تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 243 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 243

243- تفسير الصفحة رقم243 من المصحف
الآية: 64 {قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين}
قوله تعالى: "قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل" أي قد فرطتم في يوسف فكيف آمنكم على أخيه!. "فالله خير حفظا" نصب على البيان، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين "حافظا" على الحال. وقال الزجاج: على البيان؛ وفي هذا دليل على أنه أجابهم إلى إرسال معهم؛ ومعنى الآية: حفظ الله له خير من حفظكم إياه. قال كعب الأحبار: لما قال يعقوب: "فالله خير حافظا" قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأردن عليك ابنيك كليهما بعدما توكلت علي
الآية: 65 {ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير}
قوله تعالى: "ولما فتحوا متاعهم" الآية ليس فيها معنى يشكل. "ما نبغي" "ما" استفهام في موضع نصب؛ والمعنى: أي شيء نطلب وراء هذا؟! وفي لنا الكيل، ورد علينا الثمن؛ أرادوا بذلك أن يطيبوا نفس أبيهم. وقيل: هي نافية؛ أي لا نبغي منك دراهم ولا بضاعة، بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا. وروي عن علقمة "ردت إلينا" بكسر الراء؛ لأن الأصل، رددت؛ فلما أدغم قلبت حركة الدال على الراء. وقوله: "ونمير أهلنا" أي نجلب لهم الطعام؛ قال الشاعر:
بعثتك مائرا فمكثت حولا متى يأتي غياثك من تغيث
وقرأ السلمي بضم النون، أي نعينهم على الميرة. "ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير" أي حمل بعير لبنيامين.
الآية: 66 {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل}
قوله تعالى: "تؤتون" أي تعطوني. "موثقا من الله" أي عهدا يوثق به. قال السدي: حلفوا بالله ليردنه إليه ولا يسلمونه؛ واللام في "لتأتنني" لام القسم. "إلا أن يحاط بكم" قال مجاهد: إلا أن تهلكوا أو تموتوا. وقال قتادة: إلا أن تغلبوا عليه. قال الزجاج: وهو في موضع نصب. "فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل" أي حافظ للحلف. وقيل: حفيظ للعهد قائم بالتدبير والعدل.
هذه الآية أصل في جواز الحمالة بالعين والوثيقة بالنفس؛ وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالك وجميع أصحابه وأكثر العلماء: هي جائزة إذا كان المتحمل به مالا. وقد ضعف الشافعي الحمالة بالوجه في المال؛ وله قول كقول مالك. وقال عثمان البتي: إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح فإنه إن لم يجيء به لزمه الدية وأرش الجراح، وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل؛ فهذه ثلاثة أقوال في الحمالة بالوجه. والصواب تفرقة مالك في ذلك، وأنها تكون في المال، ولا تكون في حد أو تعزير، على ما يأتي بيانه:
الآية: 67 {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون}
لما عزموا على الخروج خشي عليهم العين؛ فأمرهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد، وكانت مصر لها أربعة أبواب؛ وإنما خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلا لرجل واحد؛ وكانوا أهل جمال وكمال وبسطة؛ قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم.
إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرز من العين، والعين حق؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر). وفي تعوذه عليه السلام: (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة) ما يدل على ذلك.
وروى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلا ابيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء! فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله؛ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: (علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق توضأ له) فتوضأ عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس؛ في رواية (اغتسل) فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه؛ فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس. وركب سعد بن أبي وقاص يوما فنظرت إليه امرأة فقالت: إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين؛ فرجع إلى منزله فسقط، فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له؛ ففي هذين الحديثين أن العين حق، وأنها تقتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا قول علماء الأمة، ومذهب، أهل السنة؛ وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالسنة وإجماع علماء هذه الأمة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود؛ فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال: "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" [البقرة: 102]. قال الأصمعي: رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه شخبها فقال: أيتهن هذه؟ فقالوا: الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعا، المروى بها والمورى عنها. قال الأصمعي. وسمعته يقول: إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني.
واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك؛ فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة؛ ألا ترى قوله عليه السلام لعامر: (ألا بركت) فدل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن، وأنها إنما تعدو إذا لم يبرك. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين! اللهم بارك فيه.
العائن إذا أصاب بعينه ولم يبرك فإنه يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه؛ لأن الأمر على الوجوب، لا سيما هذا؛ فإنه قد يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، ولا سيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه.
من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعا لضرره؛ وقد قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته؛ وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، ويكف أذاه عن الناس. وقد قيل: إنه ينفى؛ وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال؛ فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائنا، وأنه لا يقدح فيه ولا يفسق به؛ ومن قال: يحبس ويؤمر بلزوم بيته. فذلك احتياط ودفع ضرر، والله أعلم.
روى مالك عن حميد بن قيس المكي أنه قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما: (ما لي أراهما ضارعين) فقالت حاضنتهما: يا رسول الله! إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر سبقته العين). وهذا الحديث منقطع، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عميس الخثعمية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح؛ وفيه أن الرقي مما يستدفع به البلاء، وأن العين تؤثر في الإنسان وتضرعه، أي تضعفه وتنحله؛ وذلك بقضاء الله تعالى وقدره. ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار، والله أعلم.
أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر هنا بالاسترقاء؛ قال علماؤنا: إنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن؛ وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء على حديث أبي أمامة، والله أعلم.
قوله تعالى: "وما أغني عنكم من الله من شيء" أي من شيء أحذره عليكم؛ أي لا ينفع الحذر مع القدر. "إن الحكم إلا لله" أي الأمر والقضاء لله. "عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون" أي اعتمدت ووثقت. "وعليه فليتوكل المتوكلون".
الآية: 68 {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
قوله تعالى: "ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم" أي من أبواب شتى. "ما كان يغني عنهم من الله من شيء" إن أراد إيقاع مكروه بهم. "إلا حاجة" استثناء ليس من الأول. "في نفس يعقوب قضاها" أي خاطر خطر بقلبه؛ وهو وصيته أن يتفرقوا؛ قال مجاهد: خشية العين، وقد تقدم القول فيه. وقيل: لئلا يرى الملك عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسدا أو حذرا؛ قاله بعض المتأخرين، واختاره النحاس، وقال: ولا معنى للعين هاهنا. ودلت هذه الآية على أن المسلم يجب عليه أن يحذر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة؛ فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم.
قوله تعالى: "وإنه" يعني يعقوب. "لذو علم لما علمناه" أي بأمر دينه. وقيل: "لذو علم" أي عمل؛ فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه. "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي لا يعلمون ما يعلم يعقوب عليه السلام من أمر دينه.
الآية: 69 {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون}
قوله تعالى: "ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه" قال قتادة: ضمه إليه، وأنزله معه. وقيل: أمر أن ينزل كل اثنين في منزل، فبقى أخوه منفردا فضمه إليه وقال: أشفقت عليه من الوحدة، "قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون" قال له سرا من إخوته: "إني أنا أخوك فلا تبتئس" أي لا تحزن "بما كانوا يعملون".