تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 183 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 183

183- تفسير الصفحة رقم183 من المصحف
الآية: 46 {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}
قوله تعالى: "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا" هذا استمرار على الوصية لهم، والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أم بدر وتنازعهم. "فتفشلوا" نصب بالفاء في جواب النهي. ولا يجيز سيبويه حذف الفاء والجزم وأجازه الكسائي. وقرئ "تفشلوا" بكسر الشين. وهو غير معروف. "وتذهب ريحكم" أي قوتكم ونصركم، كما تقول: الريح لفلان، إذا كان غالبا في الأمر قال الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنم فإن لكل خافقة سكون
وقال قتادة وابن زيد: إنه لم يكن نصر قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار. ومنه قوله عليه السلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). قال الحكم: "وتذهب ريحكم" يعني الصبا، إذ بها نصر محمد عليه الصلاة والسلام وأمته. وقال مجاهد: وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد. "واصبروا إن الله مع الصابرين" أمر بالصبر، وهو محمود في كل المواطن وخاصة موطن الحرب، كما قال: "إذا لقيتم فئة فاثبتوا".
الآية: 47 {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط}
يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير. خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خفاف الكناني - وكان صديقا لأبي جهل - بهدايا إليه مع ابن له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع من خف من قومي. فقال أبو جهل: إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة. وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد. فوردوا بدرا ولكن جرى ما جرى من هلاكهم. والبطر في اللغة: التقوية بنعم الله عز وجل وما ألبسه من العافية على المعاصي. وهو مصدر في موضع الحال. أي خرجوا بطرين مرائين صادين. وصدهم إضلال الناس.
الآية: 48 {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب}
قوله تعالى: "وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون" روي أن الشيطان تمثل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، لأنهم قتلوا رجلا منهم. فلما تمثل لهم قال ما أخبر الله به عنه. وقال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم. وعن ابن عباس قال: أمد الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فأنصره. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: (يا رب إنك تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا). فقال جبريل: (خذ قبضة من التراب) فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه. فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال له الرجل: يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار، قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون. ذكره البيهقي وغيره. وفي موطأ مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيدالله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر) قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال (أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة). ومعنى نكص: رجع بلغة سليم، عن مؤرج وغيره. وقال الشاعر:
ليس النكوص على الأدبار مكرمة إن المكارم إقدام على الأسل
وقال آخر:
وما ينفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم
وليس ههنا قهقرى بل هو فرار، كما قال: (إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط). "إني أخاف الله" قيل: خاف إبليس أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه. وقيل: كذب إبليس في قوله: "إني أخاف الله" ولكن علم أنه لا قوة له. ويجمع جار على أجوار وجيران، وفي القليل جيرة.
الآية: 49 {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}
قيل: المنافقون: الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر. والذين في قلوبهم مرض: الشاكون، وهم دون المنافقين، لأنهم حديثو عهد بالإسلام، وفيهم بعض ضعف نية. قالوا عند الخروج إلى القتال وعند التقاء الصفين: غر هؤلاء دينهم. وقيل: هما واحد، وهو أولى. ألا ترى إلى قوله عز وجل: "الذين يؤمنون بالغيب" [البقرة: 3] ثم قال "والذين يؤمنون بما أنزل إليك" [البقرة: 4] وهما لواحد.
الآيتان: 50 - 51 {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد}
قيل: أراد من بقي ولم يقتل يوم بدر. وقيل: هي فيمن قتل ببدر. وجواب "لو" محذوف، تقديره: لرأيت أمرا عظيما. "يضربون" في موضع الحال. "وجوههم وأدبارهم" أي أستاههم، كنى عنها بالأدبار، قاله مجاهد وسعيد بن جبير. الحسن: ظهورهم، وقال: إن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك؟ قال: (ذلك ضرب الملائكة). وقيل: هذا الضرب يكون عند الموت. وقد يكون يوم القيامة حين يصيرون بهم إلى النار. "وذوقوا عذاب الحريق" قال الفراء: المعنى ويقولون ذوقوا، فحذف. وقال الحسن: هذا يوم القيامة، تقول لهم خزنة جهنم: ذوقوا عذاب الحريق. وروي أن في بعض التفاسير أنه كان مع الملائكة مقامع من حديد، كلما ضربوا التهبت النار في الجراحات، فذلك قوله: "وذوقوا عذاب الحريق". والذوق يكون محسوسا ومعنى. وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه. وأنظر فلانا فذق ما عنده. قال الشماخ يصف فرسا:
فذاق فأعطته من اللين جانبا كفى ولها أن يغرق السهم حاجز
وأصله من الذوق بالفم. "ذلك" في موضع رفع؛ أي الأمر ذلك. أو "ذلك" جزاؤكم. "بما قدمت أيديكم" أي اكتسبتم من الآثام. "وأن الله ليس بظلام للعبيد" إذ قد أوضح السبيل وبعث الرسل، فلم خالفتم؟. "وأن" في موضع خفض عطف على "ما" وإن شئت نصبت، بمعنى وبأن، وحذفت الباء. أو بمعنى: وذلك أن الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع نسقا على ذلك.
الآية: 52 {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب}
الدأب العادة. وقد تقدم في "آل عمران". أي العادة في تعذيبهم عند قبض الأرواح وفي القبور كعادة آل فرعون. وقيل: المعنى جوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي آل فرعون بالغرق. أي دأبهم كدأب آل فرعون.