تفسير الطبري تفسير الصفحة 251 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 251
252
250
 الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ }.
يقول تعالـى ذكره: لله من خـلقه الدعوة الـحق, والدعوة هي الـحقّ كما أضيفت الدار إلـى الاَخرة فـي قوله: وَلَدَارُ الاَخِرَةِ وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى. وإنـما عنى بـالدعوة الـحقّ: توحيد الله, وشهادة أن لا إله إلاّ الله.
وبنـحو الذي قلنا أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15440ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيـل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عبـاس: دَعْوَةُ الـحَقّ قال: لا إله إلاّ الله.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لَه دَعْوَةُ الـحَقّ قال: شهادة لا إله إلاّ الله.
15441ـ قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن هاشم, قال: حدثنا سيف, عن أبـي رَوْق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ رضي الله عنه: لَه دَعْوَةُ الـحَقّ قال: التوحيد.
15442ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لَهُ دَعْوَةُ الـحَقّ قال: لا إله إلاّ الله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, فـي قوله: لَه دَعْوَةُ الـحَقّ قال: لا إله إلاّ الله.
15443ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: لَهُ دَعْوَةُ الـحَقّ: لا إله إلاّ الله لـيست تنبغي لأحد غيره, لا ينبغي أن يقال: فلان إله بنـي فلان.
وقوله: والّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يقول تعالـى ذكره: والاَلهة التـي يدعوها الـمشركون أربـابـا وآلهة. وقوله مِنْ دُونِهِ يقول: من دون الله وإنـما عنى بقوله: مِنْ دُونِهِ الاَلهة أنها مقصرة عنه, وأنها لا تكون إلها, ولا يجوز أن يكون إلها إلاّ الله الواحد القهار ومنه قول الشاعر:
أتُوعِدُنِـي وَرَاءَ بَنِـي رِياحٍكَذَبْتَ لَتَقُصُرّنَ يَداكَ دُونِـي
يعنـي: لتقصرن يداك عنـي.
وقوله: لا يَسْتَـجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ يقول: لا تـجيب هذه الاَلهة التـي يدعوها هؤلاء الـمشركون آلهة بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرّ. إلاّ كبـاسطِ كَفّـيْهِ إلـى الـماءِ يقول: لا ينفع داعي الاَلهة دعاؤه إياها إلاّ كما ينفع بـاسطَ كفـيه إلـى الـماء, بسطُه إياهما إلـيه من غير أن يرفعه إلـيه فـي إناء, ولكن لـيرتفع إلـيه بدعائه إياه وإشارته إلـيه وقبضه علـيه. والعرب تضرب لـمن سعى فـيـما لا يدركه مثلاً بـالقابض علـى الـماء. قال بعضهم:
فإنّـي وَإيّاكُمْ وَشَوْقا إلَـيْكُمُكقابِضِ ماءٍ لَـمْ تَسِقْه أنامِلُهْ
يعنـي بذلك: أنه لـيس فـي يده من ذلك إلاّ كما فـي يد القابض علـى الـماء, لأن القابض علـى الـماء لا شيء فـي يده. وقال آخر:
فأصْبَحْتُ مـمّا كانَ بَـيْنِـي وبَـيْنَهامِنَ الوُدّ مِثْلَ القابِضِ الـمَاءَ بـالـيَدِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15444ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا سيف, عن أبـي روق, عن أبـي أيوب, عن علـيّ رضي الله عنه, فـي قوله: إلاّ كبَـاسِطِ كَفّـيْهِ إلـى الـمَاءِ لِـيَبْلُغَ فـاهُ وَما هُوَ بِبـالِغِهِ قال: كالرجل العطشان يـمدّ يده إلـى البئر لـيرتفع الـماء إلـيه وما هو ببـالغه.
15445ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: كبَـاسِطِ كَفّـيْهِ إلـى الـماءِ يدعو الـماء بلسانه ويشير إلـيه بـيده, ولا يأتـيه أبدا.
قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي الأعرج, عن مـجاهد: لِـيَبْلُغَ فـاهُ يدعوه لـيأتـيه وما هو بآتـيه, كذلك لا يستـجيب من هو دونه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: كبَـاسِطِ كَفّـيْهِ إلـى الـمَاءِ يدعو الـماء بلسانه ويشير إلـيه بـيده, فلا يأتـيه أبدا.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قال: وثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثل حديث الـحسن, عن حجاج, قال ابن جريج: وقال الأعرج عن مـجاهد: لِـيَبْلُغَ فـاهُ قال: يدعوه لأن يأتـيه وما هو بآتـيه, فكذلك لا يستـجيب من هو دونه.
15446ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَالّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَـجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ كبَـاسِطِ كَفّـيْهِ إلـى الـمَاءِ لِـيَبْلُغَ فـاهُ وَما هُوَ بِبـالِغِهِ ولـيس ببـالغه حتـى يتـمزّع عنقه ويهلك عطشا, قال الله تعالـى: وَما دُعاءُ الكافرِينَ إلاّ فِـي ضَلالٍ هذا مَثَلٌ ضربه الله أي هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثن وهذا الـحجر لا يستـجيب له بشيء أبدا ولا يسوق إلـيه خيرا ولا يدفع عنه سوءا حتـى يأتـيه الـموت, كمثل هذا الذي بسط ذارعيه إلـى الـماء لـيبلغ فـاه ولا يبلغ فـاه ولا يصل إلـيه ذلك حتـى يـموت عطشا.
وقال آخرون: معنى ذلك: والذين يدعون من دونه لا يستـجيبون لهم بشيء إلاّ كبـاسط كفـيه إلـى الـماء لـيتناول خياله فـيه, وما هو ببـالغ ذلك. ذكر من قال ذلك:
15447ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: كبَـاسِطِ كَفّـيْهِ إلـى الـمَاءِ لـيَبْلُغَ فـاهُ فقال: هذا مثل الـمشرك مع الله غيره, فمثَله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلـى خياله فـي الـماء من بعيد, فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر علـيه.
وقال آخرون فـي ذلك ما:
15448ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَـجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ... إلـى: وَما دُعاءُ الكافرِينَ إلاّ فِـي ضَلالٍ يقول: مثل الأوثان الذين يُعبدون من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتـى كربه الـموت وكفـاه فـي الـماء قد وضعهما لا يبلغان فـاه, يقول الله: لا تستـجيب الاَلهة ولا تنفع الذين يعبدونها حتـى يبلغ كَفّـا هذا فـاه, وما هما ببـالغتـين فـاه أبدا.
15449ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَـجيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلاّ كبَـاسِطِ كَفّـيْهِ إلـى الـمَاءِ لِـيَبْلُغَ فـاهُ وَما هُوَ بِبـالغهِ قال: لا ينفعونهم بشيء إلاّ كما ينفع هذا بكفّـيه, يعنـي بسطهما إلـى ما لا ينال أبدا.
وقال آخرون فـي ذلك ما:
15450ـ حدثنا به مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: إلاّ كبَـاسِطِ كَفّـيْهِ إلـى الـمَاءِ لِـيَبْلُغَ فـاهُ ولـيس الـماء ببـالغ فـاه ما قام بـاسطا كفـيه لا يقبضهما وَما هُوَ بِبـالِغِهِ وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِـي ضَلالٍ قال: هذا مثل ضربه الله لـمن اتـخذ من دون الله إلها أنه غير نافعه, ولا يدفع عنه سوءًا حتـى يـموت علـى ذلك.
وقوله: وَما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِـي ضَلالٍ يقول: وما دعاء من كفر بـالله ما يدعو من الأوثان والاَلهة إلاّ فـي ضلال: يقول: إلاّ فـي غير استقامة ولا هُدًى, لأنه يشرك بـالله.
الآية : 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَللّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ }.
يقول تعالـى ذكره: فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون من دون الله الأوثان والأصنام لله شركاء من إفراد الطاعة والإخلاص بـالعبـادة له, فللّه يسجد من فـي السموات من الـملائكة الكرام ومن فـي الأرض من الـمؤمنـين به طوعا, فأما الكافرون به فإنهم يسجدون له كَرْها حين يكرهون علـى السجود. كما:
15451ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها فأما الـمؤمن فـيسجد طائعا, وأما الكافر فـيسجد كارها.
