تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 181 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 181

180

قوله: 34- " وما لهم أن لا يعذبهم الله " لما بين سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهورهم، ووقوع الاستغفار. ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار، أعني كفار مكة مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح. والمعنى: أي شيء لهم يمنع من تعذيبهم؟ قال الأخفش: إن أن زائدة. قال النحاس: لو كان كما قال لرفع يعذبهم، وجملة "وهم يصدون عن المسجد الحرام" في محل نصب على الحال: أي وما يمنع من تعذيبهم؟ والحال أنهم يصدون الناس عن المسجد الحرام كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البيت، وجملة "وما كانوا أولياءه" في محل نصب على أنها حال من فاعل "يصدون"، وهذا كالرد لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت، وأن أمره مفوض إليهم، ثم قال مبيناً لمن له ذلك: "إن أولياؤه إلا المتقون" أي ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي "ولكن أكثرهم لا يعلمون" ذلك، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون.
قوله: 35- "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" المكاء: الصفير من مكا يمكو مكاء، ومنه قول عنترة: وخليل غانية تركت مجندلاً تمكو فريصته كشدق الأعلم أي تصوت، ومنه مكت است الدابة: إذا نفخت بالريح، قيل المكاء: هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر: إذا غرد المكاء في غير دوحة فويل لأهل الشاء والحمرات والتصدية: التصفيق، يقال: صدى يصدي تصدية: إذا صفق، ومنه قول عمر بن الأطنابة: وظلوا جميعاً لهم ضجة مكاء لدى البيت بالتصدية أي بالتصفيق، وقيل المكاء: الضرب بالأيدي، والتصدية: الصياح، وقيل المكاء: إدخالهم أصابعهم في أفواههم، والتصدية: الصفير، وقيل التصدية: صدهم عن البيت، قيل: والأصل على هذا تصددة فأبدل من إحدى الدالين ياء. ومعنى الآية: أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة، فوضعوا ذلك موضع الصلاة قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة، وقرئ بنصب صلاتهم على أنها خبر كان، وما بعده اسمها. قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديداً لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم، والمراد به: عذاب الدنيا كيوم بدر وعذاب الآخرة.
قوله: 36- "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" لما فرغ سبحانه من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية. والمعنى: أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجيوش لذلك، وإنفاق أموالهم عليها وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش، ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز فقال: "فسينفقونها" أي سيقع منهم هذا الإنفاق "ثم تكون" كما وعد الله به في مثل قوله: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي". ومعنى "ثم" في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة ثم قال: "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون" أي استمروا على الكفر، لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقاً من أسلم وحسن إسلامه: أي يساقون إليها لا إلى غيرها.
ثم بين العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعله فقال: 37- "ليميز الله الخبيث" أي الفريق الخبيث من الكفار "من" الفريق "الطيب" وهم المؤمنون "ويجعل الخبيث بعضه على بعض" أي يجعل فريق الكفار الخبيث بعضه على بعض "فيركمه جميعاً" عبارة عن الجمع والضم: أي يجمع بعضهم على بعض، ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم، يقال: ركم الشيء يركمه: إذا جمعه وألقى بعضه على بعض، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الفريق الخبيث "هم الخاسرون" أي الكاملون في الخسران، وقيل: الخبيث والطيب: صفة للمال، والتقدير يميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون، فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كما في قوله تعالى: "فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم". قال في الكشاف: واللام على هذا متعلقة بقوله: "ثم تكون عليهم حسرة"، وعلى الأول بيحشرون، و "أولئك" إشارة إلى الذين كفروا انتهى. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" ثم استثنى أهل الشرك فقال: " وما لهم أن لا يعذبهم الله ". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله: " وما لهم أن لا يعذبهم الله " قال: عذابهم فتح مكة. وأخرج ابن إسحاق وأبو حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير " وما لهم أن لا يعذبهم الله " وهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "وهم يصدون عن المسجد الحرام" أي من آمن بالله وعبده، أنت ومن اتبعك "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون" الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده: أي أنت ومن آمن بك. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إن أولياؤه إلا المتقون" قال: من كانوا، حيث كانوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزئون ويصفرون ويصفقون، فنزلت: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالكعبة عراة تصفر وتصفق، فأنزل الله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" قال: والمكاء الصفير، إنما شبهوا بصفير الطير. وتصدية: التصفيق وأنزل الله فيهم: "قل من حرم زينة الله" الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: المكاء الصفير، والتصدية التصفيق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: قال: المكاء إدخال أصابعهم في أفواههم، والتصدية الصفير، يخلطون بذلك كله على محمد صلى الله عليه وسلم صلاته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي: قال: المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز، والتصدية التصفيق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "إلا مكاء" قال: كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهن "وتصدية" قال: صدهم الناس. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال، وهو قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" فالمكاء مثل نفخ البوق، والتصدية طوافهم على الشمال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" قال: يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل كلهم من طريقه: قال: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحسين بن عبد الرحمن بن عمرو قالوا: لما أصيب قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثأراً، ففعلوا، ففيهم كما ذكر ابن عباس أنزل الله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" إلى "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج هؤلاء وغيرهم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحكم بن عتيبة في الآية قال: نزلت في أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب وكانت الوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شمر بن عطية في قوله: " حتى يميز الخبيث من الطيب " قال: يميز يوم القيامة ما كان من عمر صالح في الدنيا، ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "فيركمه جميعاً" قال: يجمعه جميعاً.
