تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 183 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 183

182

قوله: 44- "وإذ يريكموهم" الظرف منصوب بمضمر معطوف على الأول: أي واذكروا وقت إراءتكم إياها حال كونهم قليلاً، حتى قال القائل من المسلمين لآخر: أتراهم سبعين؟ قال: هم نحو المائة، وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم: إنما هم أكلة جزور، وكان هذا قبل القتال، فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين، كما قال في آل عمران: "يرونهم مثليهم رأي العين"، ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلاً أقدموا على القتال غير خائفين، ثم يرونهم كثيراً فيفشلون وتكون الدائرة عليهم، ويحل بهم عذاب الله وسوط عقابه، واللام في "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" متعلقة بمحذوف كما سبق مثله قريباً، وإنما كرره لاختلاف المعلل به "وإلى الله ترجع الأمور" كلها يفعل فيها ما يريد ويقضي في شأنها ما يشاء. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إذ يريكهم الله في منامك قليلاً" قال: أراه الله إياهم في منامه قليلاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان ذلك تثبيتاً لهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: " ولو أراكهم كثيرا لفشلتم " يقول: لجبنتم "ولتنازعتم في الأمر" قال: لاختلفتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكن الله سلم" أي أتم. وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه "ولكن الله سلم" يقول: سلم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "وإذ يريكموهم" الآية قال: لقد قلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل هم مائة، حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه قال: كنا ألفاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: حضض بعضهم على بعض. قال ابن كثير: إسناده صحيح. وأخرج ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله: "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" أي ليلف بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته.
قوله: 45- " إذا لقيتم فئة " اللقاء الحرب، والفئة الجماعية: أي إذا حاربتم جماعة من المشركين "فاثبتوا" لهم ولا تجبنوا عنهم، وهذا لا ينافي الرخصة المتقدمة في قوله: "إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة" فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة، والرخصة هي في حال الضرورة. وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرف والتحيز "واذكروا الله" أي اذكروا الله عند جزع قلوبكم فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد، وقيل المعنى: اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان، قيل: وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت "ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين". وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب وتزيع عندها البصائر.
ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه، ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل، وهو الجبن في الحرب. والفاء جواب النهي، والفعل منصوب بإضمار أن، ويجوز أن يكون الفعل معطوفاً على تنازعوا مجزوماً بجازمه. قوله: 46- "وتذهب ريحكم" قرئ بنصب الفعل، وجزمه عطفاً على تفشلوا على الوجهين، والريح: القوة والنصر، كما يقال: الريح لفلان إذا كان غالباً في الأمر، وقيل: الريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها، ومنه قول الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون وقيل: المراد بالريح ريح الصبا، لأن بها كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم بالصبر على شدائد الحرب وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة.
ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وهم قريش، فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ومعهم القيان والمعازف، فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت، فلم يرجعوا بل قالوا: لا بد لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر وتغني لهم القيان وتسمع العرب بمخرجهم، فكان ذلك منهم بطراً وأشراً وطلباً للثناء من الناس وللتمدح إليهم والفخر عندهم وهو الرياء، قيل والبطر في اللغة: التقوي بنعم الله على معاصيه وهو مصدر في موضع الحال: أي خرجوا بطرين مرائين، وقيل: هو مفعول له وكذا رياء: أي خرجوا للبطر والرياء. وقوله: "ويصدون" معطوف على بطراً، والمعنى كما تقدم: أي خرجوا بطرين مرائين صادين عن سبيل الله أو للصدر عن سبيل الله، والصد: إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية، ويجوز أن يكون ويصدون معطوفاً على يخرجون، والمعنى: يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد "والله بما يعملون محيط" لا تخفى عليه من أعمالهم خافية فهو مجازيهم عليها.
قوله: 48- "وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم" الظرف متعلق بمحذوف: أي واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم، والتزيين: التحسين، وقد روي أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة وهي: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" أي مجير لكم من كل عدو أو من بني كنانة، ومعنى الجار هنا: الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار، وكان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، وقيل المعنى: إنه ألقى في روعهم هذه المقالة، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون "فلما تراءت الفئتان" أي فئة المسلمين والمشركين "نكص على عقبيه" أي رجع القهقرى، ومنه قول الشاعر: ليس النكوص على الأعقاب مكرمة إن المكارم إقدام على الأمل وقول الآخر: وما نفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم وقيل: معنى نكص هاهنا: بطل كيده وذهب ما خيله "وقال إني بريء منكم" أي تبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة، ثم علل ذلك بقوله: "إني أرى ما لا ترون" يعني الملائكة، ثم علل بعلة أخرى فقال: "إني أخاف الله" قيل: خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا الوقعة، وقيل: إن دعوى الخوف كذب منه، ولكنه رأى أنه لا قوة له ولا للمشركين فاعتل بذلك، وجملة "والله شديد العقاب" يحتمل أن تكون من تمام كلام إبليس، ويحتمل أن تكون كلاماً مستأنفاً من جهة الله سبحانه.
