تفسير الطبري تفسير الصفحة 181 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 181
182
180
 الآية : 35
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: وما لهؤلاء الـمشركين ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن الـمسجد الـحرام الذي يصلون لله فـيه ويعبدونه, ولـم يكونوا لله أولـياء, بل أولـياؤه الذين يصدّونهم عن الـمسجد الـحرام وهم لا يصلون فـي الـمسجد الـحرام. وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ يعنـي: بـيت الله العتـيق, إلاّ مُكاءً وهو الصفـير, يقال منه: مكا يـمكو مَكْوا ومُكاءً, وقد قـيـل: إن الـمكو: أن يجمع الرجل يديه ثم يدخـلهما فـي فـيه ثم يصيح, ويقال منه: مكت استُ الدابة مُكاءً: إذا نفخت بـالريح, ويقال: إنه لا يـمكو إلاّ استُ مكشوفة, ولذلك قـيـل للاست الـمَكْوَة, سميت بذلك ومن ذلك قول عنترة:
وَحَلِـيـلِ غانِـيَةٍ ترَكْتُ مُـجَدّلاًتَـمْكُو فَرِيصَتُهُ كشِدْقِ الأعْلَـمِ
وقول الطرماح:
فَنَـحا لاِولاها بِطَعْنَةِ مُـحْفَظٍتَـمْكُو جَوَانِبُها مِنَ الإنهَارِ
بـمعنى: تصوّت. وأما التصدية فإنها التصفـيق, يقال منه: صَدّى يُصَدّي تَصْدِية, وصفّق وصفّح بـمعنى واحد.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12508ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن موسى بن قـيس, عن حجر بن عنبس: إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: الـمكاء: التصفـير, والتصدية: التصفـيق.
12509ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: قوله: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً الـمكاء: التصفـير, والتصدية: التصفـيق.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً يقول: كانت صلاة الـمشركين عند البـيت مكاء, يعنـي: التصفـير, وتصدية يقول: التصفـيق.
12510ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسديّ, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا فضيـل, عن عطية: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: التصفـيق والصفـير.
12511ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن قرّة بن خالد, عن عطية, عن ابن عمر, قال: الـمكاء: التصفـيق, والتصدية: الصفـير. قال: وأمال ابن عمر خده إلـى جانب.
12512ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا وكيع, عن قرة بن خالد, عن عطية, عن ابن عمر: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: الـمكاء والتصدية: الصفـير والتصفـيق.
حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا القاسم, قال سمعت مـحمد بن الـحسين يحدّث عن قرة بن خالد, عن عطية العوفـي, عن ابن عمر, قال: الـمكاء: الصفـير, والتصدية: التصفـيق.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا قرة, عن عطية, عن ابن عمر, فـي قوله: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: الـمكاء: الصفـير, والتصدية: التصفـيق. وقال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر, فصفّر وأمال خده وصفق بـيديه.
12513ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي بكر بن مضر, عن جعفر بن ربـيعة, قال: سمعت أبـا سلـمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول فـي قول الله: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال بكر: فجمع لـي جعفر كفـيه, ثم نفخ فـيهما صفـيرا, كما قال له أبو سلـمة.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: الـمكاء: الصفـير, والتصدية: التصفـيق.
قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سلـمة بن سابور, عن عطية, عن ابن عمر: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال تصفـير وتصفـيق.
قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا فضيـل بن مرزوق, عن عطية, عن ابن عمر, مثله.
12514ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حبوية أبو يزيد, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: كانت قريش يطوفون بـالبـيت وهم عراة يصفرون ويصفقون, فأنزل الله: قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ التـي أخْرَجَ لِعِبـادِهِ فأمروا بـالثـياب.
12515ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا الـحمانـي, قال: حدثنا شريك, عن سالـم, عن سعيد, قال: كانت قريش يعارضون النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي الطواف يستهزئون به, يصفرون به ويصفقون, فنزلت: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد: إلاّ مُكاءً قال: كانوا ينفخون فـي أيديهم, والتصدية: التصفـيق.
12516ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: الـمكاء: إدخال أصابعهم فـي أفواههم, والتصدية: التصفـيق, يخـلطون بذلك علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله, إلاّ أنه لـم يقل صلاته.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: الـمكاء. إدخال أصابعهم فـي أفواههم, والتصدية: التصفـيق. قال نفر من بنـي عبد الدار كانوا يخـلطون بذلك كله علـى مـحمد صلاته.
