تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 264 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 264

264- تفسير الصفحة رقم264 من المصحف
الآيات: 32 - 35 {قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}
قوله تعالى: "قال يا إبليس ما لك" أي ما المانع لك. "ألا تكون مع الساجدين" أي في ألا تكون. "قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون" بين تكبره وحسده، وأنه خير منه، إذ هو من نار والنار تأكل الطين؛ كما تقدم في "الأعراف" بيانه. "قال فاخرج منها" أي من السماوات، أو من جنة عدن، أو من جملة الملائكة. "فإنك رجيم" أي مرجوم بالشهب. وقيل: ملعون مشؤوم. وقد تقدم هذا كله مستوفى في البقرة والأعراف. "وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين" أي لعنتي، كما في سورة "ص".
الآيات: 36 - 38 {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم}
قوله تعالى: "قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون" هذا السؤال من إبليس لم يكن عن ثقته منه بمنزلته عند الله تعالى، وأنه أهل أن يجاب له دعاء؛ ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه؛ كفعل الآيس من السلامة. وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون: أجلا يموت؛ لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده. قال الله تعالى: "فإنك من المنظرين" يعني من المؤجلين. "إلى يوم الوقت المعلوم" قال ابن عباس: (أراد به النفخة الأولى)، أي حين تموت الخلائق. وقيل: الوقت المعلوم الذي استأثر الله بعلمه، ويجهله إبليس. فيموت إبليس ثم يبعث؛ قال الله تعالى: "كل من عليها فان" [الرحمن: 26]. وفي كلام الله تعالى له قولان: أحدهما: كلمه على لسان رسوله.
الثاني: كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب.
الآية: 39 {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين}
قوله تعالى: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض" تقدم معنى الإغواء والزينة في الأعراف. وتزيينه هنا يكون بوجهين: إما بفعل المعاصي، وإما بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة. ومعنى: "ولأغوينهم أجمعين" أي لأضلنهم عن طريق الهدى. وروى ابن لهيعة عبدالله عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني).
الآية: 40 {إلا عبادك منهم المخلصين}
قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام؛ أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم. وقرأ الباقون بكسر اللام؛ أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء. حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال: (الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس).
الآية: 41 {قال هذا صراط علي مستقيم}
قال عمر بن الخطاب: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة. الحسن: "علي" بمعنى إلي. مجاهد والكسائي: هذا على الوعيد والتهديد؛ كقولك لمن تهدده: طريقك علي ومصيرك إلي. وكقوله: "إن ربك لبالمرصاد" [الفجر: 14]. فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلا بعمله، يعني طريق العبودية. وقيل: المعنى علي أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والبرهان. وقيل: بالتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيربن وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب "هذا صراط علي مستقيم" برفع "علي" وتنوينه؛ ومعناه رفيع مستقيم، أي رفيع في الدين والحق. وقيل: رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال.
الآية: 42 {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}
قوله تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" قال العلماء: يعني على قلوبهم. وقال ابن عيينة: أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم. وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.
قلت: لعل قائلا يقول: قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله: "فأزلهما الشيطان" [البقرة: 36]، وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله: "إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" [آل عمران: 155] فالجواب ما ذكر، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة. ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول؛ على ما تقدم في "البقرة" بيانه. وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عنهم في آل عمران. ثم إن قوله سبحانه: "ليس لك عليهم سلطان" يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة؛ كما فعل ببلال، إذ أتاه يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا وقالوا: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط) ففرج عنهم. "إلا من اتبعك من الغاوين" أي الضالين المشركين. أي سلطانه على هؤلاء؛ دليله "إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون" [النحل: 100].
وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل؛ مثل أن يقول: عشرة إلا درهما. أو يقول: عشرة إلا تسعة. وقال أحمد بن حنبل: لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه. وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح. ودليلنا هذه الآية، فإن فيها استثتاء "الغاوين" من العباد والعباد من الغاوين، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز.
