولقد خلقناكم" [الأعراف: 11]. خاطب ولد آدم.
الآية: 19 {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}
قال لآدم بعد إخراج إبليس من موضعه من السماء: اسكن أنت وحواء الجنة. وقد تقدم في البقرة معنى الإسكان، فأغنى عن إعادته. وقد تقدم معنى "ولا تقربا هذه الشجرة" [البقرة: 35] هناك. والحمد لله.
الآية: 20 {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}
قوله تعالى: "فوسوس لهما الشيطان" أي إليهما. قيل: داخل الجنة بإدخال الحية إياه وقيل: من خارج، بالسلطنة التي جعلت له. والوسوسة: الصوت الخفي. والوسوسة: حديث النفس؛ يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا (بكسر الواو). والوسواس (بالفتح): اسم، مثل الزلزال. ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلى: وسواس. قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
والوسواس: اسم الشيطان؛ قال الله تعالى: "من شر الوسواس الخناس" [الناس: 4]. "ليبدي لهما" أي ليظهر لهما. واللام لام العاقبة؛ كما قال: "ليكون لهم عدوا وحزنا" [القصص: 8]. وقيل: لام كي. "ما ووري عنهما" أي ستر وغطي عنهما. ويجوز في غير القرآن أوري، مثل أقتت و"من سوآتهما" من عوراتهما وسمي الفرج عورة لأن إظهاره يسوء صاحبه. ودل هذا على قبح كشفها فقيل: إنما بدت سوآتهما لهما لا لغيرهما؛ كان عليهما نور لا ترى عوراتهما فزال النور. وقيل: ثوب؛ فتهافت، والله أعلم. "إلا أن تكونا ملكين" "أن" في موضع نصب، بمعنى إلا، كراهية أن؛ فحذف المضاف. هذا قول البصريين. والكوفيون يقولون: لئلا تكونا. وقيل: أي إلا ألا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر. وقيل: طمع آدم في الخلود؛ لأنه علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة. قال النحاس: وبين الله عز وجل فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن؛ فمنها هذا، وهو "إلا أن تكونا ملكين". ومنه "ولا أقول إني ملك" [هود: 31]. ومنه "ولا الملائكة المقربون" [النساء: 172]. وقال الحسن: فضل الله الملائكة بالصور. والأجنحة والكرامة. وقال غيره: فضلهم جل وعز بالطاعة وترك المعصية؛ فلهذا يقع التفضيل في كل شيء. وقال ابن فورك. لا حجة في هذه الآية؛ لأنه يحتمل أن يريد ملكين في ألا يكون لهما شهوة في طعام. واختيار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة؛ وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت؛ لأنهم من جملة رسل الله. وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله. وقرأ ابن عباس "ملكين" بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن أبي كثير والضحاك. وأنكر أبو عمرو بن العلاء كسر اللام وقال: لم يكن قبل آدم صلى الله عليه وسلم ملك فيصيرا ملكين. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة إسكان اللام، ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة. قال ابن عباس: أتاهما الملعون من جهة الملك؛ ولهذا قال: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" [طه: 120]. وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله: "وملك لا يبلى" حجة بينة، ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس: "إلا أن تكون مَلِكين" قراءة شاذة. وقد أنكر على أبي عبيد هذا الكلام، وجعل من الخطأ الفاحش. وهل يجوز أن يتوهم آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة؛ وهو غاية الطالبين. وإنما معنى "وملك لا يبلى" المقام في ملك الجنة، والخلود فيه.
الآية: 21 {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}
قوله تعالى: "وقاسمهما" أي حلف لهما. يقال: أقسم إقساما؛ أي حلف. قال الشاعر:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وجاء "فاعلت" من واحد. وهو يرد على من قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين. وقد تقدم في "المائدة". "إني لكما لمن الناصحين" ليس "لكما" داخلا في الصلة. والتقدير: إني ناصح لكما لمن الناصحين؛ قاله هشام النحوي. وقد تقدم مثله في "البقرة". ومعنى الكلام: اتبعاني أرشدكما؛ ذكره قتادة.