قوله: 49- "إذ يقول المنافقون" الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر، ويجوز أن يتعلق بنكص أو بزين أو بشديد العقاب، قيل: المنافقون هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر "والذين في قلوبهم مرض" هم الشاكون من غير نفاق بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة، أعني "غر هؤلاء" أي المسلمين "دينهم" حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش، وقيل: الذين في قلوبهم مرض هم المشركون، ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها، وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد، فأجاب الله عليهم بقوله: "من يتوكل على الله فإن الله عزيز" لا يغلبه غالب، ولا يذل من توكل عليه "حكيم" له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "واذكروا الله" قال: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون: عند الضراب بالسيوف. وأخرج الحاكم وصححه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثنتان لا يردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً". وأخرج الحاكم وصححه عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصوت عند القتال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" يقول: لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وتذهب ريحكم" قال: نصركم وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم" الآية، يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: "كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر، وقد قيل لهم يومئذ ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم فقالوا: لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ:اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك" وذكر لنا أنه قال يومئذ: "جاءت من مكة أفلاذها". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" وأقبل جبريل على إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبراً وشيعته فقال الرجل: يا سراقة إنك جار لنا فقال: " إني أرى ما لا ترون " وذلك حين رأى الملائكة "إني أخاف الله والله شديد العقاب"، قال ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين وقلل المشركين في أعين المسلمين فقال المشركون: وما هؤلاء غر هؤلاء دينهم وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله: "ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم".وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن رفاعة بن رافع الأنصاري قال: لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هارباً حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال: اللهم إن أسألك نظرتك إياي. وأخرج الواقدي وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إني أرى ما لا ترون" قال: ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة وقال: "إني أخاف الله" كذب عدو الله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له به ولا منعة له. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن معمر قال: ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إذ يقول المنافقون" قال: وهم يومئذ في المسلمين. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "والذين في قلوبهم مرض" قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي في قوله: "والذين في قلوبهم مرض" قال: هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا المسلمين قالوا: " غر هؤلاء دينهم ". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي نحوه.
قوله: 50- "ولو ترى" الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له كما تقدم تحقيقه في غير موضع، والمعنى: ولو رأيت، لأن لو تقلب المضارع ماضياً، و "إذ" ظرف لترى، والمفعول محذوف: أي ولو ترى الكافرين وقت توفي الملائكة لهم، قيل: أراد بالذين كفروا من لم يقتل يوم بدر، وقيل: هي فيمن قتل ببدر وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً، وجملة "يضربون وجوههم" في محل نصب على الحال، والمراد بأدبارهم أستاههم، كنى عنها بالأدبار، وقيل: ظهورهم، قيل: هذا الضرب يكون عند الموت كما يفيده ذكر التوفي، وقيل: هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار. قوله: "وذوقوا عذاب الحريق" قاله الفراء، المعنى: ويقولون ذوقوا عذاب الحريق، والجملة معطوفة على يضربون، وقيل: إنه يقول لهم هذه المقالة خزنة جهنم، والذوق قد يكون محسوساً، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، وأصله من الذوق بالفم.
والإشارة بقوله: 51- "ذلك" إلى ما تقدم من الضرب والعذاب والباء في "بما قدمت أيديكم" سببية: أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي واقترفتم من الذنوب، وجملة "وأن الله ليس بظلام للعبيد" في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي والأمر أنه لا يظلمهم، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبراً لقوله: "ذلك" وهي "بما قدمت أيديكم" أي ذلك العذاب بسبب المعاصي، وبسبب "أن الله ليس بظلام للعبيد" لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأوضح لهم السبيل، وهداهم النجدين كما قال سبحانه: "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".
قوله: 52- "كدأب آل فرعون" لما ذكر الله سبحانه ما أنزله بأهل بدر أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين، والدأب: العادة، والكاف في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف: أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون "والذين من قبلهم". والمعنى: أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك، فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر، وجملة قوله: "كفروا بآيات الله" مفسرة لدأب آل فرعون: أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله، فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم، والمراد بذنوبهم: معاصيهم المترتبة على كفرهم، فيكون الباء في "بذنوبهم" للملابسة، أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجملة "إن الله قوي شديد العقاب" معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.