تفسير الطبري تفسير الصفحة 18 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 18
019
017
 الآية : 113
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَىَ عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النّصَارَىَ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت فـي قوم من أهل الكتابـين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك:
1369ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: لـما قدم أهل نـجران من النصارى علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أتتهم أحبـار يهود, فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رافع بن حريـملة: ما أنتـم علـى شيء وكفر بعيسى ابن مريـم وبـالإنـجيـل. فقال رجل من أهل نـجران من النصارى: ما أنتـم علـى شيء وجحد نبوّة موسى وكفر بـالتوراة. فأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهما: وَقالَتِ الـيَهودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ وَقالَتِ النّصارى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ إلـى قوله: فـيـما كانوا فـيه يختلفون 1370ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: وقالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصارَى علـى شيْءٍ وَقالَتِ النّصارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا علـى عهد النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
وأما تأويـل الآية, فإن قالت الـيهود: لـيست النصارى فـي دينها علـى صواب, وقالت النصارى: لـيست الـيهود فـي دينها علـى صواب.
وإنـما أخبر الله عنهم بقـيـلهم ذلك للـمؤمنـين إعلاما منه لهم بتضيـيع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله, وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فـيه من فروضه لأن الإنـجيـل الذي تدين بصحته وحقـيقته النصارى يحقق ما فـي التوراة من نبوّة موسى علـيه السلام وما فرض الله علـى بنـي إسرائيـل فـيها من الفرائض, وأن التوراة التـي تدين بصحتها وحقـيقتها الـيهود تـحقق نبوّة عيسى علـيه السلام وما جاء به من عند الله من الأحكام والفرائض. ثم قال كل فريق منهم للفريق الاَخر ما أخبر الله عنهم فـي قوله: وَقَالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصارَى علـى شَيْءٍ وقالت النّصَارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ مع تلاوة كل واحد من الفريقـين كتابه الذي يشهد علـى كذبه فـي قـيـله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك علـى علـم منهم أنهم فـيـما قالوه مبطلون, وأتوا ما أتوا من كفرهم بـما كفروا به علـى معرفة منهم بأنهم فـيه ملـحدون.
فإن قال لنا قائل: أَوَ كانت الـيهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله علـى شيء, فـيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الاَخر مبطلاً فـي قـيـله ما قال من ذلك؟ قـيـل: قد روينا الـخبر الذي ذكرناه عن ابن عبـاس قَبْلُ, مِنْ أن إنكار كل فريق منهم إنـما كان إنكارا لنبوّة النبـيّ صلى الله عليه وسلم, الذي ينتـحل التصديق به, وبـما جاء به الفريق الاَخر, لا دفعا منهم أن يكون الفريق الاَخر فـي الـحال التـي بعث الله فـيها نبـينا صلى الله عليه وسلم علـى شيء من دينه, بسبب جحوده نبوّة نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الاَخر علـى شيء بعد بعثة نبـينا صلى الله عليه وسلم, وكلا الفريقـين كان جاحدا نبوّة نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم فـي الـحال التـي أنزل الله فـيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت الـيهود: لـيست النصارى علـى شيء من دينها منذ دانت دينها, وقالت النصارى: لـيست الـيهود علـى شيء منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الـخبر الذي رويناه عن ابن عبـاس آنفـا. فكذّب الله الفريقـين فـي قـيـلهما ما قالا. كما:
1371ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَقَالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ قال: بلـى قد كانت أوائل النصارى علـى شيء, ولكنهم ابتدعوا وتفرّقوا وقالت النصارى: لـيست الـيهود علـى شيء. ولكن القوم ابتدعوا وتفرّقوا.
1372ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج: وقالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ وقَالَتِ النّصَارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ عَلَـى شَيْءٍ قال: قال مـجاهد: قد كانت أوائل الـيهود والنصارى علـى شيء.
وأما قوله: وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتابَ فإنه يعنـي به كتاب الله التوراة والإنـجيـل, وهما شاهدان علـى فريقـي الـيهود والنصارى بـالكفر, وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فـيه. كما:
1373ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قالا جميعا: حدثنا ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتابَ كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُون مِثْلَ قَوْلِهِمُ, أي كل يتلو فـي كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر الـيهود بعيسى وعندهم التوراة فـيها ما أخذ الله علـيهم من الـميثاق علـى لسان موسى بـالتصديق بعيسى علـيه السلام, وفـي الإنـجيـل مـما جاء به عيسى تصديق موسى, وما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بـما فـي يد صاحبه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.
اختلف أهل التأويـل فـي الذين عنى الله بقوله: كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ, فقال بعضهم بـما:
1374ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قال: وقالت النصارى مثل قول الـيهود قبلهم.
1375ـ حدثنا بشر بن سعيد, عن قتادة: قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قال: قالت النصارى مثل قول الـيهود قبلهم. وقال آخرون بـما:
1376ـ حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلـمون؟ قال: أمـم كانت قبل الـيهود والنصارى, وقبل التوراة والإنـجيـل.
وقال بعضهم: عَنَى بذلك مشركي العرب, لأنهم لـم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلـى الـجهل, ونفـى عنهم من أجل ذلك العلـم. ذكر من قال ذلك:
1377ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: كَذَلِكَ قال الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فهم العرب, قالوا: لـيس مـحمد صلى الله عليه وسلم علـى شيء.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن الله أخبر تبـارك وتعالـى عن قوم وصفهم بـالـجهل, ونفـى عنهم العلـم بـما كانت الـيهود والنصارى به عالـمين أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال الـيهود والنصارى بعضها لبعض مـما أخبر الله عنهم أنهم قالوه فـي قوله: وَقالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ وَقالَتِ النّصَارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ. وجائز أن يكونوا هم الـمشركين من العرب, وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل الـيهود والنصارى. ولا أمة أولـى أن يقال هي التـي عنـيت بذلك من أخرى, إذ لـم يكن فـي الآية دلالة علـى أيَ من أيَ, ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ولا من جهة النقل الـمستفـيض.
وإنـما قصد الله جل ثناؤه بقوله: كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ إعلام الـمؤمنـين أن الـيهود والنصارى قد أتوا من قـيـل البـاطل, وافتراء الكذب علـى الله, وجحود نبوّة الأنبـياء والرسل, وهم أهل كتاب يعلـمون أنهم فـيـما يقولون مبطلون, وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون, وعلـى الله مفترون مثل الذي قاله أهل الـجهل بـالله وكتبه ورسله الذين لـم يبعث الله لهم رسولاً ولا أوحى إلـيهم كتابـا.
وهذه الآية تنبىء عن أن من أتـى شيئا من معاصي الله علـى علـم منه بنهي الله عنها, فمصيبته فـي دينه أعظم من مصيبة من أتـى ذلك جاهلاً به لأن الله تعالـى ذكره عظم توبـيخ الـيهود والنصارى بـما وبّخهم به فـي قـيـلهم ما أخبر عنهم بقوله: وَقَالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ وَقَالَتِ النّصَارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك علـى علـم منهم أنهم مبطلون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاللّهُ يَحْكُمُ بَـيْنَهُمْ يَوْمَ القِـيَامَةِ فِـيـما كانُوا فِـيهِ يَخْتَلِفُونَ.
يعنـي بذلك جل ثناءه: فـالله يقضي فـيفصل بـين هؤلاء الـمختلفـين القائل بعضهم لبعض: لستـم علـى شيء من دينكم يوم قـيام الـخـلق لربهم من قبورهم, فـيتبـين الـمـحقّ منهم من الـمبطل بإثابة الـمـحقّ ما وعد أهل طاعته علـى أعماله الصالـحة ومـجازاته الـمبطل منهم بـما أوعد أهل الكفر به علـى كفرهم به فـيـما كانوا فـيه يختلفون من أديانهم ومللهم فـي دار الدنـيا. وأما القـيامة فهي مصدر من قول القائل: قمت قـياما وقـيامةً, كما يقال: عدت فلانا عيادةً, وصنت هذا الأمر صيانةً. وإنـما عنى بـالقـيامة: قـيام الـخـلق من قبورهم لربهم, فمعنى يوم القـيامة: يوم قـيام الـخلائق من قبورهم لـمـحشرهم.