الآيات: 22 - 24 {فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}
قوله تعالى: "فدلاهما بغرور" أوقعهما في الهلاك. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان يظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا، فغررهما بوسوسته وقسمه لهما. وقال قتادة: حلف بالله لهما حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله. كان بعض العلماء يقول: من خادعنا بالله خدعنا. وفي الحديث عنه صلى: (المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم). وأنشد نفطويه:
إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجربا لا يخدع
"فدلاهما" يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وقيل: "دلاهما" أي دللهما؛ من الدالة وهي الجرأة. أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة.
قوله تعالى: "فلما ذاقا الشجرة" أي أكلا منها. "بدت لهما سوآتهما" أكلت حواء أولا فلم يصبها شيء؛ فلما أكل آدم حلت العقوبة؛ لأن النهي ورد عليهما كما تقدم في "البقرة". قال ابن عباس: تقلص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل.
قوله تعالى: "وطفقا" ويجوز إسكان الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق؛ مثل ضرب يضرب. يقال: طفق، أي أخذ في الفعل. "يخصفان" وقرأ الحسن بكسر الخاء وشد الصاد. والأصل "يختصفان" فأدغم، وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء، ألقيا حركة التاء عليها. ويجوز "يخصفان" بضم الياء، من خصف يخصف. وقرأ الزهري "يخصفان" من أخصف. وكلاهما منقول بالهمزة أو التضعيف والمعنى: يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به، ومنه خصف النعل. والخصاف الذي يرقعها. والمخصف المثقب. قال ابن عباس: هو ورق التين. ويروى أن آدم عليه السلام لما بدت سوأته وظهرت عورته طاف على أشجار الجنة يسل منها ورقة يغطي بها عورته؛ فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة. "فطفقا" يعني آدم وحواء "يخصفان عليهما من ورق الجنة" فكافأ الله التين بأن سوى ظاهره وباطنه في الحلاوة والمنفعة وأعطاه ثمرتين في عام واحد مرتين.
وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر؛ ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة؛ كما قيل لهما: "ولا تقربا هذه الشجرة". وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك؛ لأنه سترة ظاهرة يمكنه التستر بها؛ كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم.
قوله تعالى: "وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين" أي قال لهما: ألم أنهكما. قالا ربنا نداء مضاف. والأصل يا ربنا. وقيل. إن في حذف "يا" معنى التعظيم. فاعترفا بالخطيئة وتابا صلى الله عليهما وسلم وقد مضى في "البقرة". ومعنى قوله: "قلنا اهبطوا" تقدم أيضا إلى آخر الآية.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 152
152- تفسير الصفحة رقم152 من المصحفالآية: 12 {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}
قوله تعالى: "قال ما منعك" "ما" في موضع رفع بالابتداء؛ أي أي شيء منعك. وهذا سؤال توبيخ. "ألا تسجد" في موضع نصب، أي من أن تسجد. و"لا" زائدة. وفي ص "ما منعك أن تسجد" [ص: 75] وقال الشاعر:
أبى جوده لا البخل فاستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود نائله
أراد أبى جوده البخل، فزاد "لا". وقيل: ليست بزائدة؛ فان المنع فيه طرف من القول والدعاء، فكأنه قال: من قال لك ألا تسجد؟ أو من دعاك إلى ألا تسجد؟ كما تقول: قد قلت لك ألا تفعل كذا. وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد. قال العلماء: الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد؛ وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك. وكان أمره من قبل خلق آدم؛ يقول الله تعالى: "إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" [ص: 71، 72]. فكأنه دخله أمر عظيم من قوله "فقعوا له ساجدين". فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفا لمن وقع له؛ فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت. فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجدا، وبقي هو قائما بين أظهرهم؛ فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره. فقال الله تعالى: "ما منعك ألا تسجد" أي ما منعك من الانقياد لأمري؛ فأخرج سر ضميره فقال: "أنا خير منه".