12517ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا طلـحة بن عمرو, عن سعيد بن جبـير: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: من بـين الأصابع. قال أحمد: سقط علـيّ حرف وما أراه إلاّ الـخذف والنفخ والصفـير منها وأرانـي سعيد بن جبـير حيث كانوا يـمكون من ناحية أبـي قبـيس.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان, قال: أخبرنا طلـحة بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: الـمكاء: كانوا يشبكون بـين أصابعهم ويصفرون بها, فذلك الـمكاء. قال: وأرانـي سعيد بن جبـير الـمكان الذي كانوا يـمكون فـيه نـحو أبـي قبـيس.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا مـحمد بن حرب, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن جعفر بن ربـيعة, عن أبـي سلـمة بن عبد الرحمن, فـي قوله: مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: الـمكاء: النفخ, وأشار بكفه قِبَل فـيه, والتصدية: التصفـيق.
12518ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا الـمـحاربـيّ, عن جويبر, عن الضحاك, قال: الـمكاء: الصفـير, والتصدية: التصفـيق.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن جويبر, عن الضحاك, مثله.
12519ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: كنا نـحدّث أن الـمكاء: التصفـيق بـالأيدي, والتصدية: صياح كانوا يعارضون به القرآن.
12520ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: الـمكاء: التصفـير, والتصدية: التصفـيق.
12521ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً والـمكاء: الصفـير, علـى نـحو طير أبـيض يقال له الـمكاء يكون بأرض الـحجاز والتصدية: التصفـيق.
12522ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: الـمكاء: صفـير كان أهل الـجاهلـية يعلنون به. قال: وقال فـي الـمكاء أيضا: صفـير فـي أيديهم ولعب.
وقد قـيـل فـي التصدية: إنها الصدّ عن بـيت الله الـحرام. وذلك قول لا وجه له لأن التصدية مصدر من قول القائل: صدّيت تصدية. وأما الصدّ فلا يقال منه: صدّيت, إنـما يقال منه صَدَدْت, فإن شدّدت منها الدال علـى معنى تكرير الفعل, قـيـل: صَدّدت تصديدا, إلاّ أن يكون صاحب هذا القول وجّه التصدية إلـى أنه من صدّدت, ثم قلبت إحدى دالـيه ياء, كما يقال: تظنـيت من ظننت, وكما قال الراجز:
(تَقَضّي البـازِي إذَا البـازِي كَسَرْ )
يعنـي: تق البـازي, فقلب إحدى ضاديه ياء, فـيكون ذلك وجها يوجه إلـيه. ذكر من قال ما ذكرنا فـي تأويـل التصدية:
12523ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا طلـحة بن عمرو, عن سعيد بن جبـير: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً: صدّهم عن بـيت الله الـحرام.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان, قال: أخبرنا طلـحة بن عمرو, عن سعيد بن جبـير. وَتَصْدِيَةً قال: التصدية: صدّهم الناس عن البـيت الـحرام.
12524ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَتَصْدِيَةً قال: التصدية عن سبـيـل الله, وصدّهم عن الصلاة وعن دين الله.
12525ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق:وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَـيْتِ إلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: ما كان صلاتهم التـي يزعمون أنها يدرأ بها عنهم إلاّ مكاء وتصدية, وذلك ما لا يرضي الله ولا يحبّ, ولا ما افترض علـيهم ولا ما أمرهم به.
وأما قوله: فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ فإنه يعنـي العذاب الذي وعدهم به بـالسيف يوم بدر, يقول للـمشركين الذين قالوا: اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الـحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَـيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ... الاَية, حين أتاهم بـما استعجلوه من العذاب: ذوقوا: أي اطعموا, ولـيس بذوق بفم, ولكنه ذوق بـالـحسّ, ووجود طعم ألـمه بـالقلوب. يقول لهم: فذوقوا العذاب بـما كنتـم تـجحدون أن الله معذّبكم به علـى جحودكم توحيد ربكم ورسالة نبـيكم صلى الله عليه وسلم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12526ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ: أي ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل.
12527ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ قال: هؤلاء أهل بدر يوم عذّبهم الله.
12528ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكفُرُونَ يعنـي أهل بدر عذّبهم الله يوم بدر بـالقتل والأسر.