الآية : 114
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىَ فِي خَرَابِهَآ أُوْلَـَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاّ خَآئِفِينَ لّهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
قد دللنا فـيـما مضى قَبْلُ علـى أن تأويـل الظلـم: وضع الشيء فـي غير موضعه. وتأويـل قوله: وَمَنْ أَظْلَـمَ: وأيّ امرىء أشدّ تعدّيا وجراءة علـى الله وخلافـا لأمره مِن امرىء منع مساجد الله أن يعبد الله فـيها؟ والـمساجد جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فـيه. وقد بـينا معنى السجود فـيـما مضى, فمعنى الـمسجد: الـموضع الذي يسجد لله فـيه, كما يقال للـموضع الذي يجلس فـيه: الـمـجلس, وللـموضع الذي ينزل فـيه: منزل, ثم يجمع منازل ومـجالس نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب مساجد فـي واحد الـمساجد, وذلك كالـخطأ من قائله.
وأما قوله: أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ فإن فـيه وجهين من التأويـل, أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلـم مـمن منع مساجد الله من أن يذكر فـيها اسمه, فتكون «أن» حينئذ نصبـا من قول بعض أهل العربـية بفقد الـخافض وتعلق الفعل بها. والوجه الاَخر أن يكون معناه: ومن أظلـم مـمن منع أن يذكر اسم الله فـي مساجده, فتكون «أن» حينئذ فـي موضع نصب تكريرا علـى موضع الـمساجد وردّا علـيه.
وأما قوله: وَسَعَى فـي خَرَابِها فإن معناه: ومن أظلـم مـمن منع مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه, ومـمن سعى فـي خراب مساجد الله. ف«سعى» إذا عطف علـى «منع».
فإن قال قائل: ومن الذي عنـي بقوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَر فـيها اسمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها وأيّ الـمساجد هي؟ قـيـل: إن أهل التأويـل فـي ذلك مختلفون, فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه هم النصارى والـمسجد بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك:
1378ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمْنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ أنهم النصارى.
1379ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها النصارى كانوا يطرحون فـي بـيت الـمقدس الأذى, ويـمنعون الناس أن يصلوا فـيه.
حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: هو بختنصر وجنده ومن أعانهم من النصارى والـمسجد: مسجد بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك:
1380ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: ومَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ الآية, أولئك أعداء الله النصارى, حملهم بغض الـيهود علـى أن أعانوا بختنصر البـابلـي الـمـجوسي علـى تـخريب بـيت الـمقدس.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَمَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها قال: هو بختنصر وأصحابه خرّب بـيت الـمقدس, وأعانه علـى ذلك النصارى.
1381ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها قال: الروم, كانوا ظاهروا بختنصر علـى خراب بـيت الـمقدس, حتـى خرّبه وأمر به أن تطرح فـيه الـجِيَف وإنـما أعانه الروم علـى خرابه من أجل أن بنـي إسرائيـل قتلوا يحيى بن زكريا.
وقال آخرون: بلـى عنى الله عزّ وجل بهذه الآية مشركي قريش, إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمسجد الـحرام. ذكر من قال ذلك:
1382ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها قال: هؤلاء الـمشركون, حين حالوا بـين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الـحديبـية وبـين أن يدخـل مكة حتـى نـحر هدية بذي طُوًى وهادنهم, وقال لهم: «ما كَانَ أَحَدٌ يُرَدّ عن هذا البَـيْتِ». وقد كان الرجل يـلقـى قاتل أبـيه أو أخيه فـيه فما يصدّه, وقالوا: لا يدخـل علـينا من قتل آبـاءنا يوم بدر وفـينا بـاقٍ. وفـي قوله: وَسَعَى فـي خَرَابِها قالوا: إذْ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتـيها للـحجّ والعمرة.
وأولـى التأويلات التـي ذكرتها بتأويـل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ النصارى وذلك أنهم هم الذين سعوا فـي خراب بـيت الـمقدس, وأعانوا بختنصر علـى ذلك, ومنعوا مؤمنـي بنـي إسرائيـل من الصلاة فـيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلـى بلاده.
والدلـيـل علـى صحة ما قلنا فـي ذلك: قـيام الـحجة بأن لا قوم فـي معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التـي ذكرناها, وأن لا مسجد عنى الله عزّ وجل بقوله: وَسَعَى فِـي خَرَابِها إلا أحد الـمسجدين, إما مسجد بـيت الـمقدس, وإما الـمسجد الـحرام. وإذْ كان ذلك كذلك, وكان معلوما أن مشركي قريش لـم يسعوا قط فـي تـخريب الـمسجد الـحرام, وإن كانوا قد منعوا فـي بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فـيه صحّ وثبت أن الذين وصفهم الله عزّ وجل بـالسعي فـي خراب مساجده غير الذين وصفهم الله بعمارتها, إذْ كان مشركو قريش بنوا الـمسجد الـحرام فـي الـجاهلـية, وبعمارته كان افتـخارهم, وإن كان بعض أفعالهم فـيه كان منهم علـى غير الوجه الذي يرضاه الله منهم. وأخرى, أن الآية التـي قبل قوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ مضت بـالـخبر عن الـيهود والنصارى وذَمّ أفعالهم, والتـي بعدها نبهت بذمّ النصارى والـخبر عن افترائهم علـى ربهم, ولـم يَجْرِ لقريش ولا لـمشركي العرب ذكر, ولا للـمسجد الـحرام قبلها, فـيوجه الـخبر بقول الله عز وجل: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ إلـيهم وإلـى الـمسجد الـحرام. وإذْ كان ذلك كذلك, فـالذي هو أَوْلـى بـالآية أن يوجه تأويـلها إلـيه, هو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها, إذ كان خبرها لـخبرهما نظيرا وشكلاً, إلاّ أن تقوم حجة يجب التسلـيـم لها بخلاف ذلك وإن اتفقت قصصها فـاشتبهت.
فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا فـي ذلك لـيس كذلك, إذْ كان الـمسلـمون لـم يـلزمهم قط فرض الصلاة فـي الـمسجد الـمقدس, فمنعوا من الصلاة فـيه, فـيـلـجئون توجيه قوله: وَمَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ إلـى أنه معنـيّ به مسجد بـيت الـمقدس فقد أخطأ فـيـما ظنّ من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنـما ذكر ظلـم من منع من كان فرضه الصلاة فـي بـيت الـمقدس من مؤمنـي بنـي إسرائيـل, وإياهم قصد بـالـخبر عنهم بـالظلـم والسعي فـي خراب الـمسجد, وإن كان قد دلّ بعموم قوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ أن كل مانع مصلـيا فـي مسجد لله فرضا كانت صلاته فـيه أو تطوّعا, وكل ساع فـي إخرابه فهو من الـمعتدين الظالـمين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ ما كان لَهُمْ أنْ يَدْخُـلُوها إلا خائِفِـينَ.
وهذا خبر من الله عزّ وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه, أنه قد حرّم علـيهم دخول الـمساجد التـي سعوا فـي تـخريبها ومنعوا عبـاد الله الـمؤمنـين من ذكر الله عز وجل فـيها ما داموا علـى مناصبة الـحرب إلا علـى خوف ووجل من العقوبة علـى دخولهموها. كالذي:
1383ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ما كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُـلُوها إلا خائِفِـينَ وهم الـيوم كذلك, لا يوجد نصرانـي فـي بـيت الـمقدس إلا نُهك ضربـا وأبلغ إلـيه فـي العقوبة.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال الله عزّ وجل: ما كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُـلُوهَا إِلاّ خَائِفِـينَ وهم النصارى, فلا يدخـلون الـمسجد إلا مسارقة, إن قُدر علـيهم عوقبوا.
