تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 18 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 18

18- تفسير الصفحة رقم18 من المصحف
 الآية: 113 {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}
قوله تعالى: "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء"
معناه ادعى كل فريق منهم أن صاحبه ليس على شيء، وأنه أحق برحمة الله منه. "وهم يتلون الكتاب" يعني التوراة والإنجيل، والجملة في موضع الحال. "كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" والمراد "بالذين لا يعلمون" في قول الجمهور: كفار العرب، لأنهم لا كتاب لهم. وقال عطاء: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى. الربيع بن أنس: المعنى كذلك قالت اليهود قبل النصارى. ابن عباس: قدم أهل نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فأتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت كل فرقة منهم للأخرى لستم على شيء، فنزلت الآية.
الآية: 114 {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}
قوله تعالى: "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها" "ومن" رفع بالابتداء، و"أظلم" خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و"أن" في موضع نصب على البدل من "مساجد"، ويجوز أن يكون التقدير: كراهية أن يذكر، ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: من أن يذكر فيها، وحرف الخفض يحذف مع "أن" لطول الكلام. وأراد بالمساجد هنا بيت المقدس ومحاريبه. وقيل الكعبة، وجمعت لأنها قبلة المساجد أو للتعظيم. وقيل: المراد سائر المساجد، والواحد مسجد (بكسر الجيم)، ومن العرب من يقول: مسجد، (بفتحها). قال الفراء: "كل ما كان على فعل يفعل، مثل دخل يدخل، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، ولا يقع فيه الفرق، مثل دخل يدخل مدخلا، وهذا مدخله، إلا أحرفا من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك: المسجد والمطلع والمغرب والمشرق والمسقط والمفرق والمجزر والمسكن والمرفق (من رفق يرفق) والمنبت والمنسك (من نسك ينسك)، فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب في الاسم". والمسجد (بالفتح): جبهة الرجل حيث يصيبه ندب السجود. والآراب السبعة مساجد، قاله الجوهري.
واختلف الناس في المراد بهذه الآية وفيمن نزلت، فذكر المفسرون أنها نزلت في بخت نصر، لأنه كان أخرب بيت المقدس. وقال ابن عباس وغيره: نزلت في النصارى، والمعنى كيف تدعون أيها النصارى أنكم من أهل الجنة! وقد خربتم بيت المقدس ومنعتم المصلين من الصلاة فيه. ومعنى الآية على هذا: التعجب من فعل النصارى ببيت المقدس مع تعظيمهم له، وإنما فعلوا ما فعلوا عداوة لليهود. روى سعيد عن قتادة قال: أولئك أعداء الله النصارى. حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا بخت نصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وروي أن هذا التخريب بقي إلى زمن عمر رضي الله عنه. وقيل: نزلت في المشركين إذ منعوا المصلين والنبي صلى الله عليه وسلم، وصدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية. وقيل: المراد من منع من كل مسجد إلى يوم القيامة، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف، والله تعالى اعلم.
خراب المساجد قد يكون حقيقيا كتخريب بخت نصر والنصارى بيت المقدس على ما ذكر أنهم غزوا بني إسرائيل مع بعض ملوكهم - قيل: اسمه نطوس بن اسبيسانوس الرومي فيما ذكر الغزنوي - فقتلوا وسبوا، وحرقوا التوراة، وقذفوا في بيت المقدس العذرة وخربوه.
ويكون مجازا كمنع المشركين المسلمين حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها.
قال علماؤنا: ولهذا قلنا لا يجوز منع المرأة من الحج إذا كانت ضرورة، سواء كان لها محرم أو لم يكن، ولا تمنع أيضا من الصلاة في المساجد ما لم يخف عليها الفتنة، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ولذلك قلنا: لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلة، ولا يمنع بناء المساجد إلا أن يقصدوا الشقاق والخلاف، بأن يبنوا مسجدا إلى جنب مسجد أو قربه، يريدون بذلك تفريق أهل المسجد الأول وخرابه واختلاف الكلمة، فإن المسجد الثاني ينقض ويمنع من بنيانه، ولذلك قلنا: لا يجوز أن يكون في المصر جامعان، ولا لمسجد واحد إمامان، ولا يصلي في مسجد جماعتان. وسيأتي لهذا كله مزيد بيان في سورة "براءة" إن شاء الله تعالى، وفي "النور" حكم المساجد وبنائها بحول الله تعالى. ودلت الآية أيضا على تعظيم أمر الصلاة، وأنها لما كانت أفضل الأعمال وأعظمها أجرا كان منعها أعظم إثما.