قوله تعالى: "إذ أمرتك" يدل على ما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة؛ لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة: "اسجدوا لآدم" وهذا بين.
قوله تعالى: "قال أنا خير منه" أي منعني من السجود فضلي عليه؛ فهذا من إبليس جواب على المعنى. كما تقول: لمن هذه الدار؟ فيقول المخاطب: مالكها زيد. فليس هذا عين الجواب، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب. "خلقتني من نار وخلقته من طين" فرأى أن النار أشرف من الطين؛ لعلوها وصعودها وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس. فمن قاس الدين برأيه قرنه مع إبليس. قال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق. فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة: أحدها: أن من جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر. وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب. وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار؛ فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء؛ قال القفال. الثاني: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا. الثالث: أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه؛ وليس التراب سببا للعذاب. الرابع: أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
قلت: ومحتمل قولا خامسا وهو أن التراب مسجد وطهور؛ كما جاء في صحيح الحديث. والنار تخويف وعذاب؛ كما قال تعالى: "ذلك يخوف الله به عباده" [الزمر: 16]. وقال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وهو أول من قاس برأيه. والقياس في مخالفة النص مردود.
واختلف الناس في القياس إلى قائل به، وراد له؛ فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون، وجمهور من بعدهم، وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا، وهو الصحيح. وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين البصري إلى وجوب التعبد به عقلا. وذهب النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا؛ ورده بعض أهل الظاهر. والأول الصحيح. قال البخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس. وقد ترجم على هذا (باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمها ليفهم السائل). وترجم بعد هذا (باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها). وقال الطبري: الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس؛ فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة. وقال أبو بكر: أقيلوني بيعتي. فقال علي: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ فقاس الإمامة على الصلاة. وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال: والله لا أفرق بين ما جمع الله. وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى؛ فحده حد القاذف. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه: الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، أعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى. الحديث بطوله ذكره الدارقطني. وقد قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما في حديث الوباء، حين رجع عمر من سرغ: نفر من قدر الله؟ فقال عمر: نعم! نفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم قال له عمر: أرأيت... فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار، وحسبك. وأما الآثار وأي القرآن في هذا المعنى فكثير. وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يرجع إليه المجتهدون، ويفزع إليه العلماء العاملون، فيستنبطون به الأحكام. وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها. وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة؛ لأن ذلك ظن ونزغ من الشيطان؛ قال الله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" [الإسراء: 36]. وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم. وتتميم هذا الباب في كتب الأصول.
الآية: 13 {قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين}
قوله تعالى: "قال فاهبط منها" أي من السماء. "فما يكون لك أن تتكبر فيها" لأن أهلها الملائكة المتواضعون. "فاخرج إنك من الصاغرين" أي من الأذلين. ودل هذا أن من عصى مولاه فهو ذليل. وقال أبو روق والبجلي: "فاهبط منها" أي من صورتك التي أنت فيها؛ لأنه افتخر بأنه من النار فشوهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه. وقيل: "فاهبط منها" أي انتقل من الأرض إلى جزائر البحار؛ كما يقال: هبطنا أرض كذا أي انتقلنا إليها من مكان آخر، فكأنه أخرج من الأرض إلى جزائر البحار فسلطانه فيها، فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها. والقول الأول أظهر. وقد تقدم في "البقرة".
الآيتان: 14 - 15 {قال أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين}
سأل النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب. طلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده؛ فقال الله تعالى: "إنك من المنظرين". قال ابن عباس والسدي وغيرها: أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين؛ فأبى الله ذلك عليه. وقال: "إلى يوم يبعثون" ولم يتقدم من يبعث؛ لأن القصة في آدم وذريته، فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون.