الآيتان: 43 - 44 {وإن جهنم لموعدهم أجمعين، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم}
قوله تعالى: "وإن جهنم لموعدهم أجمعين" يعني إبليس ومن اتبعه. "لها سبعة أبواب" أي أطباق، طبق فوق طبق "لكل باب منهم" أي لكل طبقة "منهم جزء مقسوم" أي حظ معلوم. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا إبراهيم أبو هارون الغنوي قال: سمعت حطان بن عبدالله الرقاشي يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هل تدرون كيف أبواب جهنم؟ قلنا: هي مثل أبوابنا. قال لا، هي هكذا بعضها فوق بعض، - زاد الثعلبي: ووضع إحدى يديه على الأخرى: وأن الله وضع الجنان على الأرض، والنيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها لظى، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية، وكل باب أشد حرا من الذي يليه سبعين مرة.
قلت: كذا وقع هذا التفسير. والذي عليه الأكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها. ثم لظى، ثم الحطمة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. قال الضحاك: في الدرك الأعلى المحمديون، وفي الثاني النصارى، وفي الثالث اليهود، وفي الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة. قال الله تعالى: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" [النساء: 145] - وقد تقدم في النساء - ، وقال: "أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" [غافر:46]. وقسم معاذ بن جبل رضي الله عنه العلماء السوء من هذه الأمة تقسيما على تلك الأبواب؛ ذكرناه في كتاب (التذكرة) وروى الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل سيفه على أمتي) قال: حديث غريب.
وقال أبي بن كعب: (لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية. وقال وهب بن منبه: بين كل بابين مسيرة سبعين سنة، كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا، وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة. وروى سلام الطويل عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الله تعالى: "لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم" جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله، وجزء آثروا شهواتهم على الله، وجزء شفوا غيظهم بغضب الله، وجزء صيروا رغبتهم بحظهم من الله، وجزء عتوا على الله. ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب (منهاج الدين) له، وقال: فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية. والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم، ويشكون في شريعته أنها من عنده أم لا. والغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولا يثبتونه، وهم الدهرية. والمؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي؛ لتكذيبهم رسل الله وأمره ونهيه. والشافون غيظهم بغضب الله هم القاتلون أنبياء الله وسائر الداعين إليه، المعذبون من ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم. والمصيرون رغبتهم بحظهم من الله هم المنكرون بالبعث والحساب؛ فهم يعبدون ما يرغبون فيه، لهم جميع حظهم من الله تعالى. والعاتون على الله الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا، فلا يتفكرون ولا يعتبرون ولا يستدلون. والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت الحديث. ويروى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما سمع هذه الآية "وإن جهنم لموعدهم أجمعين" فر ثلاثة أيام من الخوف لا يعقل، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية "وإن جهنم لموعدهم أجمعين"؟ فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي؛ فأنزل الله تعالى "إن المتقين في جنات وعيون" [الحجر: 45]. وقال بلال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرت به امرأة أعرابية فصلت خلفه ولم يعلم بها، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم" فخرت الأعرابية مغشيا عليها، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم وجبتها فانصرف ودعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت وجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا هذه مالك)؟ فقالت: أهذا شيء من كتاب الله المنزل، أو تقوله من تلقاء نفسك؟ فقال: (يا أعرابيه، بل هو من كتاب الله تعالى المنزل) فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على كل باب منها؟ قال: (يا أعرابية، بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل منها على قدر أعمالهم) فقالت: والله إني امرأة مسكينة، ما لي مال، وما لي إلا سبعة أعبد، أشهدك يا رسول الله، أن كل عبد منهم عن كل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى: فأتاه جبريل فقال. "يا رسول الله، بشر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها وفتح لها أبواب الجنة كلها).
الآيتان: 45 - 46 {إن المتقين في جنات وعيون، ادخلوها بسلام آمنين}
قوله تعالى: "إن المتقين في جنات وعيون" أي الذين اتقوا الفواحش والشرك. و"في جنات" أي بساتين. "وعيون" هي الأنهار الأربعة: ماء وخمر ولبن وعسل. وأما العيون المذكورة في سورة "الإنسان": الكافور والزنجبيل والسلسبيل، وفي "المطففين": التسنيم، فيأتي ذكرها وأهلها إن شاء الله. وضم العين من "عيون" على الأصل، والكسر مراعاة للياء، وقرئ بهما - "ادخلوها بسلام آمنين" قراءة العامة "ادخلوها" بوصل الألف وضم الخاء، من دخل يدخل، على الأمر. تقديره: قيل ادخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية ورويس عن يعقوب "ادخلوها" بضم التنوين ووصل الألف وكسر الخاء على الفعل المجهول، من أدخل. أي أدخلهم الله إياها. ومذهبهم كسر التنوين في مثل "برحمة ادخلوا الجنة" [الأعراف: 49] وشبهه؛ إلا أنهم ههنا ألقوا حركة الهمزة على التنوين؛ إذ هي ألف قطع، ولكن فيه انتقال من كسر إلى ضم ثم من ضم إلى كسر فيثقل على اللسان. "بسلام" أي بسلامة من كل داء وآفة. وقيل: بتحية من الله لهم. "آمنين" أي من الموت والعذاب والعزل والزوال.