كل موضع يمكن أن يعبد الله فيه ويسجد له يسمى مسجدا، قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، أخرجه الأئمة. وأجمعت الأمة على أن البقعة إذا عينت للصلاة بالقول خرجت عن جملة الأملاك المختصة بربها وصارت عامة لجميع المسلمين، فلو بنى رجل في داره مسجدا وحجزه على الناس واختص به لنفسه لبقي على ملكه ولم يخرج إلى حد المسجدية، ولو أباحه للناس كلهم كان حكمه حكم سائر المساجد العامة، وخرج عن اختصاص الأملاك.
قوله تعالى: "أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" "أولئك" مبتدأ وما بعده خبره. "خائفين" حال، يعني إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها. فإن دخلوها، فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم، وتأديبهم على دخولها. وفي هذا دليل على أن الكافر ليس له دخول المسجد بحال، على ما يأتي في "براءة" إن شاء الله تعالى. ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد بناء عمر بيت المقدس في الإسلام لا يدخله نصراني إلا أوجع ضربا بعد أن كان متعبدهم. ومن جعلها في قريش قال: كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). وقيل: هو خبر ومقصوده الأمر، أي جاهدوهم واستأصلوهم حتى لا يدخل أحد منهم المسجد الحرام إلا خائفا، كقوله: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله" [الأحزاب. 53] فإنه نهي ورد بلفظ الخبر.
قوله تعالى: "لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم" قيل القتل للحربي، والجزية للذمي، عن قتادة. السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي، وفتح عمورية ورومية وقسطنطينية، وغير ذلك من مدنهم، على ما ذكرناه في كتاب التذكرة. ومن جعلها في قريش جعل الخزي عليهم في الفتح، والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافرا.
الآية: 115 {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم}
قوله تعالى: "ولله المشرق والمغرب" "المشرق" موضع الشروق. "والمغرب" موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع، كما تقدم. وخصهما بالذكر والإضافة إليه تشريفا، نحو بيت الله، وناقة الله، ولأن سبب الآية اقتضى ذلك، على ما يأتي.
قوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله" "فأينما تولوا" شرط، ولذلك حذفت النون، و"أين" العاملة، و"ما" زائدة، والجواب "فثم وجه الله". وقرأ الحسن "تولوا" بفتح التاء واللام، والأصل تتولوا. و"ثم" في موضع نصب على الظرف، ومعناها البعد، إلا أنها مبنية على الفتح غير معربة لأنها مبهمة، تكون بمنزلة هناك للبعد، فإن أردت القرب قلت هنا.
اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه "فأينما تولوا" على خمسة أقوال: فقال عبدالله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: "فأينما تولوا فثم وجه الله". قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا، قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكا قال: تستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه، لأنه قد أدى فرضه على ما أمر، والكمال يستدرك في الوقت، استدلالا بالسنة فيمن صلى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم، ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرق أو غرب جدا مجتهدا، وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقال المغيرة والشافعي: لا يجزيه، لأن القبلة شرط من شروط الصلاة. وما قاله مالك أصح، لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة، وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر. وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته. أخرجه مسلم عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت "فأينما تولوا فثم وجه الله". ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله. ولا يجوز لأحد أن يدع القبلة عامدا بوجهة من الوجوه إلا في شدة الخوف، على ما يأتي.
واختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله، فمرة قال: لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه. قال سحنون: فإن فعل أعاد، حكاه الباجي. ومرة قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح أن يصلي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة، على ما يأتي بيانه.
واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة، فقال مالك وأصحابه والثوري: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة، قالوا: لأن الأسفار التي حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن علي: يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا، لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له. وقال أبو يوسف: يصلي في المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء. وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه [بالإيماء]. وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر. وقال الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر، فقال: أما في السفر فقد سمعت، وما سمعت في الحضر. قال ابن القاسم: من تنفل في محمله تنفل جالسا، قيامه تربع، يركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه. وقال قتادة: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلي على رجل مات؟ وهو يصلي لغير قبلتنا، وكان النجاشي ملك الحبشة - واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية - يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الآية، ونزل فيه: "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله" [آل عمران: 199] فكان هذا عذرا للنجاشي، وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه سنة تسع من الهجرة. وقد استدل بهذا من أجاز الصلاة على الغائب، وهو الشافعي. قال ابن العربي: ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي: يصلي على الغائب، وقد كنت ببغداد في مجلس الإمام فخر الإسلام فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له: كيف حال فلان؟ فيقول له: مات، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم يقول لنا: قوموا فلأصل لكم، فيقوم فيصلي عليه بنا، وذلك بعد ستة أشهر من المدة، وبينه وبين بلده ستة أشهر.
والأصل عندهم في ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي. وقال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مخصوص لثلاثة أوجه:
أحدها: أن الأرض دحيت له جنوبا وشمالا حتى رأى نعش النجاشي، كما دحيت له شمالا وجنوبا حتى رأى المسجد الأقصى. وقال المخالف: وأي فائدة في رؤيته، وإنما الفائدة في لحوق بركته.
الثاني: أن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه. قال المخالف: هذا محال عادة ملك على دين لا يكون له اتباع، والتأويل بالمحال محال.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيا وميتا. قال المخالف: بركة الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن سواه تلحق الميت باتفاق. قال ابن العربي: والذي عندي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومن آمن معه ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثر، فعلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه.
قلت: والتأويل الأول أحسن، لأنه إذا رآه فما صلى على غائب وإنما صلى على مرئي حاضر، والغائب ما لا يرى. والله تعالى اعلم.
القول الرابع: قال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا: ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فنزلت: "ولله المشرق والمغرب" فوجه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فعل لا حجة عليه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
القول الخامس: أن الآية منسوخة بقوله: "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره" [البقرة: 144] ذكره ابن عباس، فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك. وقال قتادة: الناسخ قوله تعالى: "فول وجهك شطر المسجد الحرام" [البقرة: 144] أي تلقاءه، حكاه أبو عيسى الترمذي.
وقول سادس: روي عن مجاهد والضحاك أنها محكمة، المعنى: أينما كنتم من شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة. وعن مجاهد أيضا وابن جبير لما نزلت: "ادعوني استجب لكم" قالوا: إلى أين؟ فنزلت: "فأينما تولوا فثم وجه الله". وعن ابن عمر والنخعي: أينما تولوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فثم وجه الله. وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه" [البقرة: 114] الآية، فالمعنى أن بلاد لله أيها المؤمنون تسعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله أن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه. وقيل: نزلت حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية فاغتم المسلمون لذلك. فهذه عشرة أقوال. ومن جعلها منسوخة فلا اعتراض عليه من جهة كونها خبرا، لأنها محتملة لمعنى الأمر. يحتمل أن يكون معنى "فأينما تولوا فثم وجه الله": ولوا وجوهكم نحو وجه الله، وهذه الآية هي التي تلا سعيد بن جبير رحمه الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض.
اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرا. وقال ابن فورك: قد تذكر صفة الشيء والمراد بها الموصوف توسعا، كما يقول القائل: رأيت علم فلان اليوم، ونظرت إلى علمه، وإنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم، كذلك إذا ذكر الوجه هنا، والمراد من له الوجه، أي الوجود. وعلى هذا يتأول قوله تعالى: "إنما نطعمكم لوجه الله" [الإنسان: 9] لأن المراد به: لله الذي له الوجه، وكذلك قوله: "إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى" [الليل: 20] أي الذي له الوجه. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه عز وجل، كما قال: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام "[الرحمن: 27]. وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. قال ابن عطية: وضعف أبو المعالي هذا القول، وهو كذلك ضعيف، وإنما المراد وجوده. وقيل: المراد بالوجه هنا الجهة التي وجهنا إليها أي القبلة. وقيل: الوجه القصد، كما قال الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
وقيل: المعنى فثم رضا الله وثوابه، كما قال: "إنما نطعمكم لوجه الله" [الإنسان: 9] أي لرضائه وطلب ثوابه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجدا يبتغي به وجه لله بنى الله له مثله في الجنة). وقوله: (يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرا وهو اعلم فيقول إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي) أي خالصا لي، خرجه الدارقطني. وقيل: المراد فثم الله، والوجه صلة، وهو كقوله: "وهو معكم". قاله الكلبي والقتبي، ونحوه قول المعتزلة.
