تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 243 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 243

242

وجملة 64- " قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل " مستأنفة جواب سؤال مقدر كما تقدم في نظائر ذلك في مواضع كثيرة، والمعنى: أنه لا يأمنهم على بنيامين إلا كما أمنهم على أخيه يوسف وقد قالوا له في يوسف "وإنا له لحافظون" كما قالوا هنا "وإنا له لحافظون" ثم خانوه في يوسف فهو إن أمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه فيه كما خانوه في يوسف "فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين" لعل هنا إضماراً والتقدير فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم وقال: فالله خير حفظاً. قرأ أهل المدينة حفظاً وهو منتصب على التمييز، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر. وقرأ سائر الكوفيون حافظاً وهو منتصب على الحال. وقال الزجاج: على البيان يعني التمييز، ومعنى الآية: أن حفظ الله خير من حفظهم له، لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف: "وأخاف أن يأكله الذئب" وقع له من الامتحان ما وقع.
65-" ولما فتحوا متاعهم" أي أوعية الطعام أو ما أعم من ذلك مما يطلق عليه لفظ المتاع سواء كان الذي فيه طعاماً أو غير طعام "وجدوا بضاعتهم ردت إليهم" أي البضاعة التي حملوها إلى مصر ليمتاروا بها، وقد تقدم بيانها، وجملة "قالوا يا أبانا" مستأنفة كما تقدم "ما نبغي" ما استفهامية والمعنى: أي شيء نطلب من هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان برد البضاعة والإكرام عند القدوم إليه، وتوفير ما أردناه من [الميرة]، ويكون الاستفهام للإنكار، وجملة "هذه بضاعتنا ردت إلينا" مقررة لما دل عليه الاستفهام من الإنكار لطلب شيء مع كونها قد ردت إليهم، وقيل إن ما في ما ينبغي نافية أي ما نبغي في القول وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا، ثم برهنوا على ما لقوه من التزيد في وصف الملك بقولهم: "هذه بضاعتنا ردت إلينا" فإن من تفضل عليهم برد ذلك حقيق بالثناء عليه منهم، مستحق لما وصفوه به، ومعنى "ونمير أهلنا" نجلب إليهم الميرة وهي الطعام، والمائر الذي يأتي بالطعام. وقرأ السلمي بضم النون، وهو معطوف على مقدر يدل عليه السياق والتقدير: هذه بضاعتنا ردت إلينا فنحن نستعين بها على الرجوع ونمير أهلنا "ونحفظ أخانا" بنيامين مما تخافه عليه "ونزداد" بسبب إرساله معنا "كيل بعير" أي حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة، لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير، ومعنى "ذلك كيل يسير" أن زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك، ولا يمتنع علينا من زيادته له لكونه يسيراً لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه، وقيل إن المعنى: ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل بعير لأخينا. واختار الزجاج الأول. وقيل إن هذا من كلام يعقوب جواباً على ما قاله أولاده: "ونزداد كيل بعير" يعني إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لأجله بالولد وهو ضعيف.
لأن جواب يعقوب هو 66- "قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله" أي حتى تعطوني ما أثق به وأركن إليه من جهة الله سبحانه، وهو الحلف به، واللام في "لتأتنني به" جواب القسم، لأن معنى "حتى تؤتون موثقاً من الله": حتى تحلفوا بالله لتأتني به: أي لتردن بنيامين إلي، والاستثناء بقوله "إلا أن يحاط بكم" هو من أعم العام، لأن "لتأتنني به" وإن كان كلاماً مثبتاً فهو في معنى النفي ، فكأنه قال: لا تمنعون من إتياني به في حال من الأحوال لعلة من العلل إلا لعلة الإحاطة بكم، والإحاطة مأخوذة من إحاطة العدو، ومن أحاط به العدو فقد غلب أو هلك، فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنيامين إلا أن تغلبوا عليه أو تهلكوا دونه، فيمون ذلك عذراً لكم عندي " فلما آتوه موثقهم " أي أعطوه ما طلبه منهم من اليمين "قال الله على ما نقول وكيل" أي قال يعقوب: الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية، فهو المعاقب لمن خاس في عهده وفجر في الحلف به، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن إخوة يوسف لما دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون، جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه، فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن. فقال: إن هذا الجام ليخبرني عنكم خبراً، هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف؟ وكان أبوه يحبه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال: فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون. وأخرج أبو الشيخ عن وهيب قال: لما جعل يوسف ينقر الصواع ويخبرهم قام إليه بعض إخوته فقال: أنشدك بالله أن لا تكتشف لنا عورة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " ائتوني بأخ لكم من أبيكم " قال: يعني بنبامين، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "وأنا خير المنزلين" قال: خير من يضيف بمصرز وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: " لفتيانه " أي لغلمانه " اجعلوا بضاعتهم " أي أوراقهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا" يقولون ما نبغي وراء هذا "ونزداد كيل بعير" أي حمل بعير. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "ونزداد كيل بعير" قال: حمل حمار، قال وهي لغة، قال أبو عبيد: يعني مجاهداً أن الحماريقال له في بعض اللغات بعير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "إلا أن يحاط بكم" قال: تهلكوا جميعاً، وفي قوله " فلما آتوه موثقهم " قال: عهدهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "إلا أن يحاط بكم" قال لا تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك.