الآية : 36
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: إن الذين كفروا بـالله ورسوله ينفقون أموالهم, فـيعطونها أمثالهم من الـمشركين لـيتقوّوا بها علـى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمؤمنـين به, لـيصدّوا الـمؤمنـين بـالله ورسوله, عن الإيـمان بـالله ورسوله, فسينفقون أموالهم فـي ذلك ثم تَكُونُ نفقتهم تلك عَلَـيْهِمْ حَسْرَةً يقول: تصير ندامة علـيهم, لأن أموالهم تذهب, ولا يظفرون بـما يأملون ويطمعون فـيه من إطفـاء نور الله, وإعلاء كلـمة الكفر علـى كلـمة الله, لأن الله معلـي كلـمته, وجاعل كلـمة الكفر السفلـى, ثم يغلبهم الـمؤمنون, ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلـى جهنـم, فـيعذّبون فـيها, فأعظم بها حسرة وندامة لـمن عاش منهم ومن هلك أما الـحيّ فحُرِب ماله وذهب بـاطلاً فـي غير درك ولا نفع ورجع مغلوبـا مقهورا مـحزونا مسلوبـا وأما الهالك: فقُتل وسُلب وعجل به إلـى نار الله يخـلد فـيها, نعوذ بـالله من غضبه وكان الذي تولـى النفقة التـي ذكرها الله فـي هذه الاَية فـيـما ذكر أبـا سفـيان. ذكر من قال ذلك.
12529ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ... الاَية وَالّذِينَ كَفَرُوا إلـى جَهَنّـمَ يُحْشَرُونَ قال: نزلت فـي أبـي سفـيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفـين من الأحابـيش من بنـي كنانة, فقاتل بهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وهم الذين يقول فـيهم كعب بن مالك:
وَجِئْنا إلـى مَوْجٍ مِنَ البَحْرِ وَسْطَهُأحابِـيشُ مِنْهُمْ حاسِرٌ وَمُقَنّعُ
ثَلاثَةُ آلافٍ ونَـحْنُ نَصِيّةٌثَلاثُ مِئِينَ إنْ كَثُرْنا فَأرْبَعُ
12530ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيـل, عن يعقوب القمي, عن جعفر, عن ابن أبزى: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالهُمْ لِـيَصُدّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ قال: نزلت فـي أبـي سفـيان, استأجر يوم أُحد ألفـين لـيقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استـجاش من العرب.
12531ـ قال: أخبرنا أبـي عن خطاب بن عثمان العصفري, عن الـحكم بن عتـيبة: إنّ الّذِبنَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِـيَصُدّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ قال: نزلت فـي أبـي سفـيان, أنفق علـى الـمشركين يوم أُحد أربعين أوقـية من ذهب, وكانت الأوقـية يومئذٍ اثنـين وأربعين مثقالاً.
12532ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِـيَصُدّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ... الاَية, قال: لـما قدم أبو سفـيان بـالعير إلـى مكة, أنشد الناس ودعاهم إلـى القتال حتـى غزا نبـيّ الله من العام الـمقبل, وكانت بدر فـي رمضان يوم الـجمعة صبـيحة سابع عشرة من شهر رمضان, وكانت أُحد فـي شوّال يوم السبت لإحدى عشرة خـلت منه فـي العام الرابع.
12533ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: قال الله فـيـما كان الـمشركون ومنهم أبو سفـيان يستأجرون الرجال يقاتلون مـحمدا بهم: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِـيَصُدّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ وهو مـحمد صلى الله عليه وسلم فَسَيْنْفِقُونَها ثُمّ تَكُونُ عَلَـيْهِمْ حَسْرَةً يقول: ندامة يوم القـيامة وويلاً ثم يُغْلَبُونَ.
12534ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِـيَصُدّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ... الاَية, حتـى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ قال: فـي نفقة أبـي سفـيان علـى الكقار يوم أُحد.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
12535ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قالا: حدثنا مـحمد بن مسلـم بن عبـيد الله بن شهاب الزهري ومـحمد بن يحيى بن حبـان وعاصم بن عمر بن قتادة والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ قالوا: لـما أصابت الـمسلـمون يوم بدر من كفـار قريش من أصحاب القلـيب ورجع فَلهّم إلـى مكة, ورجع أبو سفـيان بعيره, مشى عبد الله بن ربـيعة وعكرمة بن أبـي جهل وصفوان بن أمية فـي رجال من قريش أصيب آبـاؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر, فكلـموا أبـا سفـيان بن حرب ومن كان له فـي تلك العير من قريش تـجارة, فقالوا: يا معشر قريش, إن مـحمدا قد وتركم وقتل خياركم, فأعينونا بهذا الـمال علـى حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بـمن أصيب منا ففعلوا. قال: ففـيهم كما ذكر عن ابن عبـاس أنزل الله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ... إلـى قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا إلـى جَهَنّـمَ يُحْشَرُونَ.