قوله تعالى: "إن الله واسع عليم" أي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم. وقيل: "واسع" بمعنى أنه يسع علمه كل شيء، كما قال: "وسع كل شيء علما" [طه: 98]. وقال الفراء: الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء، دليله قوله تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء" [الأعراف: 156]. وقيل: واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب. وقيل: متفضل على العباد وغني عن أعمالهم، يقال: فلان يسع ما يسأل، أي لا يبخل، قال الله تعالى: "لينفق ذو سعة من سعته" [الطلاق: 7] أي لينفق الغني مما أعطاه الله. وقد أتينا عليه في الكتاب "الأسنى" والحمد لله.
الآية: 116 {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون}
قوله تعالى: "وقالوا اتخذ الله ولدا" هذا إخبار عن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله. وقيل عن اليهود في قولهم: عزير ابن الله. وقيل عن كفرة العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. وقد جاء مثل هذه الأخبار عن الجهلة الكفار في "مريم] و[الأنبياء].
قوله تعالى: "سبحانه بل له" الآية. خرج البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا".
"سبحان" منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه والمحاشاة، من قولهم: اتخذ الله ولدا، بل هو الله تعالى واحد في ذاته، أحد في صفاته، لم يلد فيحتاج إلى صاحبة، "أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء" [الأنعام: 101] ولم يولد فيكون مسبوقا، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. "بل له ما في السماوات والأرض" "ما" رفع بالابتداء والخبر في المجرور، أي كل ذلك له ملك بالإيجاد والاختراع. والقائل بأنه اتخذ ولدا داخل في جملة السموات والأرض. وقد تقدم أن معنى سبحان الله: براءة الله من السوء.
لا يكون الولد إلا من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته وهو لا يشبهه شيء، وقد قال: "إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا" [مريم: 93]، كما قال هنا: "بل له ما في السموات والأرض" فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث، والقدم يقتضي الوحدانية والثبوت، فهو سبحانه القديم الأزلي الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ثم إن البنوة تنافي الرق والعبودية. - على ما يأتي بيانه في سورة "مريم" إن شاء الله تعالى - فكيف يكون ولد عبدا هذا محال، وما أدى إلى المحال محال.
قوله تعالى: "كل له قانتون" ابتداء وخبر، والتقدير كلهم، ثم حذف الهاء والميم. "قانتون" أي مطيعون وخاضعون، فالمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطبع. والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم. فالقنوت الطاعة، والقنوت السكوت، ومنه قول زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه إلى جنبه حتى نزلت: "وقوموا لله قانتين" [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. والقنوت: الصلاة، قال الشاعر:
قانتا لله يتلو كتبه وعلى عمد من الناس اعتزل
وقال السدي وغيره في قوله: "كل له قانتون" أي يوم القيامة. الحسن: كل قائم بالشهادة أنه عبده. والقنوت في اللغة أصله القيام، ومنه الحديث: (أفضل الصلاة طول القنوت) قاله الزجاج. فالخلق قانتون، أي قائمون بالعبودية إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم. وقيل: أصله الطاعة، ومنه قوله تعالى: "والقانتين والقانتات" [الأحزاب: 35]. وسيأتي لهذا مزيد بيان عند قوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" [البقرة: 238].
الآية: 117 {بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}
قوله تعالى: "بديع السماوات والأرض" فعيل للمبالغة، وارتفع على خبر ابتداء محذوف، واسم الفاعل مبدع، كبصير من مبصر. أبدعت الشيء لا عن مثال، فالله عز وجل بديع السموات والأرض، أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع. وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري (ونعمت البدعة هذه) يعني قيام رمضان.
كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يجوز أن يكون لها أصل في الشرع أولا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وخص رسول عليه، فهي في حيز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس، عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسول فهي في حيز الذم والإنكار، قال معناه الخطابي وغيره.
قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: (وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بين هذا بقول: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء). وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رب غيره.
