تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 181 من المصحف



تفسير القرطبي

الآية: 34 {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى: "وما لهم ألا يعذبهم الله" المعنى: وما يمنعهم من أن يعذبوا. أي إنهم مستحقون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب؛ فعذبهم الله بالسيف بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك نزلت: "سأل سائل بعذاب واقع" [المعارج: 1] وقال الأخفش: إن "أن" زائدة. قال النحاس: لو كان كما قال لرفع "يعذبهم". "ولكن أكثرهم لا يعلمون" أي إن المتقين أولياؤه.
الآية: 35 {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}
قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون؛ فكان ذلك عبادة في ظنهم والمكاء: الصفير. والتصدية: التصفيق؛ قاله مجاهد والسدي وابن عمر رضي الله عنهم. ومنه قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا تمكو فريصته كشدق الأعلم
أي تصوت. ومنه مكت أست الدابة إذا نفخت بالريح. قال السدي: المكاء الصفير، على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر:
إذا غرد المكاء في غير روضة فويل لأهل الشاء والحمرات
قتادة: المكاء ضرب بالأيدي، والتصدية صياح. وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون ويصعقون. وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم. والتصدية: الصفير، يريدون أن يشغلوا بذلك محمدl"> الآية: 34 {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى: "وما لهم ألا يعذبهم الله" المعنى: وما يمنعهم من أن يعذبوا. أي إنهم مستحقون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب؛ فعذبهم الله بالسيف بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك نزلت: "سأل سائل بعذاب واقع" [المعارج: 1] وقال الأخفش: إن "أن" زائدة. قال النحاس: لو كان كما قال لرفع "يعذبهم". "ولكن أكثرهم لا يعلمون" أي إن المتقين أولياؤه.
الآية: 35 {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}
قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون؛ فكان ذلك عبادة في ظنهم والمكاء: الصفير. والتصدية: التصفيق؛ قاله مجاهد والسدي وابن عمر رضي الله عنهم. ومنه قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا تمكو فريصته كشدق الأعلم
أي تصوت. ومنه مكت أست الدابة إذا نفخت بالريح. قال السدي: المكاء الصفير، على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر:
إذا غرد المكاء في غير روضة فويل لأهل الشاء والحمرات
قتادة: المكاء ضرب بالأيدي، والتصدية صياح. وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون ويصعقون. وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم. والتصدية: الصفير، يريدون أن يشغلوا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. قال النحاس: المعروف في اللغة ما روي عن ابن عمر. حكى أبو عبيد وغيره أنه يقال: مكا يمكو ومكاء إذا صفر. وصدى يصدي تصدية إذا صفق؛ ومنه قول عمرو بن الإطنابة:
وظلوا جميعا لهم ضجة مكاء لدى البيت بالتصدية
أي بالتصفيق. سعيد بن جبير وابن زيد: معنى التصدية صدهم عن البيت؛ فالأصل على هذا تصدده، فأبدل من أحد الدالين ياء.
الآيتان: 36 - 37 {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون، ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون}
معنى "ليميز الله الخبيث من الطيب" أي المؤمن من الكافر. وقيل: هو عام في كل شيء، من الأعمال والنفقات وغير ذلك.
الآية: 38 {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين}
قوله تعالى: "قل للذين كفروا" أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى، وسواء قال بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية: ولو كان كما ذكر الكسائي أنه في مصحف عبدالله بن مسعود "قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم" لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها؛ هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ.
