تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 251 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 251

251- تفسير الصفحة رقم251 من المصحف
الآية: 14 {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}
قوله تعالى: "له دعوة الحق" أي لله دعوة الصدق. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: لا إله إلا الله. وقال الحسن: إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل: إن الإخلاص في الدعاء هو دعوة الحق؛ قال بعض المتأخرين. وقيل: دعوة الحق دعاؤه عند الخوف؛ فإنه لا يدعى فيه إلا إياه. كما قال: "ضل من تدعون إلا إياه" [الإسراء: 67]؛ قال الماوردي: وهو أشبه بسياق الآية؛ لأنه قال: "والذين يدعون من دونه" يعني الأصنام والأوثان. "لا يستجيبون لهم بشيء" أي لا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء. "إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه" ضرب الله عز وجل الماء مثلا ليأسهم من الإجابة لدعائهم؛ لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد؛ قال:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد
وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا، لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه؛ قاله مجاهد. الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه، وفساد توهمه؛ قاله ابن عباس. الثالث: أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شيء منه. وزعم الفراء أن المراد بالماء ههنا البئر؛ لأنها معدن للماء، وأن المثل كمن مد يده إلى البئر بغير رشاء؛ وشاهده قول الشاعر:
فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويت
قال علي رضي الله عنه: هو كالعطشان على شفة البئر، فلا يبلغ قعر البئر، ولا الماء يرتفع إليه، ومعنى "إلا كباسط" إلا كاستجابة باسط كفيه "إلى الماء" فالمصدر مضاف إلى الباسط، ثم حذف المضاف؛ وفاعل المصدر المضاف مراد في المعنى وهو الماء؛ والمعنى: إلا كإجابة باسط كفيه إلى الماء؛ واللام في قوله: "ليبلغ فاه" متعلقة بالبسط، وقوله: "وما هو ببالغه" كناية عن الماء؛ أي وما الماء ببالغ فاه. ويجوز أن يكون "هو" كناية عن الفم؛ أي ما الفم ببالغ الماء. "وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال، لأنها شرك، وقيل: إلا في ضلال أي يضل عنهم ذلك الدعاء، فلا يجدون منه سبيلا؛ كما قال: "أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا" [الأعراف: 37] وقال ابن عباس: أي أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاءهم.
الآية: 15 {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال}
قوله تعالى: "ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها" قال الحسن وقتادة وغيرهما: المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجر كرها بالسيف. وعن قتادة أيضا: يسجد الكافر كارها حين لا ينفه الإيمان. وقال الزجاج: سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة. وقال ابن زيد: "طوعا" من دخل في الإسلام رغبة، و"كرها" من دخل فيه رهبة بالسيف. وقيل: "طوعا" من طالت مدة إسلامه فألف السجود، و"كرها" من يكره نفسه لله تعالى؛ فالآية في المؤمنين، وعلى هذا يكون معنى "والأرض" وبعض من في الأرض. قال القشري: وفي الآية مسلكان: أحدهما: أنها عامة والمراد بها التخصيص؛ فالمؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين؛ فالآية محمولة على هؤلاء، ذكره الفراء. وقيل على هذا القول: الآية في المؤمنين؛ منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه؛ لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا، إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه. والمسلك الثاني: وهو الصحيح - إجراء الآية على التعميم؛ وعلى هذا طريقان: أحدهما: أن المؤمن يسجد طوعا، وأما الكافر فمأمور: السجود مؤاخذ به. والثاني: وهو الحق - أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق، يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع؛ وهذا كقوله: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" [الإسراء: 44] وهو تسبيح دلالة لا تسبيح عبادة.
قوله تعالى: "وظلالهم بالغدو والآصال" أي ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال؛ لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية؛ وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء؛ وهو كقوله تعالى: "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون" [النحل: 48] قال ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع؛ وظل الكافر يسجد كرها وهو كاره. وقال ابن الأنباري: يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت. قال القشيري: في هذا نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، والسجود بمعنى الميل؛ فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب؛ يقال: سجدت النخلة أي مالت. و"الآصال" جمع أصل، والأصل جمع أصيل؛ وهو ما بين العصر إلى الغروب، ثم أصائل جمع الجمع؛ قال أبو ذؤيب الهذلي:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
و"ظلالهم" يجوز أن يكون معطوفا على "من" ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ التقدير: وظلالهم سجد بالغدو والآصال و"بالغدو" يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون جمع غداة؛ يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به.