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى وسواء قاله بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية: ولو كان كما قال الكسائي إنه في مصحف عبد الله بن مسعود (قل للذين كفروا إن تنتهوا) يعني بالتاء المثناة من فوق لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها. وقال في الكشاف: أي قل لأجلهم هذا القول، وهو 38- "إن ينتهوا" ولو كان بمعنى خاطبهم لقيل إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود، ونحوه "وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه" خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه: أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام "يغفر لهم ما قد سلف" لهم من العداوة انتهى، وقيل معناه: إن ينتهوا عن الكفر. قال ابن عطية: والحامل على ذلك جواب الشرط بـ "يغفر لهم ما قد سلف"، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر. وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يجب ما قبله "وإن يعودوا" إلى القتال والعداوة أو إلى الكفر الذي هم عليه ويكون العود بمعنى الاستمرار " فقد مضت سنة الأولين " هذه العبارة مشتملة على الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله: أي قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأولين من الأمم أن يصيبه بعذاب فليتوقعوا مثل ذلك.
39- "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" أي كفر، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة مستوفى "فإن انتهوا" عما ذكر "فإن الله بما يعملون بصير" لا يخفى عليه ما وقع منهم من الانتهاء.
40- "وإن تولوا" عما أمروا به من الانتهاء "فاعلموا" أيها المؤمنون " بل الله مولاكم " أي ناصركم عليهم "نعم المولى ونعم النصير" فمن والاه فاز ومن نصره غلب. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فقد مضت سنة الأولين" قال: في قريش وغيرها يوم بدر، والأمم قبل ذلك. وأخرج أحمد ومسلم عن" عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، وقال:ما لك؟ قلت: أردت أن أشترط، قال:تشترط ماذا؟ قلت: أن تستغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟".وقد ثبت في الصحيح من حديث، ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها" وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى: "فقد مضت سنة الأولين" بما مضى في الأمم المتقدمة من عذاب من قاتل الأنبياء وصمم على الكفر. وقال السدي ومحمد بن إسحاق: المراد بالآية يوم بدر. وفسر جمهور السلف الفتنة المذكورة هنا بالكفر. وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا "حتى لا تكون فتنة" حتى لا يفتن مسلم عن دينه.
لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة ذكر حكم الغنيمة والغنيمة قد قدمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدو، ثم استعملت في كل ما يصاب منهم وقد تستعمل في كل ما ينال بسعي، ومنه قول الشاعر: وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب ومثله قول الآخر: ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم وأما معنى الغنيمة في الشرع، فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله تعالى: 41- "واعلموا أنما غنمتم من شيء" مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر. قال: ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية بعد قوله: "يسألونك عن الأنفال" وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وأن قوله: "يسألونك عن الأنفال" نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدم أول السورة، وقيل إنها أعني قوله: "يسألونك عن الأنفال" محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة، حكاه الماوردي عن كثير من المالكية، قالوا: وللإمام أن يخرجها عنهم، واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين وكان أبو عبيدة يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئاً، وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين وكيفيتها كثيرة جداً. قال القرطبي: ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى: "يسألونك عن الأنفال" الآية ناسخ لقوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" الآية، بل قال الجمهور: إن قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله. وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها، قال: وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا تعطي الغنائم قريشاً وتتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه، فقال لهم:أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم كما في مسلم وغيره، وليس لغيره أن يقول هذا القول، بل ذلك خاص به. قوله: "أنما غنمتم من شيء" يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة و "من شيء" بيان لما الموصولة، وقد خصص الإجماع من عموم الآية: الأسارى، فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام، وقيل: كذلك الأرض المغنومة. ورد بأنه لا إجماع على الأرض. قوله: "فأن لله خمسه" قرأ النخعي: "فإن لله" بكسر إن. وقرأ الباقون بفتحها على أن أن وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: فحق أو فواجب أن لله خمسه. وقد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة: الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله، والثاني: لرسول الله، والثالث: لذوي القربى، والرابع: لليتامى، والخامس: للمساكين، والسادس: لابن السبيل. والقول الثاني: قاله أبو العالية والربيع: إنها تقسم الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله فما قبضه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خسمة للرسول ومن بعده الآية. القول الثالث: روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: إن الخمس لنا، فقيل له: إن الله يقول: "واليتامى والمساكين وابن السبيل" فقال: يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا. القول الرابع: قول الشافعي: إن الخمس يقسم على خمسة، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية. القول الخامس: قول أبي حنيفة: إنه يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه. قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند. وروي نحو هذا عن الشافعي. القول السادس: قول مالك: إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطي منه الغزاة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال القرطبي. وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" فإنه لم يقسمه أخماساً ولا أثلاثاً، وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم، لأنهم من أهل من يدفع إليه. قال الزجاج محتجاً لهذا القول: قال الله تعالى: "يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل" وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك. قوله: "ولذي القربى" قيل: إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف العلماء في القربى على أقوال: الأول أنهم قريش كلها، روي ذلك عن بعض السلف، واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلاً: يا بني فلان يا بني فلان. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد: هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه" وهو في الصحيح وقيل هم بنو هاشم خاصة، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم، وهو مروي عن علي بن الحسين ومجاهد. قوله: "إن كنتم آمنتم بالله". قال الزجاج عن فرقة: إن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله، وقالت فرقة أخرى: إن "إن" متعلقة بقوله: "واعلموا أنما غنمتم" قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح لأن قوله: "واعلموا" يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق إن بقوله: "واعلموا" على هذا المعنى: أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا الأمر لله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة. وقال في الكشاف: إنه متعلق بمحذوف يدل عليه "واعلموا" بمعنى إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرد، ولكن العلم المتضمن بالعمل والطاعة لأمر الله، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر انتهى. قوله: "وما أنزلنا على عبدنا" معطوف على الاسم الجليل: أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا، و "يوم الفرقان" يوم بدر، لأنه فرق بين أهل الحق وأهل الباطل "الجمعان" الفريقان من المسلمين والكافرين "والله على كل شيء قدير" ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقل على الفريق الأكثر.