تفسير الطبري تفسير الصفحة 183 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 183
184
182
 الآية : 46
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا أيها المؤمنون ربكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه, ولا تخالفوهما في شيء. وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا يقول: ولا تختلفوا فتفرّقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا, يقول: فتضعفوا وتجبنوا, وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وهذا مثل, يقال للرجل إذا كان مقبلاً عليه ما يحبه ويُسَرّ به: الريح مقبلة عليه, يعني بذلك ما يحبه, ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص:
كمَا حَمَيْناكَ يَوْمَ النّعْفِ مِنْ شَطِبٍوالفَضْلُ للْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ
يعني من البأس والكثرة. وإنما يراد به في هذا الموضع: وتذهب قوّتكم وبأسكم فتضعفوا, ويدخلكم الوهن والخلل.
وَاصْبِرُوا يقول: اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء عدوّكم, ولا تنهزموا عنه وتتركوه. إنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ يقول: اصبروا فإني معكم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12615ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال: نصركم. قال: وذهبت ريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أُحد.
حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فذكر نحوه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه, إلا أنه قال: ريح أصحاب محمد حين تركوه يوم أُحد.
12616ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال: حربكم وجدّكم.
12617ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال: ريح الحرب.
12618ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال: الريح: النصر. لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدوّ, فإذا كان ذلك لم يكن لهم قوام.
12619ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا أي لا تختلفوا فيتفرّق أمركم. وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فيذهب جدّكم. وَاصْبِرُوا إنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ: أي إني معكم إذا فعلتم ذلك.
12620ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا قال: الفشل: الضعف عن جهاد عدوّه والانكسار لهم, فذلك الفشل.
الآية : 47
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }.
وهذا تَقَدّمٌ من الله جلّ ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله لا يعملوا عملاً إلا لله خاصة وطلب ما عنده لا رئاء الناس كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلب رئاء الناس وذلك أنهم أخبروا بفوت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقيل لهم: انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها, فأبوا وقالوا: نأتي بدرا فنشرب بها الخمر وتعزف علينا القيان وتتحدث بنا العرب لمكانتنا فيها. فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا. كما:
12621ـ حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد, قال: ثني أبي, قال: حدثنا أبان, قال: حدثنا هشام بن عروة, عن عروة قال: كانت قريش قبل أن يلقاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: إنا قد أجزنا القوم فارجعوا فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشا بالرجعة بالجحفة, فقالوا: والله لا نرجع حتى ننزل بدرا فنقيم فيه ثلاث ليال ويرانا من غشينا من أهل الحجاز, فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا وهم الذين قال الله: الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم, ففتح الله على رسوله وأخزى أئمة الكفر, وشفى صدور المؤمنين منهم.
12622ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: ثني ابن إسحاق في حديث ذكره, قال: ثني محمد بن مسلم وعاصم بن عمرو, وعبد الله بن أبي بكر, ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا, عن ابن عباس, قال: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره, أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم, فقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب, يجتمع لهم بها سوق كلّ عام فنقيم عليه ثلاثا, وننحر الجزر, ونطعم الطعام, ونُسقي الخمور, وتعزف علينا القيان, وتسمع بنا العرب, فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا
12623ـ قال ابن حميد: حدثنا سلمة, قال: قال ابن إسحاق: وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ: أي لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا: لا نرجع حتى نأتي بدرا وننحر بها الجزر ونسقي بها الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أي لا يكوننّ أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس, وأخلصوا لله النية والحسبة في نصر دينكم, وموازرة نبيكم أي لا تعملوا إلا لله ولا تطلبوا غيره.
12624ـ حدثني محمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيل وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال: أصحاب بدر.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر.
12625ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله. قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: هم مشركو قريش, وذلك خروجهم إلى بدر.
12626ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ يعني المشركين الذي قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
12627ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال: هم قريش وأبو جهل وأصحابه الذين خرجوا يوم بدر.
12628ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قال: كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبيّ الله يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر, وقد قيل لهم يومئذ: ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم قالوا: لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا. قال: وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم, قال يومئذ: «اللّهُم إن قُرَيْشا أقْبَلَتْ بِفَخْرِها وخُيَلائها لِتُحادّكَ وَرَسُولكَ».
12629ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: ذكر المشركين وما يطعمون على المياه, فقال: وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ.
12630ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا قال: هم المشركون خرجوا إلى بدر أشرا وبطرا.
