سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 18 من المصحف
** وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىَ فِي خَرَابِهَآ أُوْلَـَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاّ خَآئِفِينَ لّهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها, على قولين: أحدهما ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس, في قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} قال: هم النصارى وقال مجاهد: هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وسعى في خرابه}. قال هو بختنصر وأصحابه, خرب بيت المقدس, وأعانه على ذلك النصارى. وقال سعيد عن قتادة: قال أولئك أعداء الله, النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس, وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس, حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف, وإنما أعانه الروم على خرابه, من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا, وروي نحوه عن الحسن البصري, (القول الثاني), ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابه}, قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية, وبين أن يدخلوا مكة, حتى نحر هديه بذي طوى, وهادنهم وقال لهم: «ما كان أحد يصد عن هذا البيت, وقد كان الرجل, يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده» فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق, وفي قوله: {وسعى في خرابه} قال إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس, أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام, فأنزل الله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه}, ثم اختار ابن جرير القول الأول, واحتج بأن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة, وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس, (قلت) والذي يظهر, والله يعلم, القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس, لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس, كان دينهم أقوم من دين اليهود, وكانوا أقرب منهم, ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولاً إذ ذاك, لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم, ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون, وأيضاً فإنه تعالى, لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى, شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم: وأصحابه من مكة, ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام, وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة, فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم, كما قال تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون}, وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} وقال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليم} فقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}, فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها, فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط, إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها, ورفعها عن الدنس والشرك. وقوله تعالى: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين}, هذا خبر معناه الطلب, أي لا تمكنوا هؤلاء إذ قدرتم عليهم من دخولها, إلا تحت الهدنة والجزية, ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة, أمر من للعام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: «ألا لا يحجّن بعد العام مشرك, ولا يطوفّن بالبيت عريان, ومن كان له أجل فأجله إلى مدته», وهذا إنما كان تصديقاً وعملاً بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذ}, وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين, على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين, أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها, والمعنى ما كان إلا الحق والواجب إلا ذلك, لولا ظلم الكفرة وغيرهم وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين, أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد, وأنه يذل المشركين لهم, حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم, إلا خائفاً يخاف أن يُؤخذ فيعاقب أو يقتل, إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد, كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام, وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان, وأن يجلى اليهود والنصارى منها, ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام, وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة, بشيراً ونذيراً, صلوات الله وسلامه عليه, وهذا هو الخزي لهم في الدنيا, لأن الجزاء من جنس العمل, فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام, صدوا عنه, وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها, {ولهم في الاَخرة عذاب عظيم} على ما انتهكوا من حرمة البيت, وامتهنوه من نصب الأصنام حوله, ودعاء غير الله عنده, والطواف به عَرْياً وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله, وأما من فسر بيت المقدس, فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه, فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} الاَية, فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً, وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه, أو قد أخيف بأداء الجزية, فهو يؤديها. وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة, (قلت) وهذا لا ينفي أن يكون داخلاً في معنى عموم الاَية, فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة, التي كانت تصلي إليها اليهود, عوقبوا شرعاً وقدراً بالذلة فيه, إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضاً, أعظم من عصيان النصارى, كانت عقوبتهم أعظم, والله أعلم. وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا. بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود, وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون, والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله, وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الاَخرة, كما قال الإمام أحمد: أخبرنا الهيثم بن خارجة, أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس, سمعت أبي يحدث عن بشر بن أرطأة, قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الاَخرة» وهذا حديث حسن, وليس هو في شيء من الكتب الستة, وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطاة حديث سواه, وسوى حديث لاتقطع الأيدي في الغزو.
** وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
وهذا, والله أعلم, فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, الذين أخرجوا من مكة, وفارقوا مسجدهم ومصلاهم, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه, فلما قدم المدينة, وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً, ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد, ولهذا يقول تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}, قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء, عن عطاء عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا, والله أعلم, شأن القبلة. قال الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق, ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها. فقال {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام, وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة, وكان أهلها اليهود, أمره الله أن يستقبل بيت المقدس, ففرحت اليهود, فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم, وكان يدعو وينظر إلى السماء, فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى قوله {فولوا وجوهكم شطره} فارتاب من ذلك اليهود, وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, فأنزل الله {قل لله المشرق والمغرب}, وقال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} وقال عكرمة عن ابن عباس {فأينما تولوا فثم وجه الله} قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً, وقال مجاهد {فأينما تولوا فثم وجه الله} حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة, وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه, وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك, وقال جرير وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الاَية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة, وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه, أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب, لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية, إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية, لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى: {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانو}, قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال. وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان, إن أراد علمه تعالى فصحيح, فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات, وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذناً من الله أن يصلي المتطوع, حيث توجه من شرق أو غرب, في مسيره في سفره, وفي حال المسايفة وشدة الخوف. حدثنا أبو كريب, أخبرنا ابن إدريس, حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان, عن سعيد بن جبير عن ابن عمر, أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته, ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يفعل ذلك ويتأول هذه الاَية {فأينما تولوا فثم وجه الله}, ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه, من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان به, وأصله في الصحيحين, من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة, من غير ذكر الاَية. وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر, وأنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها, ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك, صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(مسألة) ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه, بين سفر المسافة وسفر العدوى, فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة, وهو قول أبي حنيفة خلافاً لمالك وجماعته, واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري, التطوع على الدابة في المصر, وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه, واختاره أبو جعفر الطبري, حتى للماشي أيضاً. قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت الاَية في قوم عميت عليهم القبلة, فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة, فقال الله تعالى: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية. حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي, أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان, عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة, عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً, فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً يصلي فيه, فلما أن أصبحنا إذ نحن قد صلينا إلى غير القبلة, فقلنا يارسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة, فأنزل الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} الاَية, ثم رواه عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن أبي الربيع السمان بنحوه. ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان, ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح, عن سعيد بن سليمان عن أبي الربيع السمان, واسمه أشعث بن سعيد البصري, وهو ضعيف الحديث, وقال الترمذي: هذا حديث حسن, وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان, وأشعث يضعف في الحديث. قلت وشيخه عاصم أيضاً ضعيف. قال البخاري منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك, والله أعلم.
وقد روى من طريق آخر, عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية: أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل, أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب, حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن, قال: وجدت في كتاب أبي أخبرنا عبد الملك العزرمي عن عطاء عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة, فلم نعرف القبلة, فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطاً فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة, فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم فسكت وأنزل الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء عن جابر به, وقال الدارقطني قرىء على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو أخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عن جابر, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأمرنا بالإعادة, وقال: قد أجزأت صلاتكم, ثم قال الدارقطني: كذا قال عن محمد بن سالم, وقال غيره عن محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان, ورواه ابن مردويه أيضاً من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد أن طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة, فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى في هذه الاَية {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} وهذه الأسانيد فيها ضعف, ولعله يشد بعضها بعضاً, وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم القضاء, والله أعلم.
قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار, أخبرنا هشام بن معاذ حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: إن أخاً لكم قد مات, فصلوا عليه, قالوا نصلي على رجلٍ ليس بمسلم ؟ قال: فنزلت {وإنّ من أهل الكتب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} قال قتادة: فقالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة, فأنزل الله {ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله} وهذا غريب, والله أعلم, وقد قيل: إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة, كما حكاه القرطبي عن قتادة, وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب, قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه ـ أحدهما ـ أنه عليه السلام, شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض. الثاني أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه واختاره ابن العربي قال القرطبي: ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه, وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت. وهذا جواب جيد. الثالث أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك, والله أعلم.
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق» وله مناسبة ههنا وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي المدني به «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقال الترمذي وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه, ثم قال الترمذي: حدثني الحسن بن بكر المروزي, أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي, عن عثمان بن محمد بن الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ثم قال الترمذي: هذا صحيح, وحكي عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح, قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة «ما بين المشرق والمغرب قبلة» منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة, إذا استقبلت القبلة, ثم قال ابن مردويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم, أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقد رواه الدارقطني والبيهقي: وقال المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله قال ابن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم, كما حدثنا القاسم, أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال, قال ابن جريج, قال مجاهد لما نزلت {ادعونيأستجب لكم} قالوا إلى أين, فنزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله} قال ابن جرير: ومعنى قوله {إن الله واسع عليم} يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال, وأما قوله {عليم} فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.
** وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
اشتملت هذه الاَية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولداً, فقال تعالى: {سبحانه} أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً {بل له ما في السموات والأرض} أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهنّ وهوالمتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدّرهم ومسخّرهم ومسيّرهم ومصرّفهم كما يشاء والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد ؟ كما قال تعالى: {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّاً * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرد} وقال تعالى: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد}. فقرر تعالى في هذه الاَيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد ؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الاَية من البقرة: حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين, حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك, فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان, وأما شتمه إياي فقوله أن لي ولداً فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً» انفرد به البخاري من هذا الوجه وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي, أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد الفروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني, فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته¹ وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد» وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله, إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم» وقوله: {كل له قانتون} قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج, أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: {قانتين} مصلين, وقال عكرمة وأبو مالك: {كل له قانتون} مقرون له بالعبودية, وقال سعيد بن جبير: {كل له قانتون}, يقول الإخلاص, وقال الربيع بن أنس: يقول: {كل له قانتون} أي: قائم يوم القيامة, وقال السدي: {كل له قانتون} أي: مطيعون يوم القيامة, وقال خصيف عن مجاهد: {كل له قانتون} قال: مطيعون, قال كن إنساناً فكان, وقال: كن حماراً فكان, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كل له قانتون مطيعون, قال: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره, وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال الله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والاَصال} وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به, كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يوسف ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة», وكذا رواه الإمام أحمد: عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله, ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه, ورفع هذا الحديث منكر, وقد يكن من كلام الصحابي أو من دونه, والله أعلم.
وقوله تعالى: {بديع السموات والأرض} أي: خالقهما على غير مثال سبق¹ قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة, ومنه يقال للشيء المحدث بدعة, كما جاء في صحيح مسلم: فإن كل محدثة بدعة, والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية, كقوله: «فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة», وتارة تكون بدعة لغوية, كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه, وقال ابن جرير: {بديع السموات والأرض} مبدعهما, وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل, كما صرف المؤلم إلى الأليم, والمسمع إلى السميع, ومعنى المبدع المنشىء والمحدث, ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد, قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين, مبتدعاً لإحداثه فيه, ما لم يسبق إليه غيره, وكذلك كل محدث قولاً أو فعلاً, لم يتقدم فيه متقدم, فإن العرب تسميه مبتدعاً, ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي:
يدعي إلى قول سادات الرجال إذاأبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
أي يحدث ما شاء, قال ابن جرير: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد, وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية, وتقر له بالطاعة, وهو بارئها وخالقها وموجدها, من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه, وهذا إعلام من الله لعباده, أن ممن يشهد له بذلك المسيح, الذي أضافوا إلى الله بنوته, وإخبار منه لهم, أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل, وعلى غير مثال, هو الذي ابتدع المسيح عيسى, من غير والد بقدرته, وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة. وقوله تعالى: {وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه, وأنه إذا قدر أمراً وأراد كونه, فإنما يقول له كن, أي: مرة واحدة فيكون, أي: فيوجد, على وفق ما أراد كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}, وقال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}, وقال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر} وقال الشاعر:
إذا ما أراد أمراً فإنمايقول له كن قوله فيكون
ونبه بذلك أيضاً, على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله, قال الله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}.
** وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول, فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه¹ فأنزل الله في ذلك من قوله: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية}, وقال مجاهد: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية}, قال النصارى تقوله, وهو اختيار ابن جرير, قال: لأن السياق فيهم, وفي ذلك نظر, وحكى القرطبي: {لولا يكلمنا الله}, أي: يخاطبنا بنبوتك يا محمد, (قلت): وهو ظاهر السياق, والله أعلم, وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الاَية: هذا قول كفار العرب {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم}, قال: هم اليهود والنصارى, ويؤيد هذا القول, وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب, قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله يعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} الاَية, قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوع} إلى قوله: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسول}, وقوله تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربن} الاَية, وقوله تعالى: {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}¹ إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به, إنما هو الكفر والمعاندة, كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم, كما قال تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}, وقال تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}, وقوله تعالى: {تشابهت قلوبهم}¹ أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو, كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به} الاَية, وقوله تعالى: {قد بينا الاَيات لقوم يوقنون}, أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل, بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل, وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى, وأما من ختم الله على قلبه وسمعه, وجعل على بصره غشاوة, فأولئك قال الله فيهم: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}.
** إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا عبد الرحمن بن صالح أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الفزاري, عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النّبي صلى الله عليه وسلم, قال: «أنزلت عليّ {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذير}, قال: بشيراً بالجنة ونذيراً من النار», وقوله: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم التاء, على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب, وما تسأل, وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم, نقلها ابن جرير, أي: لا نسالك عن كفر من كفر بك كقوله: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}, وكقوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} الاَية, وكقوله تعالى: {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}¹ وأشباه ذلك من الاَيات, وقرأ آخرون: «ولا تسأل عن أصحاب الجحيم» بفتح التاء على النهي, أي: لا تسأل عن حالهم, كما قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ؟» فنزلت: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}, فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة, وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله, وقد حكاه القرطبي, عن ابن عباس ومحمد بن كعب, قال القرطبي: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان, أي: قد بلغ فوق ما تحسب, وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به, وأجبنا عن قوله: «أبي وأباك في النار», (قلت): والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام, ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها, وإسناده ضعيف, والله أعلم.
ثم قال ابن جرير: وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج, أخبرني داود بن أبي عاصم به, أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «أين أبواي» ؟ فنزلت: {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}, وهذا مرسل كالذي قبله, وقد رد ابن جرير هذا القول المروي, عن محمد بن كعب وغيره في ذلك, لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه, واختار القراءة الأولى, وهذا الذي سلكه ههنا فيه نظر, لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه, قبل أن يعلم أمرهما, فلما علم ذلك تبرأ منهما, وأخبر عنهما أنهما من أهل النار, كما ثبت هذا في الصحيح, ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكر ابن جرير, والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان, عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار, قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن¹ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين, وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل, لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء, بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً. انفرد بإخراجه البخاري, فرواه في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح به, وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال: وقال سعيد بن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام, ورواه في التفسير عن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي سلمة, عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص به فذكر نحوه, فعبد الله هذا هو ابن صالح, كما صرح به في كتاب الأدب, وزعم ابن مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء, وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية من البقرة, عن أحمد بن الحسن بن أيوب عن محمد بن أحمد بن البراء, عن المعافى بن سليمان عن فليح به وزاد: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته, فما اختلفا في حرف إلا أن كعباً قال بلغته: أعيناً عمومى, وآذاناً صمومى, وقلوباً غلوفاً.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 18
18 : تفسير الصفحة رقم 18 من القرآن الكريم** وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىَ فِي خَرَابِهَآ أُوْلَـَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاّ خَآئِفِينَ لّهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها, على قولين: أحدهما ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس, في قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} قال: هم النصارى وقال مجاهد: هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وسعى في خرابه}. قال هو بختنصر وأصحابه, خرب بيت المقدس, وأعانه على ذلك النصارى. وقال سعيد عن قتادة: قال أولئك أعداء الله, النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس, وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس, حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف, وإنما أعانه الروم على خرابه, من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا, وروي نحوه عن الحسن البصري, (القول الثاني), ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابه}, قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية, وبين أن يدخلوا مكة, حتى نحر هديه بذي طوى, وهادنهم وقال لهم: «ما كان أحد يصد عن هذا البيت, وقد كان الرجل, يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده» فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق, وفي قوله: {وسعى في خرابه} قال إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس, أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام, فأنزل الله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه}, ثم اختار ابن جرير القول الأول, واحتج بأن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة, وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس, (قلت) والذي يظهر, والله يعلم, القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس, لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس, كان دينهم أقوم من دين اليهود, وكانوا أقرب منهم, ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولاً إذ ذاك, لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم, ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون, وأيضاً فإنه تعالى, لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى, شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم: وأصحابه من مكة, ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام, وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة, فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم, كما قال تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون}, وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} وقال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليم} فقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}, فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها, فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط, إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها, ورفعها عن الدنس والشرك. وقوله تعالى: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين}, هذا خبر معناه الطلب, أي لا تمكنوا هؤلاء إذ قدرتم عليهم من دخولها, إلا تحت الهدنة والجزية, ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة, أمر من للعام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: «ألا لا يحجّن بعد العام مشرك, ولا يطوفّن بالبيت عريان, ومن كان له أجل فأجله إلى مدته», وهذا إنما كان تصديقاً وعملاً بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذ}, وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين, على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين, أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها, والمعنى ما كان إلا الحق والواجب إلا ذلك, لولا ظلم الكفرة وغيرهم وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين, أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد, وأنه يذل المشركين لهم, حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم, إلا خائفاً يخاف أن يُؤخذ فيعاقب أو يقتل, إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد, كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام, وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان, وأن يجلى اليهود والنصارى منها, ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام, وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة, بشيراً ونذيراً, صلوات الله وسلامه عليه, وهذا هو الخزي لهم في الدنيا, لأن الجزاء من جنس العمل, فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام, صدوا عنه, وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها, {ولهم في الاَخرة عذاب عظيم} على ما انتهكوا من حرمة البيت, وامتهنوه من نصب الأصنام حوله, ودعاء غير الله عنده, والطواف به عَرْياً وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله, وأما من فسر بيت المقدس, فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه, فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} الاَية, فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً, وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه, أو قد أخيف بأداء الجزية, فهو يؤديها. وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة, (قلت) وهذا لا ينفي أن يكون داخلاً في معنى عموم الاَية, فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة, التي كانت تصلي إليها اليهود, عوقبوا شرعاً وقدراً بالذلة فيه, إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضاً, أعظم من عصيان النصارى, كانت عقوبتهم أعظم, والله أعلم. وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا. بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود, وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون, والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله, وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الاَخرة, كما قال الإمام أحمد: أخبرنا الهيثم بن خارجة, أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس, سمعت أبي يحدث عن بشر بن أرطأة, قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الاَخرة» وهذا حديث حسن, وليس هو في شيء من الكتب الستة, وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطاة حديث سواه, وسوى حديث لاتقطع الأيدي في الغزو.
** وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
وهذا, والله أعلم, فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, الذين أخرجوا من مكة, وفارقوا مسجدهم ومصلاهم, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه, فلما قدم المدينة, وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً, ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد, ولهذا يقول تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}, قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء, عن عطاء عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا, والله أعلم, شأن القبلة. قال الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق, ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها. فقال {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام, وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة, وكان أهلها اليهود, أمره الله أن يستقبل بيت المقدس, ففرحت اليهود, فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم, وكان يدعو وينظر إلى السماء, فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى قوله {فولوا وجوهكم شطره} فارتاب من ذلك اليهود, وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, فأنزل الله {قل لله المشرق والمغرب}, وقال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} وقال عكرمة عن ابن عباس {فأينما تولوا فثم وجه الله} قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً, وقال مجاهد {فأينما تولوا فثم وجه الله} حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة, وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه, وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك, وقال جرير وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الاَية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة, وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه, أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب, لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية, إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية, لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى: {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانو}, قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال. وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان, إن أراد علمه تعالى فصحيح, فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات, وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذناً من الله أن يصلي المتطوع, حيث توجه من شرق أو غرب, في مسيره في سفره, وفي حال المسايفة وشدة الخوف. حدثنا أبو كريب, أخبرنا ابن إدريس, حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان, عن سعيد بن جبير عن ابن عمر, أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته, ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يفعل ذلك ويتأول هذه الاَية {فأينما تولوا فثم وجه الله}, ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه, من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان به, وأصله في الصحيحين, من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة, من غير ذكر الاَية. وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر, وأنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها, ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك, صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(مسألة) ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه, بين سفر المسافة وسفر العدوى, فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة, وهو قول أبي حنيفة خلافاً لمالك وجماعته, واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري, التطوع على الدابة في المصر, وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه, واختاره أبو جعفر الطبري, حتى للماشي أيضاً. قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت الاَية في قوم عميت عليهم القبلة, فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة, فقال الله تعالى: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية. حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي, أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان, عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة, عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً, فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً يصلي فيه, فلما أن أصبحنا إذ نحن قد صلينا إلى غير القبلة, فقلنا يارسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة, فأنزل الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} الاَية, ثم رواه عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن أبي الربيع السمان بنحوه. ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان, ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح, عن سعيد بن سليمان عن أبي الربيع السمان, واسمه أشعث بن سعيد البصري, وهو ضعيف الحديث, وقال الترمذي: هذا حديث حسن, وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان, وأشعث يضعف في الحديث. قلت وشيخه عاصم أيضاً ضعيف. قال البخاري منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك, والله أعلم.