1384ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أُولَئِكَ ما كَانَ لَهُمْ أنْ يَدْخُـلُوهَا إلا خَائِفِـينَ فلـيس فـي الأرض روميّ يدخـلها الـيوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه, أو قد أُخيف بأداء الـجزية فهو يؤدّيها.
1385ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: أُولَئِكَ ما كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُـلُوهَا إِلاّ خَائِفِـينَ قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَحُجّ بَعْدَ العامِ مُشْرِك, ولا يَطُوفُ بـالبَـيْتِ عُرْيان» قال: فجعل الـمشركون يقولون: اللهم إنا منعنا أن ننزل.
وإنـما قـيـل: أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُـلُوهَا إلا خَائِفِـينَ فأخرج علـى وجه الـخبر عن الـجميع وهو خبر عمن منع مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه لأن «مَنْ» فـي معنى الـجميع, وإن كان لفظه واحدا.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لَهُمْ فِـي الدّنْـيَا خِزْي ولهُمْ فـي الاَخِرَةِ عَذَاب عَظِيـم.
فأما قوله عز وجل: لهم فإنه يعنـي الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه.
وأما قوله: لَهُمْ فِـي الدّنْـيَا خِزْيٌ فإنه يعنـي بـالـخزي: العار والشرّ. والذلة إما القتل والسبـاء, وإما الذلة والصغار بأداء الـجزية. كما:
1386ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: لَهُمْ فِـي الدّنْـيَا خِزْيٌ قال: يعطون الـجزية عن يد وهم صاغرون.
1387ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: لَهُمْ فِـي الدّنْـيَا خِزْيٌ أما خزيهم فـي الدنـيا: فإنهم إذا قام الـمهديّ وفتـحت القسطنطينـية قتلهم, فذلك الـخزي وأما العذاب العظيـم: فإنه عذاب جهنـم الذي لا يخفف عن أهله, ولا يُقْضَى علـيهم فـيها فـيـموتوا.
وتأويـل الآية: لهم فـي الدنـيا الذلة والهوان والقتل والسبـي, علـى منعهم مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه, وسعيهم فـي خرابها. ولهم علـى معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم فـي الأرض فسادا عذابُ جهنـم, وهو العذاب العظيـم.
الآية : 115
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ لله ملكهما وتدبـيرهما, كما يقال: لفلان هذه الدار, يعنـي بها أنها له ملكا, فذلك قوله: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ يعنـي أنهما له ملكا وخـلقا. والـمشرق: هو موضع شروق الشمس, وهو موضع طلوعها, كما يقال لـموضع طلوعها منه مَطْلِع بكسر اللام, وكما بـينا فـي معنى الـمساجد آنفـا.
فإن قال قائل: أوَ ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد حتـى قـيـل: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ؟ قـيـل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إلـيه, وإنـما معنى ذلك: ولله الـمشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم, والـمغرب الذي تغرب فـيه كل يوم. فتأويـله إذا كان ذلك معناه: ولله ما بـين قُطْرَي الـمشرق, وما بـين قُطري الـمغرب, إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلـى الـحَوْلِ الذي بعده, وكذلك غروبها كل يوم.
فإن قال: أَوَ لـيس وإن كان تأويـل ذلك ما ذكرت فللّه كل ما دونه؟ الـخـلقُ خـلقُه قـيـل: بلـى.
فإن قال: فكيف خصّ الـمشارق والـمغارب بـالـخبر عنها أنها له فـي هذا الـموضع دون سائر الأشياء غيرها؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله خَصّ الله ذكر ذلك بـما خصه به فـي هذا الـموضع, ونـحن مبـينو الذي هو أولـى بتأويـل الآية بعد ذكرنا أقوالهم فـي ذلك. فقال بعضهم: خصّ الله جل ثناؤه ذلك بـالـخبر من أجل أن الـيهود كانت توجه فـي صلاتها وجوهَها قِبَلَ بـيت الـمقدس, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة, ثم حُوّلوا إلـى الكعبة, فـاستنكرت الـيهود ذلك من فعل النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التـي كانُوا عَلَـيْهَا فقال الله تبـارك وتعالـى لهم: الـمشارق والـمغارب كلها لـي أُصرّفُ وجوه عبـادي كيف أشاء منها, فحيثما تُوَلّوا فثم وجه الله. ذكر من قال ذلك:
1388ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: كان أوّل ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما هاجر إلـى الـمدينة, وكان أكثر أهلها الـيهود, أمره الله عزّ وجلّ أن يستقبل بـيت الـمقدس, ففرحت الـيهود, فـاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم علـيه السلام فكان يدعو وينظر إلـى السماء, فأنزل الله تبـارك وتعالـى: قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ إلـى قوله: فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فـارتاب من ذلك الـيهود, وقالوا: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التـي كانُوا عَلَـيْهَا فأنزل الله عزّ وجلّ: قُلِ لِلّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ وقال: «أيْنَـما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ».
1389ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي نـحوه.
وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم وعلـى الـمؤمنـين به التوجه شطر الـمسجد الـحرام. وإنـما أنزلها علـيه معلـما نبـيه علـيه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي الـمشرق والـمغرب لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية, إلا كان جل ثناؤه فـي ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له الـمشارق والـمغارب, وأنه لا يخـلو منه مكان, كما قال جل وعزّ: ولا أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أكْثَرَ إلا هُوَ مَعَهُمْ أيْنَـمَا كانُوا قالوا: ثم نسخ ذلك بـالفرض الذي فرض علـيهم فـي التوجه شطر الـمسجد الـحرام. ذكر من قال ذلك:
1390ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ فَأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ ثم نسخ ذلك بعد ذلك, فقال الله: ومِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ.
1391ـ حدثت عن الـحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ قال: هي القبلة, ثم نسختها القبلة إلـى الـمسجد الـحرام.
1392ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال, قال: حدثنا همام, قال: حدثنا يحيى, قال: سمعت قتادة فـي قول الله: فأيْنَـمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ قال: كانوا يصلون نـحو بـيت الـمقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بـمكة قبل الهجرة, وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلـى نـحو بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا, ثم وجه بعد ذلك نـحو الكعبة البـيت الـحرام, فنسخها الله فـي آية أخرى: فَلْنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةَ تَرْضَاها إلـى: وَحَيْثُمَا كُنْتُـمُ فَولّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة.
1393ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعته يعنـي زيدا يقول: قال عز وجل لنبـيه صلى الله عليه وسلم: فَأينَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِع عَلِـيـم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَولاَءِ قَوْمُ يَهُود يَسْتَقْبِلُونَ بَـيْتا مِنْ بُـيُوتِ اللّهِ لَوْ أنّا اسْتَقْبَلْنَاهُ» فـاستقبله النبـيّ صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا. فبلغه أن يهود تقول: والله ما دري مـحمد وأصحابه أين قبلتهم حتـى هديناهم فكره ذلك النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ورفع وجهه إلـى السماء, فقال الله عز وجل: قَدْ نَرى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ الآية.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم إذنا من الله عز وجل له أن يصلـي التطوّع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب, فـي مسيره فـي سفره, وفـي حال الـمسايفة, وفـي شدّة الـخوف, والتقاء الزحوف فـي الفرائض. وأعلـمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك, بقوله: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأيْنَـمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ. ذكر من قال ذلك:
1394ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: حدثنا عبد الـملك, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عمر أنه كان يصلـي حيث توجهت به راحلته, ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك, ويتأول هذه الآية: أيْنَـمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ.
1395ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا ابن فضيـل, عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عمر أنه قال: «إنـما نزلت هذه الآية: «أيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ» أن تصلـي حيثما توجهتْ بك راحلتك فـي السفر تطوعا, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلـي علـى راحلته تطوّعا يومىء برأسه نـحو الـمدينة».