الآية: 16 {قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار}
قوله تعالى: "قل من رب السماوات والأرض قل الله" أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: "قل من رب السماوات والأرض" ثم أمره أن يقول لهم: هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو. "قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا" هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله: "قل أفاتخذتم من دونه أولياء" معنى؛ دليله قوله: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله" [الزمر: 38] أي فإذا اعترفتم فلم تعبدون غيره؟،! وذلك الغير لا ينفع ولا يضر؛ وهو إلزام صحيح. ثم ضرب لهم مثلا فقال: "قل هل يستوي الأعمى والبصير" فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق، والمشرك الذي لا يبصر الحق. وقيل: الأعمى مثل لما عبدوه من دون الله، والبصير مثل الله تعالى: "أم هل تستوي الظلمات والنور" أي الشرك والإيمان. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي "يسوي" بالياء لتقدم الفعل؛ ولأن تأنيث "الظلمات" ليس بحقيقي. الباقون بالتاء؛ واختاره أبو عبيد، قال: لأنه لم يحل بين المؤنث والفعل حائل. و"الظلمات والنور" مثل الإيمان والكفر؛ ونحن لا نقف على كيفية ذلك. "أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم" هذا من تمام الاحتجاج؛ أي خلق غير الله مثل خلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. "قل الله خالق كل شيء" أي قل لهم يا محمد: "الله خالق كل شيء"، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. "وهو الواحد" قبل كل شيء. "القهار" الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد. قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع؛ أي سلهم عن خالق السماوات والأرض، فإنه يسهل تقرير الحجة فيه عليهم، ويقرب الأمر من الضرورة؛ فإن عجز الجماد وعجز كل مخلوق عن خلق السماوات والأرض معلوم، وإذا تقرر هذا وبان أن الصانع هو الله فكيف يجوز اعتداد الشريك له؟ ! وبين في أثناء الكلام أنه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟ !.
الآية: 17 {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}
قوله تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا" ضرب مثلا للحق والباطل؛ فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح؛ فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، عله، ما نبينه. قال مجاهد: "فسالت أودية بقدرها" قال: بقدر ملئها. وقال ابن جريج: بقدر صغرها وكبرها. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن "بقدرها" بسكون الدال، والمعنى واحد. وقيل: معناها بما قدر لها. والأودية. جمع الوادي؛ وسمي واديا لخروجه وسيلانه؛ فالوادي على هذا اسم للماء السائل. وقال أبو علي: "فسالت أودية" توسع؛ أي سال ماؤها فحذف، قال: ومعنى "بقدرها" بقدر مياهها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. "فاحتمل السيل زبدا رابيا" أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء؛ وتم الكلام؛ قال مجاهد. ثم قال: "ومما يوقدون عليه في النار" وهو المثل الثاني. "ابتغاء حلية" أي حلية الذهب والفضة. "أو متاع زبد مثله" قال مجاهد: الحديد والنحاس والرصاص. وقوله: "زبد مثله" أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل؛ وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب؛ فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض. وقوله: "كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء" قال مجاهد: جمودا. وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء: أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها، وإذا جمد في أسفلها. والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ "جفالا" قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. "وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" قال مجاهد: هو الماء الخالص الصافي. وقيل: الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص؛ وهو أن المثلين ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد. والخبث. وقيل: المراد مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب؛ فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس: "أنزل من الماء ماء" قال: قرآنا، "فسالت أودية بقدرها" قال: الأودية قلوب العباد. قال صاحب "سوق العروس" إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء. ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي، ومثل المتشابه بالزبد. وقيل: الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها، كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا، وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال النية. والأخلاق الزكية؛ التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء. وبهما قيمة الأشياء. وقرأ جحيد وابن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، "يوقدون" بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله: "ينفع الناس" فأخبر، ولا مخاطبة هاهنا. الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام: "أفاتخذتم من دونه أولياء" [الرعد: 16] الآية. وقوله: "في النار" متعلق بمحذوف، وهو في موضع الحال، وذو الحال الهاء التي في "عليه" التقدير: ومما توقدون عليه ثابتا في النار أو كامئا. وفي قوله: "في النار" ضمير مرفوع يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال ولا يستقيم أن يتعلق "في النار" بـ "يوقدون" من حيث لا يستقيم أوقدت عليه في النار؛ لأن الموقد عليه يكون في النار، فيصير قوله: "في النار" غير مقيد. وقوله: "ابتغاء حلية" مفعول له. "زبد مثله" ابتداء وخبر؛ أي زبد مثل زبد السيل. وقيل: إن خبر "زبد" قوله: "في النار" الكسائي: "زبد" ابتداء، و"مثله" نعت له، والخبر في الجملة التي قبله، وهو "مما يوقدون". "كذلك يضرب الله الأمثال" أي كما بين لكم هذه الأمثال فكذلك يضربها بينات. تم الكلام.
الآية: 18 {للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد}
قوله تعالى: "للذين استجابوا لربهم" أي أجابوا؛ واستجاب بمعنى أجاب؛ قال:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقد تقدم؛ أي أجاب إلى ما دعاه الله من التوحيد والنبوات. "الحسنى" لأنها في نهاية الحسن. وقيل: من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا. "والذين لم يستجيبوا" أي لم يجيبوا إلى الإيمان به. "لو أن لهم ما في الأرض جميعا" أي من الأموال. "ومثله معه" ملك لهم. "لافتدوا به" من عذاب يوم القيامة؛ نظيره في "آل عمران" "إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا" [آل عمران: 10]، "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به" [آل عمران: 91] حسب ما تقدم بيانه هناك. "أولئك لهم سوء الحساب" أي لا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة. وقال فرقد السبخي قال لي إبراهيم النخعي: يا فرقد! أتدري ما سوء الحساب؟ قلت لا! قال أن يحاسب الرجل: بذنبه كله لا يفقد منه شيء. "ومأواهم جهنم" أي مسكنهم ومقامهم. "وبئس المهاد" أي الفراش الذي مهدوا لأنفسهم.