12631ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي, قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر, خرجوا بالقيان والدفوف, فأنزل الله: وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
فتأويل الكلام إذن: ولا تكونوا أيها المؤمنون بالله ورسوله في العمل بالرياء والسمعة وترك إخلاص العمل لله واحتساب الأجر فيه, كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرا ومراءاة الناس بزيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم. وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول: ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام بقتالهم إياهم وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله, والله بما يعملون من الرياء والصدّ عن سبيل الله وغير ذلك من أفعالهم محيط, يقول: عالم بجميع ذلك, لا يخفى عليه منه شيء وذلك أن الأشياء كلها له متجلية, لا يعزب عنه منها شيء, فهو لهم بها معاقب وعليها معذّب.
الآية : 48
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جَارٌ لّكُمْ فَلَمّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىَ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِيَءٌ مّنْكُمْ إِنّيَ أَرَىَ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أَعمالَهُمْ وحين زين لهم الشيطان أعمالهم.
وكان تزيينه ذلك لهم كما:
12632ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته في صورة رجل من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم, فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطفّ الناس, أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب, فرمى بها في وجوه المشركين, فولوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس, فلما رآه, وكانت يده في يد رجل من المشركين, انتزع إبليس يده, فولى مدبرا هو وشيعته, فقال الرجل: يا سراقة تزعم أنك لنا جار؟ قال: إنّي أرَى ما لا تَرَوْنَ إنّي أخافُ اللّهُ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقابِ وذلك حين رأى الملائكة.
12633ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني الشاعر ثم المدلجي, فجاء على فرس فقال للمشركين: لا غالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاسِ فقالوا: ومن أنت؟ قال: أنا جاركم سراقة, وهؤلاء كنانة قد أتوكم.
12634ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: قال ابن إسحاق, ثني يزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير, قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر يعني من الحرب فكاد ذلك أن يثبطهم, فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجيّ, وكان من أشراف بني كنانة, فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا.
12635ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: قال ابن إسحاق, في قوله: وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِب لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاسِ وإنّي جارٌ لَكُمْ فذكر استدراج إبليس إياهم وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب التي كانت بينهم. يقول الله: فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوّهم, نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إني أرَى ما لا ترون وصدق عدوّ الله أنه رأى ما لا يرون. وقال: إنّي أخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقابِ, فأوردهم ثم أسلمهم. قال: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لا ينكرونه, حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان, كان الذي رآه حين نكص الحرث بن هشام أو عمير بن وهب الجمحي, فذكر أحدهما فقال: أين سراقة؟ أسلمنا عدو الله وذهب.
12636ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أعْمالَهُمْ... إلى قوله: شَدِيدُ العِقابِ قال: ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة, فزعم عدوّ الله أنه لا يدى له بالملائكة, وقال: إني أرى ما لا ترون, إني أخاف الله. وكذب والله عدوّ الله, ما به مخافة الله, ولكن علم أن لا قوّة له ولا منعة له, وتلك عادة عدوّ الله لمن أطاعه واستعاذ به, حتى إذا التقى الحقّ والباطل أسلمهم شرّ مسلم وتبرأ منهم عند ذلك.
12637ـ حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أعْمالَهُمْ... الاَية, قال: لما كان يوم بدر, سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين, وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم وإني جار لكم. فلما التقوا ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة نكص على عقبيه, قال: رجع مدبرا وقال: إنّي أرَى ما لا تَرَوْنَ... الاَية.
12638ـ حدثنا أحمد بن الفرج, قال: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون, قال: حدثنا مالك, عن إبراهيم بن أبي عبلة, عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رُؤِيَ إبْلِيسُ يَوْما هُوَ فِيهِ أصْغَرُ وَلا أحْقَرُ وَلا أدْحَرُ وَلا أغْيَظُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَذلكَ مِمّا يَرَى مِنْ تَنْزِيلِ الرّحْمَةِ وَالعَفْوِ عَنِ الذّنُوبِ, إلاّ ما رأى يَوْمَ بَدْرٍ». قالوا: يا رسول الله: وما رأى يوم بدر؟ قال: «أَمَا إنّهُ رأى جِبْرِيلَ يَزَعُ المَلائِكَةَ».