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية فـي قوم عميت علـيهم القبلة فلـم يعرفوا شَطْرَها, فصلوا علـى أنـحاء مختلفة, فقال الله عزّ وجلّ لهم: لـي الـمشارق والـمغارب, فأنّى ولـيتـم وجوهكم فهنالك وجهي, وهو قِبْلَتُكم معلـمهم بذلك أن صلاتهم ماضية. ذكر من قال ذلك:
1396ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا أبو الربـيع السمان, عن عاصم بن عبـيد الله, عن عبد الله بن عامر بن ربـيعة, عن أبـيه, قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي لـيـلة سوداء مظلـمة, فنزلنا منزلاً, فجعل الرجل يأخذ الأحجار فـيعمل مسجدا يصلـي فـيه. فلـما أصبحنا, إذا نـحن قد صلـينا علـى غير القبلة, فقلنا: يا رسول الله لقد صلـينا لـيـلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله عز وجل: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأيْنَـما تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ».
1397ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنـي الـحجاج, قال: حدثنا حماد, قال: قلت للنـخعي: إنـي كنت استـيقظت أو قال أُوقِظْتُ, شكّ الطبري فكان فـي السماء سحاب, فصلـيت لغير القبلة. قال: مضت صلاتك, يقول الله عزّ وجلّ: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ.
حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي عن أشعث السمان, عن عاصم بن عبـيد الله, عن عبد الله بن عامر بن ربـيعة, عن أبـيه, قال: كنا مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي لـيـلة مظلـمة فـي سفر, فلـم ندر أين القبلة فصلـينا, فصلـى كل واحد منا علـى حياله. ثم أصبحنا فذكرنا للنبـيّ صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عزّ وجلّ: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية فـي سبب النـجاشي لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنازعوا فـي أمره من أجل أنه مات قبل أن يصلـي إلـى القبلة, فقال الله عز وجل: الـمشارق والـمغارب كلها لـي, فمن وجّه وَجْهَه نـحو شيء منها يريدنـي به ويبتغي به طاعتـي, وجدنـي هنالك. يعنـي بذلك أن النـجاشي وإن لـم يكن صلـى إلـى القبلة, فإنه قد كان يوجه إلـى بعض وجوه الـمشارق والـمغارب وجهه, يبتغي بذلك رضا الله عزّ وجل فـي صلاته. ذكر من قال ذلك:
1398ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا هشام بن معاذ, قال: حدثنـي أبـي, عن قتادة أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنّ أخاكُمْ النّـجاشِيّ قَدْ ماتَ فَصَلّوا عَلَـيْهِ» قالوا: نصلـي علـى رجل لـيس بـمسلـم قال: فنزلت: وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بِـاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ خاشعِينَ لِلّهِ قال قتادة: فقالوا إنه كان لا يصلـي إلـى القبلة, فأنزل الله عزّ وجل: ولِلّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك: أن الله تعالـى ذكره إنـما خصّ الـخبر عن الـمشرق والـمغرب فـي هذه الآية بأنهما له ملكا وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك إعلاما منه عبـاده الـمؤمنـين أن له ملكهما وملك ما بـينهما من الـخـلق, وأن علـى جميعهم إذْ كان له ملكهم طاعته فـيـما أمرهم ونهاهم, وفـيـما فرض علـيهم من الفرائض, والتوجه نـحو الوجه الذي وجهوا إلـيه, إذْ كان من حكم الـمـمالـيك طاعة مالكهم. فأخرج الـخبر عن الـمشرق والـمغرب, والـمراد به من بـينهما من الـخـلق, علـى النـحو الذي قد بـينت من الاكتفـاء بـالـخبر عن سبب الشيء من ذكره والـخبر عنه, كما قـيـل: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْل وما أشبه ذلك.
ومعنى الآية إذا: ولله ملك الـخـلق الذي بـين الـمشرق والـمغرب يتعبدهم بـما شاء, ويحكم فـيهم ما يريد علـيهم طاعته فولّوا وجوهكم أيها الـمؤمنون نـحو وجهي, فإنكم أينـما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي.
فأما القول فـي هذه الآية ناسخة أم منسوخة, أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فـالصواب فـيه من القول أن يقال: إنها جاءت مـجيء العموم, والـمراد الـخاص وذلك أن قوله: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ مـحتـمل: أينـما تولوا فـي حال سيركم فـي أسفـاركم, فـي صلاتكم التطوّع, وفـي حال مسايفتكم عدوّكم, فـي تطوّعكم ومكتوبتكم, فَثمّ وجه الله كما قال ابن عمر والنـخعي ومن قال ذلك مـمن ذكرنا عنه آنفـا.
ومـحتـمل: فأينـما تُولّوا من أرض الله فتكونوا بها فَثَمّ قِبْلَةُ الله التـي توجهون وجوهكم إلـيها لأن الكعبة مـمكن لكم التوجه إلـيها منها. كما قال أبو كريب:
1399ـ قال ثنا وكيع, عن أبـي سنان, عن الضحاك, والنضر بن عربـي, عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجل: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ قال: قبلة الله, فأينـما كنت من شرق أو غرب فـاستقبلها.
1400ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي إبراهيـم, عن ابن أبـي بكر, عن مـجاهد, قال: حيثما كنتـم فلكم قبلة تستقبلونها, قال: الكعبة.
ومـحتـمل: فأينـما تولوا وجوهكم فـي دعائكم فهنالك وجهي أستـجيب لكم دعاءكم. كما:
1401ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال مـجاهد: لـمّا نزلت: ادْعُونـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ قالوا: إلـى أين؟ فنزلت: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ.
فإذ كان قوله عز وجل: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ مـحتـملاً ما ذكرنا من الأوجه, لـم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسلـيـم لها لأن الناس لا يكون إلا بـمنسوخ, ولـم تقم حجة يجب التسلـيـم لها بأن قوله: فأيْنَـمَا تُولّوا فَثَمّ وجْهُ اللّه معنـيّ به: فأينـما توجهوا وجوهكم فـي صلاتكم فثم قبلتكم. ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نـحو بـيت الـمقدس أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نـحو الكعبة, فـيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نـحو بـيت الـمقدس إذْ كان من أهل العلـم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين, من ينكر أن تكون نزلت فـي ذلك الـمعنى. ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتٌ بأنها نزلت فـيه, وكان الاختلاف فـي أمرها موجودا علـى ما وصفت. ولا هي إذْ لـم تكن ناسخة لـما وصفنا قامت حجتها بأنها منسوخة, إذ كانت مـحتـملة ما وصفنا بأن تكون جاءت بعموم, ومعناها: فـي حال دون حال إن كان عنـي بها التوجه فـي الصلاة, وفـي كل حال إن كان عنـي بها الدعاء, وغير ذلك من الـمعانـي التـي ذكرنا.
وقد دللنا فـي كتابنا: «كتاب البـيان عن أصول الأحكام», علـى أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبـار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ ما نفـي حكما ثابتا, وألزم العبـاد فرضه غير مـحتـمل بظاهره وبـاطنة غير ذلك. فأما إذا ما احتـمل غير ذلك من أن يكون بـمعنى الاستثناء أو الـخصوص والعموم, أو الـمـجمل, أو الـمفسر, فمن الناسخ والـمنسوخ بـمعزل, بـما أغنى عن تكريره فـي هذا الـموضع. ولا منسوخ إلا الـمنفـي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه, ولـم يصحّ واحد من هذين الـمعنـيـين لقوله: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثمّ وَجْهُ اللّهِ بحجة يجب التسلـيـم لها, فـيقال فـيه: هو ناسخ أو منسوخ.
وأما قوله: فأينـما فإن معناه: حيثما.
وأما قوله: تُوَلّوا فإن الذي هو أولـى بتأويـله أن يكون تولون نـحوه وإلـيه, كما يقول القائل: ولّـيت وجهي (نـحوه) وولـيته إلـيه, بـمعنى: قابلته وواجهته. وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الآية لإجماع الـحجة علـى أن ذلك تأويـله وشذوذ من تأوله بـمعنى: تولون عنه فتستدبرونه, فـالذي تتوجهون إلـيه وجه الله, بـمعنى قبلة الله.
