تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 251 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 251

251 : تفسير الصفحة رقم 251 من القرآن الكريم

** لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه {له دعوة الحق} قال: التوحيد, رواه ابن جرير. وقال ابن عباس وقتادة ومالك عن محمد بن المنكدر {له دعوة الحق} لا إله إلا الله {والذين يدعون من دونه} الاَية, أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله {كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه}. قال علي بن أبي طالب: كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبداً بيده, فكيف يبلغ فاه ؟ وقال مجاهد {كباسط كفيه} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبداً, وقيل: المراد كقابض يده على الماء, فإنه لا يحكم منه على شي, كما قال الشاعر:
فإني وإِياكم وشوقاً إليكمكقابض ماء لم تسقه أنامله
وقال الاَخر:
فأصبحت مما كان بيني وبينهامن الودّ مثل القابض الماء باليد
ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضاً وإما متناولاً له من بعد كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلاً للشرب, فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلهاً غيره, لا ينتفعون بهم أبداً في الدنيا ولا في الاَخرة, ولهذا قال {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.


** وَللّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه, الذي قهر كل شيء, ودان له كل شيء, ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً على الكافرين {وظلالهم بالغدوّ} أي البكر {والاَصال} وهو جمع أصيل, وهو آخر النهار, كقوله تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله} الاَية.

** قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُمَاتُ وَالنّورُ أَمْ جَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو, لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السموات والأرض, وهو ربها ومدبرها, وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم, وأولئك الاَلهة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعاً ولا ضراً, أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة, فهل يستوي من عبد هذه الاَلهة مع الله, ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه ؟ ولهذا قال: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يشابهه شيء, ولا يماثله ولا ند له ولا عدل له ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له, عبيد له, كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك, إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك, وكما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فأنكر تعالى عليهم ذلك حيث اعتقدوا ذلك, وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} {وكم من ملك في السموات} الاَية, وقال {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرد} فإذا كان الجميع عبيداً, فلم يعبد بعضهم بعضاً بلا دليل ولا برهان, بل مجرد الرأي والاختراع والابتداع, ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم, تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله, فكذبوهم وخالفوهم, فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة {ولا يظلم ربك أحد}.

** أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ
اشتملت هذه الاَية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه, والباطل في اضمحلاله وفنائه, فقال تعالى: {أنزل من السماء ماء} أي مطراً {فسالت أودية بقدره} أي أخذ كل واد بحسبه, فهذا كبير وسع كثيراً من الماء, وهذا صغير وسع بقدره, وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها, فمنها ما يسع علماً كثيراً, ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها {فاحتمل السيل زبداً رابي} أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه, هذا مثل.
وقوله: {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع} الاَية, هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ابتغاء حلية, أي ليجعل حلية نحاس أو حديد, فيجعل متاعاً, فإنه يعلوه زبد منه كما يعلو ذلك زبد منه {كذلك يضرب الله الحق والباطل} أي إذا اجتمعا, لا ثبات للباطل ولا دوام له, كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة, ونحوهما مما يسبك في النار, بل يذهب ويضمحل, ولهذا قال: {فأما الزبد فيذهب جفاء} أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق, ويذهب في جانبي الوادي, ويعلق بالشجر, وتنسفه الرياح, وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس, يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء, وذلك الذهب ونحوه ينتفع به, ولهذا قال: {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} كقوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وقال بعض السلف: كنت إِذا قرأت مثلاً من القرآن فلم أفهمه, بكيت على نفسي, لأن الله تعالى يقول {وما يعقلها إلا العالمون}.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدره} الاَية, هذا مثل ضربه الله, احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها, فأما الشك فلا ينفع معه العمل, وأما اليقين فينفع الله به أهله وهو قوله: {فأما الزبد} وهو الشك, {فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} وهو اليقين, وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار, فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك, وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابي} يقول: احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة {ومما يوقدون عليه في النار} فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد, فللنحاس والحديد خبث, فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء, فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة, وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت, فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله, والعمل السيء يضمحل عن أهله, كما يذهب هذا الزبد, وكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله, فمن عمل بالحق كان له وبقي, كما بقي ما ينفع الناس في الأرض, وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار, فتأكل خبثه, ويخرج جيده فينتفع به, فكذلك يضمحل الباطل, فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال, فيزيغ الباطل ويهلك, وينتفع أهل الحق بالحق, وهكذا روي في تفسيرها عن مجاهد والحسن البصري وعطاء وقتادة, وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين: نارياً ومائياً وهما قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله} الاَية, ثم قال {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق} الاَية, وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين (أحدهما) قوله {والذين كفروا أعمالهم كسراب} الاَية, والسراب إنما يكون في شدة الحر, ولهذا جاء في الصحيحين: فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون ؟ فيقولون: أي ربنا عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون ؟ فيردون النار فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضاً. ثم قال تعالى في المثل الاَخر: {أو كظلمات في بحر لجي} الاَية, وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم, كمثل غيث أصاب أرضاً, فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها أجادب أمسكت الماء, فنفع الله بها الناس, فشربوا, ورعوا, وسقوا, وزرعوا, وأصابت طائفة منها أخرى, إِنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به, فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» فهذا مثل مائي. وقال في الحديث الاَخر الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله, جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها, وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ـ قال ـ: فذلكم مثلي ومثلكم, أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار, فتغلبوني فتقتحمون فيها» وأخرجاه في الصحيحين أيضاً, فهذا مثل ناري.

** لِلّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَىَ وَالّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنّ لَهُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ سُوَءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال: {للذين استجابوا لربهم} أي أطاعوا الله ورسوله, وانقادوا لأوامره, وصدقوا أخباره الماضية والاَتية, فلهم {الحسنى} وهو الجزاء الحسن, كقوله تعالى مخبراً عن ذي القرنين أنه قال: {أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً. وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسر}, وقال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}. وقوله: {والذين لم يستجيبوا له} أي لم يطيعوا الله, {لو أن لهم ما في الأرض جميع} أي في الدار الاَخرة لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهباً ومثله معه لافتدوا به, ولكن لا يقبل منهم, لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً {أولئك لهم سوء الحساب} أي في الدار الاَخرة. أي يناقشون على النقير والقطمير, والجليل والحقير, ومن نوقش الحساب عذب, ولهذا قال {ومأواهم جهنم وبئس المهاد}.