15452ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن الـمبـارك, عن سفـيان, قال: كان ربـيع بن خيثم إذا تلا هذه الآية: ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها قال: بلـى يا ربـاه.
15453ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها قال: من دخـل طائعا هذا طوعا, وكرها من لـم ير يدخـل إلاّ بـالسيف.
وقوله: وَظِلالُهُمْ بـالغُدُوّ والاَصَالِ يقول: ويسجد أيضا ظلال كلّ من سجد لله طوعا وكرها بـالغدوات والعشايا, وذلك أن ظل كلّ شخص فإنه يفـىء بـالعشيّ كما قال جلّ ثناؤه: أوَ لـمْ يَرَوْا إلـى ما خَـلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَقَـيّأ ظِلالُهُ عَنِ الـيَـمِينِ والشّمائِلِ سُجّدا لِلّهِ وَهُمْ داخِرُونَ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15454ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَظِلالُهُمْ بـالغُدُوّ والاَصالِ يعنـي: حين يفـىء ظلّ أحدهم عن يـمينه أو شماله.
15455ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبـير, عن سفـيان, قال فـي تفسير مـجاهد: ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فـي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها وَظِلالُهُمْ بـالغُدُوّ والاَصَالِ قال: ظلّ الـمؤمن يسجد طوعا وهو طائع, وظلّ الكافر يسجد طوعا وهو كاره.
15456ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَظِلالُهُمْ بـالغُدُوّ والاَصَالِ قال: ذكر أن ظلال الأشياء كلها تسجد له, وقرأ: سُجّدا لِلّهِ وهم دَاخِرُونَ قال: تلك الظلال تسجد لله. والاَصال: جمع أُصُل, والأصُلُ: جمع أصيـل, وا لأصيـل: هو العشيّ, وهو ما بـين العصر إلـى مغرب الشمس قال أبو ذؤَيب:
لَعَمْرِيَ لأَنْتَ البَـيْتُ أُكْرِمُ أهْلَهُوأقْعُدُ فـي أفْـيائِهِ بـالأصَائِلِ
الآية : 16
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُمَاتُ وَالنّورُ أَمْ جَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين بـالله مَنْ ربّ السموات والأرض ومدبرها, فإنهم سيقولون الله. وأمر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم أن يقول الله, فقال له: قل يا مـحمد: رَبّها الذي خـلقها وأنشأها, هو الذي لا تصلـح العبـادة إلاّ له, وهو الله. ثم قال: فإذا أجابوك بذلك فقل لهم: أفـاتـخذتـم من دون ربّ السموات والأرض أولـياء لا تـملك لأنفسها نفعا تـجلبه إلـى نفسها, ولا ضرّا تدفعه عنها, وهي إذ لـم تـملك ذلك لأنفسها, فمن ملكه لغيرها أبعد فعبدتـموها, وتركتـم عبـادة من بـيده النفع والضرّ والـحياة والـموت وتدبـير الأشياء كلها. ثم ضرب لهم جلّ ثناؤه مثلاً, فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوي الأعْمَى والبَصِيرُ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُـماتُ والنّورُ أم جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَـلَقُوا كخَـلْقِهِ فَتَشابَه الـخَـلْقُ عَلَـيْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهّارُ:
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين الذين عبدوا من دون الله الذي بـيده نفعهم وضرّهم ما لا ينفع ولا يضرّ: هل يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا ولا يهتدي لِـمَـحَجّة يسلكها إلاّ بأن يُهْدَى, والبصير الذي يَهدِي الأعمى لـمـحجة الطريق الذي لا يبصر؟ إنهما لا شكّ لَغَير مستويـين يقول: فكذلك لا يستوي الـمؤمن الذي يبصر الـحقّ فـيتبعه ويعرف الهدى فـيسلكه وأنتـم أيها الـمشركون الذين لا تعرفون حقّا ولا تبصرون رشدا.
