تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 232 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 232

232- تفسير الصفحة رقم232 من المصحف
الآية: 89 {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد}
قوله تعالى: "ويا قوم لا يجرمنكم" وقرأ يحيى بن وثاب "يُجْرِمَنَّكُمْ". لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول: آثمني أي أدخلني في الإثم. "شقاقي" في موضع رفع. "أن يصيبكم" في موضع نصب، أي لا يحملنكم معاداتي على ترك الإيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار قبلكم، قاله الحسن وقتادة. وقيل: لا يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب، كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج. وقد تقدم معنى "يجرمنكم" في "المائدة" و"الشقاق" في "البقرة" وهو هنا بمعنى العداوة، قاله السدي، ومنه قول الأخطل:
ألا من مبلغ عني رسولا فكيف وجدتم طعم الشقاق
وقال الحسن البصري: إضراري. وقال قتادة: فراقي. "وما قوم لوط منكم ببعيد" وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. وقيل: وما ديار قوم لوط منكم ببعيد؛ أي بمكان بعيد، فلذلك وحد البعيد. قال الكسائي: أي دورهم في دوركم.
الآية: 90 {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود}
قوله تعالى: "واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه" تقدم. "إن ربي رحيم ودود" اسمان من أسمائه سبحانه، وقد بيناهما في كتاب "الأسنى في شرح الأسماء الحسنى". قال الجوهري: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود والمودة المحبة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: (ذاك خطيب الأنبياء).
الآية: 91 {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز}
قوله تعالى: "قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول" أي ما نفهم؛ لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور، وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله. وقيل: قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقارا لكلامه؛ يقال: فقه يفقه إذا فهم فقها؛ وحكى الكسائي: فقه فقها وفقها إذا صار فقيها. "وإنا لنراك فينا ضعيفا" قيل: إنه كان مصابا ببصره؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة. وقيل: كان ضعيف البصر؛ قاله الثوري، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا؛ أي قد ضعف بذهاب بصره؛ كما يقال، له ضرير؛ أي قد ضر بذهاب بصره؛ كما يقال له: مكفوف؛ أي قد كف عن النظر بذهاب بصره. قال الحسن: معناه مهين. وقيل: المعنى ضعيف البدن؛ حكاه علي بن عيسى. وقال السدي: وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا. وقيل: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و"ضعيفا" نصب على الحال. "ولولا رهطك" رفع بالابتداء، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم؛ ومنه الراهطاء لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده. ومعنى "لرجمناك" لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة، وكان رهطه من أهل ملتهم. وقيل: معنى "لرجمناك" لشتمناك؛ ومنه قول الجعدي:
تراجمنا بمر القول حتى نصير كأننا فرسا رهان
والرجم أيضا اللعن؛ ومنه الشيطان الرجيم. "وما أنت علينا بعزيز" أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.
الآية: 92 {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط}
قوله تعالى: "قال يا قوم أرهطي" "أرهطي" رفع بالابتداء؛ والمعنى أرهطي في قلوبكم "أعز عليكم من الله" وأعظم وأجل وهو يملككم. "واتخذتموه وراءكم ظهريا" أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا؛ أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي يقال: جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وقد مضى في "البقرة"، "إن ربي بما تعملون" أي من الكفر والمعصية. "محيط" أي عليم. وقيل: حفيظ.
الآيتان: 93 {ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب}
قوله تعالى: "ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون" تهديد ووعيد؛ وقد تقدم في "الأنعام". "من يأتيه عذاب يخزيه" أي يهلكه. و"من" في موضع نصب، مثل "يعلم المفسد من المصلح" [البقرة: 220]. "ومن هو كاذب" عطف عليها. وقيل: أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا. وقيل: في محل رفع؛ تقديره: ويخزي من هو كاذب. وقيل: تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه، ويذوق وبال أمره. وزعم الفراء أنهم إنما جاؤوا بـ "هو" في "ومن هو كاذب" لأنهم لا يقولون من قائم؛ إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم؛ فزادوا "هو" ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قوله:
من رسولي إلى الثريا بأني ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
"وارتقبوا إني معكم رقيب" أي انتظروا العذاب والسخطة؛ فإني منتظر النصر والرحمة.
الآية: 94 - 95 {ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود}
قوله تعالى: "ولما جاء أمرنا" قيل: صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم "وأخذت الذين ظلموا الصيحة" أي صيحة جبريل. وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: "وأخذ الذين ظلموا الصيحة" فذكر على معنى الصياح. قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم. "فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود" تقدم معناه. وحكى الكسائي أن أبا عبدالرحمن السلمي قرأ "كما بعدت ثمود" بضم العين. قال النحاس: المعروف في اللغة إنما يقال بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي: من ضم العين من "بعدت" فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد؛ وبعدت تستعمل في الشر خاصة؛ يقال: بعد يبعد بعدا؛ فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى؛ فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني.
الآيتان: 96 - 97 {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد}
قوله تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا" بين أنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة، وإزاحة كل علة "بآياتنا" أي بالتوراة. وقيل: بالمعجزات. "وسلطان مبين" أي حجة بينة؛ يعني العصا. وقد مضى في "آل عمران" معنى السلطان واشتقاقه فلا معنى للإعادة. "إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون" أي شأنه وحاله، حتى اتخذوه إلها، وخالفوا أمر الله تعالى. "وما أمر فرعون برشيد" أي بسديد يؤدي إلى صواب: وقيل: "برشيد" أي بمرشد إلى خير.