قوله تعالى: "وإذا قضى" أي إذا أراد إحكامه وإتقانه - كما سبق في علمه - قال له كن. قال ابن عرفة: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لأنه إذا حكم فقد فرغ مما ببن الخصمين. وقال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
وقال الشماخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بواثق في أكمامها لم تفتق
قال علماؤنا: "قضى" لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق، قال الله تعالى: "فقضاهن سبع سماوات في يومين" [فصلت: 12] أي خلقهن. ويكون بمعنى الإعلام، قال الله تعالى: "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب" [الإسراء: 4] أي أعلمنا. ويكون بمعنى الأمر، كقوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" [الإسراء: 23]. ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق، قال الله تعالى: "فلما قضى موسى الأجل" [القصص: 29]. ويكون بمعنى الإرادة، كقوله تعالى: "فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" [غافر: 68] أي إذا أراد خلق شيء. قال ابن عطية: "قضى" معناه قدر، وقد يجيء بمعنى أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنيان على مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه. وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد.
قوله تعالى: "أمرا" الأمر واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر. قال علماؤنا: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها:
الأول: الدين، قال الله تعالى: "حتى جاء الحق وظهر أمر الله" [التوبة: 48] يعني دين الله الإسلام. الثاني: القول، ومنه قوله تعالى: "فإذا جاء أمرنا" يعني قولنا، وقوله: "فتنازعوا أمرهم بينهم" [طه: 62] يعني قولهم.
الثالث: العذاب، ومنه قوله تعالى: "لما قضي الأمر" [إبراهيم: 22] يعني لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع: عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: "إذا قضى أمرا" [آل عمران: 47] يعني عيسى، وكان في علمه أن يكون من غير أب.
الخامس: القتل ببدر، قال الله تعالى: "فإذا جاء أمر الله" [غافر: 78] يعني القتل ببدر، وقوله تعالى: "ليقضي الله أمرا كان مفعولا" [الأنفال: 42] يعني قتل كفار مكة.
السادس: فتح مكة، قال الله تعالى: "فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" [التوبة: 24] يعني فتح مكة.
السابع: قتل قريظة وجلاء بني الضير، قال الله تعالى: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره" [البقرة: 109].
الثامن: القيامة، قال الله تعالى: "أتى أمر الله" [النحل: 1].
التاسع: القضاء، قال الله تعالى: "يدبر الأمر" [يونس: 3] يعني القضاء.
العاشر: الوحي، قال الله تعالى: "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض "[السجدة: 5] يقول: ينزل الوحي من السماء إلى الأرض، وقوله: "يتنزل الأمر بينهن" [الطلاق: 12] يعني الوحي.
الحادي عشر: أمر الخلق، قال الله تعالى: "ألا إلى الله تصير الأمور" [الشورى: 53] يعني أمور الخلائق.
الثاني عشر: النصر، قال الله تعالى: "يقولون هل لنا من الأمر من شيء" [آل عمران: 154] يعنون النصر، "قل إن الأمر كله لله" [آل عمران: 154] يعني النصر.
الثالث عشر: الذنب، قال الله تعالى: "فذاقت وبال أمرها" [الطلاق: 9] يعني جزاء ذنبها.
الرابع عشر: الشأن والفعل، قال الله تعالى: "وما أمر فرعون برشيد" [هود: 97] أي فعله وشأنه، وقال: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" [النور: 63] أي فعله.
قوله تعالى: "فإنما يقول له كن" قيل: الكاف من كينونه، والنون من نوره، وهي المراد بقوله عليه السلام: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق). ويروى: (بكلمة الله التامة) على الإفراد. فالجمع لما كانت هذه الكلمة في الأمور كلها، فإذا قال لكل أمر كن، ولكل شيء كن، فهن كلمات. يدل على هذا ما روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن الله تعالى: (عطائي كلام وعذابي كلام). خرجه الترمذي في حديث فيه طول. والكلمة على الإفراد بمعنى الكلمات أيضا، لكن لما تفرقت الكلمة الواحدة في الأمور في الأوقات صارت كلمات ومرجعهن إلى كلمة واحدة. وإنما قيل "تامة" لأن أقل الكلام عند أهل اللغة على ثلاثة أحرف: حرف مبتدأ، وحرف تحشى به الكلمة، وحرف يسكت عليه. وإذا كان على حرفين فهو عندهم منقوص، كيد ودم وفم، وإنما نقص لعلة. فهي من الآدميين المنقوصات لأنها على حرفين، ولأنها كلمة ملفوظة بالأدوات. ومن ربنا تبارك وتعالى تامة، لأنها بغير الأدوات، تعالى عن شبه المخلوقين.