وأما قوله: فَثَمّ فإنه بـمعنى: هنالك.
واختلف فـي تأويـل قوله: فَثَمّ (وجه الله) فقال بعضهم: تأويـل ذلك: فثم قبلة الله, يعنـي بذلك: وجهه الذي وجههم إلـيه. ذكر من قال ذلك:
1402ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن النضر بن عربـي, عن مـجاهد: فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ قال: قبلة الله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي إبراهيـم, عن مـجاهد, قال: حيثما كنتـم فلكم قبلة تستقبلونها.
وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل فثم وجه الله فثم الله تبـارك وتعالـى.
وقال آخرون: معنى قوله: فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ فثم تدركون بـالتوجه إلـيه رضا الله الذي له الوجه الكريـم.
وقال آخرون: عنى بـالوجه: ذا الوجه, وقال قائلوا هذه الـمقالة: وجهُ الله صفةٌ له.
فإن قال قائل: وما هذه الآية من التـي قبلها؟ قـيـل: هي لها مواصلة, وإنـما معنى ذلك: ومن أظلـم من النصارى الذين منعوا عبـاد الله مساجده أن يذكر فـيها اسمه, وَسَعْوا فـي خرابها, ولله الـمشرق والـمغرب, فأينـما تُوجهوا وجوهَكم فـاذكروه, فإن وجهه هنالك يَسَعُكم فضله وأرضه وبلاده, ويعلـم ما تعملون, ولا يـمنعكم تـخريب من خرّب مسجد بـيت الـمقدس, ومنعهم من منعوا من ذكر الله فـيه أن تذكروا الله حيث كنتـم من أرض الله تبتغون به وجهه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِـيـم.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَاسِعٌ يسع خَـلْقَه كلهم بـالكفـاية والأفضال والـجود والتدبـير.
وأما قوله: عَلِـيـم فإنه يعنـي أنه علـيـم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علـمه, بل هو بجميعها علـيـم.
الآية : 116
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَقَالُوا اتّـخَذَ اللّهُ وَلَدا الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه, وقالوا معطوف علـى قوله: وَسَعَى فـي خَرَابِها.
وتأويـل الآية: ومن أظلـم مـمن منع مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه وسعى فـي خرابها, وقالوا اتـخذ الله ولدا وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذّبـا قِـيـلَهم ما قالوا من ذلك ومنتفـيا مـما نـحلوه وأضافوا إلـيه بكذبهم وفريتهم. سبحانه يعنـي بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد, وعلوّا وارتفـاعا عن ذلك. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى قول القائل: «سبحان الله» بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما فـي السموات والأرض مِلْكا وخـلقا, ومعنى ذلك: وكيف يكون الـمسيح لله ولدا, وهو لا يخـلو إما أن يكون فـي بعض هذه الأماكن إما فـي السموات, وإما فـي الأرض, ولله ملك ما فـيهما؟ ولو كان الـمسيح ابنا كما زعمتـم لـم يكن كسائر ما فـي السموات والأرض من خـلقه وعبـيده فـي ظهور آيات الصنعة فـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون. ذكر من قال ذلك:
1403ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ: مطيعون.
1404ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ قال: مطيعون, قال: طاعة الكافر فـي سجود ظله.
1405ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بـمثله, إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره.
1406ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ يقول: كل له مطيعون يوم القـيامة.
1407ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنـي يحيى بن سعيد, عمن ذكره, عن عكرمة: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ قال: الطاعة.
1408ـ حدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: قانِتون: مطيعون.
وقال آخرون: معنى ذلك كلّ له مُقرّون بـالعبودية. ذكر من قال ذلك:
1409ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن يزيد النـحوي, عن عكرمة: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ كل مقّر له بـالعبودية. وقال آخرون بـما:
1410ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ قال: كل له قائم يوم القـيامة. والقنوت فـي كلام العرب معان: أحدها الطاعة, والاَخر القـيام, والثالث الكفّ عن الكلام والإمساك عنه.
وأولـى معانـي القنوت فـي قوله: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ الطاعة والإقرار لله عز وجل بـالعبودية بشهادة أجسامهم بـما فـيها من آثار الصنعة, والدلالة علـى وحدانـية الله عز وجل, وأن الله تعالـى ذكره بـارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله: بل له ما فـي السموات والأرض ملكا وخـلقا. ثم أخبر عن جميع ما فـي السموات والأرض أنها مقرّة بدلالتها علـى ربها وخالقها, وأن الله تعالـى بـارئها وصانعها. وإنْ جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بـالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التـي فـيها بذلك, وأن الـمسيح أحدهم, فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أن قوله: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ خاصة لأهل الطاعة ولـيست بعامة. وغير جائز ادّعاء خصوص فـي آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسلـيـم لها لـما قد بـينا فـي كتابنا: «كتاب البـيان عن أصول الأحكام».
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن أن الـمسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن الله مُكَذّبهم هو والسموات والأرض وما فـيها, إما بـاللسان, وإما بـالدلالة وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم بطاعتهم إياه وإقرارهم له بـالعبودية عقـيب قوله: وَقَالُوا اتّـخَذَ اللّهُ وَلَدا فدلّ ذلك علـى صحة ما قلنا.
الآية : 117
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
يعنـي جل ثناؤه بقوله: بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ مبدعها. وإنـما هو «مُفْعل» صرّف إلـى «فَعِيـل», كما صرّف الـمؤلـم إلـى ألـيـم, والـمسمع إلـى سميع. ومعنى الـمبدع: الـمنشىء والـمـحدث ما لـم يسبقه إلـى إنشاء مثله وإحداثه أحد ولذلك سمي الـمبتدع فـي الدين مبتدعا, لإحداثه فـيه ما لـم يسبقه إلـيه غيره. وكذلك كل مـحدث فعلاً أو قولاً لـم يتقدّمه فـيه متقدّم, فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بنـي ثعلبة فـي مدح هوذة بن علـيّ الـحنفـي:
يَرْعَى إلـى قَوْلِ سادَاتِ الرّجالِ إذَاأبْدَوْا لَهُ الـحَزْمَ أوْ ما شَاءَهُ ابْتَدَعا
أي يحدث ما شاء. ومنه قول رؤبة بن العجّاج:
فأيّها الغاشِي القِذَافَ الأتْـيَعاإنْ كُنْتَ لِلّهِ التّقِـيّ أَلاطْوَعا
فَلَـيْسَ وَجْهُ الـحَقّ أنْ تَبَدّعا
يعنـي: أن تـحدث فـي الدين ما لـم يكن فـيه.
فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما فـي السموات والأرض, تشهد له جميعا بدلالتها علـيه بـالوحدانـية, وتقرّ له بـالطاعة وهو بـارئها وخالقها, وموجدها من غير أصل, ولا مثال احتذاها علـيه وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عبـاده, أن مـما يشهد له بذلك الـمسيح الذي أضافوا إلـى الله جل ثناؤه بنوّته, وإخبـار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلـى غير مثال, هو الذي ابتدع الـمسيح من غير والد بقدرته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1411ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يقول: ابتدع خـلقها, ولـم يشركه فـي خـلقها أحد.