وقوله: أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُـماتُ والنّورُ يقول تعالـى ذكره: وهل تستوي الظلـمات التـي لا تُرَى فـيها الـمَـحَجّة فتُسْلك ولا يُرى فـيها السبـيـلُ فـيركب, والنور الذي يُبصَرُ به الأشياء ويجلو ضوءُه الظلام؟ يقول: إن هذين لا شكّ لَغير مستويـين, فكذلك الكفر بـالله, إنـما صاحبه منه فـي حَيْرة يضرب أبدا فـي عَمْرة لا يرجع منه إلـى حقـيقة, والإيـمان بـالله صاحبه منه فـي ضياء يعمل علـى علـم بربه ومعرفة منه بأن له مثـيبـا يثـيبه علـى إحسانه ومعاقبـا يعاقبه علـى إساءته ورازقا يرزقه ونافعا ينفعه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15457ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُـماتُ والنّورُ أما الأعمى والبصير فـالكافر والـمؤمن وأما الظلـمات والنور فـالهُدى والضلالة.
وقوله: أمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَـلَقُوا كَخَـلْقِهِ فَتَشابَهَ الـخَـلْقُ عَلَـيْهِمْ يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمشركين: أخـلق أوثانكم التـي اتـخذتـموها أولـياء من دون الله كخـلق الله فـاشتبه علـيكم أمرها فـيـما خـلَقت وخـلق الله فجعلتـموها له شركاء من أجل ذلك, أم إنـما بكم الـجهل والذهاب عن الصواب؟ فإنه لا يشكل علـى ذي عقل أن عبـادة ما لا يضرّ ولا ينفع من الفعل جهل, وأن العبـادة إنـما تصلـح للذي يُرجَى نفعه ويخشى ضُرّه, كما أن ذلك غير مُشكل خطؤه وجهل فـاعله, كذلك لا يُشكل جهل من أشرك فـي عبـادة من يرزقه ويكفله ويَـمونُه من لا يقدر له علـى ضرر ولا نفع.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15458ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَـلَقُوا كخَـلْقِهِ حملهم ذلك علـى أن شكوا فـي الأوثان.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: أمْ جَعَلُوا لِلّه شُرَكاءَ خَـلَقُوا كَخَـلْقِهِ فَتَشابَهَ الـخَـلْقُ عَلَـيْهِمْ خَـلَقوا كخـلقه, فحملهم ذلك علـى أَن شكوا فـي الأوثان.
حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
15459ـ قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن كثـير: سمعت مـجاهدا يقول: أمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَـلَقُوا كخَـلْقِهِ فَتَشابَهَ الـخَـلْقُ عَلَـيْهِمْ ضربت مثلاً.
وقوله: قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الـمشركين إذا أقرّوا لك أن أوثانهم التـي أشركوها فـي عبـادة الله لا تـخـلق شيئا, فـالله خالقكم وخالق أوثانكم وخـلق كلّ شيء, فما وجه إشراككم ما لا تـخـلق ولا تضرّ.
وقوله: وَهُوَ الوَاحِدُ القَهّارُ يقول: وهو الفرد الذي لا ثانـي له, القهار الذي يستـحقّ الألوهة والعبـادة, لا الأصنام والأوثان التـي لا تضرّ ولا تنفع.
الآية : 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ }.