الآيتان: 47 - 48 {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين، لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين}
قال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجههم، وتجري عليهم نضرة النعيم؛ ونحوه عن علي رضي الله عنه. وقال علي بن الحسين: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي والصحابة، يعني ما كان بينهم في الجاهلية من الغل. والقول الأول أظهر، يدل عليه سياق الآية. وقال علي رضي الله عنه: (أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من هؤلاء). والغل: الحقد والعداوة؛ يقال منه: غل يغل. ويقال من الغلول وهو السرقة من المغنم: غل يغل: ويقال من الخيانة: أغل يغل. كما قال:
جزى الله عنا حمزة بنة نوفل جزاء مغل بالأمانة كاذب
وقد مضى هذا في آل عمران. "إخوانا على سرر متقابلين" أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا؛ عن مجاهد وغيره. وقيل: الأسرة تدور كيفما شاؤوا، فلا يرى أحد قفا أحد. وقيل: "متقابلين" قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالود. وسرر جمع سرير. مثل جديد وجدد. وقيل: هو من السرور؛ فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور. والأول أظهر. قال ابن عباس: (على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر)، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة. "وإخوانا" نصب على الحال من "المتقين" أو من المضمر في "ادخلوها"، أو من المضمر في "آمنين"، أو يكون حالا مقدرة من الهاء والميم في "صدورهم". "لا يمسهم فيها نصب" أي إعياء وتعب. "وما هم منها بمخرجين" دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول، وأن أهلها فيها باقون. أكلها دائم؛ "إن هذا لرزقنا ما له من نفاد" [ص: 54].
الآيتان: 49 - 50 {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم}
هذه الآية وزان قوله عليه السلام: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. وقد تقدم في الفاتحة. وهكذا ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه وغيره فيخوف ويرجى، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال: (أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار) فشق ذلك عليهم فنزلت الآية. ذكره الماوردي والمهدوي. ولفظ الثعلبي عن ابن عمر قال: اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال: (مالكم تضحكون لا أراكم تضحكون) ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقري فقال لنا: (إني لما خرجت جاءني جبريل فقال يا محمد لم تقنط عبادي من رحمتي "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم". فالقنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوساطها.
الآيات: 51 - 54 {ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون}
قوله تعالى: "ونبئهم عن ضيف إبراهيم" ضيف إبراهيم: الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط. وقد تقدم ذكرهم. وكان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد. وسمي الضيف ضيفا لإضافته إليك ونزوله عليك. وقد مضى من حكم الضيف في "هود" ما يكفي والحمد لله. "إذ دخلوا عليه" جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث كالمصدر. ضافه وأضافه أماله؛ ومنه الحديث (حين تضيف الشمس للغروب)، وضيفوفة السهم، والإضافة والنحوية. "فقالوا سلاما" أي سلموا سلاما. "قال إنا منكم وجلون" أي فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرب العجل ورآهم لا يأكلون، على ما تقدم في هود. وقيل: أنكر السلام ولم يكن في بلادهم رسم السلام. "قالوا لا توجل" أي قالت الملائكة لا تخف. "إنا نبشرك بغلام عليم" أي حليم؛ قاله مقاتل. وقال الجمهور: عالم. وهو إسحاق. "قال أبشرتموني على أن مسني الكبر" "أن" مصدرية؛ أي علي مس الكبر إياي وزوجتي، وقد تقدم في هود وإبراهيم، حيث يقول: "فبم تبشرون" استفهام تعجب. وقيل: استفهام حقيقي. وقرأ الحسن "توجل" بضم التاء. والأعمش "بشرتموني" بغير ألف، ونافع وشيبة "تبشرون" بكسر النون والتخفيف؛ مثل، "أتحاجوني" وقد تقدم تعليله. وقرأ ابن كثير وابن محيصن "تبشرون" بكسر النون مشددة، تقديره تبشرونني، فأدغم النون في النون. الباقون "تبشرون" بنصب النون بغير إضافة.