1412ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يقول: ابتدعها فخـلقها, ولـم يخـلق مثلها شيئا فتتـمثل به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا وإذا أحكم أمرا وحَتَـمه. وأَصْلُ كل قضاء أمرٍ الإحكامُ والفراغ منه ومن ذلك قـيـل للـحاكم بـين الناس: القاضي بـينهم, لفصله القضاء بـين الـخصوم, وقَطْعه الـحكم بـينهم وفراغه منه. ومنه قـيـل للـميت: قد قَضَى, يراد به قد فرغ من الدنـيا, وفصل منها. ومنه قـيـل: ما ينقضي عجبـي من فلان, يراد: ما ينقطع. ومنه قـيـل: تَقَضّى النهارُ: إذا انصرم. ومنه قول الله عز وجل: وَقَضَى رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيَاهُ أي فصل الـحكم فـيه بـين عبـاده بأمره إياهم بذلك, وكذلك قوله: وَقَضَيْنَا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكِتابِ أي أعلـمناهم بذلك وأخبرناهم به, ففرغنا إلـيهم منه. ومنه قول أبـي ذؤيب:
وَعَلَـيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُمادَاوُدُ أوْ صَنَعَ السّوَابِغِ تُبّعُ
ويُروى: «وتَعاوَرَا مَسْرُودَتـينِ قَضَاهُما».
ويعنـي بقوله: قضاهما: أحكمهما. ومنه قول الاَخر فـي مدح عمر بن الـخطاب رضي الله عنه:
قَضَيْتُ أُمُورا ثُمّ غَادَرْتَ بَعْدَهابِوَائِقَ فـي أكْمَامِها لَـمْ تَفَتُقِ
ويروى: «بوائج».
وأما قوله: فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ فإنه يعنـي بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتـمه, فإنـما يقول لذلك الأمر «كُنْ», فـيكون ذلك الأمر علـى ما أمره الله أن يكون وأراده.
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ؟ وفـي أيّ حال يقول للأمر الذي يقضيه كُنْ؟ أفـي حال عدمه, وتلك حال لا يجوز فـيها أمره, إذ كان مـحالاً أن يأمر إلا الـمأمور, فإذا لـم يكن الـمأموم استـحال الأمر وكما مـحال الأمر من غير آمر, فكذلك مـحال الأمر من آمر إلا لـمأمور. أم يقول له ذلك فـي حال وجوده, وتلك حال لا يجوز أمره فـيها بـالـحدوث, لأنه حادث موجود, ولا يقال للـموجود: كن موجودا إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟ قـيـل: قد تنازع الـمتأوّلون فـي معنى ذلك ونـحن مخبرون بـما قالوا فـيه, والعلل التـي اعتلّ بها كل فريق منهم لقوله فـي ذلك:
قال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره الـمـحتوم علـى وجه القضاء لـمن قضى علـيه قضاء من خـلقه الـموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فـيه قضاؤه, ومضى فـيه أمره, نظير أَمْرِهِ من أَمَرَ من بنـي إسرائيـل بأن يكونوا قردة خاسئين, وهم موجودون فـي حال أمره إياهم بذلك, وحتـم قضائه علـيهم بـما قضى فـيهم, وكالذي خسف به وبداره الأرض, وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فـيـمن كان موجودا من خـلقه فـي حال أمره الـمـحتوم علـيه. فوجه قائلوا هذا القول قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ إلـى الـخصوص دون العموم.
وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها, فلـيس لأحد أن يحيـلها إلـى بـاطن بغير حجة يجب التسلـيـم لها, وقال: إن الله عالـم بكل ما هو كائن قبل كونه. فلـما كان ذلك كذلك كانت الأشياء التـي لـم تكن وهي كائنة لعلـمه بها قبل كونها, نظائر التـي هي موجودة, فجاز أن يقول لها: «كونـي», ويأمرها بـالـخروج من حال العدم إلـى حال الوجود, لتصوّر جميعها له, ولعلـمه بها فـي حال العدم.
وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم, فتأويـلها الـخصوص لأن الأمر غير جائز إلا لـمأمور علـى ما وصفت قبل.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك, فـالآية تأويـلها: وإذا قضى أمرا من إحياء ميت, أو إماتة حيّ, ونـحو ذلك, فإنـما يقول لـحيّ كُنْ ميتا, أو لـميت كُنْ حيا, وما أشبه ذلك من الأمر.
وقال آخرون: بل ذلك من الله عزّ وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكوّنه أنه إذا قضاه وخـلقه وأنشأه كان ووُجِدَ. ولا قول هنالك عند قائلـي هذه الـمقالة إلا وجود الـمخـلوق, وحدوث الـمقضي وقالوا: إنـما قول الله عزّ وجل: وَإِذَا قَضَى أَمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ نظير قول القائل: قال فلان برأسه, وقال بـيده إذا حرّك رأسه أو أومأ بـيده ولـم يقل شيئا. وكما قال أبو النـجم:
وقَالَتِ الأنْسَاعُ للبَطْنِ الـحَقِقِدْما فآضَتْ كالفَنِـيقِ الـمُـحْنِقِ
ولا قول هنالك, وإنـما عنى أن الظهر قد لـحق بـالبطن. وكما قال عمرو بن حُمـمة الدوسي:
فأصْبَحْتُ مِثْلَ النّسْرِ طارَتْ فِرَاخُهُإذَا رَامَ تَطْيارا يُقال لَهُ قَعِ
ولا قول هناك, وإنـما معناه: إذا رام طيرانا ووقع, وكما قال الاَخر:
امْتَلأ الـحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِـيسَيْلاً رُوَيْدا قَدْ مَلأتُ بَطْنِـي
وأولـى الأقوال بـالصواب فـي قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ أن يقال: هو عامّ فـي كل ما قضاه الله وبرأه, لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم, وغير جائز إحالة الظاهر إلـى البـاطن من التأويـل بغير برهان لـما قد بـينا فـي كتابنا: «كتاب البـيان عن أصول الأحكام». وإذْ كان ذلك كذلك, فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: كُنْ فـي حال إرادته إياه مكوّنا, لا يتقدّم وجودَ الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه, ولا أمره بـالكون والوجود, ولا يتأخر عنه. فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بـالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود, ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بـالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السمّاءُ والأرْض بأمْرِهِ ثُمّ إذَا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أَنْتُـمْ تَـخْرُجُونَ بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله, ولا يتأخر عنه.
ويسأل من زعم أن قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ خاصّ فـي التأويـل اعتلالاً بأن أمر غير الـموجود غير جائز, عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم, أم بعده؟ أم هي فـي خاصّ من الـخـلق؟ فلن يقول فـي ذلك قولاً إلا أُلزم فـي الاَخر مثله.
ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: فَـانّـمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ نظير قول القائل: قال فلان برأسه أو بـيده, إذا حرّكه وأومأ, ونظير قول الشاعر:
تَقُولُ إذَا دَرأتُ لَهَا وَضِينِـيأهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِينِـي
وما أشبه ذلك؟ فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ولا كتاب الله, وما دلت علـى صحته الأدلة اتبعوا. فـيقال لقائلـي ذلك: إن الله تعالـى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له: «كُنْ», أفتنكرون أن يكون قائلاً ذلك؟ فإن أنكروه كذّبوا بـالقرآن, وخرجوا من الـملة, وإن قالوا: بل نقرّ به, ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل: قال الـحائط فمال ولا قول هنالك, وإنـما ذلك خبر عن ميـل الـحائط. قـيـل لهم: أفتـجيزون للـمخبر عن الـحائط بـالـميـل أن يقول: إنـما قول الـحائط إذا أراد أن يـميـل أن يقول هكذا فـيـميـل؟
فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب, وخالفوا منطقها وما يعرف فـي لسانها. وإن قالوا: ذلك غير جائز, قـيـل لهم: إن الله تعالـى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كُنْ فـيكون, فأعلـم عبـاده قوله الذي يكون به الشيء وَوَصَفَه ووَكّده. وذلك عندكم غير جائز فـي العبـارة عما لا كلام له ولا بـيان فـي مثل قول القائل: قال الـحائط فمال. فكيف لـم يعلـموا بذلك فَرْقَ ما بـين معنى قول الله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونَ وقول القائل: قال الـحائط فمال؟ وللبـيان عن فساد هذه الـمقالة موضع غير هذا نأتـي فـيه علـى القول بـما فـيه الكفـاية إن شاء الله.