قال أبو جعفر: وهذا مثل ضربه الله للـحقّ والبـاطل والإيـمان به والكفر, يقول تعالـى ذكره: مثل الـحقّ فـي ثبـاته والبـاطل فـي اضمـحلاله مثل ماء أنزله الله من السماء إلـى الأرض فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها يقول: فـاحتـملته الأودية بـملئها الكبـير بكبره والصغير بصغره, فـاحْتَـمَلَ السّيْـلُ زَبَدًا رَابـيا يقول: فـاحتـمل السيـل الذي حدث عن ذلك الـماء الذي أنزله الله من السماء زَبدا عالـيا فوق السيـل. فهذا أحد مَثَلـى الـحقّ والبـاطل, فـالـحقّ هو الـماء البـاقـي الذي أنزله الله من السماء, والزّبَد الذي لا ينتفع به هو البـاطل. والـمثل الاَخر: وَمِـمّا يُوقدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النّارِ ابْتغاءَ حلْـيَةٍ يقول جلّ ثناؤه: ومثل آخر للـحقّ والبـاطل, مثل فضة أو ذهب يُوقد علـيها الناس فـي النار طلب حلـية يتـخذونها أو متاع, وذلك من النـحاس والرصاص والـحديد, يوقَد علـيه لـيتـخذ منه متاع ينتفع به زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول تعالـى ذكره: ومـما يوقدون علـيه من هذه الأشياء زَبَد مثله, بـمعنى: مثل زَبَد السيـل لا ينتفع به ويذهب بـاطلاً, كما لا ينتفع بزبد السيـل ويذهب بـاطلاً. ورفع «الزبد» بقوله: ومِـمّا يُوقِدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النّارِ ومعنى الكلام: ومـما يوقدون علـيه فـي النار زبد مثل زبد السيـل فـي بطول زبده, وبقاء خالص الذهب والفضة. يقول الله تعالـى: كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الـحَقّ والبـاطلَ يقول: كما مثل الله الإيـمان والكفر فـي بطول الكفر وخيبة صاحبه عند مـجازاة الله بـالبـاقـي النافع من ماء السيـل وخالص الذهب والفضة, كذلك يـمثل الله الـحقّ والبـاطل. فأمّا الزّبَدُ فَـيَذْهَبُ جُفـاءً يقول: فأما الزبد الذي علا السيـل, والذهب والفضة والنـحاس والرصاص عند الوقود علـيها, فـيذهب بدفع الرياح وقدف الـماء به وتعلقه بـالأشجار وجوانب الوادي. وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ من الـماء والذهب والفضة والرصاص والنـحاس, فـالـماء يـمكث فـي الأرض فتشربه, والذهب والفضة تـمكث للناس. كذلكَ يَضْرِبُ اللّهَ الأمْثالَ يقول: كما مثل هذا الـمثل للإيـمان والكفر, كذلك يـمثل الأمثال.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
15460ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها فهذا مثل ضربه الله احتـملت منه القلوب علـى قدر يقـينها وشكها, فأما الشكّ فلا ينفع معه العمل, وأما الـيقـين فـينفع الله به أهله, وهو قوله: فأمّا الزّبَدُ فَـيَدْهَبُ جُفـاءً وهو الشكّ, وأمّا ما ينفعُ النّاسَ فَـيَـمْكُثُ فِـي الأرْضِ وهو الـيقـين, كما يجعل الـحلـيّ فـي النار, فـيؤخذ خالصه ويترك خبثه فـي النار, فكذلك يقبل الله الـيقـين ويترك الشكّ.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ بِقَدَرِها فـاحْتَـمَلَ السّيْـلُ زَبَدا رَابِـيا يقول: احتـمل السيـل ما فـي الوادي من عود ودمنة ومِـمّا يُوقِدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النّارِ فهو الذهب والفضة والـحلـية والـمتاع والنـحاس والـحديد, وللنـحاس والـحديد خبث, فجعل الله مثل خبثه كزبد الـماء فأمّا ما يَنْفَعُ النّاسُ فـالذهب والفضة, وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الـماء فأنبتت. فجعل ذلك مثل العمل الصالـح يبقـى لأهله, والعمل السيىء يضمـحلّ عن أهله, كما يذهب هذا الزبد, فكذلك الهدى والـحقّ جاء من عند الله, فمن عمل بـالـحقّ كان له وبقـي كما يبقـى ما ينفع الناس فـي الأرض, وكذلك الـحديد لا يستطاع أن يجعل منه سكين ولا سيف حتـى يدخـل فـي النار فتؤكل خبثه, فـيخرج جيده فـينتفع به, فكذلك يضمـحلّ البـاطل إذا كان يوم القـيامة وأقـيـم الناس, وعرضت الأعمال, فـيريغ البـاطل ويهلك, وينتفع أهل الـحقّ بـالـحقّ, ثم قال: ومِـمّا يُوقِدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النارِ ابْتِغاءَ حِلْـيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثله.