قوله تعالى: "إن ينتهوا" يريد عن الكفر. قال ابن عطية: ولا بد؛ والحامل على ذلك جواب الشرط "يغفر لهم ما قد سلف" ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر. ولقد أحسن القائل أبو سعيد أحمد بن محمد الزبيري:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ثم انتهى عما أتاه واقترف
لقوله سبحانه في المعترف إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
روى مسلم عن أبي شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت يبكي طويلا. الحديث. وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله" الحديث. قال ابن العربي: هذه لطيفة من الله سبحانه من بها على الخلق؛ وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم، ويرتكبون المعاصي والمآثم؛ فلو كان ذلك يوجب مؤاخذة لهم لما استدركوا أبدا توبة ولا نالتهم مغفرة. فيسر الله تعالى عليهم قبول التوبة عند الإنابة، وبذل المغفرة بالإسلام، وهدم جميع ما تقدم؛ ليكون ذلك أقرب لدخولهم في الدين، وأدعى إلى قبولهم لكلمة المسلمين، ولو علموا أنهم يؤاخذون لما تابوا ولا أسلموا. وفي صحيح مسلم: أن رجلا فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفسا ثم سأل هل له من توبة فجاء عابدا فسأل هل له من توبة فقال: لا توبة لك فقتله فكمل به مائة؛ الحديث. فانظروا إلى قول العابد: لا توبة لك؛ فلما علم أنه قد أيأسه قتله، فعل الآيس من الرحمة. فالتنفير مفسدة للخليفة، والتيسير مصلحة لهم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا جاء إليه رجل لم يقتل فسأل: هل لقاتل من توبة؟ فيقول: لا توبة؛ تخويفا وتحذيرا. فإذا جاءه من قتل فسأله: هل لقاتل من توبة؟ قال له: لك توبة؛ تيسيرا وتأليفا. وقد تقدم.
قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك فيمن طلق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق له. وكذلك من حلف فأسلم فلا حنث عليه. وكذا من وجبت عليه هذه الأشياء؛ فذلك مغفور له. فأما من افترى على مسلم ثم أسلم أو سرق ثم أسلم أقيم عليه الحد للفرية والسرقة. ولو زنى وأسلم، أو اغتصب مسلمة سقط عنه الحد. وروى أشهب عن مالك أنه قال: إنما يعني الله عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام، من مال أو دم أو شيء. قال ابن العربي: وهذا هو الصواب؛ لما قدمناه من عموم قوله تعالى: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، وقوله: (الإسلام يهدم ما قبله"، وما بيناه من المعنى من التيسير وعدم التنفير.
قلت: أما الكافر الحربي فلا خلاف في إسقاط ما فعله في حال كفره في دار الحرب. وأما إن دخل إلينا بأمان فقذف مسلما فإنه يحد، وإن سرق قطع. وكذلك الذمي إذا قذف حد ثمانين، وإذا سرق قطع، وإن قتل قتل. ولا يسقط الإسلام ذلك عنه لنقضه العهد حال كفره؛ على رواية ابن القاسم وغيره. قال ابن المنذر: واختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم، وقد شهدت عليه بينة من المسلمين؛ فحكي عن الشافعي رضي الله عنه إذ هو بالعراق لا حد عليه ولا تغريب؛ لقول الله عز وجل: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" قال ابن المنذر: وهذا موافق لما روي عن مالك. وقال أبو ثور: إذا أقر وهو مسلم أنه زنى وهو كافر أقيم عليه الحد. وحكي عن الكوفي أنه قال: لا يحد.
فأما المرتد إذا أسلم وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات وأتلف أموالا؛ فقيل: حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم؛ لا يؤخذ بشيء مما أحدثه في حال ارتداده. وقال الشافعي في أحد قوليه: يلزمه كل حق لله عز وجل وللآدمي؛ بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى. وقال أبو حنيفة: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط. قال ابن العربي: وهو قول علمائنا؛ لأن الله تعالى مستغن عن حقه، والآدمي مفتقر إليه. ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبي وتلزمه حقوق الآدميين. قالوا: وقوله تعالى: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" عام في الحقوق لله تعالى.
قوله تعالى: "وإن يعودوا" يريد إلى القتال؛ لأن لفظة "عاد" إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة كان الإنسان عليها ثم انتقل عنها. قال ابن عطية: ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال. ولا يجوز أن يتأول إلى الكفر؛ لأنهم لم ينفصلوا عنه، وإنما قلنا ذلك في "عاد" إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر، فيكون معناها معنى صار؛ كما تقول: عاد زيد ملكا؛ يريد صار. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل. فهي مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونها؛ فحكمها حكم صار.
قوله تعالى: "فقد مضت سنة الأولين" عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله.
الآيتان: 39 - 40 {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير}
قوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" أي كفر. إلى آخر الآية تقدم معناها وتفسير ألفاظها في "البقرة" وغيرها والحمد لله.