وقد روى من طريق آخر, عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية: أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل, أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب, حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن, قال: وجدت في كتاب أبي أخبرنا عبد الملك العزرمي عن عطاء عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة, فلم نعرف القبلة, فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطاً فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة, فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم فسكت وأنزل الله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء عن جابر به, وقال الدارقطني قرىء على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو أخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عن جابر, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأمرنا بالإعادة, وقال: قد أجزأت صلاتكم, ثم قال الدارقطني: كذا قال عن محمد بن سالم, وقال غيره عن محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان, ورواه ابن مردويه أيضاً من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد أن طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة, فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى في هذه الاَية {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} وهذه الأسانيد فيها ضعف, ولعله يشد بعضها بعضاً, وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم القضاء, والله أعلم.
قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار, أخبرنا هشام بن معاذ حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: إن أخاً لكم قد مات, فصلوا عليه, قالوا نصلي على رجلٍ ليس بمسلم ؟ قال: فنزلت {وإنّ من أهل الكتب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} قال قتادة: فقالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة, فأنزل الله {ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله} وهذا غريب, والله أعلم, وقد قيل: إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة, كما حكاه القرطبي عن قتادة, وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب, قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه ـ أحدهما ـ أنه عليه السلام, شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض. الثاني أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه واختاره ابن العربي قال القرطبي: ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه, وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت. وهذا جواب جيد. الثالث أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك, والله أعلم.
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق» وله مناسبة ههنا وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي المدني به «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقال الترمذي وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه, ثم قال الترمذي: حدثني الحسن بن بكر المروزي, أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي, عن عثمان بن محمد بن الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ثم قال الترمذي: هذا صحيح, وحكي عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح, قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة «ما بين المشرق والمغرب قبلة» منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة, إذا استقبلت القبلة, ثم قال ابن مردويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم, أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقد رواه الدارقطني والبيهقي: وقال المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله قال ابن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم, كما حدثنا القاسم, أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال, قال ابن جريج, قال مجاهد لما نزلت {ادعونيأستجب لكم} قالوا إلى أين, فنزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله} قال ابن جرير: ومعنى قوله {إن الله واسع عليم} يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال, وأما قوله {عليم} فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.
** وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
اشتملت هذه الاَية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولداً, فقال تعالى: {سبحانه} أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً {بل له ما في السموات والأرض} أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهنّ وهوالمتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدّرهم ومسخّرهم ومسيّرهم ومصرّفهم كما يشاء والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد ؟ كما قال تعالى: {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّاً * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرد} وقال تعالى: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد}. فقرر تعالى في هذه الاَيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد ؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الاَية من البقرة: حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين, حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك, فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان, وأما شتمه إياي فقوله أن لي ولداً فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً» انفرد به البخاري من هذا الوجه وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي, أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد الفروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني, فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته¹ وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد» وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله, إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم» وقوله: {كل له قانتون} قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج, أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: {قانتين} مصلين, وقال عكرمة وأبو مالك: {كل له قانتون} مقرون له بالعبودية, وقال سعيد بن جبير: {كل له قانتون}, يقول الإخلاص, وقال الربيع بن أنس: يقول: {كل له قانتون} أي: قائم يوم القيامة, وقال السدي: {كل له قانتون} أي: مطيعون يوم القيامة, وقال خصيف عن مجاهد: {كل له قانتون} قال: مطيعون, قال كن إنساناً فكان, وقال: كن حماراً فكان, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كل له قانتون مطيعون, قال: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره, وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال الله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والاَصال} وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به, كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يوسف ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة», وكذا رواه الإمام أحمد: عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله, ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه, ورفع هذا الحديث منكر, وقد يكن من كلام الصحابي أو من دونه, والله أعلم.
وقوله تعالى: {بديع السموات والأرض} أي: خالقهما على غير مثال سبق¹ قال مجاهد والسدي: وهو مقتضى اللغة, ومنه يقال للشيء المحدث بدعة, كما جاء في صحيح مسلم: فإن كل محدثة بدعة, والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية, كقوله: «فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة», وتارة تكون بدعة لغوية, كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه, وقال ابن جرير: {بديع السموات والأرض} مبدعهما, وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل, كما صرف المؤلم إلى الأليم, والمسمع إلى السميع, ومعنى المبدع المنشىء والمحدث, ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد, قال: ولذلك سمي المبتدع في الدين, مبتدعاً لإحداثه فيه, ما لم يسبق إليه غيره, وكذلك كل محدث قولاً أو فعلاً, لم يتقدم فيه متقدم, فإن العرب تسميه مبتدعاً, ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي:
يدعي إلى قول سادات الرجال إذاأبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
أي يحدث ما شاء, قال ابن جرير: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد, وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية, وتقر له بالطاعة, وهو بارئها وخالقها وموجدها, من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه, وهذا إعلام من الله لعباده, أن ممن يشهد له بذلك المسيح, الذي أضافوا إلى الله بنوته, وإخبار منه لهم, أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل, وعلى غير مثال, هو الذي ابتدع المسيح عيسى, من غير والد بقدرته, وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة. وقوله تعالى: {وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه, وأنه إذا قدر أمراً وأراد كونه, فإنما يقول له كن, أي: مرة واحدة فيكون, أي: فيوجد, على وفق ما أراد كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}, وقال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}, وقال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر} وقال الشاعر:
إذا ما أراد أمراً فإنمايقول له كن قوله فيكون
ونبه بذلك أيضاً, على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله, قال الله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}.
** وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول, فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه¹ فأنزل الله في ذلك من قوله: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية}, وقال مجاهد: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية}, قال النصارى تقوله, وهو اختيار ابن جرير, قال: لأن السياق فيهم, وفي ذلك نظر, وحكى القرطبي: {لولا يكلمنا الله}, أي: يخاطبنا بنبوتك يا محمد, (قلت): وهو ظاهر السياق, والله أعلم, وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الاَية: هذا قول كفار العرب {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم}, قال: هم اليهود والنصارى, ويؤيد هذا القول, وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب, قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله يعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} الاَية, قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوع} إلى قوله: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسول}, وقوله تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربن} الاَية, وقوله تعالى: {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة}¹ إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به, إنما هو الكفر والمعاندة, كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم, كما قال تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}, وقال تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}, وقوله تعالى: {تشابهت قلوبهم}¹ أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو, كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به} الاَية, وقوله تعالى: {قد بينا الاَيات لقوم يوقنون}, أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل, بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل, وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى, وأما من ختم الله على قلبه وسمعه, وجعل على بصره غشاوة, فأولئك قال الله فيهم: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}.
** إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا عبد الرحمن بن صالح أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الفزاري, عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النّبي صلى الله عليه وسلم, قال: «أنزلت عليّ {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذير}, قال: بشيراً بالجنة ونذيراً من النار», وقوله: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم التاء, على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب, وما تسأل, وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم, نقلها ابن جرير, أي: لا نسالك عن كفر من كفر بك كقوله: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}, وكقوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} الاَية, وكقوله تعالى: {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}¹ وأشباه ذلك من الاَيات, وقرأ آخرون: «ولا تسأل عن أصحاب الجحيم» بفتح التاء على النهي, أي: لا تسأل عن حالهم, كما قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ؟» فنزلت: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}, فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة, وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله, وقد حكاه القرطبي, عن ابن عباس ومحمد بن كعب, قال القرطبي: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان, أي: قد بلغ فوق ما تحسب, وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به, وأجبنا عن قوله: «أبي وأباك في النار», (قلت): والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام, ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها, وإسناده ضعيف, والله أعلم.
ثم قال ابن جرير: وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج, أخبرني داود بن أبي عاصم به, أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «أين أبواي» ؟ فنزلت: {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}, وهذا مرسل كالذي قبله, وقد رد ابن جرير هذا القول المروي, عن محمد بن كعب وغيره في ذلك, لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه, واختار القراءة الأولى, وهذا الذي سلكه ههنا فيه نظر, لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه, قبل أن يعلم أمرهما, فلما علم ذلك تبرأ منهما, وأخبر عنهما أنهما من أهل النار, كما ثبت هذا في الصحيح, ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكر ابن جرير, والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان, عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار, قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن¹ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين, وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل, لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء, بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً. انفرد بإخراجه البخاري, فرواه في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح به, وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال: وقال سعيد بن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام, ورواه في التفسير عن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي سلمة, عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص به فذكر نحوه, فعبد الله هذا هو ابن صالح, كما صرح به في كتاب الأدب, وزعم ابن مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء, وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاَية من البقرة, عن أحمد بن الحسن بن أيوب عن محمد بن أحمد بن البراء, عن المعافى بن سليمان عن فليح به وزاد: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته, فما اختلفا في حرف إلا أن كعباً قال بلغته: أعيناً عمومى, وآذاناً صمومى, وقلوباً غلوفاً.
الصفحة رقم 18 من المصحف تحميل و استماع mp3