15461ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, فـي قوله: أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ... إلـى: أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ فقال: ابتغاء حلـية الذهب والفضة, أو متاع الصّفر والـحديد. قال: كما أوقد علـى الذهب والفضة والصفر والـحديد فخـلص خالصه, قال: كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الـحَقّ والبـاطِلَ فأمّا الزّبَدُ فَـيَذْهَبُ جُفـاء وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَـيَـمْكُثُ فِـي الأرْضِ كذلك بقاء الـحقّ لأهله فـانتفعوا.
15462ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد الزعفرانـي, قال: حدثنا حجاج بن مـحمد, قال: قال ابن جريج: أخبرنـي عبد الله بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول: أَنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال: ما أطاقت ملأها فـاحْتَـمَلَ السّيْـلُ زَبَدا رَابِـيا قال: انقضَى الكلام, ثم استقبل فقال: «وَمِـمّا تُوقِدُونَ عَلَـيْه فِـي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْـيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ» قال: الـمتاع: الـحديد والنـحاس والرصاص وأشبـاهه, زبد مثله, قال: خبث ذلك مثل زبد السيـل. قال: وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَـيَـمْكُثُ فِـي الأرْضِ فَأمّا الزبَدُ فَـيَذْهَبُ جُفـاءً قال: فذلك مثل الـحقّ والبـاطل.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد, أنه سمعه يقول: فذكر نـحوه. وزاد فـيه: قال: قال ابن جريج: قوله: فأمّا الزّبَدُ فَـيَذْهَبُ جُفـاءً قال: جُمودا فـي الأرض, وأمّا ما يَنْفَعُ النّاس فَـيَـمْكُثُ فِـي الأرْضِ يعنـي الـماء وهما مَثَلان: مثل الـحقّ والبـاطل.
حدثنا الـحسن, قال: حدثنا شبـابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: زَبَدًا رَابِـيا السيـل مثل خَبَث الـحديد والـحلـية, فَـيَذْهَبُ جُفـاءً جمودا فـي الأرض, ومِـمّا يُوقِدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْـيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ الـحديد والنـحاس والرّصاص وأشبـاهه. وقوله: وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَـيَـمْكُثُ فِـي الأرْضِ إنـما هما مثلان للـحقّ والبـاطل.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قال: وثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, يزيد أحدهما علـى صاحبه فـي قوله: فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال: بـملئها, فـاحْتَـمَلَ السّيْـلُ زَبَدا رابـيا قال: الزبد: السيـل ابْتِغاءَ حلْـيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مثْلُهُ قال: خبث الـحديد والـحلـية, فأَمّا الزّبَدُ فَـيَذْهُبُ جُفـاءً قال: جمودا فـي الأرض, وأمّا ما ينفع الناسُ فَـيَـمْكُثُ فِـي الأرْضِ قال: الـماء وهما مثلان للـحقّ والبـاطل.
15463ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الصغير بصغره والكبـير بكبره, فـاحْتَـمَلَ السّيْـلُ زَبَدا رابِـيا أي عالـيا, ومِـمّا يُوقدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النّارِ ابْتغاءَ حِلْـيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مثْلُهُ كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الـحَقّ والبـاطلَ فأمّا الزّبَدُ فَـيَذْهُب جُفـاءً والـجفـاء: ما يتعلق بـالشجر, وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فـيَـمْكُثُ فِـي الأرْضِ. هذه ثلاثة أمثال ضربها الله فـي مثل واحد, يقول: كما اضمـحلّ هذا الزبد فصار جفـاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته, كذلك يضمـحلّ البـاطل عن أهله كما اضمـحلّ هذا الزبد, وكما مكث هذا الـماء فـي الأرض, فأمرعت هذه الأرض, وأخرجت نبـاتها, كذلك يبقـى الـحقّ لأهله كما بقـي هذا الـماء فـي الأرض, فأخرج الله به ما أخرج من النبـات. قوله: ومِـمّا يُوقِدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النّارِ... الآية, كما يبقـى خالص الذهب والفضة, حين أدخـل النار وذهب خَبَثه, كذلك يبقـى الـحقّ لأهله. قوله: أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول: هذا الـحديد والصفر الذي ينتفع به, فـيه منافع: يقول: كما يبقـى خالص هذا الـحديد وهذا الصفر حين أدخـل النار وذهب خبثه, كذلك يبقـى الـحقّ لأهله كما بقـي خالصهما.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: فَسالَتْ أوْدِيَة بقَدَرِها الكبـير بقدره والصغير بقدره. زَبَدًا رَابـيا قال: ربـا فوق الـماء الزبد. ومِـمّا يُوقِدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النّارِ قال: هو الذهب إذا أدخـل النار بقـي صفوه ونفـى ما كان كدره وهذا مثل ضربه اللّهُ. للـحقّ والبـاطل, فأمّا الزّبَدُ فَـيَذْهَبُ جُفـاءً يتعلق بـالشجر فلا يكون شيئا مثل البـاطل, وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَـيَـمْكُثُ فِـي الأرْضِ وهذا يخرج النبـات, وهو مثل الـحقّ أوْ مَتاعٍ زَبَدُ مِثْلُهُ قال: الـمتاع: الصّفْر والـحديد.
