تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 264 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 264

263

وجملة 32- " قال يا إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين " مستأنفة أيضاً جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله سبحانه لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم، بل للتقريع والتوبيخ، والمعنى: أي غرض لك في الامتناع، وأي سبب حملك عليه على أن لا تكون مع الساجدين لآدم مع الملائكة وهم في الشرف وعلو المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها.
وجملة 33- " قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون " مستأنفة كالتي قبلها، جعل العلة لترك سجوده كون آدم بشراً مخلوقاً من صلصال من حمأ مسنون زعماً منه أنه مخلوق من عنصر أشرف من عنصر آدم، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيراً منه. وقد صرح بذلك في موضع آخر. فقال: "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" وقال في موضع آخر "أأسجد لمن خلقت طيناً" واللام في لأسجد لتأكيد النفي: أي لا يصح ذلك مني.
فأجاب الله سبحانه عليه بقوله: 34- "قال فاخرج منها فإنك رجيم" والضمير في منها، قيل عائد إلى الجنة. وقيل إلى السماء، وقيل إلى زمرة الملائكة: أي فاخرج من زمرة الملائكة فإنك رجيم أي مرجوم بالشهب. وقيل معنى رجيم ملعون: أي مطرود لأن من يطرد يرجم بالحجارة.
" وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " أي عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمراً عليك لازماً لك إلى يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، وجعل يوم الدين غاية للعنة لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت، لأن المراد دوامها من غير انقطاع، وذكر يوم الدين للمبالغة كما في قوله تعالى: "ما دامت السموات والأرض" أو أن المراد أنه في يوم الدين وما بعده يعذب بما هو أشد من اللعن من أنواع العذاب، فكأنه لا يجد له ما كان يجده قبل أن يمسه العذاب.
36- " قال رب فأنظرني " أي أخرني وأمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون: أي آدم وذريته. طلب أن يبقى حياً إلى هذا اليوم لما سمع ذلك علم أن الله قد أخر عذابه إلى الدار الآخرة وكأنه طلب أن لا يموت أبداً، لأنه إذا أخر موته إلى ذلك اليوم فهو يوم لا موت فيه، وقيل إنه لم يطلب أن لا يموت، بل طلب أن يؤخر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذب في الدنيا.
37- "قال فإنك من المنظرين" لما سأل الإنظار أجابه الله سبحانه إلى ما طلبه وأخبره بأنه من جملة ما أنظره ممن أخر آجالهم من مخلوقاته، أو من جملة من أخر عقوبتهم بما اقترفوا.
ثم بين سبحانه الغاية التي أمهله إليها. فقال: 38- "إلى يوم الوقت المعلوم" وهو يوم القيامة فإن يوم الدين ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم كلها عبارات عن يوم القيامة، وقيل المراد بالوقت المعلوم هو الوقت القريب من البعث، فعند ذلك يموت.
39- "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض" الباء للقسم، وما مصدرية، وجواب القسم لأزينن لهم: أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض: أي ما داموا في الدنيا، والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها، أو يشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها. وإقسامه ها هنا بإغواء الله له لا ينافي إقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره، لأن الإغراء له هو من جملة ما تصدق عليه العزة "ولأغوينهم أجمعين" أي لأضلنهم عن طريق الهدى وأوقعهم في طريق الغواية وأحملهم عليها.
40- "إلا عبادك منهم المخلصين" قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام: أي الذين استخلصتهم من العباد. وقرأ الباقون بكسر اللام: أي الذين أخلصوا لك العبادة فلم يقصدوا بها غيرك.
41- " قال هذا صراط علي مستقيم " أي حق علي أن أراعيه، وهو أن لا يكون لك على عبادي سلطان. قال الكسائي: هذا على الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده طريقك علي ومصيرك إلي، وكقوله: "إن ربك لبالمرصاد" فكأن معنى هذا الكلام هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلاً بعمله وقيل على هنا بمعنى إلى، وقيل المعنى على أن الصراط المستقيم بالبيان والحجة، وقيل بالتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيرين وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب "هذا صراط علي" على أنه صفة مشبهة، ومعناه رفيع.
42- "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" المراد بالعباد هنا هم المخلصون، والمراد أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه "إلا من اتبعك من الغاوين" استثنى سبحانه من عباده هؤلاء، وهم المتبعون لإبليس من الغاوين عن طريق الحق الواقعين في الضلال، وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين، ويمكن أن يقال: إن بين الكلامين فرقاً، فكلام الله سبحانه فيه نفي سلطان إبليس على جميع عباده إلا من اتبعه من الغاوين، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس من الغاوين، وكلام إبليس اللعين يتضمن إغواء الجميع إلا المخلصين، فدخل فيهم من لم يكن مخلصاً ولا تابعاً لإبليس غاوياً. والحاصل أن بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس، وقد قيل إن الغاوين المتبعين لإبليس هم المشركون، ويدل على ذلك قوله تعالى: "إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون".
ثم قال الله سبحانه متوعداً لأتباع إبليس 43- "وإن جهنم لموعدهم أجمعين". أي موعد المتبعين الغاوين، وأجمعين تأكيد للضمير أو حال.