12536ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِـيَصُدّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ... إلـى قوله: يُحْشَرُون يعنـي النفر الذين مشوا إلـى أبـي سفـيان وإلـى من كان له مال من قريش فـي تلك التـجارة, فسألوهم أن يعينوهم علـى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففعلوا.
12537ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي سعيد بن أبـي أيوب, عن عطاء بن دينار, فـي قول الله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ... الاَية, نزلت فـي أبـي سفـيان بن حرب.
وقال بعضهم: عنـي بذلك الـمشركون من أهل بدر. ذكر من قال ذلك.
12538ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِـيَصُدّوا عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ... الاَية, قال: هم أهل بدر.
والصواب من القول فـي ذلك عندي ما قلنا, وهو أن يقال: إن الله أخبر عن الذين كفروا به من مشركي قريش أنهم ينفقون أموالهم, لـيصدوا عن سبـيـل الله, لـم يخبرنا بأيّ أولئك عنى, غير أنه عمّ بـالـخبر الذين كفروا, وجائز أن يكون عنى: الـمنفقـين أموالهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأُحد, وجائز أن يكون عنى الـمنفقـين منهم ذلك ببدر, وجائز أن يكون عنى القريقـين.
وإذا كان ذلك كذلك, فـالصواب فـي ذلك أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه الذين كفروا من قريش.
الآية : 37
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنّمَ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }..
يقول تعالـى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم, وينفقون أموالهم للصدّ عن سبـيـل الله إلـى جهنـم, لـيفرّق بـينهم وهم أهل الـخبث كما قال وسماهم الـخَبِـيثَ, وبـين الـمؤمنـين بـالله وبرسوله, وهم الطيبون, كما سماهم جلّ ثناؤه. فميز جلّ ثناؤه بـينهم بأن أسكن أهل الإيـمان به وبرسوله جناته, وأنزل أهل الكفر ناره.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12539ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لِـيَـمِيزَ اللّهُ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ فميز أهل السعادة من أهل الشقاوة.
12540ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: ثم ذكر الـمشركين, وما يصنع بهم يوم القـيامة, فقال: لِـيَـمِيزَ اللّهُ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ يقول: يـميز الـمؤمن من الكافر. فَـيَجْعَلَ الـخَبِـيثَ بَعْضَهُ علـى بَعْضٍ.
ويعنـي جلّ ثناؤه بقوله: ويجعل الـخَبِـيثَ بَعْضَهُ علـى بَعْضٍ فـيجعل الكفـار بعضهم فوق بعض. فَـيرْكُمَهُ جَمِيعا يقول: فنـجعلهم ركاما, وهو أن يجمع بعضهم إلـى بعض حتـى يكثروا, كما قال جلّ ثناؤه فـي صفة السحاب: ثُمّ يُؤَلّفُ بَـيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلْهُ رُكاما: أي مـجتعما كثـيفـا. وكما:
12541ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَـيرْكُمَهُ جَميعا قال: فـيجمعه جميعا بعضه علـى بعض.
وقوله: فَـيَجْعَلَهُ فِـي جَهَنّـمَ يقول: فـيجعل الـخبـيث جميعا فـي جهنـم, فوحد الـخبر عنهم لتوحيد قوله: لِـيَـمِيزَ اللّهُ الـخَبِـيثَ, ثم قال: أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ فجمع ولـم يقل: ذلك هو الـخاسر, فردّه إلـى أوّل الـخبر. ويعنـي ب «أولئك» الذين كفروا, وتأويـله: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم لـيصدوا عن سبـيـل الله هم الـخاسرون. ويعنـي بقوله: الـخَاسِرُونَ الذين غبنت صفقتهم وخسرت تـجارتهم وذلك أنهم شروا بأموالهم عذاب الله فـي الاَخرة, وتعجلوا بإنفـاقهم إياها فـيـما أنفقوا من قتال نبـيّ الله والـمؤمنـين به الـخزي والذلّ.
الآية : 38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُل لِلّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنّةُ الأوّلِينِ }..