قوله تعالى: "فيكون" قرئ برفع النون على الاستئناف. قال سيبويه. فهو يكون، أو فإنه يكون. وقال غيره: هو معطوف على "يقول"، فعلى الأول كائنا بعد الأمر، وإن كان معدوما فإنه بمنزلة الموجود إذا هو عنده معلوم، على ما يأتي بيانه. وعلى الثاني كائنا مع الأمر، واختاره الطبري وقال: أمره للشيء بـ "كن" لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر، ولا موجودا إلا وهو مأمور بالوجود، على ما يأتي بيانه. قال: ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه، كما قال "ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون" [الروم: 25]. وضعف ابن عطية هذا القول وقال: هو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود.
وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر المعلومات. فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم ولم يزل. والمعنى الذي تقتضيه عبارة "كن": هو قديم قائم بالذات.
وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل: ففي أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حال عدمه، أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأمورا، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة:
أحدها: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات.
الثاني: أن الله عز وجل عالم هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني. ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.
الثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا، كقول أبي النجم:
قد قالت الاتساع للبطن الحق
ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقول عمرو بن حممة الدوسي:
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له قع
وكما قال الآخر:
قالت جناحاه لساقيه الحقا ونجيا لحمكما أن يمزقا
الآية: 118 {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون}
قوله تعالى: "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية" قال ابن عباس: هم اليهود. مجاهد: النصارى، ورجحه الطبري، لأنهم المذكورون في الآية أولا. وقال الربيع والسدي وقتادة: مشركو العرب. و"لولا" بمعنى "هلا" تحضيض، كما قال الأشهب بن رميلة:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطري لولا الكمي المقنعا
وليست هذه "لولا" التي تعطي منع الشيء لوجود غيره، والفرق بينهما عند علماء اللسان أن "لولا" بمعنى التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مقدرا، والتي للامتناع يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر. ومعنى الكلام هلا يكلمنا الله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فنعلم أنه نبي فنؤمن به، أو يأتينا بآية تكون علامة على نبوته. والآية: الدلالة والعلامة، وقد تقدم. "كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم" "الذين من قبلهم" اليهود والنصارى في قول من جعل "الذين لا يعلمون كفار العرب، أو الأمم السالفة في قول من جعل "الذين لا يعلمون" اليهود والنصارى، أو اليهود في قول من جعل "الذين لا يعلمون" النصارى. "تشابهت قلوبهم" قيل: في التعنيت والاقتراح وترك الإيمان. وقال الفراء. "تشابهت قلوبهم" في اتفاقهم على الكفر. "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" تقدم.
الآية: 119 {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}
قوله تعالى: "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا" "بشيرا" نصب على الحال، "ونذيرا" عطف عليه، قد تقدم معناهما. "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" قال مقاتل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا)، فأنزل الله تعالى: "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" برفع تسأل، وهي قراءة الجمهور، ويكون في موضع الحال بعطفه على "بشيرا ونذيرا". والمعنى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسؤول. وقال سعيد الأخفش: ولا تسأل (بفتح التاء وضم اللام)، ويكون في موضع الحال عطفا على "بشيرا ونذيرا". والمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير سائل عنهم، لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم. هذا معنى غير سائل. ومعنى غير مسؤول لا يكون مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار. وقال ابن عباس ومحمد بن كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ذات يوم: (ليت شعري ما فعل أبواي). فنزلت هذه الآية، وهذا على قراءة من قرأ "ولا تسأل" جزما على النهي، وهي قراءة نافع وحده، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نهى عن السؤال عمن عصى وكفر من الأحياء، لأنه قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الإيمان، وعن المعصية إلى الطاعة.
والثاني: وهو الأظهر، أنه نهى عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته، تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه، وهذا كما يقال: لا تسأل عن فلان! أي قد بلغ فوق ما تحسب. وقرأ ابن مسعود "ولن تسأل". وقرأ أبي "وما تسأل"، ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفى أن يكون مسؤولا عنهم. وقيل: إنما سأل أي أبويه أحدث موتا، فنزلت. وقد ذكرنا في كتاب "التذكرة" أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به، وذكرنا قول عليه السلام للرجل: (إن أبي وأباك في النار) وبينا ذلك، والحمد لله.