وإذا كان الأمر فـي قوله جل ثناؤه: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بـالوجود حال وجود الـمأمور بـالوجود, فتبـين بذلك أن الذي هو أولـى بقوله: فَـيَكُونُ رفع علـى العطف علـى قوله: يقول لأن القول والكون حالهما واحد. وهو نظير قول القائل: تاب فلان فـاهتدى, واهتدى فلان فتاب لأنه لا يكون تائبـا إلا وهو مهتد, ولا مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يـمكن أن يكون الله آمرا شيئا بـالوجود إلا وهو موجود, ولا موجودا إلا وهو آمره بـالوجود ولذلك استـجاز من استـجاز نَصْبَ «فَـيَكُونَ» مَنْ قَرأ: إِنّـمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أرَدْنَاهُ أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونَ بـالـمعنى الذي وصفنا علـى معنى: أن نقول فـيكون.
وأما رَفْعُ من رَفَعَ ذلك, فإنه رأى أن الـخبر قد تـمّ عند قوله: إِذَا أَرَدْنَاهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ إذ كان معلوما أن الله إذا حتـم قضاءه علـى شيء كان الـمـحتوم علـيه موجودا, ثم ابتدأ بقوله: «فـيكون, كما قال جل ثناؤه: لِنُبَـيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِـي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ, وكما قال ابن أحمر:
يُعالِـجُ عاقِرا أعْيَتْ عَلَـيْهِلِـيُـلْقِحَها فَـيَنْتِـجُها حُوَارَا
يريد: فإذا هو ينتـجها حُوَارا.
فمعنى الآية إذا: وقالوا اتـخذ الله ولدا, سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والأرض وما فـيهما, كل ذلك مقرّ له بـالعبودية بدلالته علـى وحدانـيته. وأنّى يكون له ولد, وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل, كالذي ابتدع الـمسيح من غير والد بقدرته وسلطانه, الذي لا يتعذّر علـيه به شيء أراده بل إنـما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه: «كُنْ», فـيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه الـمسيح وإنشاءه إذْ أراد خـلقه من غير والد.
الآية : 118
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى الله بقوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّهُ فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى. ذكر من قال ذلك:
1413ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله جل وعز: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلا يُكَلّـمُنا اللّهُ أوْ تَأتِـينا آيَةٌ قال: النصارى تقولُه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله وزاد فـيه وَقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ: النّصَارَى.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الـيهود الذين كانوا فـي زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
1414ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: قال رافع بن حريـملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولاً من عند الله كما تقول, فقل لله عز وجلّ فلـيكلـمنا حتـى نسمع كلامه فأنزل الله عز وجل فـي ذلك من قوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّهُ أوْ تَأتِـينَا آيَةٌ الآية كلها.
وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب. ذكر من قال ذلك:
1415ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّهُ أوْ تَأتِـينا آيَةٌ وهم كفـار العرب.
1416ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّهُ قال: هم كفـار العرب.
1417ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّهُ أما الذين لا يعلـمون: فهم العرب.
وأولـى هذه الأقوال بـالصحة والصواب قول القائل: إن الله تعالـى عنى بقوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ النصارى دون غيرهم لأن ذلك فـي سياق خبر الله عنهم, وعن افترائهم علـيه وادّعائهم له ولدا. فقال جل ثناؤه, مخبرا عنهم فـيـما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم علـى الله الكذب بقوله: اتّـخَذَ اللّهُ وَلَدا تـمنوا علـى الله الأبـاطيـل, فقالوا جهلاً منهم بـالله وبـمنزلتهم عنده وهم بـالله مشركون: لولا يكلـمنا الله كما يكلـم رسوله وأنبـياءه, أو تأتـينا آية كما أتتهم ولا ينبغي الله أن يكلـم إلا أولـياءه, ولا يؤتـي آيةً معجزةً علـى دعوى مدّعٍ إلا لـمن كان مـحقّا فـي دعواه وداعيا إلـى الله وتوحيده. فأما من كان كاذبـا فـي دعواه وداعيا إلـى الفرية علـيه وادّعاء البنـين والبنات له, فغير جائز أن يكلـمه الله جل ثناؤه, أو يؤتـيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته علـيه. وقال الزاعم: إن الله عنى بقوله: وَقَال الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ العرب, فإنه قائل قولاً لا خبر بصحته ولا برهان علـى حقـيقته فـي ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلـى ذلك كان واضحا خطؤه, لأنه ادّعى ما لا برهان علـى صحته, وادّعاءُ مثل ذلك لن يتعذّر علـى أحد.
وأما معنى قوله: لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّهُ فإنه بـمعنى: هلاّ يكلـمنا الله كما قال الأشهب بن رميـلة:
تَعُدّونَ عَقْرَ النّـيبِ أفْضَلَ مَـجْدِكُمْبَنِـي ضَوْطَرَي لَوْلاَ الكَميّ الـمُقَنّعا
بـمعنى: فهلاّ تعدّون الكمي الـمقنع؟ كما:
1418ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لَوْلا يُكَلّـمُنَا اللّهُ قال: فهلاّ يكلـمنا الله.
قال أبو جعفر: فأما الآية فقد ثبت فـيـما قبل معنى الآية أنها العلامة. وإنـما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: هلاّ تأتـينا آية علـى ما نريده ونسأل, كما أتت الأنبـياء والرسل فقال عز وجلّ: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ.
اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى الله بقوله: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ, فقال بعضهم فـي ذلك بـما:
1419ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ هم الـيهود.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الـيهود.
وقال آخرون: هم الـيهود والنصارى, لأن الذين لا يعلـمون هم العرب. ذكر من قال ذلك:
1420ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: قالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنـي الـيهود والنصارى وغيرهم.
1421ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: قالوا يعنـي العرب, كما قالت الـيهود والنصارى من قبلهم.
1422ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يعنـي الـيهود والنصارى.
قال أبو جعفر: قد دللنا علـى أن الذين عنى الله تعالـى ذكره بقوله: وقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّهُ هم النصارى, والذين قالت مثل قولهم هم الـيهود, وسألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة, وأن يسمعهم كلام ربهم, كما قد بـينا فـيـما مضى من كتابنا هذا, وسألوا من الاَيات ما لـيس لهم مسألته تـحكّما منهم علـى ربهم, وكذلك تـمنت النصارى علـى ربها تـحكما منها علـيه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الاَيات. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول فـي ذلك مثل الذي قالته الـيهود وتـمنت علـى ربها مثل أمانـيها, وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنـما يشابه قول الـيهود من أجل تشابه قلوبهم فـي الضلالة والكفر بـالله. فهم وإن اختلفت مذاهبهم فـي كذبهم علـى الله وافترائهم علـيه, فقلوبهم متشابهة فـي الكفر بربهم والفِرْيَة علـيه, وتـحكمهم علـى أنبـياء الله ورسله علـيهم السلام. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال مـجاهد.
1423ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قلوب النصارى والـيهود.
وقال غيره: معنى ذلك تشابهت قلوب كفـار العرب والـيهود والنصارى وغيرهم. ذكر من قال ذلك:
1424ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: تَشَابَهت قلوبُهم يعنـي العرب والـيهود والنصارى وغيرهم.
1425ـ حدثنـي الـمثنى, حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ يعنـي العرب والـيهود والنصارى وغيرهم.