الآيتان: 16 - 17 {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}
قوله تعالى: "قال فبما أغويتني" الإغواء إيقاع الغي في القلب؛ أي فبما أوقعت في قلبي من الغي والعناد والاستكبار. وهذا لأن كفر إبليس ليس كفر جهل؛ بل هو كفر عناد واستكبار. قيل: معنى الكلام القسم، أي فبإغوائك إياي لأقعدن لهم على صراطك، أو في صراطك؛ فحذف. دليل على هذا القول قوله في (ص): "فبعزتك لأغوينهم أجمعين" [ص: 82] فكأن إبليس أعظم قدر إغواء الله إياه لما فيه من التسليط على العباد، فأقسم به إعظاما لقدره عنده. وقيل: الباء بمعنى اللام، كأنه قال: فلإغوائك إياي. وقيل: هي بمعنى مع، والمعنى فمع إغوائك إياي. وقيل: هو استفهام، كأنه سأل بأي شيء أغواه؟. وكان ينبغي على هذا أن يكون: فبم أغويتني؟. وقيل: المعنى فبما أهلكتني بلعنك إياي. والإغواء الإهلاك، قال الله تعالى: "فسوف يلقون غيا" [مريم: 59] أي هلاكا. وقيل: فبما أضللتني. والإغواء: الإضلال والإبعاد؛ قال ابن عباس. وقيل: خيبتني من رحمتك؛ ومنه قول الشاعر:
ومن يغو لا يعدم عل الغي لائما
أي من يخب. وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوي غيا إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه. وهو أحد معاني قوله تعالى: "وعصى آدم ربه فغوى" [طه: 121] أي فسد عيشه في الجنة. ويقال: غوي الفصيل إذا لم يدر لبن أمه.
مذهب أهل السنة أي أن الله تعالى أضله وخلق فيه الكفر؛ ولذلك نسب الإغواء في هذا إلى الله تعالى. وهو الحقيقة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى. وخالف الإمامية والقدرية وغيرهما شيخهم إبليس الذي طاوعوه في كل ما زينه لهم، ولم يطاوعوه في هذه المسألة ويقولون: أخطأ إبليس، وهو أهل للخطأ حيث نسب الغواية إلى ربه، تعالى الله عن ذلك. فيقال لهم: وإبليس وإن كان أهلا للخطأ فما تصنعون في نبي مكرم معصوم، وهو ونوح عليه السلام حيث قال لقومه: "ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون" [هود: 34] وقد روي أن طاوسا جاءه رجل في المسجد الحرام، وكان متهما بالقدر، وكان من الفقهاء الكبار؛ فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام؟ فقيل لطاوس: تقول هذا لرجل فقيه! فقال: إبليس أفقه منه، يقول إبليس: رب بما أغويتني. ويقول هذا: أنا أغوي نفسي.
قوله تعالى: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" أي بالصد عنه، وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك، أو يضلوا كما ضل، أو يخيبوا كما خيب؛ حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة في "أغويتني". والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة. و"صراطك" منصوب على حذف "على" أو "في" من قوله: "صراطك المستقيم"؛ كما حكى سيبويه "ضرب زيد الظهر والبطن". وأنشد:
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
ومن أحسن ما قيل في تأويل "ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم" أي لأصدنهم عن الحق، وأرغبنهم في الدنيا، وأشككهم في الآخرة. وهذا غاية في الضلالة. كما قال: "ولأضلنهم" [النساء: 119] حسب ما تقدم. وروى سفيان عن منصور عن الحكم بن عتيبة: "من بين أيديهم" من دنياهم. "ومن خلفهم" من آخرتهم. "وعن أيمانهم" يعني حسناتهم. "وعن شمائلهم" يعني سيئاتهم. قال النحاس: وهذا قول حسن وشرحه: أن معنى "ثم لآتينهم من بين أيديهم" من دنياهم، حتى يكذبوا بما فيها من الآيات وأخبار الأمم السالفة "ومن خلفهم" من آخرتهم حتى يكذبوا بها. "وعن أيمانهم" من حسناتهم وأمور دينهم. ويدل على هذا قوله: "إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين" [الصافات: 28] "وعن شمائلهم" يعني سيئاتهم، أي يتبعون الشهوات؛ لأنه يزينها لهم. "ولا تجد أكثرهم شاكرين" أي موحدين طائعين مظهرين الشكر.