لما تجهز أولاد يعقوب للمسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد. فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد لأن في ذلك مظنة لإصابة الأعين لهم، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، ولم يكتف بقوله: 67- "لا تدخلوا من باب واحد" عن قوله: "وادخلوا من أبواب متفرقة" لأنهم لو دخلوا من بابين مثلاً كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلاً نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، قيل وكانت أبواب مصر أربعة. وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم والبلخي أن للعين تأثيراً، وقالا: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به. وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما، فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم، وأي مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك؟ وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حق، وأصيب بها جماعة في عصر النبوة، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره، فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدعيه على العقل حتى يضم إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة والمذاهب الزائفة.وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتد به من هذه الأمة سلفاً وخلفاً، وبما هو مشاهد في الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب. وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم، يمنع من الاتصال بالناس دفعاً لضروره بحبس أو غيره من لزوم بيته، وقيل ينفى، وأبعد من قال إنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينجز عن ذلك، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل. ثم قال يعقوب لأولاده "وما أغني عنكم من الله من شيء" أي لا أدفع عنكم ضرراً ولا أجلب إليكم نفعاً بتدبيري هذا، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة. قال الزجاج وابن الأنباري: لو سيق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون: ما كان يغني عنهم يعقوب شيئاً قط حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم، ثم صرح يعقوب بأنه لا حكيم إلا الله سبحانه فقال: "إن الحكم إلا لله" لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ك "عليه توكلت" في كل إيراد وإصدار لا على غيره: أي اعتمدت ووثقت "وعليه" لا على غيره "فليتوكل المتوكلون" على العموم.
ويدخل فيه أولاده دخولاً أولياً 68- "ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم" أي من الدخول "من الله" أي من جهته "من شيء" من الأشياء مما قدره الله عليهم لأن الحذر لا يدفع القدر، والاستثناء بقوله" إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها " منقطع، والمعنى: ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب، وهي شفقته عليهم ومحبته لسلامتهم قضاها الله عليهم، وقيل إنه خطر ببال يعقوب أن الملك إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة، وسيما الشجاعة أوقع بهم حسداً وحقداً أو خوفاً منهم، فأمرهم بالتفرق لهذه العلة. وقد اختار هذا النحاس وقال: لا معنى للعين ها هنا. وفيه أن هذا لو كان هو السبب لأمرهم بالتفرق ولم يخص النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من باب واحد، لأن هذا الحسد أو الخوف بحصل باجتماعهم داخل المدينة كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد. وقيل إن الفاعل في قضاها ضمير يعود الدخول لا إلى يعقوب. والمعنى: ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئاً، ولكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته "وإنه لذو علم لما علمناه" أي وإن يعقوب لصاحب علم لأجل تعليم الله إياه بما أوحاه الله من ان الحذر لا يدفع القدر، وأن ما قضاه الله سبحانه فهو كائن لا محالة "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" بذلك كما ينبغي، وقيل لا يعلمون أن الحذر مندوب إليه وإن كان لا يغني من القدر شيئاً، والسياق يدفعه.
وقيل إن المراد بأكثر الناس المشركون 69- " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه " أي ضم إليه أخاه بنيامين، قيل إنه بإنزال كل إثنين في منزلك فبقي أخوه منفرداً فضمه إليه و "قال إني أنا أخوك" يوسف، قال له ذلك سراً، من دون أن يطلع عليه إخوته "فلا تبتئس" أي فلا تحزن "بما كانوا يعملون" أي إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها، وقيل إنه لم يخبره بأنه يوسف، بل قال له: إني أخوك مكان أخيك يوسف فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسداً وبغياً، وقيل إنه أخبره بما سيدبره معهم من جعل السقاية في رحله، فقال لا أبالي، وقيل إنه لما أخبر يوسف أخاه بنيامين بأنه أخوه قال: لا تردني إليهم، فقال قد علمت اغتمام أبينا يعقوب فإذا حبستك عندي ازداد غمه، فأتى بنيامين فقال له يوسف: لا يمكن حبسك عندي إلا بأن أنسبك إلى ما لا يجمل بك،فقال لا أبالي، فدس الصاع في رحله، وهو المراد بالسقاية وأصلها المشربة التي يشرب بها جعلت صاعاً يكال به، وقيل كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحب، وقيل كانت من فضة وقيل كانت من ذهب، وقيل غير ذلك. وقد تقدم تفسير الجهاز والرحل. والمعنى: أنه جعل السقاية التي هو الصواع في رحل أخيه الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر.