سورة الحجر | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 262 من المصحف
سورة الحجر
الآية: 1 {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين}
تقدم معناه. و"الكتاب" قيل فيه: إنه اسم لجنس الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين. وقيل: الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين.
الآية: 2 {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}
"رب" لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها "ما" هيأتها للدخول على الفعل تقول: ربما قام زيد، وربما يقوم زيد. ويجوز أن تكون "ما" نكرة بمعنى شيء، و"يود" صفة له؛ أي رب شيء يود الكافر. وقرأ نافع وعاصم "ربما" مخفف الباء. الباقون مشددة، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما؛ قال الشاعر:
ربَّما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء
وتميم وقيس وربيعة يثقلونها. وحكي فيها: رَبَّمَا ورَبَمَا، ورُّبَّتَمَا ورُّبَتَمَا، بتخفيف الباء وتشديدها أيضا. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير؛ أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين؛ قاله الكوفيون. ومنه قول الشاعر:
ألا ربما أهدت لك العين نظرة قصاراك منها أنها عنك لا تجدي
وقال بعضهم: هي للتقليل في هذا الموضع؛ لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها؛ لشغلهم بالعذاب، والله أعلم. قال: "ربما يود" وهي إنما تكون لما وقع؛ لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان. وخرج الطبراني أبو القاسم من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ناسا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين"). قال الحسن" إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة ومأواهم في النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين. وقال الضحاك: هذا التمني إنما هو عند المعاينة في الدنيا حين تبين لهم الهدي من الضلالة. وقيل: في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين.
الآية: 3 {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}
قوله تعالى: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا" تهديد لهم. "ويلههم الأمل" أي يشغلهم عن الطاعة. يقال: ألهاه عن كذا أي شغله. ولهي هو عن الشيء يلهى. "فسوف يعلمون" إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا. وهذه الآية منسوخة بالسيف.
في مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا). وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه، ولم يفارقه داء ولا نجح فيه دواء، بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء. وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك أخرها بالبخل والأمل). ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: (يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا. هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا، فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد:
يا ذا المؤمل أمالا وإن بعدت منه ويزعم أن يحظى بأقصاها
أنى تفوز بما ترجوه ويك وما أصبحت في ثقة من نيل أدناها
وقال الحسن: (ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل). وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان؛ كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة.
الآية: 4 {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم}
أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ.
الآية: 5 {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون}
"من" صلة؛ كقولك: ما جاءني من أحد. أي لا تتجاوز أجلها فتزيد عليه، ولا تتقدم قبله. ونظيره قوله تعالى: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" [الأعراف: 34].
الآيتان: 6 - 7 {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين}
قاله كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على وجهة الاستهزاء، ثم طلبوا منه إتيان الملائكة دلالة على صدقه. و"لوما" تحضيض على الفعل كلولا وهلا. وقال الفراء: الميم في "لوما" بدل من اللام في لولا. ومثله استولى على الشيء واستومى عليه، ومثله خالمته وخاللته، فهو خلي وخلمي؛ أي صديقي. وعلى هذا يجوز "لوما" بمعنى الخبر، تقول: لوما زيد لضرب عمرو. قال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام.
قال ابن مقبل:
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عَوَري
يريد لولا الحياء. وحكى النحاس لوما ولولا وهلا واحد. وأنشد أهل اللغة على ذلك:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
أي هلا تعدون الكمي المقنعا.
الآية: 8 {ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين}
قرأ حفص وحمزة والكسائي "ما ننزل الملائكة إلا بالحق" واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو بكر والمفضل "ما تُنَزَّل الملائكة". الباقون "ما يَنَزَّل الملائكة" وتقديره: ما تتنزل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، وقد شدد التاء البزي، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله: "تنزل الملائكة والروح" [القدر: 4]. ومعنى "إلا بالحق" إلا بالقرآن. وقيل بالرسالة؛ عن مجاهد. وقال الحسن: إلا بالعذاب إن لم يؤمنوا. "وما كانوا إذا منظرين" أي لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة. وقيل: المعنى لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظروا. وأصل "إذا" إذ أن - ومعناه حينئذ - فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها.