12639ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سليمان بن المغيرة, عن حميد بن هلال, عن الحسن, في قوله: إنّي أرَى ما لا تَرَوْنَ قال: رأى جبريل معتجرا ببرد يمشي بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم, وفي يده اللجام, ما ركب.
12640ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا هاشم بن القاسم, قال: حدثنا سليمان بن المغيرة, عن حميد بن هلال, قال: قال الحسن: وتلا هذه الاَية: وَإذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطانُ أعْمالَهُمْ... الاَية, قال: سار إبليس مع المشركين ببدر برايته وجنوده, وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين آبائكم, ولن تغلبوا كثرةً. فلما التقوا نكص على عقيبه, يقول: رجع مدبرا, وقال: إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون. يعني الملائكة.
12641ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب, قال: لما أجمعت قريش على السير, قالوا: إنما نتخوّف من بني بكر. فقال لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم: أنا جار لكم من بني بكر, ولا غالب لكم اليوم من الناس.
فتأويل الكلام: وإن الله لسميع عليم في هذه الأحوال وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم أيها المؤمنون لحربكم وقتالكم, وحّسن ذلك لهم, وحثهم عليكم وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من بني آدم, فاطمئنوا وأبشروا, وإني جار لكم من كنانة أن تأتيكم من ورائكم فتغيركم أجيركم وأمنعكم منهم, ولا تخافوهم, واجعلوا جدّكم وبأسكم على محمد وأصحابه. فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ يقول: فما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين, ونظر بعضهم إلى بعض نَكَصَ على عَقِبَيْهِ يقول: رجع القهقرى على قفاه هاربا, يقال منه: نكص ينكُصُ وينكِصُ نُكُوصا, ومنه قول زهير:
هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ البَيْضِ إذْ لَحِقُوالا ينْكُصُونَ إذا ما اسْتُلْحِمُوا وحَمُوا
وقال للمشركين إنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنّي أرَى ما لا تَرَوْنَ يعني: أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددا للمؤمنين, والمشركون لا يرونهم إنّي أخَافُ عقاب الله وكذب عدوّ الله والله شَدِيدُ العِقَابِ.
الآية : 49
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ غَرّ هَـَؤُلآءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: وإن الله لسميع عليم في هذه الأحوال, وإذ يقول المنافقون. وكرّ بقوله: إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ على قوله: إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مِنامِكَ قَلِيلاً. والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني: شكّ في الإسلام لم يصح يقينهم, ولم تشرح بالإيمان صدورهم. غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ يقول: غرّ هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم دينهم, وذلك الإسلام. وذكر أن الذين قالوا هذا القول كانوا نفرا ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم. ذكر من قال ذلك:
12642ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن عامر في هذه الاَية: إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ قال: كان ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام, فخرجوا مع المشركين يوم بدر, فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ.
حدثني إسحاق بن شاهين, قال: حدثنا خالد, عن داود, عن عامر, مثله.
12643ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد, في قوله: إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ قال: فئة من قريش: قيس بن الوليد بن المغيرة, وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة, والحرث بن زمعة بن الأسود بن المطلب, وعليّ بن أمية بن خلف, والعاصي بن منبه بن الحجاج خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم, فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: غرّ هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوّهم
12644ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ قال: هم قوم لم يشدوا القتال يوم بدر, فسموا منافقين. قال معمر: وقال بعضهم: قوم كانوا أقرّوا بالإسلام وهم بمكة, فخرجوا مع المشركين يوم بدر, فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غرّ هؤلاء دينهم
12645ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ... إلى قوله: فإنّ اللّهَ عَزِيزٌ حكِيمٌ قال: رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله. وذكر لنا أن أبا جهل عدوّ الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, قال: والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتوّا.
12646ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج في قوله: إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: ناس كانوا من المنافقين بمكة, قالوه يوم بدر, وهم يومئذ ثلاث مئة وبضعةَ عَشَرَ رجلاً.
12647ـ قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, في قوله: إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: لما دنا القوم بعضهم من بعض, فقلل الله المسلمين في أعين المشركين, وقلل المشركين في أعين المسلمين, فقال المشركون: غرّ هؤلاء دينهم وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم, وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك, فقال الله: وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فإنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وأما قوله: وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فإن معناه: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به ويرض بقضائه, فإن الله حافظه وناصره لأنه عزيز لا يغلبه شيء ولا يقهره أحد, فجاره منيع ومن يتوكل عليه يكفه. وهذا أمر من الله جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم أن يفوّضوا أمرهم إليه ويسلموا لقضائه, كيما يكفيهم أعداءهم, ولا يستذلهم من ناوأهم لأنه عزيز غير مغلوب, فجاره غير مقهور. حِكِيمُ يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه, حكيم لا يدخل تدبيره خلل.