44- "لها سبعة أبواب" يدخل أهل النار منها وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها "لكل باب منهم" أي من الأتباع الغواة "جزء مقسوم" أي قدر معلوم متميز عن غيره، وقيل المراد بالأبواب الأطباق طبق فوق طبق، وهي: جهنم، ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير، ثم سقر ثم الجحيم، ثم الهاوية، فأعلاها للموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطباق، ثم ما بعدها تحتها، ثم كذلك، كذا قيل. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: خلق الإنسان من ثلاث من طين لازب وصلصال وحمأ مسنون، فالطين اللازب: اللازم الجيد، والصلصال: المدقق الذي يصنع منه الفخار، والحمأ المسنون: الطين الذي فيه الحمأة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال: الصلصال الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الصلصال هو التراب اليابس الذي يبل بعد يبسه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: قال الصلصال طين خلط برمل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً. قال: الصلصال الذي إذا ضربته صلصل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً. قال: الصلصال الطين تعصر بيدك فيخرج الماء من بين أصابعك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: " من حمإ مسنون " قال: من طين رطب: وأخرج هؤلاء عنه أيضاً "من حمإ مسنون" قال: من طين منتن. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الجان مسيخ الجن كالقردة والخنازير مسيخ الإنس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: الجان. هو إبليس خلق من قبل آدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والجان خلقناه من قبل من نار السموم" قال: من أحسن النار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: نار السموم الحارة التي تقتل. وأخرج الطيالسي والفريابي وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: السموم. التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ثم قرأ "والجان خلقناه من قبل من نار السموم"، وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون " قال: أراد إبليس أن لا يذوق الموت فقيل إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، قال: النفخة الأولى يموت فيها إبليس، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين " هذا صراط علي مستقيم " أي رفيع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لها سبعة أبواب" بعدد أطباق جهنم، كما قدمنا. وأخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وهناد وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث من طرق عن علي قال: أطباق جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيملأ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث حتى: تملأ كلها، وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بجهنم سبعة أبواب: باب منها لمن سل السيف على أمتي". وقد ورد في صفة النار أحاديث وآثار. وأخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في قوله تعالى: "لكل باب منهم جزء مقسوم" قال: جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله".
قوله: 45- "إن المتقين في جنات وعيون" أي المتقين للشرك بالله كما قاله جمهور الصحابة والتابعين، وقيل هم الذين اتقوا جميع المعاصي في جنات وهي البساتين، وعيون وهي الأنهار. قرئ بضم العين من عيون على الأصل، وبالكسر مراعاة للياء، والتركيب يحتمل أن يكون لجميع المتقين جنات وعيون، أو لكل واحد منهم جنات وعيون، أو لكل واحد منهم جنة وعين.
46- "ادخلوها" قرأ الجمهور بلفظ الأمر على تقدير القول: أي قيل لهم أدخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية وروي عن يعقوب بضم الهمزة مقطوعة، وفتح الخاء على أنه فعل مبني للمفعول أي أدخلهم الله إياها. وقد قيل إنهم إذا كانوا في جنات وعيون، فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة الجمهور؟ فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها. وأجيب بأن المعنى أنهم لما صاروا في الجنات، فإذا انتقلوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الانتقال إليها ادخلوها، ومعنى "بسلام آمنين" بسلامة من الآفات، وأمن من المخافات، أو مسلمين على بعضهم بعضاً، أو مسلماً عليهم من الملائكة، أو من الله عز وجل.
47- "ونزعنا ما في صدورهم من غل" الغل: الحقد والعداوة، وقد مر تفسيره في الأعراف، وانتصاب "إخواناً" على الحال: أي إخوة في الدين والتعاطف "على سرر متقابلين" أي حال كونهم على سرر، وعلى صورة مخصوصة وهي التقابل، ينظر بعضهم إلى وجه بعض، والسرر جمع سرير -وقيل هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور، ومنه قولهم: سر الوادي لأفضل موضع منه.
48- "لا يمسهم فيها نصب" أي تعب وإعياء لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة، لأنها نعيم خالص، ولذة محضة تحصل لهم بسهولة، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفواً عفواً "وما هم منها بمخرجين" أبداً، وفي هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم، فإن علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعيمه وتكدر لذته.
ثم قال سبحانه بعد أن قص علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل 49- "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم" أي أخبرهم يا محمد أني أنا الكثير المغفرة لذنوبهم، الكثير الرحمة لهم، كما حكمت به على نفسي إن رحمتي سبقت غضبي اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة، وأدخلتهم تحت واسع الرحمة.
ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة، أمره بأن يذكر لهم شيئاً مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف، ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال: 50- "وأن عذابي هو العذاب الأليم" أي الكثير الإيلام، وعند أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير صاروا في حالة وسطاً بين اليأس والرجاء، وخير الأمور أوساطها، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف، وبين حالتي الأنس والهيبة.
وجملة 51- "ونبئهم عن ضيف إبراهيم" معطوفة على جملة نبئ عبادي: أي أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف، والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنة الله سبحانه في عباده. وأيضاً لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين كان في ذلك تقريراً لكونه الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم، وقد مر تفسير هذه القصة في سورة هود.