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد للذين كفروا من مشركي قومك: إن ينتهوا عما هم علـيه مقـيـمون من كفرهم بـالله ورسوله وقتالك وقتال الـمؤمنـين فـينـيبوا إلـى الإيـمان, يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيـمانهم وإنابتهم إلـى طاعة الله وطاعة رسوله بإيـمانهم وتوبتهم. وإنْ يَعُودُوا يقول: وإن يعد هؤلاء الـمشركون لقتالك بعد الوقعة التـي أوقعتها بهم يوم بدر, فقد مضت سنتـي فـي الأوّلـين منهم ببدر ومن غيرهم من القرون الـخالـية إذ طغوا وكذّبوا رسلـي ولـم يقبلوا نصحهم من إحلال عاجل النقم بهم, فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لـحربك وقتالك مثل الذين أحللت بهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12542ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فَقَدْ مَضَتْ سُنّةُ الأوّلِـينَ فـي قريش يوم بدر وغيرها من الأمـم قبل ذلك.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نـمير, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَقَدْ مَضَتْ سَنّةُ الأوّلِـينَ قال: فـي قريش وغيرها من الأمـم قبل ذلك.
12543ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال فـي قوله: قُلْ للّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإنْ يَعُودُوا لـحربك, فَقَدْ مَضَتْ سُنّةُ الأوّلِـينَ: أي من قُتل منهم يوم بدر.
12544ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وإن يعودوا لقتالك, فقد مضت سنة الأوّلـين من أهل بدر.
الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }..
يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين به وبرسوله: وإن يعد هؤلاء لـحربك, فقد رأيتـم سنتـي فـيـمن قاتلكم منهم يوم بدر, وأنا عائد بـمثلها فـيـمن حاربكم منهم, فقاتلوهم حتـى لا يكون شرك ولا يُعبد إلاّ الله وحده لا شريك له, فـيرتفع البلاء عن عبـاد الله من الأرض وهو الفتنة, ويكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله يقول: حتـى تكون الطاعة والعبـادة كلها لله خالصة دون غيره.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
12545ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَقاتِلُوهُمْ حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعنـي: حتـى لا يكون شرك.
12546ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيـم, عن يونس, عن الـحسن, فـي قوله: وَقاتِلُوهُمْ حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: الفتنة: الشرك.
12547ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَقاتِلُوهُمْ حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ: يقول: قاتلوهم حتـى لا يكون شرك, و وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ حتـى يقال: لا إله إلاّ الله, علـيها قاتل النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وإلـيها دعا.
12548ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: وَقاتِلُوهُمْ حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: ختـى لا يكون شرك.
12549ـ حدثنـي الـحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا مبـارك بن فضالة, عن الـحسن, فـي قوله: وَقاتُلوهُم حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: حتـى لا يكون بلاء.
12550ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: وَقاتِلُوهُمْ حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ: أي لا يفتُر مؤمن عن دينه, ويكون التوحيد لله خالصا لـيس فـيه شرك, ويخـلع ما دونه من الأنداد.
12551ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَقاتِلُوهُمْ حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: حتـى لا يكون كفر, وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ لا يكون مع دينكم كفر.
12552ـ حدثنـي عبد الوارث بن عبد الصمد, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا أبـان العطار, قال: حدثنا هشام بن عروة, عن أبـيه, أن عبد الـملك بن مروان كتب إلـيه يسأله عن أشياء, فكتب إلـيه عروة: سلامْ علـيك فإنـي أحمد الله إلـيك الذي لا إله إلاّ هو أما بعد: فإنك كتبت إلـيّ تسألنـي عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, وسأخبرك به, ولا حول ولا قوّة إلاّ بـالله:
كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, أن الله أعطاه النبوّة, فنعم النبـي ونعم السيد, ونعم العشيرة فجزاه الله خيرا وعرّفنا وجهه فـي الـجنة, وأحيانا علـى ملته, وأماتنا علـيها, وبعثنا علـيها. وإنه لـما دعا قومه لـما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل علـيه, لـم ينفروا منه أوّل ما دعاهم إلـيه, وكانوا يسمعون له حتـى ذكر طواغيَتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال, أنكر ذلك علـيه ناس, واشتدّوا علـيه, وكرهوا ما قال, وأغروا به من أطاعهم, فـانعطف عنه عامة الناس, فتركوه, إلاّ من حفظه الله منهم وهم قلـيـل. فمكث بذلك ما قدّر الله أن يـمكث, ثم ائتـمرت رءوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبـائلهم, فكانت فتنة شديدة الزلزال, فـافتتن من افتتن, وعصم الله من شاء منهم. فلـما فعل ذلك بـالـمسلـمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلـى أرض الـحبشة, وكان بـالـحبشة ملك صالـح يقال له النـجاشي لا يُظلـم أحد بأرضه, وكان يُثْنَى علـيه مع ذلك. وكانت أرض الـحبشة متـجرا لقريش يتـجرون فـيها, ومساكن لتـجارتهم يجدون فـيها رتاعا من الرزق وأمنا ومتـجرا حسنا. فأمرهم بها النبـيّ صلى الله عليه وسلم فذهب إلـيها عامتهم لـما قهروا بـمكة, وخافوا علـيهم الفتن, ومكث هو فلـم يبرح, فمكث ذلك سنوات يشتدّون علـى من أسلـم منهم. ثم إنه فشا الإسلام فـيها, ودخـل فـيه رجال من أشرافهم ومنعتهم فلـما رأوا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه, وكانت الفتنة الأولـى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل أرض الـحبشة مخافتها وفرارا مـما كانوا فـيه من الفتن والزلزال. فلـما استرخى عنهم ودخـل فـي الإسلام من دخـل منهم, تـحدث بهذا الاسترخاء عنهم, فبلغ ذلك من كان بأرض الـحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد استرخى عمن كان منهم بـمكة وأنهم لا يفتنون, فرجعوا إلـى مكة وكادوا يأمنون بها, وجعلوا يزدادون ويكثرون. وإنه أسلـم من الأنصار بـالـمدينة ناس كثـير, وفشا بـالـمدينة الإسلام, وطفق أهل الـمدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بـمكة فلـما رأت قريش ذلك, توامرت علـى أن يفتنوهم, ويشدّوا علـيهم, فأخذوهم وحرصوا علـى أن يفتنوهم, فأصابهم جهد شديد, وكانت الفتنة الاَخرة, فكانت ثنتـين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلـى أرض الـحبشة حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وأذن لهم فـي الـخروج إلـيها, وفتنة لـما رجعوا ورأوا من يأتـيهم من أهل الـمدينة. ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمدينة سبعون نفسا رءؤس الذين أسلـموا, فوافوه بـالـحجّ, فبـايعوه بـالعقبة, وأعطوه علـى: أنا منك وأنت منا, وعلـى: أن من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نـمنعك مـما نـمنع منه أنفسنا. فـاشتدت علـيهم قريش عند ذلك, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلـى الـمدينة, وهي الفتنة الاَخرة التـي أخرج فـيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج هو, وهي التـي أنزل الله فـيها: وَقاتِلُوهُمْ حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ.
حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عبد الرحمن بن أبـي الزناد, عن أبـيه, عن عروة بن الزبـير, أنه كتب إلـى الولـيد: أما بعد, فإنك كتبت إلـيّ تسألنـي عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, وعندي بحمد الله من ذلك علـم بكلّ ما كتبت تسألنـي عنه, وسأخبرك إن شاء الله, ولا حول ولا قوّة إلاّ بـالله, ثم ذكر نـحوه.
12553ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا قـيس, عن الأعمش, عن مـجاهد: وَقاتِلُوهُمْ حتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: يَسَاف ونائلة صنـمان كانا يُعبدان.
وأما قوله: فإن انْتَهَوْا فإن معناه: فإن انتهوا عن الفتنة, وهي الشرك بـالله, وصاروا إلـى الدين الـحقّ معكم. فإنّ اللّهَ بِـمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يقول: فإن الله لا يخفـى علـيه ما يعملون من ترك الكفر والدخول فـي دين الإسلام لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم والأشياء كلها متـجلـية له لا تغيب عنه ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فـي السموات ولا فـي الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ فـي كتاب مبـين.
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: فإن انتهوا عن القتال.
والذي قلنا فـي ذلك أولـى بـالصواب, لأن الـمشركين وإن انتهوا عن القتال, فإنه كان فرضا علـى الـمؤمنـين قتالهم حتـى يسلـموا.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ }..
يقول تعالـى ذكره: وإن أدبر هؤلاء الـمشركون عما دعوتـموهم إلـيه أيها الـمؤمنون من الإيـمان بـالله ورسوله وترك قتالكم علـى كفرهم, فأبوا إلا الإصرار علـى الكفر وقتالكم, فقاتلوهم وأيقنوا أن الله معينكم علـيهم وناصركم. نِعْمَ الـمَوْلَـى هو لكم, يقول: نعم الـمعين لكم ولأولـيائه, وَنِعْمَ النّصِير وهو الناصر