الآية : 50
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ يَتَوَفّى الّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو تعاين يا محمد حين يتوفى الملائكة أرواح الكفار فتنزعها من أجسادهم, تضرب الوجوه منهم والأستاه, ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12648ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: إذْ يَتَوَفّى في الّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدْبارَهُمْ قال: يوم بدر.
12649ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن أسلم, عن إسماعيل بن كثير, عن مجاهد: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدْبارَهُمْ قال: وأستاههم ولكن الله كريم يكني.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, حدثنا سفيان, عن أبي هاشم, عن مجاهد, في قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدْبارَهُمْ قال: وأستاههم ولكن الله كريم يكني.
12650ـ حدثني محمد بن المثنى, قال: حدثنا وهب بن جرير, قال: أخبرنا شعبة, عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, في قوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدْبارَهُمْ قال: إن الله كني, ولو شاء لقال: أستاههم, وإنما عنى بأدبارهم: أستاههم.
12651ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: أستاههم يوم بدر. قال ابن جريج: قال ابن عباس: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف, وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم.
12652ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا عباد بن راشد, عن الحسن, قال: قال رجل: يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك, فما ذاك؟ قال: «ضَرْبُ المَلائِكَةِ».
12653ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا إسرائيل, عن منصور, عن مجاهد: أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني حملت على رجل من المشركين, فذهبت لأضربه, فندر رأسه. فقال: «سَبَقَكَ إلَيْهِ المَلَكُ».
12654ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثني حرملة, أنه سمع عمر مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله يقول: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدْبارَهُمْ فإنما يريد أستاههم.
قال أبو جعفر: وفي الكلام محذوف استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره, وهو قوله: وَيَقُولُونَ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ حذفت «يقولون», كما حذفت من قوله: وَلَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبّهِمْ رَبّنا أبْصَرْنا وَسِمعْنا بمعنى: يقولون ربنا أبصرنا.
الآية : 51
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الملائكة لهؤلاء المشركين الذين قتلوا ببدر أنهم يقولون لهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم: ذوقوا عذاب الله الذي يحرقكم, هذا العذاب لكم بما قَدّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بما كسبت أيديكم من الاَثام والأوزار واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم, فذوقوا اليوم العذاب وفي معادكم عذاب الحريق وذلك لكم بأن الله ليس بظلام للعبيد, لا يعاقب أحدا من خلقه إلا بجرم اجترمه, ولا يعذبه إلا بمعصيته إياه, لأن الظلم لا يجوز أن يكون منه. وفي فتح «أن» من قوله: وأن الله وجهان من الإعراب: أحدهما النصب, وهو للعطف على «ما» التي في قوله: بِمَا قَدّمَتْ بمعنى: ذلك بما قدمت أيديكم, وبأن الله ليس بظلام للعبيد في قول بعضهم, والخفض في قول بعض. والاَخر: الرفع على ذلِكَ بما قَدّمَتْ وذلك أن الله.
الآية : 52
القول في تأويل قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنّ اللّهَ قَوِيّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }.
يقول تعالى ذكره: فعل هؤلاء المشركون من قريش الذين قتلوا ببدر كعادة قوم فرعون وصنيعهم وفعلهم, وفعل من كذب بحجج الله ورسله من الأمم الخالية قبلهم, ففعلنا بهم كفعلنا بأولئك. وقد بيّنا فيما مضى أن الدأب: هو الشأن والعادة, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
12655ـ حدثني الحرث, قال: ثني عبد العزيز, قال: حدثنا شيبان, عن جابر, عن عامر ومجاهد وعطاء: كَدأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ: كفعل آل فرعون, كسنن آل فرعون.
وقوله: فَأخَذَهُمُ اللّهُ بذُنُوِبِهِمْ يقول: فعاقبهم الله بتكذيبهم حججه ورسله ومعصيتهم ربهم, كما عاقب أشكالهم والأمم الذين قبلهم. إنّ اللّهَ قَوِيّ لا يغلبه غالب ولا يردّ قضاءه رادّ, ينفذ أمره ويمضي قضاءه في خلقه, شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حججه