15464ـ حدثنا الـحسن بن مـحمد, قال: حدثنا هَوْذة بن خـلـيفة, قال: حدثنا عوف, قال: بلغنـي فـي قوله: أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال: إنـما هو مثل ضربه الله للـحقّ والبـاطل, فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الصغير علـى قدره, والكبـير علـى قدره, وما بـينهما علـى قدره. فـاحْتَـمَلَ السّيْـلُ زَبَدًا رَابـيا يقول: عظيـما, وحيث استقرّ الـماء يذهب الزبد جُفـاء فتطير به الريح, فلا يكون شيئا, ويبقـى صريح الـماء الذي ينفع الناس منه شرابهم ونبـاتهم ومنفعتهم. أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ومثل الزبد كل شيء يوقد علـيه فـي النار الذهب والفضة والنـحاس والـحديد, فـيذهب خبثه ويبقـى ما ينفع فـي أيديهم, والـخَبَث والزّبَد مثل البـاطل, والذي ينفع الناس مـما تـحصّل فـي أيديهم مـما ينفعهم الـمال الذي فـي أيديهم.
15465ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ومِـمّا يُوقِدُونَ عَلَـيْهِ فِـي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْـيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ قال: هذا مثل ضربه الله للـحقّ والبـاطل. فقرأ: أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فـاحْتَـمَلَ السّيْـلُ زَبَدًا رابِـياهذا الزبد لا ينفع, أو متاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ هذا لا ينفع أيضا, قال: وبقـي الـماء فـي الأرض فنفع الناس, وبقـي الـحلـيُ الذي صلـح من هذا, فـانتفع الناس به. فأمّا الزّبَدُ فَـيَذْهَبُ جُفـاءً وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَـيَـمْكُثُ فـي الأرْضِ كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثالَ وقال: هذا مثل ضربه الله للـحقّ والبـاطل.
15466ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال: الصغير بصغره, والكبـير بكبره.
15467ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا طلـحة بن عمرو, عن عطاء: ضرب الله مثلاً للـحقّ والبـاطل, فضرب مثل الـحقّ كمثل السيـل الذي يـمكث فـي الأرض, وضرب مثل البـاطل كمثل الزّبَد الذي لا ينفع الناس.
وعنى بقوله رَابِـيا: عالـيا منتفخا, من قولهم: ربـا الشيء يرْبُو رُبُوّا فهو راب, ومنه قـيـل للنشَز من الأرض كهيئة الأكمة: رابـية ومنه قول الله تعالـى: اهْتَزّتْ وَرَبَتْ. وقـيـل للنـحاس والرصاص والـحديد فـي هذا الـموضع: الـمتاع, لأنه يُستـمتع به, وكلّ ما يتـمتع به الناس فهو متاع كما قال الشاعر:
تَـمَتّعْ يا مُشَعّثُ إنّ شَيْئاسَبَقْتَ بهِ الـمَـماتَ هُوَ الـمَتاعُ
وأما الـجُفـاء فإنـي:
15468ـ حُدثت عن أبـي عبـيدة مَعْمَرِ بن الـمُثَنّى, قال: قال أبو عمرو بن العلاء, يقال: قد أجفأتِ القِدرُ, وذلك إذا غَلَتْ فـانصبّ زَبَدُها, أو سكنت فلا يبقـى منه شيء.