الآية: 9 {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
قوله تعالى: "الذكر" يعني القرآن. "وإنا له لحافظون" من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا؛ فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره: "بما استحفظوا" [المائدة: 44]، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا. أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام أبو القاسم عبدالله عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف بن معزوز الكومي التلمساني قال: قرئ على الشيخة العالمة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة، قيل لها: أخبركم الشيخ الأجل العامل نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن محمد الزيني قراءة عليه وأنت تسمعين سنة تسعين وأربعمائة، أخبرنا علي بن عبدالله بن إبراهيم حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المعروف بالطوماري حدثنا الحسين بن فهم قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتب نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي. قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: "بما استحفظوا من كتاب الله" [المائدة: 44]، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. وقيل: "وإنا له لحافظون" أي لمحمد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا أو نتقول عليه. أو "وإنا له لحافظون" من أن يكاد أو يقتل. نظيره "والله يعصمك من الناس" [المائدة: 67]. و"نحن" يجوز أن يكون موضعه رفعا بالابتداء و"نزلنا" الخبر. والجملة خبر "إن". ويجوز أن يكون "نحن" تأكيدا لاسم "إن" في موضع نصب، ولا تكون فاصلة لأن الذي بعدها ليس بمعرفة وإنما هو جملة، والجمل تكون نعوتا للنكرات فحكمها حكم النكرات.
الآية: 10 {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين}
المعنى: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا، فحذف. والشيع جمع شيعة وهي الأمة، أي في أممهم؛ قاله ابن عباس وقتادة. الحسن: في فرقهم. والشيعة: الفرقة والطائفة من الناس المتآلفة المتفقة الكلمة. فكأن الشيع الفرق؛ ومنه قوله تعالى: "أو يلبسكم شيعا" [الأنعام: 65]. وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار - كما تقدم في "الأنعام". - وقال الكلبي: إن الشيع هنا القرى.
الآية: 11 {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}
تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فعل بمن قبلك من الرسل.
الآيتان: 12 - 13 {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين}
قوله تعالى: "كذلك نسلكه" أي الضلال والكفر والاستهزاء والشرك. "في قلوب المجرمين" من قومك؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. أي كما سلكناه في قلوب من تقدم من شيع الأولين كذلك نسلكه في قلوب مشركي قومك حتى لا يؤمنوا بك، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم. وروى ابن جريج عن مجاهد قال: نسلك التكذيب. والسلك: إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط. يقال: سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، وأسلكه إسلاكا. وسلك الطريق سلوكا وسلكا وأسلكه دخله، والشيء في غيره مثله، والشيء كذلك والرمح، والخيط في الجوهر؛ كله فعل وأفعل. وقال عدي بن زيد:
وقد سلكوك في يوم عصيب
والسلك (بالكسر) الخيط. وفي الآية رد على القدرية والمعتزلة. وقيل: المعنى نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به. وقال الحسن ومجاهد وقتادة القول الذي عليه أكثر أهل التفسير، وهو ألزم حجة على المعتزلة. وعن الحسن أيضا: نسلك الذكر إلزاما للحجة؛ ذكره الغزنوي. "وقد خلت سنة الأولين" أي مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك. وقيل: "خلت سنة الأولين" بمثل ما فعل هؤلاء من التكذيب والكفر، فهم يقتدون بأولئك.