الآية: 18 {قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}
قوله تعالى: "قال اخرج منها" أي من الجنة. "مذؤوما مدحورا". "مذؤوما" أي مذموما. والذأم: العيب، بتخفيف الميم. قال ابن زيد: مذؤوما ومذموما سواء؛ يقال: ذأمته وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرأ الأعمش "مذوما". والمعنى واحد؛ إلا أنه خفف الهمزة. وقال مجاهد: المذؤوم المنفي. والمعنيان متقاربان. والمدحور: المبعد المطرود؛ عن مجاهد وغيره. وأصله الدفع. "لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين" اللام لام القسم، والجواب "لأملأن جهنم". وقيل: "لمن تبعك" لام توكيد. "لأملأن" لام قسم. والدليل على هذا أنه يجوز في غير القراءة حذف اللام الأولى، ولا يجوز حذف الثانية. وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة؛ أي من تبعك عذبته. ولو قلت: من تبعك أعذبه لم يجز؛ إلا أن تريد لأعذبه. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عياش "لمن تبعك منهم" بكسر اللام. وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره - والله أعلم - من أجل من تبعك. كما يقال: أكرمت فلانا لك. وقد يكون المعنى: الدحر لمن تبعك. ومعنى "منكم أجمعين" أي منكم ومن بني آدم؛ لأن ذكرهم قد جرى إذ قال: "ولقد خلقناكم" [الأعراف: 11]. خاطب ولد آدم.
الآية: 19 {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}
قال لآدم بعد إخراج إبليس من موضعه من السماء: اسكن أنت وحواء الجنة. وقد تقدم في البقرة معنى الإسكان، فأغنى عن إعادته. وقد تقدم معنى "ولا تقربا هذه الشجرة" [البقرة: 35] هناك. والحمد لله.
الآية: 20 {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}
قوله تعالى: "فوسوس لهما الشيطان" أي إليهما. قيل: داخل الجنة بإدخال الحية إياه وقيل: من خارج، بالسلطنة التي جعلت له. والوسوسة: الصوت الخفي. والوسوسة: حديث النفس؛ يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا (بكسر الواو). والوسواس (بالفتح): اسم، مثل الزلزال. ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلى: وسواس. قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
والوسواس: اسم الشيطان؛ قال الله تعالى: "من شر الوسواس الخناس" [الناس: 4]. "ليبدي لهما" أي ليظهر لهما. واللام لام العاقبة؛ كما قال: "ليكون لهم عدوا وحزنا" [القصص: 8]. وقيل: لام كي. "ما ووري عنهما" أي ستر وغطي عنهما. ويجوز في غير القرآن أوري، مثل أقتت و"من سوآتهما" من عوراتهما وسمي الفرج عورة لأن إظهاره يسوء صاحبه. ودل هذا على قبح كشفها فقيل: إنما بدت سوآتهما لهما لا لغيرهما؛ كان عليهما نور لا ترى عوراتهما فزال النور. وقيل: ثوب؛ فتهافت، والله أعلم. "إلا أن تكونا ملكين" "أن" في موضع نصب، بمعنى إلا، كراهية أن؛ فحذف المضاف. هذا قول البصريين. والكوفيون يقولون: لئلا تكونا. وقيل: أي إلا ألا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر. وقيل: طمع آدم في الخلود؛ لأنه علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة. قال النحاس: وبين الله عز وجل فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن؛ فمنها هذا، وهو "إلا أن تكونا ملكين". ومنه "ولا أقول إني ملك" [هود: 31]. ومنه "ولا الملائكة المقربون" [النساء: 172]. وقال الحسن: فضل الله الملائكة بالصور. والأجنحة والكرامة. وقال غيره: فضلهم جل وعز بالطاعة وترك المعصية؛ فلهذا يقع التفضيل في كل شيء. وقال ابن فورك. لا حجة في هذه الآية؛ لأنه يحتمل أن يريد ملكين في ألا يكون لهما شهوة في طعام. واختيار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة؛ وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت؛ لأنهم من جملة رسل الله. وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله. وقرأ ابن عباس "ملكين" بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن أبي كثير والضحاك. وأنكر أبو عمرو بن العلاء كسر اللام وقال: لم يكن قبل آدم صلى الله عليه وسلم ملك فيصيرا ملكين. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة إسكان اللام، ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة. قال ابن عباس: أتاهما الملعون من جهة الملك؛ ولهذا قال: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" [طه: 120]. وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله: "وملك لا يبلى" حجة بينة، ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس: "إلا أن تكون مَلِكين" قراءة شاذة. وقد أنكر على أبي عبيد هذا الكلام، وجعل من الخطأ الفاحش. وهل يجوز أن يتوهم آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة؛ وهو غاية الطالبين. وإنما معنى "وملك لا يبلى" المقام في ملك الجنة، والخلود فيه.
الآية: 21 {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}
قوله تعالى: "وقاسمهما" أي حلف لهما. يقال: أقسم إقساما؛ أي حلف. قال الشاعر:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وجاء "فاعلت" من واحد. وهو يرد على من قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين. وقد تقدم في "المائدة". "إني لكما لمن الناصحين" ليس "لكما" داخلا في الصلة. والتقدير: إني ناصح لكما لمن الناصحين؛ قاله هشام النحوي. وقد تقدم مثله في "البقرة". ومعنى الكلام: اتبعاني أرشدكما؛ ذكره قتادة.
الآيات: 22 - 24 {فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}
قوله تعالى: "فدلاهما بغرور" أوقعهما في الهلاك. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان يظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا، فغررهما بوسوسته وقسمه لهما. وقال قتادة: حلف بالله لهما حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله. كان بعض العلماء يقول: من خادعنا بالله خدعنا. وفي الحديث عنه صلى: (المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم). وأنشد نفطويه:
إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجربا لا يخدع
"فدلاهما" يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وقيل: "دلاهما" أي دللهما؛ من الدالة وهي الجرأة. أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة.
قوله تعالى: "فلما ذاقا الشجرة" أي أكلا منها. "بدت لهما سوآتهما" أكلت حواء أولا فلم يصبها شيء؛ فلما أكل آدم حلت العقوبة؛ لأن النهي ورد عليهما كما تقدم في "البقرة". قال ابن عباس: تقلص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل.
قوله تعالى: "وطفقا" ويجوز إسكان الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق؛ مثل ضرب يضرب. يقال: طفق، أي أخذ في الفعل. "يخصفان" وقرأ الحسن بكسر الخاء وشد الصاد. والأصل "يختصفان" فأدغم، وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء، ألقيا حركة التاء عليها. ويجوز "يخصفان" بضم الياء، من خصف يخصف. وقرأ الزهري "يخصفان" من أخصف. وكلاهما منقول بالهمزة أو التضعيف والمعنى: يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به، ومنه خصف النعل. والخصاف الذي يرقعها. والمخصف المثقب. قال ابن عباس: هو ورق التين. ويروى أن آدم عليه السلام لما بدت سوأته وظهرت عورته طاف على أشجار الجنة يسل منها ورقة يغطي بها عورته؛ فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة. "فطفقا" يعني آدم وحواء "يخصفان عليهما من ورق الجنة" فكافأ الله التين بأن سوى ظاهره وباطنه في الحلاوة والمنفعة وأعطاه ثمرتين في عام واحد مرتين.
وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر؛ ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة؛ كما قيل لهما: "ولا تقربا هذه الشجرة". وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك؛ لأنه سترة ظاهرة يمكنه التستر بها؛ كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم.
قوله تعالى: "وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين" أي قال لهما: ألم أنهكما. قالا ربنا نداء مضاف. والأصل يا ربنا. وقيل. إن في حذف "يا" معنى التعظيم. فاعترفا بالخطيئة وتابا صلى الله عليهما وسلم وقد مضى في "البقرة". ومعنى قوله: "قلنا اهبطوا" تقدم أيضا إلى آخر الآية.
الصفحة رقم 152 من المصحف تحميل و استماع mp3