وقد زعم بعض أهل العربـية من أهل البصرة أن معنى قوله: فَـيَذْهَبُ جُفـاءً تَنْشَفُه الأرض, وقال: يقال: جفـا الوادي وأجفـى فـي معنى نَشِف, وانـجفـى الوادي: إذا جاء بذلك الغثاء, وغثى الوادي فهو يَغْثَى غَثْـيا وغَثَـيانا. وذَكَر عن العرب أنها تقول: جَفَأْتُ القدَر أجْفَؤها: إذا أخرجت جُفـاءَها, وهو الزّبَد الذي يعلوها, وأجْفَأْتُها إجْفَـاءً لغة. قال: وقالوا: جَفَأتُ الرجل جَفْـا: صرعته.
وقـيـل: فَـيَذْهَبُ جُفـاءً بـمعنى جَفْئا, لأنه مصدر من قول القائل: جَفَأَ الوادي غُثاءه, فخَرَجَ مَخرَج الاسم وهو مصدر, كذلك تفعل العرب فـي مصدر كلّ ما كان من فعل شيء اجتـمع بعضه إلـى بعض كالقُماش والدّقاق والـحُطام والغُثاء, تـخرجه علـى مذهب الاسم, كما فعلت ذلك فـي قولهم: أعطيته عطاء, بـمعنى الإعْطَاء, ولو أريد من القُماش الـمصدر علـى الصحة لقـيـل: قد قَمَشْته قَمْشا.
الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لِلّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَىَ وَالّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنّ لَهُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ سُوَءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }.
يقول تعالـى ذكره: أما الذين استـجابوا لله فآمنوا به حين دعاهم إلـى الإيـمان به وأطاعوه فـاتبعوا رسوله وصدّقوه فـيـما جاءهم به من عند الله, فإن لهم الـحسنى, وهي الـجنة. كذلك:
15469ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: لِلّذِينَ اسْتَـجابُوا لِرَبّهمُ الـحُسْنَى وهي الـجنة.
وقوله: وَالّذِينَ لَـمْ يَسْتَـجِيبُوا لَهُ لَوْ أنّ لَهُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ يقول تعالـى ذكره: وأما الذين لـم يستـجيبوا له حين دعاهم إلـى توحيده والإقرار بربوبـيته, ولـم يطيعوه فـيـما أمرهم به, ولـم يتبعوا رسوله فـيصدّقوه فـيـما جاءهم به من عند ربهم, فلو أنّ لهم ما فِـي الأرض جميعا من شيء ومثله معه ملكا لهم ثم مثل ذلك وقُبِل ذلك منهم بدلاً من العذاب الذي أعدّه الله لهم فـي نار جهنـم وعوضا لافتدوا به أنفسهم منه, يقول الله: أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الـحِسابِ يقول: هؤلاء الذين لـم يستـجيبوا لله لهم سوء الـحساب: يقول: لهم عند الله أن يأخذهم بذنوبهم كلها, فلا يغفر لهم منها شيئا, ولكن يعذّبهم علـى جميعها. كما:
15470ـ حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا يونس بن مـحمد, قال: حدثنا عون, عن فَرقدٍ السّبَخِيّ, قال: قال لنا شهر بن حَوُشب: سُوءُ الـحِسابِ أن لا يتـجاوز لهم عن شيء.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: ثنـي الـحجاج بن أبـي عثمان, قال: ثنـي فَرْقَدٍ السبَخِيّ, قال: قال إبراهيـم النـخعيّ: يا فرقد أتدري ما سوء الـحساب؟ قلت: لا, قال: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يُغفر له منه شيء.
وقوله: ومَأْوَاهُمْ جَهَنّـمُ يقول: ومسكنهم الذي يسكنونه يوم القـيامة جهنـم. وَبِئْسَ الـمِهادُ يقول: وبئس الفِراش والوِطاء جهنـم, التـي هي مأواهم يوم القـيامة