الآيتان: 14 - 15 {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}
يقال: ظل يفعل كذا، أي يفعله بالنهار. والمصدر الظلول. أي لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لأصروا على الكفر وتعللوا بالخيالات؛ كما قالوا للقرآن المعجز: إنه سحر. "يعرجون" من عرج يعرج أي صعد. والمعارج المصاعد. أي لو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصروا على الكفر؛ عن الحسن وغيره. وقيل: الضمير في "عليهم" للمشركين. وفي "فظلوا" للملائكة، تذهب وتجيء. أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبوابا في السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له؛ عن ابن عباس وقتادة. ومعنى "سكرت" سدت بالسحر؛ قاله ابن عباس والضحاك. وقال الحسن: سحرت. الكلبي: أغشيت أبصارنا؛ وعنه أيضا عميت. قتادة: أخذت. وقال المؤرج: دير بنا من الدوران؛ أي صارت أبصارنا سكرى. جويبر: خدعت. وقال أبو عمرو بن العلاء: "سكرت" غشيت وغطيت. ومنه قول الشاعر:
وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الحرور تسكر
وقال مجاهد: "سكرت" حبست. ومنه قول أوس بن حجر:
فصرت على ليلة ساهره فليست بطلق ولا ساكره
قلت: وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك: منعت. قال ابن عزيز: "سكرت أبصارنا" سدت أبصارنا؛ هو من قولك، سكرت النهر إذا سددته. ويقال: هو من سكر الشراب، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكر. وقرأ ابن كثير "سكرت" بالتخفيف، والباقون بالتشديد. قال ابن الأعرابي: سكرت ملئت. قال المهدوي: والتخفيف والتشديد في "سكرت" ظاهران، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدي عن معناه. والمعروف أن "سكر" لا يتعدى. قال أبو علي: يجوز أن يكون سمع متعديا في البصر. ومن قرأ "سكرت" فإنه شبه ما عرض لأبصارهم بحال السكران، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله. وقد قيل: إنه بالتخفيف [من] سكر الشراب، وبالتشديد أخذت، ذكرهما الماوردي. وقال النحاس: والمعروف من قراءة مجاهد والحسن "سكرت" بالتخفيف. قال الحسن: أي سحرت وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال: سحرت أبصارهم إذا غشيها سمادير حتى لا يبصروا. وقال الفراء: من قرأ "سكرت" أخذه من سكور الريح. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة. والأصل فيها ما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى، قال: هو من السكر في الشراب. وهذا قول حسن؛ أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله. وسكور الريح سكونها وفتورها؛ فهو يرجع إلى معنى التحيير.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 262
262- تفسير الصفحة رقم262 من المصحفسورة الحجر
الآية: 1 {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين}
تقدم معناه. و"الكتاب" قيل فيه: إنه اسم لجنس الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين. وقيل: الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين.
الآية: 2 {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}
"رب" لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها "ما" هيأتها للدخول على الفعل تقول: ربما قام زيد، وربما يقوم زيد. ويجوز أن تكون "ما" نكرة بمعنى شيء، و"يود" صفة له؛ أي رب شيء يود الكافر. وقرأ نافع وعاصم "ربما" مخفف الباء. الباقون مشددة، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما؛ قال الشاعر:
ربَّما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء
وتميم وقيس وربيعة يثقلونها. وحكي فيها: رَبَّمَا ورَبَمَا، ورُّبَّتَمَا ورُّبَتَمَا، بتخفيف الباء وتشديدها أيضا. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير؛ أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين؛ قاله الكوفيون. ومنه قول الشاعر:
ألا ربما أهدت لك العين نظرة قصاراك منها أنها عنك لا تجدي
وقال بعضهم: هي للتقليل في هذا الموضع؛ لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها؛ لشغلهم بالعذاب، والله أعلم. قال: "ربما يود" وهي إنما تكون لما وقع؛ لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان. وخرج الطبراني أبو القاسم من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ناسا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين"). قال الحسن" إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة ومأواهم في النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين. وقال الضحاك: هذا التمني إنما هو عند المعاينة في الدنيا حين تبين لهم الهدي من الضلالة. وقيل: في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين.
الآية: 3 {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}
قوله تعالى: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا" تهديد لهم. "ويلههم الأمل" أي يشغلهم عن الطاعة. يقال: ألهاه عن كذا أي شغله. ولهي هو عن الشيء يلهى. "فسوف يعلمون" إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا. وهذه الآية منسوخة بالسيف.
في مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا). وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه، ولم يفارقه داء ولا نجح فيه دواء، بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء. وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك أخرها بالبخل والأمل). ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: (يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا. هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا، فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد:
يا ذا المؤمل أمالا وإن بعدت منه ويزعم أن يحظى بأقصاها
أنى تفوز بما ترجوه ويك وما أصبحت في ثقة من نيل أدناها
وقال الحسن: (ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل). وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان؛ كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة.
الآية: 4 {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم}
أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ.
الآية: 5 {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون}
"من" صلة؛ كقولك: ما جاءني من أحد. أي لا تتجاوز أجلها فتزيد عليه، ولا تتقدم قبله. ونظيره قوله تعالى: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" [الأعراف: 34].
الآيتان: 6 - 7 {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين}
قاله كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على وجهة الاستهزاء، ثم طلبوا منه إتيان الملائكة دلالة على صدقه. و"لوما" تحضيض على الفعل كلولا وهلا. وقال الفراء: الميم في "لوما" بدل من اللام في لولا. ومثله استولى على الشيء واستومى عليه، ومثله خالمته وخاللته، فهو خلي وخلمي؛ أي صديقي. وعلى هذا يجوز "لوما" بمعنى الخبر، تقول: لوما زيد لضرب عمرو. قال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام.
قال ابن مقبل:
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عَوَري
يريد لولا الحياء. وحكى النحاس لوما ولولا وهلا واحد. وأنشد أهل اللغة على ذلك:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
أي هلا تعدون الكمي المقنعا.
الآية: 8 {ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين}
قرأ حفص وحمزة والكسائي "ما ننزل الملائكة إلا بالحق" واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو بكر والمفضل "ما تُنَزَّل الملائكة". الباقون "ما يَنَزَّل الملائكة" وتقديره: ما تتنزل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، وقد شدد التاء البزي، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله: "تنزل الملائكة والروح" [القدر: 4]. ومعنى "إلا بالحق" إلا بالقرآن. وقيل بالرسالة؛ عن مجاهد. وقال الحسن: إلا بالعذاب إن لم يؤمنوا. "وما كانوا إذا منظرين" أي لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة. وقيل: المعنى لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظروا. وأصل "إذا" إذ أن - ومعناه حينئذ - فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها.
الآية: 9 {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
قوله تعالى: "الذكر" يعني القرآن. "وإنا له لحافظون" من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا؛ فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره: "بما استحفظوا" [المائدة: 44]، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا. أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام أبو القاسم عبدالله عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف بن معزوز الكومي التلمساني قال: قرئ على الشيخة العالمة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة، قيل لها: أخبركم الشيخ الأجل العامل نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن محمد الزيني قراءة عليه وأنت تسمعين سنة تسعين وأربعمائة، أخبرنا علي بن عبدالله بن إبراهيم حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المعروف بالطوماري حدثنا الحسين بن فهم قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتب نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي. قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: "بما استحفظوا من كتاب الله" [المائدة: 44]، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. وقيل: "وإنا له لحافظون" أي لمحمد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا أو نتقول عليه. أو "وإنا له لحافظون" من أن يكاد أو يقتل. نظيره "والله يعصمك من الناس" [المائدة: 67]. و"نحن" يجوز أن يكون موضعه رفعا بالابتداء و"نزلنا" الخبر. والجملة خبر "إن". ويجوز أن يكون "نحن" تأكيدا لاسم "إن" في موضع نصب، ولا تكون فاصلة لأن الذي بعدها ليس بمعرفة وإنما هو جملة، والجمل تكون نعوتا للنكرات فحكمها حكم النكرات.
الآية: 10 {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين}
المعنى: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا، فحذف. والشيع جمع شيعة وهي الأمة، أي في أممهم؛ قاله ابن عباس وقتادة. الحسن: في فرقهم. والشيعة: الفرقة والطائفة من الناس المتآلفة المتفقة الكلمة. فكأن الشيع الفرق؛ ومنه قوله تعالى: "أو يلبسكم شيعا" [الأنعام: 65]. وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار - كما تقدم في "الأنعام". - وقال الكلبي: إن الشيع هنا القرى.