وغير جائز فـي قوله: تَشَابَهَتْ التثقـيـل, لأن التاء التـي فـي أوّلها زائدة أدخـلت فـي قوله: «تفـاعل», وإن ثقلت صارت تاءين ولا يجوز إدخال تاءين زائدتـين علامة لـمعنى واحد, وإنـما يجوز ذلك فـي الاستقبـال لاختلاف معنى دخولهما, لأن إحداهما تدخـل علـما للاستقبـال, والأخرى منها التـي فـي «تفـاعل», ثم تدغم إحداهما فـي الأخرى فتثقل فـيقال: تشابه بعد الـيوم قلوبنا. فمعنى الآية: وقالت النصارى الـجهال بـالله وبعظمته: هلاّ يكلـمنا الله ربنا كما كلـم أنبـياءه ورسله, أو تـجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نـحن علـيه علـى ما نسأل ونريد؟ قال الله جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الـجهال من النصارى وتـمنوا علـى ربهم. قال مَنْ قبلهم من الـيهود, فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة, ويؤتـيهم آية, واحتكموا علـيه وعلـى رسله, وتـمنوا الأمانـي. فـاشتهبت قلوب الـيهود والنصارى فـي تـمرّدهم علـى الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم علـى أنبـيائه ورسله, كما اشتبهت أقوالهم التـي قالوها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قَدْ بَـيّنا الاَياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: قَدْ بَـيّنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قد بـينا العلامات التـي من أجلها غضب الله علـى الـيهود وجعل منهم القردة والـخنازير, وأعدّ لهم العذاب الـمهين فـي معادهم, والتـي من أجلها أخزى الله النصارى فـي الدنـيا, وأعدّ لهم الـخزي والعذاب الألـيـم فـي الاَخرة, والتـي من أجلها جعل سكان الـجنان الذين أسلـموا وجوههم لله وهم مـحسنون فـي هذه السورة وغيرها. فـاعْلِـموا الأسبـاب التـي من أجلها استـحقّ كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك, وخصّ الله بذلك القوم الذين يوقنون لأنهم أهل التثبت فـي الأمور, والطالبون معرفة حقائق الأشياء علـى يقـين وصحة. فأخبر الله جل ثناؤه أنه بـيّن لـمن كانت هذه الصفة صفته ما بـيّن من ذلك لـيزول شكه, ويعلـم حقـيقة الأمر إذْ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه, وخبر الله الـخبر الذي لا يعذر سامعه بـالشكّ فـيه. وقد يحتـمل غيره من الأخبـار ما يحتـمل من الأسبـاب العارضة فـيه من السهو والغلط والكذب, وذلك منفـيّ عن خبر الله عز وجل.
الآية : 119
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
ومعنى قوله جلّ ثناؤه: إنّا أرْسَلْناكَ بـالـحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا إنا أرسلناك يا مـحمد بـالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان وهو الـحقّ مبشرا من اتبعك فأطاعك وقَبِلَ منك ما دعوته إلـيه من الـحقّ, بـالنصر فـي الدنـيا, والظفر بـالثواب فـي الاَخرة, والنعيـم الـمقـيـم فـيها ومنذرا من عصاك فخالفك وردّ علـيك ما دعوته إلـيه من الـحقّ بـالـخزي فـي الدنـيا, والذلّ فـيها, والعذاب الـمهين فـي الاَخرة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَاب الـجَحِيـمِ وقال أبو جعفر: قرأت عامة القراء: وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الـجَحِيـمِ بضم التاء من «تُسأل» ورفع اللام منها علـى الـخبر, بـمعنى: يا مـحمد إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا, فبلغت ما أرسلت به, وإنـما علـيك البلاغ والإنذار, ولست مسئولاً عمن كفر بـما أتـيته به من الـحقّ وكان من أهل الـجحيـم.
وقرأ ذلك بعض أهل الـمدينة: «وَلا تَسْألْ» جزما بـمعنى النهي مفتوح التاء من «تَسأل», وجَزْم اللام منها. ومعنى ذلك علـى قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به, لا لتسأل عن أصحاب الـجحيـم, فلا تسألْ عن حالهم. وتأوّل الذين قرءوا هذه القراءة ما:
1426ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن موسى بن عبـيدة, عن مـحمد بن كعب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَـيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ» فنزلت وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الـجَحِيـمِ.
1427ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن موسى بن عبـيدة عن مـحمد بن كعب القرظي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَـيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ لَـيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ لَـيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوايَ»» ثلاثا, فنزلت: إنّا أرْسَلْنَاكَ بـالـحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الـجَحِيـمِ فما ذكرهما حتـى توفـاه الله.
1428ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي داود بن أبـي عاصم, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «لَـيْتَ شِعْرِي أيْنَ أبَوَايَ؟» فنزلت: إنّا أرْسَلْنَاكَ بـالـحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الـجَحِيـمِ.
والصواب عندي من القراءة فـي ذلك قراءة من قرأ بـالرفع علـى الـخبر لأن الله جل ثناؤه قصّ قصص أقوام من الـيهود والنصارى, وذكر ضلالتهم, وكُفْرَهم بـالله, وجراءَتهم علـى أنبـيائه, ثم قال لنبـيه صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك يا مـحمد بشيرا من آمن بك واتبعك مـمن قصصت علـيك أنبـاءه ومن لـم أقصص علـيك أنبـاءه, ونذيرا من كفر بك وخالفك, فبلّغ رسالتـي, فلـيس علـيك من أعمال من كفر بك بعد إبلاغك إياه رسالتـي تبعة, ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولـم يجر لـمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الـجحيـم ذكر, فـيكون لقوله: وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الـجَحِيـمِ وجهٌ يوجّه إلـيه.
وإنـما الكلام موجه معناه إلـى ما دلّ علـيه ظاهره الـمفهوم, حتـى تأتـي دلالة بـيّنة تقوم بها الـحجة علـى أن الـمراد به غير ما دلّ علـيه ظاهره فـيكون حينئذ مسلـما للـحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الـحجة علـى أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم نُهي عن أن يسأل فـي هذه الآية عن أصحاب الـجحيـم, ولا دلالة تدلّ علـى أن ذلك كذلك فـي ظاهر التنزيـل.
والواجب أن يكون تأويـل ذلك الـخبر علـى ما مضى ذكره قبل هذه الآية وعمن ذكر بعدها من الـيهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر, دون النهي عن الـمسألة عنهم.
فإن ظنّ ظانّ أن الـخبر الذي رُوي عن مـحمد بن كعب صحيح, فإن فـي استـحالة الشكّ من الرسول علـيه السلام فـي أن أهل الشرك من أهل الـجحيـم, وأن أبويه كانا منهم, ما يدفع صحة ما قاله مـحمد بن كعب إن كان الـخبر عنه صحيحا, مع أن ابتداء الله الـخبر بعد قوله: إنّا أرْسَلْنَاكَ بـالـحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا بـالواو بقوله: ولا تسأل عن أصحاب الـجحيـم, وتركه وصل ذلك بأوله بـالفـاء, وأن يكون: «إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا», ولا تسأل عن أصحاب الـجحيـم, أوضح الدلائل علـى أن الـخبر بقوله: «ولا تسأل», أولـى من النهي, والرفع به أولـى من الـجزم.
وقد ذكر أنها فـي قراءة أبـيّ: «وَما تُسْألُ» وفـي قراءة ابن مسعود: «وَلَنْ تُسْألَ» وكلتا هاتـين القراءتـين تشهد بـالرفع والـخبر فـيه دون النهي.
وقد كان بعض نـحويـي البصرة يوجه قوله: وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَابِ الـجَحِيـمِ إلـى الـحال, كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الـجحيـم. وذلك إذا ضم التاء, وقرأه علـى معنى الـخبر, وكان يجيز علـى ذلك قراءته: «ولا تَسْألُ», بفتـح التاء وضم اللام علـى وجه الـخبر بـمعنى: إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا, غير سائل عن أصحاب الـجحيـم. وقد بـينا الصواب عندنا فـي ذلك.
وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري فـي ذلك يرفعهما ما رُوي عن ابن مسعود وأبـيّ من القراءة لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من ما, ولن يدلّ علـى انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: وَلا تُسْألُ وإذا كان ابتداءً لـم يكن حالاً. وأما أصحاب الـجحيـم, فـالـجحيـم هي النار بعينها إذا شبّت وقودها, ومنه قول أمية بن أبـي الصلت:
إذا شُبّتْ جَهَنّـمُ ثُمّ دَارَتْوأعْرَضَ عَنْ قَوَابِسِها الـجَحِيـمُ