الآية: 11 {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}
تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فعل بمن قبلك من الرسل.
الآيتان: 12 - 13 {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين}
قوله تعالى: "كذلك نسلكه" أي الضلال والكفر والاستهزاء والشرك. "في قلوب المجرمين" من قومك؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. أي كما سلكناه في قلوب من تقدم من شيع الأولين كذلك نسلكه في قلوب مشركي قومك حتى لا يؤمنوا بك، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم. وروى ابن جريج عن مجاهد قال: نسلك التكذيب. والسلك: إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط. يقال: سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، وأسلكه إسلاكا. وسلك الطريق سلوكا وسلكا وأسلكه دخله، والشيء في غيره مثله، والشيء كذلك والرمح، والخيط في الجوهر؛ كله فعل وأفعل. وقال عدي بن زيد:
وقد سلكوك في يوم عصيب
والسلك (بالكسر) الخيط. وفي الآية رد على القدرية والمعتزلة. وقيل: المعنى نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به. وقال الحسن ومجاهد وقتادة القول الذي عليه أكثر أهل التفسير، وهو ألزم حجة على المعتزلة. وعن الحسن أيضا: نسلك الذكر إلزاما للحجة؛ ذكره الغزنوي. "وقد خلت سنة الأولين" أي مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك. وقيل: "خلت سنة الأولين" بمثل ما فعل هؤلاء من التكذيب والكفر، فهم يقتدون بأولئك.
الآيتان: 14 - 15 {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}
يقال: ظل يفعل كذا، أي يفعله بالنهار. والمصدر الظلول. أي لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لأصروا على الكفر وتعللوا بالخيالات؛ كما قالوا للقرآن المعجز: إنه سحر. "يعرجون" من عرج يعرج أي صعد. والمعارج المصاعد. أي لو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصروا على الكفر؛ عن الحسن وغيره. وقيل: الضمير في "عليهم" للمشركين. وفي "فظلوا" للملائكة، تذهب وتجيء. أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبوابا في السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له؛ عن ابن عباس وقتادة. ومعنى "سكرت" سدت بالسحر؛ قاله ابن عباس والضحاك. وقال الحسن: سحرت. الكلبي: أغشيت أبصارنا؛ وعنه أيضا عميت. قتادة: أخذت. وقال المؤرج: دير بنا من الدوران؛ أي صارت أبصارنا سكرى. جويبر: خدعت. وقال أبو عمرو بن العلاء: "سكرت" غشيت وغطيت. ومنه قول الشاعر:
وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الحرور تسكر
وقال مجاهد: "سكرت" حبست. ومنه قول أوس بن حجر:
فصرت على ليلة ساهره فليست بطلق ولا ساكره
قلت: وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك: منعت. قال ابن عزيز: "سكرت أبصارنا" سدت أبصارنا؛ هو من قولك، سكرت النهر إذا سددته. ويقال: هو من سكر الشراب، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكر. وقرأ ابن كثير "سكرت" بالتخفيف، والباقون بالتشديد. قال ابن الأعرابي: سكرت ملئت. قال المهدوي: والتخفيف والتشديد في "سكرت" ظاهران، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدي عن معناه. والمعروف أن "سكر" لا يتعدى. قال أبو علي: يجوز أن يكون سمع متعديا في البصر. ومن قرأ "سكرت" فإنه شبه ما عرض لأبصارهم بحال السكران، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله. وقد قيل: إنه بالتخفيف [من] سكر الشراب، وبالتشديد أخذت، ذكرهما الماوردي. وقال النحاس: والمعروف من قراءة مجاهد والحسن "سكرت" بالتخفيف. قال الحسن: أي سحرت وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال: سحرت أبصارهم إذا غشيها سمادير حتى لا يبصروا. وقال الفراء: من قرأ "سكرت" أخذه من سكور الريح. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة. والأصل فيها ما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى، قال: هو من السكر في الشراب. وهذا قول حسن؛ أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله. وسكور الريح سكونها وفتورها؛ فهو يرجع إلى معنى التحيير.
الصفحة رقم 262 من المصحف تحميل و استماع mp3